رواية رماد لا ينطفئ الفصل الخامس 5 بقلم رميسة


 رواية رماد لا ينطفئ الفصل الخامس 5 بقلم رميسة


فتحَت  آسية عينيها على صوت خافت لنبضات قلبها المتعب، وكأن الليل لم يكن كافيًا ليريح كل هذا الوجع المتراكم في صدرها…

كانت نظراتها معلّقة بالسقف الباهت، شقوق الجدران تحكي قصص سنين القهر، والبرد المتسلل من النافذة المكسورة يعاند 
دفء الغطاء الرقيق…

نظرت للسقف لحظات، ثم التفتت بنصف ابتسامة باهتة تجاه النافذة الصغيرة. الضوء الشاحب يتسلل بخجل… صباح جديد، مسؤوليات جديدة.

أغمضت عينيها من جديد، تمنت لو تغرق في النوم أكثر، تمنت لو الوقت يتوقف، لكنها تعرف أن الواقع لا يرحم…

رفعت يدها بتثاقل، تمسح دموعها اللي ما لحّقتش تنشف من البارح، تنهض بصعوبة من على الفرشة البسيطة، وتتوجه بخطوات بطيئة نحو غرفة ولادها…

فتحت الباب على ضوء الصباح الخافت… نرجس متمددة بجانب مراد، ملامحهم البريئة تغلب عليها ملامح التعب، وتحت جفونهم الصغيرة يسكن القهر اللي ما يستاهلوهش…

اقتربت من نرجس، لمست شعرها بحنية، همست بخفوت مكسور:

“صباح الخير  يا حبيبتي… قومي يا روحي، المدرسة تستناكم…”

 “نرجوسة… مراد… صباح الخير، يلا قوموا، راح تتأخروا.”

نرجس تقلبت في الفراش، غطت وجهها بالغطاء وهي تتأفف:

“خمس دقايق بس، ماما…”

آسية ضحكت بخفة، قربت وجلست على طرف السرير، كشفت الغطاء بلين وقالت:

 “هو انتِ كل يوم خمس دقايق؟ قومي يا نرجس بدل ما الفطار يبرد.”

مراد فتح عينه بصعوبة وقال:

“أنا صاحي… بس جسمي مش عايز يقوم.”

قربت آسية منه، طبّطبت على كتفه وقالت:

 “يلا يا بطل، قوم بسرعة قبل ما تتأخروا.”

دخلت المطبخ وسخّنت شوية عيش من مبارح، عملت بيضتين بسرعة، وسكبت لهم اللبن في الكوبايات.

قعدوا على السفرة، نرجس بتحاول تفك شعرها، وآسية مسكت المشط وقالت:

 “انتي شعرك ده بيشتغلني كل صباح.”

نرجس ضحكت وقالت:

 “قصّيه وخلاص.”

“اقصّه إيه بس! ده أجمل حاجة فيكِ.”

مراد كان سابح في كوباية اللبن، فجأة رفع وشه وقال:

“ماما، أنا لازم أجيب معايا الرسمة النهاردة، علشان أوريها للأستاذ.”

"طيب هاتها اشوفها .”

فتح الشنطة واداها ورقة، كانت فيها رسمة بسيطة لبيت صغير، وفيه أم وولد وبنت ماسكين إيد بعض.

قلب آسية اتقبض وهي بتتفرّج على الرسمة، بس ابتسمت وقالت:

“برافو يا حبيبي، حلوة أوي.”

نرجس كانت قاعدة ساكتة، عينيها في الأرض، بتحاول تبان طبيعية بس جواها حاجة مش مفهومة.

بعد الفطار، لبّستهم هدومهم، جهّزت شنطهم، وخرجت معاهم لحد باب المدرسة.

 “خلوا بالكم من نفسكم… نرجس، خلّي بالك من أخوكي.”

هزّت راسها وقالت:

 “حاضر يا ماما.”

استنّتهم لحد ما دخلوا من الباب، وبعدين أخدت نفس طويل ومشيت على شغلها… يوم جديد، وتعب جديد.

آسية وصلت لبيت الناس اللي بتشتغل عندهم، شقة كبيرة في عمارة فخمة، بوّاب على الباب، وسلم نضيف وريسيبشن واسع. لبست الجوانتي ودخلت من باب الخدمة كالعادة.

في اللحظة اللي دخلت فيها، قابلتها الست هالة، صاحبة البيت، بابتسامة مصطنعة:

"إزيك يا آسية؟ بصي النهاردة عايزاكي تلمعي الأرضيات وتغسلي الحمامين الكبار، وممكن تكويلي هدوم سامي كمان.”

آسية هزت راسها وقالت بهدوء:

 “حاضر يا مدام.”

دخلت على المطبخ وبدأت شغلها،

الشمس كانت داخلة من شباك المطبخ الكبير، بس آسية حاسة بضيق في نفسها مالوش تفسير. كانت لابسة لبس شغلها البسيط، وشعرها مشدود ووشها عليه آثار التعب، بتحاول تخلّص الطبخة قبل ما الست هالة ترجع كل حاجة كانت ساكتة في البيت، بس وهي واقفة بتغسل المواعين، حسّت بنظرات مش مريحة من وراها

 لفّت بسرعة، لقت سامي، ابن المدام، واقف في الباب.

دخل سامي، ابنها المدلل، بخطوات هادية وصوته رايق بشكل مستفز:

“يا سلام… ريحة الأكل حلوة… بس مش أحلى منك.”

آسية رفعت عينيها بسرعة، وقالت بحزم وهي مكمّلة تقطّع الخضار:

– “من فضلك يا أستاذ سامي…  خليك في حالك و خليني في شغلي.”

ضحك، وقرب منها أكتر، وقال بنبرة أقل أدبًا:

"ما تبقيش تقيلة كده، أكيد بقالك كتير من غير راجل… وأنا هنا، موجود في الخدمة…”

آسية جمدت في مكانها، مش مصدّقة الكلام اللي سمعته. لفّت له وقالت بحدة:

“ لو سمحت احترم نفسك… أنا ست محترمة، جاية أشتغل، مش أسمع كلام زي ده.!”

هو قرب أكتر، وحاول يلمس إيدها، بس هي صدّته بدفعة قوية، خبطته فكتفه.

في اللحظة دي دخلت الست هالة، وشافت المشهد. 
قالت بصراخ:

 “إيه ده!  

سامي اتراجع بسرعة وقال بصوت عالي :

الحقي يا ماما شوفي الشغالة يلي جيتيها لبيتنا بتحاول تتحرش بيا دي هي اللي كانت بتلمحلي من أول ما اشتغلت! أنا ساكت من فترة، بس هي اللي مش عايزة تبطّل حركات!”

آسية شهقت بصدمة وقالت:

“أنا؟! انت اتجننت؟!”

هالة ما استنتش، بصّت لآسية باشمئزاز وقالت:

“ما أنا كنت عارفة إنك مش هتطلعي ست محترمة! جوزك سابك وطفش، ومش بعيد كنتي بتعملي معاه ومع غيرو كده برضه! دلوقتي جاية تبوّظي ابني؟!”

آسية حسّت الدنيا بتلف بيها… كلام الست نزل على قلبها زي السكاكين. حاولت ترد، لكن الصوت اتخنق في حلقها.

هالة كملت، بصوت أعلى:

“إنتي أصلاً جاية هنا ليه؟ عشان شغل؟ ولا عشان تدوري على راجل جديد؟ فاكرة نفسك إيه؟!”

أنا كنت شاكة من الأول فيكي. الراجل اللي يسيب مراته ويسيب لها العيال… أكيد في سبب! مش بعيد تكوني خنتيه وانتي لسه على ذمته! جوزك سافر من سنين وسابك… وأهو باين عليكي مش قادرة تعيشي من غير راجل،  وجاية تتحامي في ابني؟!  

آسية سكتت ثواني، وبعدها قلعت المريلة ورمتها على الكرسي، عنيها مليانة دموع بس واقفة، مكسورة وكبرياءها موجوع:

“أنا يمكن فقيرة، وتعبانة، وعايشة لوحدي… بس ما اتبعتش، ولا بعت نفسي عشان أعيش. 

جوزي سابني؟ أيوه، بس أنا ما سبتش كرامتي ولا يوم. وابنك؟ ابنك الوسخ، وبيمد إيده على الحرام. عايزة تلومي حد، لومي نفسك إنك ما عرفتيش تربيه.”

تسكت لحظة، تاخد نفس وتبص لهالة بعين ثابتة:

 أنا مش بتاعت الكلام الوسخ اللي بتقولي عليه ده… بس اللي في قلبه قذارة، بيشوف كل الناس وسخين زيه.”

تروح تفتح باب البيت:

“أنا مش هكمل دقيقة في بيت زي ده… بس يوم ما الدنيا تلف، هتفتكري إنك طردتي ست أنضف من كل اللي في بيتك.

وطلعت من البيت بخطوات سريعة، قلبها بيدق من الغضب والحزن، ودموعها نازلة في صمت، بتحاول تلحق كرامتها قبل ما تنهار تمامًا.

خرجت آسية من البيت وهي ماسكة في طرف طرحتها، بتخنق بيها دموعها اللي كانت بتغلي في عينيها…
مشيت بسرعة، خطواتها متلخبطة، زي قلبها، وزي اليوم اللي انقلب من عادي لوجع.

الشارع قدامها كان طويل… أطول من أي مرة فاتت.
كل نفس بتاخده كان تقيل… وكل دمعة بتنزل كانت نار، بتحرق وشها من غير صوت.

الناس حواليها ماشية، بتضحك، بتحكي، بس هي كانت في دنيا تانية…
كانت حاسة كأن الحيطان بتقرب، والشارع بيضيق، والدنيا كلها خانقاها.

قربت من بيتها… وقبل ما تفتح الباب، وقفت، سندت ضهرها على الحيط، ونزلت على الأرض…

قعدت على السلالم، ووشها في كفوفها، وعيطت… بصوت مبحوح، مكبوت، زي ست اتحملت كتير، وجت اللحظة اللي ماقدرتش تكمل فيها.

 “ليه يا دنيا بتضغطي عليا كده؟ ليه كل ما أحاول أقف، ترجعيني لورا؟ ليه؟”
قالتها بين شهقات مكتومة وهي بتكلم نفسها، أو يمكن بتكلم ربنا… يمكن بتكلم جمال اللي سابها، أو الدنيا اللي بقت تقيلة عليها.

ماحستش بالوقت، غير لما سمعت صوت خطوات جاية… رفعت راسها ببطء، لقت حنان واقفة، ووشها مليان قلق.

حنان قربت منها بسرعة، وقعدت جنبها على السلم، وبصوت هادي:

“إيه اللي حصل يا آسية؟ وشك عامل كده ليه؟ كنتي فين؟ ليه بتعيطي كده؟”

آسية ماقدرتش تتكلم… كل اللي عملته إنها رمت راسها على كتف صاحبتها، وعيطت أكتر… بصوت طفلة ضايعة، مش أم شايلة هم بيت وعيال.

حنان فضلت ساكتة، بس ضمتها في حضنها،
عارفة إن في لحظة زي دي، الكلام ماينفعش، وإن الحضن هو أحن رد في الدنيا.

آسية دخلت البيت، وحنان وراها، سكتة… سايبة خطوات صاحبتها تحكي لوحدها عن تعب الأيام. أول ما قفلت الباب، وقفت ساكتة، وبعدين… فجأة، دموعها نزلت كأنها كانت محبوسة من سنين.

حنان قربت وقالت بخوف:

“آسية… قوليلي، مالك؟ إيه اللي حصل؟”

آسية بصت لها، ودموعها مش بتمسحها، بصوت مكسور:

 “أنا مش قادرة يا حنان… مش قادرة… كل يوم بصحى أحاول أكون قوية… كل يوم أقول دي فترة وهتعدي، بس مش بتعدي… مفيش حاجة بتعدي "

قعدت على الأرض، وحطت وشها في إيديها، تكمل بحرقة:

“مراد محتاج دوا، ونرجس مصاريف مدرستها كتيرة… وهدومهم … ؟

“إنتي عارفة يعني إيه تصحي الصبح وإنتي مش عارفة حتغديهم إيه؟ تعرفي يعني إيه تبصي في شنطتهم وتشوفيهم رايحين المدرسة من غير مصروف؟!”

حنان حاولت تهديها:

– “ربنا كبير يا أسيّة، حتعدي إن شاء الله…”

آسية بصّت لحنان، ودموعها كانت بتنزل في صمت، وبصوت مبحوح قالت:

 “يعني انتي متخيّلة؟ كل يوم أصحى على سؤال: يا ماما معنديش كراسة… يا ماما الجزمة دي بقت توجعني… يا ماما أنا جعان… ومفيش! مش معايا حاجة أعمل بيها أي حاجة!”

سكتت شوية، ومسحت خدها بطرف كُمّها وقالت:

 “بقيت أقطع من أكلي علشان أسيبلهم لقمة زيادة… لبسهم بقى دايق، الكشكول الواحد بقيت أعد صفحاته علشان أشتريه ولا لأ… ونرجس؟ نرجس نفسها زي أي بنت تلبس حلو وتاكل حلو… ومراد؟ مراد تعبان، ولو نسيتله الدوا يوم، بتبهدل نفسياً قبل جسدياً!”

بصّت لحنان وقالت بحرقة أكبر:

 “أنا أمّ، بس حاسة إني مش قادرة أكون حتى ست بيت… كل حاجة عاوزة فلوس، وأنا حتى نفسيتي بقت مكسورة…”

حنان قربت منها، حضنتها وهي بتمسح دموعها وقالت بحنية:

 “حبيبتي يا آسية، أنا عارفة إنك بتعملي فوق طاقتك، وشايلة مسئولية جبال لوحدك… بس إنتي قوية، قويّة بزيادة كمان، وإحنا مش هنتساب لبعض كده…”

آسية شهقت من كتر البُكا، وقالت بصوت مكسور:

“أنا تعبت يا حنان… تعبت من كل حاجة… من القهر، من الناس، من الوحدة… حتى الهوا بقي تقيل عليّا…”

حنان شدّت على إيدها، وبصّت في عنيها بحزم:

 “خلاص… كفاية شغل في بيوت الناس. بلاش ذل تاني. إحنا نشتغل لنفسنا. نفتح حاجة صغيرة… نبيع فيه أكل بيتي، معجنات، حلويات… الحارة كلها بتحب أكلك، وكل الحارة بتحبه،ونقدر نبدأ من بكرة لو حبيتي.”

آسية استغربت وبصّت ليها:

 “إنتي بتتكلمي جد؟”

حنان ابتسمت وقالت:

– “آه، بتكلم جد… نشتغل سوا، نقسم الوقت والجهد، وكل قرش نكسبه هيبقى من تعبنا وبكرامتنا. إيه رأيك؟”

آسية، وسط دموعها، ضحكت ضحكة خفيفة لأول مرة من زمن وقالت:

“رأيي؟ رأيي إنك النعمة الوحيدة اللي فضلالي في الدنيا يا حنان… يلا بينا نبدا......




                     الفصل السادس من هنا 

تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة