
رواية رماد لا ينطفئ الفصل الثامن 8 بقلم رميسة
الشرطي مد إيده وقال:
“ممكن أشوف بطايق الناس اللي مع حضرتك؟”
ماهر حافظ على هدوئه، وبنبرة واثقة لكنه متفهمة قال:
“للأسف مش معاهم دلوقتي، حضرتك دول عيلتي، لسة راجعين من الخارج… أوراقهم ضاعت أثناء السفر ولسه بنجهّز بدل فاقد. تقدر تتأكد من جواز سفري إن حبيت.
كنا عايشين في روسيا، ولسه راجعين لسه بنخلص إجراءات الورق، البطاقات لسه ما طلعتش.”
الضابط بص فيه، وبص على الأطفال اللي نايمين
الظابط ضيّق عينيه وسأل:
“يعني ماعندهمش أي إثبات هوية؟”
ماهر بسرعة مد بطاقته الشخصية وقال:
“أنا كفيلهم مؤقت، ودي بطاقتي، ولو تحب تتأكد من أي حاجة أنا تحت أمرك.”
الظابط بصّ في البطاقة، وبعدين رجّعها له وقال:
"تمام، بس لو حصل أي حاجة هنتواصل معاك.”
ماهر يومأ براسه وقال:
“أكيد، شكراً ليك.”
ركبوا تاني العربية، وأول ما اتحركوا، ساد جو من الصمت، بس مش صمت مريح، كان فيه توتر، وعيون أسية ما بطلتش تبص في مراية العربية كأنها لسه خايفة حد يتبعهم. نرجس حضنت أخوها، ووشّها في صدره، ولسان حالها بيقول “خلاص بقى كفاية خوف”
ماهر قال بصوت هادي وهو بيحاول يخفف من التوتر:
“اطمنوا… خلاص، محدش هيسألكم تاني.”
أسية بصت له وقالت بحرج وامتنان:
“أنا مش عارفة أقولك إيه… شكراً قوي، ربنا يخليك.”
ماهر لف وشه وقال من غير ما يبصلها:
“مفيش داعي للشكر… أي حد في مكاني كان هيعمل كده.”
سكتوا، وكأن كل كلمة بتتقال تقيلة على القلب.
نرجس حضنت مراد، وأسندت راسها على كتفه، وعيونها لسه حايرة وخايفة.
ماهر ركز في الطريق، وأسية بصّت من الشباك، تفكر في كل اللي فات: البيت… الحارة… المحل… الدم.
الساعة كانت تقرب من اتنين بعد نص الليل، والطريق فاضي إلا من شوية شاحنات متفرقة وأعمدة النور اللي بتنور وتطفي كأنها بتتنفس.
ماهر كان سايق بهدوء، إيده ثابتة عالدركسيون، بس عيونه مرهقة، وجسمه باين عليه التعب.
فجأة…
ضوء قوي جدًا جه من الناحية التانية للطريق…
فجأة، صوت بوق شاحنة عالية جاي من الجنب،
نور أبيض ساطع دخل من الشباك… وكل حاجة حصلت في لحظة.
ماهر حاول يفرمل…
“امسكوا!” صرخ بصوت عالي.
فررررررررررررررررررررم…
العربية اتزحلقت… خبطة قوية!
الجسم اتدفع لجنب واحد… صريخ… حاجات وقعت… والزجاج اتكسر.
الدنيا ضلمة وسكتة… سكتة مرعبة.
بعد لحظات قصيرة،
أصوات بعيدة بتقرب.
أصوات سيارات شرطة وإسعاف بدأت تملأ المكان.
نور أزرق وأحمر بيتراقص على وجوه الناس…
صوت أبواب بتتفتح… وصوت رجالة بتجري.
“عربية فيها أطفال! يلا بسرعة!”
“الراجل دا مش بيرد… جهزوا النقالة!”
“في واحدة مصابة من راسها، وفوقها طفل.”
نقلوهم واحد واحد على النقالة، وسط دوشة الناس وصرخات المسعفين،
وجوّه العربية اللي كانت قبل لحظات أمانهم الوحيد… دلوقتي بقت ذكرى مرعبة.
ضوء أبيض ساطع… أصوات ناس بتجري… نقالات بتتحرك بسرعة.
أسية حاسة إنها بتتشد وسط الضباب… مش شايفة كويس، بس سامعة كل حاجة:
“انقلي الطفل ده على غرفة الطوارئ!”
“البنت دي وِشّها مجروح، محتاجين تعقيم فورًا!”
“الراجل حالته حرجة… نزيف داخلي محتمل!
قلبها سمع كل حاجة… بس جسمها رفض يتحرّك.
حاولت ترفع إيدها… بس وقعت تاني.
حاولت تقول اسم مراد… نرجس… بس طلع النفس متقطع، وعيونها غلقت.
نفسها داخلي وقالت بصمت:
“مش قادرة… سامحوني… بس اصبروا شوية… ماما هتيجي.”
وغابت عن الوعي.
بعد ساعة…
صوت أنفاس منتظمة حوالينها، خفت حركة المستشفى، بس النور لسه ساطع.
أسية فتحت عينيها أخيرًا… لمعة بيضا فوقيها… سقف المستشفى.
بلعت ريقها، بصعوبة.
قعدت على السرير ببطء، جسمها كله بيوجعها، بس قلبها بيصرخ:
مراد… نرجس…
أسية بدأت تفوق شوية، تحاول تقوم من فوق النقالة،
“مراد… نرجس… أنا فين؟”
ممرضة شدّتها بلطف،
“اهدي… انتِ في المستشفى، تعرّضتوا لحادث… كلهم بيتعالَجوا، متقلقيش.”
لكن قلبها كان بيرفرف… ما صدقتش ولا كلمة.
قامت بصعوبة، رجليها بتتهز، حافية، شعرها منكوش وهدومها متوسخة بالتراب والدم.
قعدت تمشي في الممرات، زي التايهة.
“مراد… نرجس…”
لحد ما سمعت صوت مألوف بيعيّط…
“مامااا…”
لفت بسرعة، لقت نرجس قاعدة على كرسي، في ضمادة على خدّها،
والممرضة بتحط لها شاش على الجرح.
أسية وقفت لحظة… دموعها نزلت بدون صوت،
جريت عليها، حضنتها بقوة كأنها بتحضن عمرها اللي كان ممكن يضيع.
نرجس وسط الدموع:
“ماما خفت عليكِ… كان في دم كتير…”
“أنا هنا يا روحي… ماما جنبك، متخافيش خلاص…”
“أنتي بخير؟ مراد؟!”
نرجس:
“هو جوّا… اتكسر دراعه شوية بس كويس، أنا بخير، الدكتور قالنا…”
أسية ما ستنتش و دخلت الغرفة بلحفة تجري، ولقت مراد نايم، بس متجبّس من ذراعه، حاطين له محلول.
قلبها وقع، لكنها حاولت تبان قوية
“مراد! ابني عامل إيه؟”
“الحمد لله، كلهم بخير. بس ابنك اتأثر شوية من الحادثة، وده مأثر على حالته العصبية اللي عنده. لازم تتابعوا مع طبيب أعصاب.”
أسية هزت راسها بحزن، وقالت بهدوء:
“ماشي، شكراً يا دكتور.”
بصّت عليهم هما الاتنين… مجروحين، مرهقين، بس عايشين.
قلبها اتحرك بالدعاء في سكون:
“
يا رب… احفظهملي، دول اللي باقيينلي.”
بعد شوية، دخلت ست كبيرة ومعاها راجل شاب وزوجته، سألوا
عن ماهر.
الممرضة دلتهم على أوضة أسية.
دخلوا…
“إنتي أسية؟ مرات ماهر؟”
أسية وشها اتجمد، لسه هتتكلم…
الست قربت منها وحضنتها:
“الحمد لله إنكم بخير! والله لما عرفنا اللي حصل قلبنا وقع.”
أسية اتفاجئت، لكن سكتت.
مراد ونرجس بصوا لبعض باستغراب، بس محدش اتكلم.
الشاب قال:
“أنا حسام، أخو ماهر، ودي مراتي، ودي أمي.”
فضلوا يحكوا عن ماهر شوية، وعيونهم بتدمع، ولما عرفوا إنه لسه ما فاقش، وحالته خطيرة شوي قعدوا يستنوا معاه.
بعد ساعات من الانتظار، أم ماهر قالت بهدوء:
“يا بنتي، خدي العيال وروحي ارتاحي، ماهر مش هيفوق النهاردة. خليه علينا احنا هنفضل هنا معاه"
أسية اترددت:
“بس… مش حابة أسيبه…”
“ما تخافيش، إحنا معاه. خدي الولاد وارتاحي، إنتي تعبانة جدًا.”
وافقت أسية في الآخر، وركبوا معاهم العربية، لحد ما وصلوا… قصر كبير جدًا.
نرجس شهقت:
“ياااه، دا بيت مين دا؟”
ضحكت مرات حسام وقالت:
“ده مش بتاعنا، إحنا ساكنين في الجناح الصغير من القصر. بنخدم هنا من سنين، والناس أهل خير. تفضلوا.”
دخلوا جناح بسيط وجميل، فيه دفء غريب.
“ادخلوا ارتاحوا، جهزتلكم أكل كمان.”
في آخر الليل، الكل نام… إلا أسية.
خرجت من الأوضة بهدوء، بعد ما نيمت ولادها فتحت باب الجناح، خرجت تستنشق شوية هوا، تهرب من زحمة تفكيرها.
خرجت للحديقة الصغيرة الملاصقة للجناح، ريحة التراب المبلول كانت بتغسل روحها المرهقة.
وقفت عند زاوية الجدار، تمدد نظرها في السكون… قلبها تعبان، عقلها مشوش، وكل شي جواها بيصرخ.
وفجأة…
صوت بوابة حديدية بتتفتح، خفيف لكنه واضح.
عربية رباعية الدفع، سودة، دخلت بهدوء للقصر.
عيون أسية تلقائيًا راحت عليها، فضولها شدّها، لكن في لحظة… الوقفة اتبدلت.
العربية وقفت قريبة، الباب اتفتح…
نزلت سيدة أنيقة، لابسة كأنها راجعة من سفر طويل، وطفل صغير نط من وراها، بيضحك، بيجري حواليها وهو يهتف:
“بابااا، شوفني!”
أسية خفق قلبها فجأة…
رجعت خطوة لورا، لفت عينيها بحذر على الباب الثاني…
اتفتح…
نزل راجل… طويل، وسيم، وابتسامة على وشه، شايل شنطة في إيده وفتح ذراعيه للولد الصغير:
“تعال، يا ادم !”
الولد جري عليه، وارتمى في حضنه.
الراجل شاله، ضحك وهو بيحضنه…
أسية شهقت بصوت مكتوم…
عينها ما غلّطتش… خطواته… صوته… حتى ضحكته.
“جمال؟”
نطقت الاسم كأنه طلع من جرح مش من فم.
جمال لف راسه ببطء… نظرة واحدة كانت كافية.
تلاقى نظرهم.
هو اتجمد مكانه.
الولد لسه متعلق في رقبته، وهو واقف مش قادر يحرك خطوة.
أسية واقفة على بعد أمتار، مش قادرة تاخد نفسها، دمها كله برد، وصدرها يعلو ويهبط.
جمال قال بتردد:
“…أسية؟”
قبل ما تقول أي كلمة، حسّت بخطوات وراها…
نرجس، لابسة بيجامة خفيفة، ووشّها فيه تعب وقلق:
“ماما، كنت بدوّر عليك…”
وقفت جنبها، في ايه ماما على مين عم تطلعي ؟!
رفعت عينيها ….
ثم شهقت:
“…بابا !!”
نظرة أسية راحت لبنتها، وعيونها كلها وجع، ولسانها مربوط…....