رواية رماد لا ينطفئ الفصل الثاني عشر 12 بقلم رميسة


 رواية رماد لا ينطفئ الفصل الثاني عشر 12 بقلم رميسة



الشمس كانت داخلة من الشبابيك على استحياء، بتنور الجناح بنورها الذهبي، وبتداعب أطراف الستارة اللي بتهتز مع نسمة هادية.

أسية كانت قاعدة على طرف الكنبة، لابسة روب بسيط، وشعرها ملموم على السريع.
قدّامها فنجان قهوة، وسُكرية صغيرة، وريحة الخبز الطالع من المطبخ بتملأ الجو.

المكان هادي، حتى الصمت فيه كان مُريح.
العيال لسه نايمين، والدنيا كلها لسه ما فاقت.

الهدوء ماشي في المكان، بس جواها فيه دوشة مش سايبة قلبها يهدى.

وشّها هادي، وعنيها شاخصة ناحية الشبابيك…
بتفكر، مش أكتر.

ليلة مبارح كانت طويلة…
صوت هيام، ضحكتها، لمستها وهي بتبوس جمال، نظرة عينه، سكون قلبه…

وهي، واقفة بعيد، سايبة قلبها بين الفرحة اللي مش ليها، والحسرة اللي عايشة جواها.

بصّت على العيال وهما نايمين بهدوء…
مراد ماسك إيد أخته الصغيره، وبيتنفسوا بنفس النسق…
ابتسامة خفيفة عدت على وشها، من غير ما تحس.

وفجأة، الباب خبط خبطتين سريعين، وليلى دخلت وهي شبه بتجري:

ليلى (بصوت فرحان، لاهث):
“أسية؟!…”

أسية (بهدوء):
“في إيه يا ليلى؟!!

ليلى (بابتسامة واسعة):
“ماهر فاق! دلوقتي حالاً كلموني من المستشفى!”

أسية اتجمدت، حسّت إن القهوة وقفت في حلقها، وقلبها دق بسرعة.

أسية (بهمس متوتر):
“فاق؟… دلوقتي؟”

ليلى بفرحة :
"ايوة فاق دلوقتي من الغيبوبة."

أسية (بصوت واطي):
“بجد؟… الحمد لله…!!

الفرحة ضربت قلب أسية، بس بسرعة خنقتها رهبة غريبة…
“هشوفه… وهواجه نظرة حقيقية… نظرة واحد مش عارف إني كدبت…”

بلعت ريقها بصعوبة، حاولت تبتسم، ماعرفتش.

ليلى (بحماس طيب):
“قومي بسرعة، لازم تروحي له، أكيد أول حد هيسأل عليه… مراته.”

أسية حسّت كلمة “مراته” زي طعنة هادية.
مش قادرة تقول الحقيقة… ومش قادرة تكمل الكدبة.
بس كان لازم تقوم… لازم تروح.

أسية (بصوت متردد):
“طب…ممكن تفضلي مع العيال لو سمحتي؟”

ليلى:
“طبعًا يا حبيبتي، اطمّني عليهم وروحي له… ده جوزك، وده مكانك.”

أسية حسّت دموعها قربت، بس شدّت نفسها.
لبست شالها بخطوات مترددة، خدت نفسها بالعافية.

أسية (بهمس جواها):
“يارب… ما يكرهنيش.”

طلعت من الباب… وخطوتها كلها خوف.
فرحانة إنه فاق… بس مرعوبة من الحقيقة اللي سايباها ورا باب قلبها.

خرجت أسية من باب الجناح، الجو كان دافي، بس جواها برد…
ركبت العربية اللي جهزتها ليلى، وفضلت طول الطريق ساكتة.
شباك العربية مفتوح، والهوى بيخبط في وشّها، بس عقلها في حتة تانية…

"هعمل ايه انا دلوقتى؟"
 “يا ترى فاق فعلاً؟”
 “هيفتكرني؟”
 “طب لما يعرف إني مش مراته بجد… هيقول إيه؟”
 “أنا ليه سكت؟ ليه ما قلتش من الأول؟”
 “هيزعل؟ ولا هيعدّيها؟”
 “ولو سألني عن اللي حصل… هعرف أحكيله؟”
 “طب لو رفضني؟ أنا والولاد… هعمل إيه؟”

كانت بتشد في طرف الروب بهدوء، كأنها بتحاول تلهي نفسها…
قلبها مش بيجري، بس فيه وجع ساكت، خوف بسيط… زي ما تكون ماشية في طريق مش شايفة نهايته.

قلبها بيرف رف خفيف كل ما بتقرب من المستشفى.
سواق العربية نزل وفتح الباب، هي نزلت برجليها، بس كأن روحها مرجعتش معاها.
دخلت الاستقبال، سألت بهمس:

أسية:
“لو سمحت… ماهر حسني، فين أوضته؟”

الممرضة ابتسمت بلُطف:
“أهله في الداخل، فوق في الدور التاني… أوضة 207.”

أسية شكرت الممرضة، وخطت رجليها بهدوء في الكوريدور الطويل.
كل ما بتقرب، رجليها بتتقل.
بتحاول تجهّز ملامحها، تحاول تفتكر آخر لحظة شافته فيها…
كان نايم، مغيّب… دلوقتي، صاحي.

وصلت قدام الباب، وقفت لحظة، سمعت صوت خافت من جوه، ضحكة صغيرة…
فتحت الباب بشويش، دخلت.

ماهر كان قاعد على السرير، لابس بلوزة المستشفى، ضعيف شوية، بس عنيه مفتوحة…
أمه قاعدة جنبه، واخوه واقف جنب الشباك، بيهرش في راسه من التوتر.
 

أمه جالسة جنب السرير، ولما شافت آسية، ابتسمت ابتسامة واسعة وقالت بحماس:

"بص يا ابني مين  جه يشوفك ؟!"

تسحب آسية من إيدها شويّة وتقرّبها:

"اجت مرتك الحلوة  اكيد واحشين بعض اوي !."

آسية كانت واقفة ساكتة، عينيها تزوّغ، مش قادرة ترد… نفسها يتقطع، والكلام يهرب من لسانها!.

"بقى كده يا ماهر تتجوز وتخلف ولدين زي القمر ومتقولناش ده انا اول واحد يفرحلك يا حبيبي!؟"

"بس معلش ملحوقة المهم انك بخير وانكم مع بعض  وربنا مايفرق بينكم ويحفظكم من كل سوء "

ماهر عينه علّقت على أمه، مصدوم من كلامها، حاجبه اترفع، ووشه مال عليه تعبير غريب بين الدهشة والتوهان… بس ما قالش حاجة.

آسية حست بالحرج، قلبها بيزيد دقاته، بصّت بسرعة وقالت بخفوت:
 “أهلاً… حمدلله عالسلامة يا ماهر."

أخوه شاف التوتر اللي مالي المكان وقال بسرعة لأمه:

"طب نسبكم احنا  عشان تاخدو راحتكم بقالكم كتير مش شايفين بعض واحنا نروح نشرب حاجة في الكافيتيريا لي تحت ."

الأم ابتسمت وقالت وهي طبطبت على كتف ماهر:

 “حاضر يا حبيبي، احنا في الصالة لو احتاجتوا حاجة.”

بصّت لآسية وقالت:

 “خلي بالك منه يا بنتي.”

آسية ابتسمت ابتسامة باهتة، وقالت بهمس:
 “حاضر.”

خرجت الأم مع ابنها، والباب اتقفل وراهم… وسابوا وراهم جو تقيل، ساكت، وكله تساؤلات…

الجو ساكت… مفيش غير صوت الأجهزة اللي حوالين السرير.
أسية واقفة عند الباب، إيديها متشابكة قدامها، عينيها نازلة لتحت، تحاول تجمع شجاعتها.

ماهر نايم، ملامحه هادية بس عينيه فيها تساؤلات…
ثواني ساكتين، بس السكون في حضوره كلام كتير.

بعد لحظة، أسية تاخد نفس عميق وتتكلم بهدوء:

أسية:
“كيفك؟… حمدلله على سلامتك.”

ماهر (يرد بابتسامة خفيفة):
“الله يسلمك… إنتي عاملة إيه؟ والأولاد… كويسين؟”

أسية (تهز راسها بخفة):
“الحمدلله… كلنا بخير.”

يسكتوا شوية… الجو يرجع يهدى، بس فيه حاجة في القلب بتوجع.

ماهر (بصوت واطي وعيونه مش سيباها):
“كنت فاكر… مش هشوفكم تاني. "

اسية بحزن:
"ليه كده !!  انا هنا مش معقول  بعد كل اللي حصلك بسببنا اسيبك وامشي!!"

 ماهر :
"متقوليش كده ده قضاء و قدر، مش بسببكم ."

أسية (بصوت مخنوق):
“بس لو ما ركبنا معاك… يمكن كنت دلوقتي مع أهلك، وفرحان وسطهم، مش في المستشفى.”

ماهر:
“بلاش الكلام ده… اللي حصل، حصل. وعمري ما كنت هسيب حد محتاجني ومساعدهوش.

أسية (تسكت لحظة، وبعدين تقول):

“أنا آسفة…”

ماهر (يتفاجئ شوية):

“ليه تتأسفي؟!"

أسية (بعين مكسورة):
“علشان كدبت… كلهم فاكريني مراتك، وولادي ولادك. مقدرتش أقولهم الحقيقة، خفت… ومكنش عندي مكان أروحله.”

ماهر (بص لها بعطف):
“عملتي الصح… وأنا مبسوط إنك كنتي جنبهم. ربنا ستر، وكنتي في المكان الصح."

ماهر (بصوت دافي، وعينيه فيها ألف سؤال):
“حاسس إن جواكي كلام كتير… ومخنوقه بيه.”

أسية (تبص في الأرض، تتنفس بعمق):
“أنا… لازم أقولك الحقيقة.”

يسكت هو، وتفضل هي ساكتة لحظة، بتحاول تلم نفسها، عينيها تلمع بدمعة.

أسية تحكي، صوتها متقطع أوقات، ودموعها بتنزل بهدوء، وهو يسمع، ساكت، حاجبه متني، وعينيه مصدومة وحزينة، بس ما يقاطعش ولا كلمة.

مع نهاية كلامها، تسكت، تبص له بخوف وتوتر…..

“أنا مش مصدق اللي عدى عليك… وراجل زي ده…! اللي عمله فيكي ده… ده اسمه مش راجل. كل السنين دي لوحدك؟ إزاي قدرتي تتحملي؟"

أسية (بدمعة في عينيها):
“اللي حصل حصل… أهم حاجة ولادي .”

ماهر بعزم :
“بصّي… من النهاردة، إنتي والولاد أمانة في رقبتي. قدام أهلي والدنيا كلها، إحنا عيلة وحدة . ولو حد سألك، قولي آه، إحنا عيلة. وولادك دول ولادي ، ومسؤوليتكم مسؤوليتي ،مش هخلي حد يجرحك تاني.

أسية (تحاول تبتسم، بس عينيها فيها دمع):
“لأ… متتعبش نفسك. أنا كنت ناوية، أول ما اطمن عليك، أدور على مكان نعيش فيه أنا والولاد… إحنا تعبناك كفاية.”

ماهر (بحزم، بس بصوت هادي):
“خلاص، قلتلك… محدش هيتحرك. على الأقل لحد ما نلاقي مكان محترم تعيشي فيه. ومفيش كلمة (بس)، إنتي مش لوحدك خلاص.”

أسية (تسكت، وتنزل بعينيها، تحاول تمنع دمعتها):

أسية:
“…شكراً بجد يا ماهر، يمكن الكلمة قليلة، بس من قلبي.”

ماهر ابتسم ابتسامة خفيفة، فيها تعب وفيها دفى:
“أنا اللي لازم أشكرك… على كل لحظة صبر، وعلى تربيتك لأولادك لوحدك. أنتي ست بـميت راجل يا أسية.”

أسية (بصوت متردد وهي بتبص في الأرض):
“أنا بس كنت بعمل اللي لازم أعمله… مكنش عندي اختيار.”

ماهر:
“بس قدرتي… ودي مش حاجة بسيطة. أنا مش هسمحلك تحسي إنك لوحدك تاني. من النهاردة، إحنا جنب بعض… أياً كان.”

أسية رفعت عينيها ليه، ملامحها فيها خوف وأمل في نفس الوقت:

أسية:
“ماهر… أنا خايفة… من بكرا، ومن كل حاجة. بحاول أكون قوية، بس ساعات بحس إني هموت من كتر اللي جوايا.”

ماهر مد إيده بهدوء، ما لمسهاش، بس كانت حركة تطمينية، وقال بصوت دافي:

ماهر:
“أنا هنا… كل مرة تحسي بالخوف، ابصيلي. مش هسيبك. مش بعد اللي شُفته النهارده. وإنتي مش محتاجة تقفي لوحدك تاني.

يسود صمت خفيف بينهم، كله مشاعر دفينة وراحة لأول مرة من سنين.

أسية ماشية جنب ماهر، بتسنده بخفة، ووشها فيه ابتسامة متلخبطة بين الراحة والقلق، وأمه وأخوه معاهم، داخلين من البوابة وبيمشوا في الحديقة اللي بتفوح منها ريحة الورد والنسيم.

ليلى كانت بتسقي ورد، ترفع راسها، تلمحهم… تسكت لحظة، وبعدها تصرخ بفرحة:

ليلى (بصوت عالي وهي بتجري عليهم):
“مااااهـر!…”

(ترمي البَـخّاخ وتروح تجري ناحيتهم وهي بتعيط من الفرحة)

أمه تضحك وتقول:
“يا سلام… رجع قلب البيت."

ليلى توصل ليه بفرحة ودموع :
وحشتنا اووووي البيت مظلم من غيرك .
ماهر :
انا كمان …. وحشتوني كلكم…

الأم تضحك بخفة وهي بتبص على ليلى:
“ما هو البيت عمره ما نور غير بيكوا يا ولاد… الحمد لله ع رجوعك يا ابني."

أسية واقفة على جنبه، تبصّ ليهم ووشها فيه دفء، بس فيه حاجات جوّه مش باينة…  تحاول تبعد شوية لانها حست انو الجو بقا عائلي بينهم  ، لكن ماهر يلمس إيدها بهدوء،كأنها جزء من المشهد ومكانها هنا.

وفي الوقت ده، من فوق الشرفة، جمال واقف… ساكت، شايف كل حاجة.

عيونه تتعلق بأسية، وهي واقفة جنب ماهر، بتسانده، بتضحك لليلى، بتشاركهم اللحظة.

عيونه تتسمر، حاجبه يتعقد، لسانه يهمس لنفسه:

جمال (باندهاش مكتوم):
“هو مين الراجل ده؟ وليه ماشية معاه كده؟!”

يشوفها بتضحك، بتتكلم، بتساعده، وقريبة منه أكتر من اللازم بالنسبة لقلبه الغيور…

جمال (بصوت عالي فجأة):
“هو في إيه؟! هي بتعمل إيه معاهم؟”

يدخل للغرفة، متوتر، مش قادر يثبت، عينه بتلف في كل ركن، يقرب من الفازة اللي على الطاولة، يزقها بعصبية، تقع وتتكسر على الأرض.

يقعد يدور في الغرفة، حافي، متشنج، راسه فيها ألف سؤال، قلبه واجعه ومش فاهم ليه…

ينفخ نفس عميق، بس مايرتاحش، يقعد على الكرسي، حاطط راسه في إيده، ونظراته تسرح تاني للنافذة.....






تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة