رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السابع 7 ج1 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السابع 7 ج1 
بقلم ليله عادل

❀༺༻❀✧

العودة (عناق الدم)❞ 

✧❀༺༻❀✧
{" أي وجعٍ أشد من وجع اللقاء بعد الفقد؟ أيفرح القلب حين يلمح ملامح عاشقه القديم، أم يرتجف كطفلٍ ضاع عن أمّه ثم وُجد في حضنٍ لا يُشبه حلمه؟ إنها لحظة يتكسر فيها الزمن: يدٌ تمتد لتُعيدني، وعينان تغمرني بالشوق، لكن بيني وبينه جدارٌ من خوفٍ لا ينهدم، كيف أعود إلى من كان حضني وملجئي، وأنا أحمل في داخلي يقينًا أنه قد يكون سجني؟ أيعقل أن يكون الحنين قاتلي…أم يكون الخلاص؟ ويبقى السؤال يطاردني: أأنا عائدة إلى حبٍّ ضاع، أم إلى وجع يتنكر في هيئة حب؟"}


         [بعنوان: عودة على حافة الخوف]

منزل مصطفى، الثالثة مساءً 

نبيلة تجلس على الأريكة تحتسي الشاي وتتابع التلفاز بإهتمام، بينما جلست عائشة على السفرة تذاكر، وإيهاب في غرفته، دقائق معدودة، وأرتفع صوت طرقات هادئة على الباب.

نهضت نبيلة، فتحت الباب فإذا بسليم يقف أمامها، بابتسامة واسعة مرسومة على وجهه، ومكي خلفه كظل ثقيل في تلك الهيئة التي رأيناها في الحلقة السابقة.

سليم بتهذب: مساء الخير يا هانم.

تجمدت نبيلة لحظة، نظراتها مترددة، تضيق عينيها كأنها تحاول التذكر، لم تراه من قبل، لا صورة ولا لقاء، لكن وسامته، حضوره المميز، جعلوها تدرك من يكون.

تمتمت بإستغراب شديد: سليم؟

تبسم ابتسامه صغيره ومال برأسه قليلا بهدوء: ما شاء الله عليكي يا هانم، شكلك ذكية، أو يمكن شوفتيني في صورة قبل كده.

نبيلة بهدوء، وردت بوضوح: لا أنا معرفكش أول مرة أشوفك، بس هيبه حضورك معرفه نفسها.

ابتسم سليم: تبقى ست ذكية فعلًا، تسمحي لي ادخل؟!

نظرت له لحظه بتردد، وابتلعت تلك الغصه، فهي مفاجأه بالنسبه لها ثم هزت رأسها بإيجاب وهي تشير بيديها: اتفضل يا ابني.

تقدم سليم بخطوات وخلفه مكي وهو يقول: أخبارك إيه؟

انتفضت عائشة من على السفرة، بصدمة بعد أن وقعت عينيها عليه: سليم!

أدار نظره إليها، ضيق عينيه قليلًا: أنا عارفك، بس مش فاكر اسمك، أنتِ أخت مصطفى مظبوط؟

أجابته بحدة ممزوجة بخوف مبطن: إيه اللي عرفك المكان ده؟ أنت جاي لمصطفى؟ مش موجود.

أجابها بهدوء: أنا عارف إنه مش هنا، هو في المركز دلوقتي.

تدخلت نبيلة بصوت ثابت لكنه مثقل باللوم: اللي أنت بتعمله ده هو اللي ضيعها منك.

ألتفت برأسه إليها بدهشة: تقصدي إيه؟

رفعت رأسها نحوه، كلماتها خرجت كطعنة: طريقتك دي هي السبب إنها مرضيتش ترجعلك، أنت خنقتها، مش عارف تحتويها، يسوى إيه الحب ولا الفلوس؟! لو  الراجل معرفش يحسس مراته بالأمان؟

ضحك سليم ضحكة قصيرة مبحوحة، تقترب من المرارة: شكلك عرفتي القصة؟! طب اسمعيها مني أنا كمان، علشان متظلمنيش.

نظرات نبيلة كانت أشد من أي حديث قالت بصوت ثابت، كأنها تعاتبه بقساوة: أنا مش ظلماك يا سليم، أنا سمعت منها كل حاجة، وفهمت كل حاجة، حتى من غير متتكلم، وجعها وخوفها وخذلانها وصل لي، أنت ماحتوتهاش، أنت خوفتها، آها، حبتها بس معرفتش تحتويها.

تجمدت ابتسامته للحظة، ارتعشت أنفاسه، كأن كلماتها أصابت الجرح نفسه.

أقترب أكثر، انحنى قليلًا حتى صار في مستوى نظرها، صوته صار أقرب للإعتراف لكن بنبرة مهتزة: صدقيني يا هانم،  السبب إللي خلى ماسة تمشي مش إني معرفتش أحتويها، العكس، أنا احتويتها بزيادة، بس بطريقتي الغلط، كنت فاكر إني كده بحميها، بحافظ عليها، بحافظ على برائتها.

زم شفتيه بحزن وتابع بندم بدمعة متحجرة: بس اللي حصل إن محدش أذاها أكتر مني أنا.

اعتدل واقفًا، أعطاها ظهره لحظة، كأنه يهرب من ثقل كلماته.

عاد يلتفت مبتسمًا ابتسامة حزينة بوعد: بس صدقيني يا هانم، المرة دي مختلفة، المرة دي أنا هعرف أحتويها صح، وهحبها صح، مش هضيع الفرصة دي من إيدي تاني مهما حصل.

نظرت له نبيلة لحظة، وفي عينيها لمعة ترددت بين الشك واليقين، للحظة شعرت أنه صادق في حديثه، ليس إلا رجلًا عاشقًا مجروحًا بسبب بعد زوجته عنه.

انفتح باب الغرفة فجأة، ظهر إيهاب متوترًا وهو يقول بدهشة: إيه ده يا ماما؟! مين ده؟

لكن سرعان ما عرفه، تسمرت نظراته عليه.

ابتسم سليم بخفة وهو ينظر له، كأنه يعرفه منذ زمن: باشمهندس إيهاب، أنا ببلغك تحياتي، حقيقي أنت مهندس شاطر، الشفرات والأكواد، اللي كنت بتستخدمها في المكالمات الهاكرز، اللي عندي معرفوش يوصلوا لها ولا يفكوها، فيه واحدة منهم لما فكناها طلع تمويه كان إرساله من أوروبا.
ضحك بتشجيع حقيقي: أنت بجد شاطر بس كانت فيه مكالمة واحدة، لو كانت اتعملت، كنت وصلت من فترة، بس للأسف شهر ونص مفيش ولا مكالمة واحدة! أنا مستعد أشغلك عندي لإنك كفائة.

إيهاب بإرتباك فهو يحاول أن يصطنع عدم الفهم وكأنه جاء فقط من أجل مصطفى: أنا مش فاهم حضرتك بتتكلم عن إيه؟! مصطفى مش هنا.

هز سليم راسه بهدوء: أنا عارف إنه مش هنا، والدتك لسة متكلمة معايا في الموضوع، فمتحاولش تعمل إنك مش فاهم، بص ياباشمهندس أنا مش عايز حاجة، هستناها وأخدها وأمشي بهدوء.

لمح إيهاب بطرف عينيه السكينة الموضوعة على الطاولة الصغيرة، يبدو أنه يريد أن يأخذها، لكن سليم انتبه له سريعًا، رفع يده محذرًا: أوعى، خليك عاقل يا باشمهندس، الموضوع هيخلص بهدوء، أنت شايف مني أي حاجة؟ رجالتي واقفين تحت في الشارع، وطلعت لوحدي، مكي مفيش اي خوف منه، أنا مش جاي غير عشان اخد مراتي وبس.

إيهاب بحدة: وتفتكر الموضوع سهل كده؟

سليم بنبرة قاطعة: وليه ميبقاش سهل؟! اعتقد لما نقعد هاديين أفضل 

صمت الجميع للحظة ينظرون اليه فهو بالطبع محق لابد أن يكونوا هادئون

ثم تابع بثقة ورجاء:ماسة كلها دقائق وتوصل، هي خرجت من المركز خلاص، يا ريت تقعدوا مكانكم بهدوء، بعد إذنك يا آنسة، اقعدي، وأنت يا باشمهندس، وحضرتك يا هانم أفضلوا مكانكم.

أشار لمكي: لما توصل عرفني فورًا.

هز مكي رأسه ايجابا، ثقل رهيب خيم على الجو، الصمت صار سيد اللحظة، عيون الحاضرين تحيط بسليم، لكن لا أحد يجرؤ على الحركة.

مرت دقائق بطيئة، قبل أن يقترب مكي من سليم ويهمس في أذنه بشيء، انتفض سليم عندها وأتجه بلهفه نحو النافذة، أزاح الستارة قليلًا، نظر من خلف الزجاج.

كانت ماسة تسير بجوار مصطفى، يضحكان ويتحدثان بخفة، ثم تعثرت قدماها فجأة، فأمسكت يده لتتوازن.

كما شاهدنا في الفصل السابق فهذا الموقف من منظور سليم.

اللحظة كانت كفيلة بإشعال النار في قلب سليم، الشوق الذي ظل يغلي داخله ستة أشهر أختلط بغيرة جارفة وغصة قاتلة، شد فكه بقوة، عيناه تحولت لوحش كاسر غامت بسواد خطر، ومع ذلك، حافظ على هدوئه الظاهري، ألتفت نحو الجميع وقال بهدوء: مفيش كلام الكل مكانه.

بعد دقائق أرتفع صوت طرق الباب فجأة، ساد توتر رهيب. 

تقدم سليم خطوة وراء خطوة، أنفاسه تتسارع، وقلبه يسبق خطواته من الشوق الذي زلزل كيانه، ستة أشهر لم يرها، ستة أشهر لم يعرف من وجهها إلا طيفًا يزوره في المنام، وصوتها الذي ظل يتردد في أذنه كأنها لم تفارقه لحظة، عاش على الأحلام، على الخيالات، هي وحدها التي جعلته صابرًا متماسكًا أمام العالم، بينما داخله كان ينهار يومًا بعد يوم.

أقترب من الباب، كل ذرة فيه تصرخ بالحنين، عينيه تكاد تدمع، كفه يرتجف وهو يمده نحو المقبض، أخذ نفسًا عميقًا شد على نفسه ثم فتح الباب..

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، إبتسامة عاشق مشتاق، صوت خرج عميق، ناعم، مألوف كطعنة في قلب: Aşkım

تجمدت الضحكة على شفتيها، كأن الهواء أنقطع، فقط جملة واحدة تضرب في عقلها "هذا ليس هو" رأسها تحركت ببطء، ثقيل، تهتز كأنها لا تملك السيطرة عليها عيناها تتسعان شيئًا فشيئًا، جسدها كله يرتجف، والصدمة تسري في عروقها مثل كهرباء صاعقة ثم وجدت نفسها وجهًا لوجه  أمامه، سليم حقيقة لا خيال بملامحه التي حفظتها عن ظهر قلب واقف أمامها ببذلته الفاخرة، شعره المرتب بعناية، وسامته التي لم تتغير بل زادت، وابتسامة هادئة تتسع كأن الزمن لم يمر.

صوته انساب دافئًا على غير المتوقع، هادئًا على نحو زاد ارتجافها: وحشتيني يا عشقي الأبدي.

عيناها لم ترمش ظلت معلقة في ملامحه، تحارب أن تصدق ما ترى، ارتعاشتها ازدادت، والعرق البارد سال على عنقها، ولونها انسحب شيئًا فشيئًا، حتى كادت تصبح صفحة بيضاء كل ذلك حدث في ثواني ربما أقل.

في تلك اللحظة نسي سليم العالم من حوله، كأن الوجود قد انحصر فيهما وحدهما، لا أحد سواهما الشوق والرغبة سيطرا على قلبه وعقله، فلم يعد يملك سوى أن يمد يده فجأة، ويسحبها إليه بعنف، كأن صبره إنهار في لحظة واحدة، وخفق قلبه بعنف، وأرتفعت حرارة جسده، شعور يملؤه كليًا بالشوق والاحتياج  ألصقها إلى صدره، إلى قلبه المتيم الذي تفتت من بعدها، شد ذراعيه عليها كأنه يريد أن يزرعها داخله، أن يملئ بها كل خلية، كل نفس أراد أن يطمئن قلبه الممزق أنها عادت إليه، أنها هنا الآن.

ارتجف صوته وهو يهمس بصوت مختنق بالدموع: وحشتيني، وحشتيني أوي، وحشتيني بجنون يا ماسة، ست شهور! ولا يوم فيهم فات من غير مستناكي، ست شهور عدوا عليا كأنهم ست ألاف سنة، بموت في كل ثانية فيهم ألف مرة.

لم يستطع منع دموعه، ففضحته من شدة الشوق، من الفرح المرير بلقائها بعد أن ظنها حلمًا لن يعود.

أبعدها قليلا، ضم وجهها بكلا كفيه، ووجهه قريب من وجهها، حتى اختلطت أنفاسهما، وكأنه يتأكد أنها بين يديه حقًا، غاص بعينيه في ملامحها، يتنقل ببصره بين عينيها اللامعتين، شفتيها المرتجفتين، وجنتيها التي طالما تخيل دفئها، كان ينظر إليها بنهم العطشان، كأنه يشرب ملامحها بعد حرمان طويل، كل جزء فيها كان يناديه، كل تفصيلة فيها كانت حياة افتقدها، وهو الآن لا يصدق أن الحياة عادت له في صورة وجهها بين يديه.

خرجت كلماته عاشقة، مذهولة، تتنفس الحنين: أنا مش مصدق إني شايفك قدامي، وحشتيني يا عشق سليم، ونفسه وحياته، وكل ما فيه، ست شهور! ست شهور كنت بموت فيهم، دلوقتي بس حسيت إن حياتي رجعتلي، أخيرًا قدرت أتنفس وأنا شايفك قدام عيني، وبين إيديا، مش عايز من الدنيا حاجة غيرك.

سحبها مرة أخرى إلى حضنه، وكأن الجوع إليها لا يشبع أبدًا، احتواها بذراعيه كمن يسترد حياته، وأغرق جبينها بقبلاته المتلاحقة، يروي عطش سنوات القحط، كأرض جافة أخيرًا لامسها المطر بعد طول انتظار.

بينما هي كانت يدها متدلية بجانبها، عيناها متسعتان، الصدمة مرسومة على ملامحها، لم يخرج منها صوت، كأنها تحولت إلى جماد يستسلم لكل ما يحدث، فوقع الصدمة مازال أثقل من أن تستوعبه.

بينما هو يعتصرها بين ذراعيه، بدأت عيناها تتحركان بإرتباك، تتسعان شيئًا فشيئًا مع كل نفس يقترب من وعيها، استوعبت أنها بين أحضانه، بين يدي الرجل الذي حطمها، تسللت رائحته إلى صدرها، ارتجف قلبها بلا إرادة، ثم فجأة، كأن قوة خفية اندفعت في جسدها، دفعت صدره بقوة.

تراجع سليم خطوة إلى الخلف، الذهول مرتسم على ملامحه، بينما هي ارتدت للوراء تحدق فيه بعينين متسعتين، يخرج صوتها لاهثًا متهدجًا من بين شفتيها المرتجفتين: سليم.

وهنا ابتسم ابتسامة واسعة، كأن العالم كله توقف لحظة سماع اسمه منها، شعر وكأن تلك الكلمة أعذب لحن طرق سمعه، بعد شهور طويلة من الصمت والجفاء، ارتجف قلبه، وخفقاته تشبه موجات البوسفور المتلاطمة، كعصفور كناري يتراقص في ربيع هادئ، كانت ابتسامته مزيجًا من فرح غامر ووجع دفين، عيناه تغرقان في وجهها، كأنه يعيش أجمل حلم طال انتظاره.

همس بصوت مرتجف بإبتسامة عشق تخرج من عينه قبل قلبه: أيوه سليم حبيبك، سليم، اللي قلبه مات ونفسه راح بسبب بعدك عنه، سليم اللي كان هيتجنن عليكي، اللي روحه اتحرقت في بعادك.

حاول أن يقترب منها، لكن يديها ارتفعت فجأة أمامها كحاجز، كأنها تعلن بصمت قاطع: متقربش.

كانت عيناها تفيض دموعًا، الصدمة لا تزال متحكمة في كل تفاصيلها.

توقف في مكانه، صوته يلين وهو يحاول تهدئتها: أنا هقف هنا، مش هقرب، إهدي، أنا عارف إنك زعلانة، وعارف إنك موجوعة، في حاجات كتير إنتِ متعرفيهاش، حاجات أنا فيها مظلوم، خلينا نرجع مع بعض، ولما نوصل هنتكلم في كل حاجة، أنا جاي لوحدي يا ماسة، أرجوكي صدقيني، أنا فاهم خوفك وصدمتك، بس أنا فعلاً قدامك، أنا مش وهم، ووعد مني مش هأذيكي.

مد يديه نحوها برجاء، صوته ينكسر بحنين: خلينا نرجع بيتنا يا حبيبتي ونتفاهم هناك، انا بقولك يا حبيبتي زي مابتحبي، أوعدك المرة دي كل حاجة هتكون مختلفة.

بدأت ماسة تتحرك أخيرًا، خطواتها بطيئة مثقلة بالصدمة، توقفت أمامه، عيناها الزرقاوان تفتشان ملامحه كأنهما تبحثان عن إجابة ضائعة خرج صوتها خافتًا ممزقًا: عرفت مكاني منين؟

نظر سليم لها بهدوء: بعدين نتكلم وهقولك كل حاجة.

شعرت ماسة وكأن حجرًا ثقيلًا سقط على صدرها، أنفاسها  مكتومه من هول الصدمة، فجأة، شدت الطرحة من على رأسها محاولة استعادة توازنها، فانقطعت وسقط النقاب أرضًا مزقت الأسدال وبسبب انه من كابسيل كان سهل فوقع أرضا، فظهر البنطال والتيشيرت الذي كانت ترتديه أسفله، وانسدل شعرها الطويل على ظهرها كالشلال، لينتشر عطرها الدافئ في المكان.

أول من استنشقه كان سليم ذلك العاشق المشتاق منذ أشهر طويلة، قلبه اهتز، وعينيه أغمضتا للحظة، كأنه أراد أن يحتفظ بالرائحة في صدره، أن يعيشها كما عاش خيالاتها في الليالي الموحشة، شعرها الذي لطالما حلم بلمسه بدى أمامه الآن حقيقيًا يلهب كيانه.

لكن وعيه عاد سريعًا على وقع نظراتها الحادة الممزوجة بالضعف، وهي تحدق فيه بعينين دامعتين، سؤالها ينفجر من بين شفتيها المرتجفتين: رد عليا، عرفت مكاني منين؟

تنهد سليم ببطء، عيناه لا تفارقانها، وصوته منخفض لكنه ثابت: شاغلك أوي تعرفي؟! قولتلك، في بيتنا هنتكلم وهعرفك كل حاجة؟! ليه مستعجله، خلينا نرجع بيتنا اللى بقاله شهور مظلم من غيرك ومستنى رجوعك ينوره ويرد الروح فيا وفيه.

تبادلوا النظرات لثواني بصمت، وهي تحاول أن تستوعب يده الممدودة أمامها، تلك العينان العاشقتان، النظرة التي تعرفها جيدًا؛ نظرة رجاء، واعتذار، وحب، وشوق، التفتت بعينيها نحو مصطفى وعائلته، الذين توقفوا يحدقون فيهما كأنهم يشاهدون مشهدًا من مسلسل رومانسي لرجل تركته زوجته أشهرًا، وها هي الآن بين يديه.

لكن فجأة اقتحمت رأسها فكرة واحدة كالصاعقة: سليم! إن عرف أن مصطفى وعائلته كانوا يعلمون أنها ماسة، سيؤذيهم، خصوصًا أن سليم يعرف مصطفى.

لا بد أن تجمع قوتها وذكائها، لا مجال للاستسلام للصدمة أو الخوف أو الدموع، عليها أن تحمي من حولها، أن توقف أي خطر بأي شكل مهما كان الثمن.

فجأة ارتفعت أنفاسها بصوت مبحوح، تختنق العبرة في حنجرتها، ودموعها تلمع في عينيها وهي ترفع يدها المرتجفة وتشير نحوهم.

خرج صوتها متقطعًا، كأنه يستجدي التصديق: هما، هما ميعرفوش أي حاجة، فاكرين إن اسمي حور، أنا، أنا كذبت عليهم وخدعتهم.

ترددت لحظة، وصوتها يتهدج وهي تحاول أن تتمالك نفسها نظرت له حاولت أن تقنعه بتلك الكذبه فكل ما تريده حمايه مصطفى وعائلته: هما فاكرين إني مرات ظابط، خفت أقولهم أنا مين فيخافوا يساعدوني، بالله عليك ملكش دعوة بيهم، خليك معايا، هما ميعرفوش حاجة.

سليم بهدوء: يعرفوا ميعرفوش، مش فارق.

شهقت بخوف، وارتجف جسدها كله وهي تبكي بصوت مخنوق: يعني إيه؟

اقترب منها بخطوات بطيئة، فارتدت هي خطوة للوراء وهي تضم ذراعيها لصدرها وكأنها تحمي نفسها.

فقال بنبرة حانيه ليطمئنها: يعني حتى لو قولتي إنك مراتي وعرفوا، هيفرق إيه؟ ليه خايفه كدة؟!

هزت رأسها بسرعة والدموع تنهمر على وجنتيها، تحاول إقناعه وصوتها يتقطع: المهم لازم تعرف إنهم ميعرفوش أي حاجة، فاكرني اسمي حور.

ابتسم سليم ابتسامة جانبية وهو يميل نحوها، كأن كلامها لا يعنيه: بس هما عارفين؟! أنا دردشت مع الهانم شوية، فهمت إنهم عارفين وحكيتلهم القصة، عموماً ده مش فارق معايا من الأساس.

ارتجفت شفتيها، ووضعت كفها على فمها تكتم شهقة، ثم همست بصوت متحشرج: يعني، يعني أنت مش هتأذيهم؟

ضيق سليم عينيه متعجباً: أأذيهم ليه؟!

اخفضت رأسها وخرج صوتها مرتجفًا، يفضح خوفها: علشان هما عارفينك وعارفين أنا مين ومراحوش يقولوا لك على مكاني.
ثم رفعت عينيها له بتساؤل: هتأذيهم؟

تبسم بهدوء: لا مش هأذيهم، (مد كفه نحوها) يلا خلينا نمشي.

رمشت بعينيها للحظة وهي تنظر إلى كفه، ثم رفعت عينيها إلى عينيه، اللتين يفيض منهما الشوق والرجاء أن تأتي معه، تعالت أنفاسها وهي ترتجف: لا.

تابعت وهي تهز رأسها بلا بضعف، والدموع تتدفق بغزارة، بنبرة مكتومة: لا مش همشي معاك.

رفع عينيه نحوها، صوته صار مليئًا بالرجولة والحزم: يعني إيه، مش هتمشي معايا؟

تراجعت خطوة للخلف بظهرها، تهز رأسها والدموع لم تتوقف: يعني مش همشي معاك.

حاول مصطفى التدخل، أخيرا وتحدث: سليم خلينا نتكلم.

سليم، بعينين حادتين ووقار مهيب: لو سمحت، محدش هنا هيتكلم غيري، أنا هاخد مراتي من غير كلام.

اتسعت عينا مصطفى، ووقف أمام سليم بحزم: مراتك مش عايزة ترجع معاك، أهي قدامك اسألها، لو قالتلك أنا عايزة أمشي" هتمشي"، لكن طول ما هي مش عايزة أنا مش همشيها معاك.

ضحك سليم بإستهزاء: ده بصفتك ايه بقى!

تحرك مصطفى وتوقف أمامه، جسده مشدود، وقال ببحة رجولية: شوف الصفة إللى تعجبك وسميها، دي واحدة ست استنجدت بيا، وأنا وقفت جنبها، يستحيل أخذلها وأخليها تمشي معاك وهي مش عايزة. 

نظر له سليم لوهلة وهو يرمقه بعينه، لكنه لم يهتم لكلمات مصطفى، وحول نظره لماسة وقال بحسم: يلا يا ماسة.

مد يديه وسحبها بلطف من كفها، لكنها سحبت يدها بشدة، وصاحت بحدة: مش همشي معاك غير لما توعدني إنك مش هتقرب منهم!

حاول سليم طمأنتها، وقال بنبرة هادئة وثابتة: أنا لو كنت عايز أقرب منهم، كنت قربت من ساعة ماجيت، يلا يا ماسة.

ماسة بعينين حادتين وصرامة، قالت برفض وهي تبتعد: قولتلك مش همشي غير لما توعدني، وتقول لي وعد يا ماسة أنا مش هقرب من مصطفى وعيلته!

سليم، بنبرة حازمة: قولتلك مش هقرب منهم، يلا.

عقدت حاجبيها بضيق، فهي تعرفه جيدًا، إذا لم يعد، فهو لن يفعل، جزت على أسنانها، لمحت السكينة الموضوعة على بعد أمتار، درات في خاطرها فكرة، فجأة، في لمح البصر، ركضت نحوها ومسكت السكينة ووضعتها عند رقبتها، الجميع صدموا وأجسامهم تلقائيا تحركت بخضة

بينما اتسعت عينا سليم بصدمة، وارتجف جسده بالكامل وهو يقول: ماسة.

حاول الاقتراب منها، لكنها مدت يدها بطولها بقوة، وقالت بصوت مرتعش: اقف عندك، لو قربت أقسم بالله هموت نفسي، خليك عندك! بقولك.

تجمد سليم في مكانه لكن قلبه كاد يقف من الرعب عليها، عين عليها وعين على تلك السكين الغارزة على عنقها.

بينما مصطفى، رفع يديه قليلًا كإشارة للتهدئة، جسده يميل للأمام قليلًا، عيناه تراقب كل حركة، صوته يرتجف: ماسة أهدي.

رفعت ماسة عينيها نحو مصطفى وهي تقول بنبرة حادة: متقربش أنت كمان.

مصطفى بثبات: بس اللي بتعمليه ده مينفعش.

ماسة بنبرة مشددة وعينيها على سليم، دموعها تهبط بلا توقف، وصوتها مهتز: قولتلك مستحيل أسمح  إن أي حاجة تمسكم ولو بموتي!

حاول إيهاب تهدئتها: طب نزلي السكينة، هو مش هيعمل حاجة أنتِ كدة هتأذي نفسك.

نبيلة بحنانٍ يائس وخوفٍ ودموعها محبوسه في عينيها: نزلي السكينة يا بنتي، الشيطان شاطر.

اقترب سليم بخطوة مترددة، وصوته خرج متهدجا وهو يحدق في النصل الغائر: ماسة، نزلي السكينة، أنا مش هعملهم حاجة صدقيني، مش هعمل حاجة والله.

صرخت ماسة بعنف، صوتها يتقطع بالرهبة: خليك عندك بقولك.

هز سليم رأسه بايجابا، ورفع يده بإستسلام، وتوقف مكانه، وقال بنبرة مهتزة برعب: طيب أنا واقف مكانى اهو قولي عايزة إيه!

ماسة بنظرة حادة قالت بحسم ونبرة متحشرجة: لو عاوزني أنزل السكينة أوعد! أوعد إنك مش هتقرب منهم! قول وعد! أوعدك إني مش هقرب من مصطفى ولا من أهله!"

كانت السكين قد غاصت قليلًا في عنقها، والدم بدأ يسيل في خطٍ رفيع، وعينا سليم كادتا تخرجان من مكانهما من فرط الذعر.

أرتبك سليم، صدره يعلو ويهبط كمن يلهث، رفع يديه مستسلما وصوته خرج متوترا مزعورا بنبرة رجولية: قولتلك مش هقرب منهم!

صرخت ماسة مجددا، وعيناها تقدحان جنونا: قولت أوعــــــد!!!

هز سليم رأسه بسرعة، العرق يتصبب من جبينه، وقال بصوت متحشرج وهو يومئ برأسه متوسلا: وعد! والله وعد، مش هقرب منهم ولا من مصطفى.

ماسة والسكين لا تزال تلامس رقبتها، دموعها تهبط بغزارة وصوتها يرتعش: قولي وعد يا ماسة مش هقرب من مصطفى ولا من أي حد من أهله، ولا هخلي رجالتي يقربوا منهم، ولا هعاقبهم ولا هلمسهم، كإنك متعرفهمش أصلًا!، وهتسيبهم في حالهم.

سن السكينة غرز أكثر في عنقها، قطرة دم سالت، لكنها لم تهتم، فماسة كل همها أن تحافظ على حياه تلك العائلة التي لم تفعل شيء غير المحافظة على حياتها وأن تنفذ وعدها وقسمها لهم أنها ستفديهم بحياتها لو استدعى الأمر ذلك مقابل حمايتهم.

اتسعت عينا سليم برعب، كأن الدنيا تتهدم أمامه: بس بقي كفاية، أنتِ بتنزفي!

تحرك خطوة نحوها، لكنها صرخت بعنف يشق الهواء: متقربش! بقولك أوعى تقرب! أقسم بالله لو قربت هموت نفسي! أنا مش بهزر.

ارتجف قلبه، وانكسر صوته وهو يتمتم برجاء بنبرة غاضبة من الخوف: طب ما أنا وعدتك أعمل إيه تاني سيبى الزفتة دي.

أجابته بصوت متحشرج بين البكاء والذعر بيد مرتعشة: أوعد، قولها تاني!

الدم سال أكثر، وسليم كاد يفقد عقله، عيناه تلمعان بالرعب والدموع، رفع  يده وصوته يتقطع: وعد! ورحمة بنتي وعد! مش هقرب لهم، ولا رجالتي هيلمسوهم، والله العظيم ماهعمل لهم حاجة! ولاحتى بخدش دبوس، بس شيلي السكينة بالله عليكي كفاية! 

شهقت ماسة، ونظرت إليه بعينين غارقتين في الدموع ويدها ترتعش، وهى تنظر اليه بشك: أنت وعدتني.

هز سليم رأسه بسرعه متوسلًا، والدمع يلمع في عينيه: أقسم لك بالله مش هقرب هم لا أنا ولا رجالتي! ولا كان في نيتى أعمل لهم حاجه اصلا، نزلي السكينة بقي ورحمه حور كفاية.

حدقت فيه بضعف واستسلام للحظات تبادلوا فيها النظرات؛ كأنها تتوسله ألاَّ يفعل بهم شيء ويكون صادق في وعده، وهو يتوسلها أن تصدقه وتهبط ذلك السكين 

تنهدت بضعف، ثم بدأت يدها تهبط ببطء وترتعشان، حتى أفلتت السكين وسقطت.

في لمح البصر اندفع سليم نحوها، جذبها بقوة إلى صدره، ضمها كما لو كان يستعيد روحه الضائعة، كأنه يخشى أن تذوب بين يديه، طبع قبلة طويلا مرتجفة على رأسها، ويداه تضغطان على عنقها ليوقف النزيف، شفايفه ألتصقت برأسها وهو يهمس بخوف وشوق وأنفاسه تتلاحق بين الخوف والتوتر: يا ماسة حرام عليكي إزاي تعملي كدة في نفسك؟!.

بينما هي تبكي ويدها جانبها مستسلمة لما يفعله.

ثم صرخ سليم بلهفة تكاد تشق حنجرته عندما فشل في إيقاف النزيف ورأي ضعفها بين يديه: مصطفي، أنت دكتور شوف جرحها بسرعة!

وحينها إندفع مصطفى الذي كان قريبًا، يعرف تمامًا ما يجب أن يفعل، سحب ماسة من بين أحضان سليم، وهي ما زالت واعية، لم تكن مصابة بجرحٍ عميق، لكن الصدمة جعلتها غير متزنة وضعيفة، كأنها على وشك فقدان الوعي.

ألقى مصطفى نظرة سريعة على عنقها، فوجد أن الجرح سطحي، لا يكاد يذكر، ألتقط بعض المناديل وضغط بها على موضع النزيف البسيط، ثم قال مطمئنًا:  مفيش حاجة، متقلقش.

رفع سليم نظره نحوها، عينيه تلمعان بحدة وعتاب، لكنها واجهته بنفس النظرة بشك، وهمست بصوت مرتجف بالكاد يخرج: أنت وعدتني، سليم مش بيخلف وعده.

هز سليم رأسه بصمت ووعد: طب خلينا نمشي.

هزت رأسها بتردد، ورفعت يدها بخجل وكأنها تعتذر للجميع، وصوتها مبحوح مليء بالندم: أنا آسفة، آسفة إني عرضتكم لكل ده، كنت عارفة إن ده هيحصل، علشان كدة كنت بقول لكم سبوني أمشي.

ألتفتت نحوهم واحدًا واحدًا، والدموع تحجب رؤيتها:
أنا آسفة يا ماما نبيلة، آسفة يا عائشة، آسفة يا إيهاب إني عرضتكم لده، حقك عليا يا مصطفى، وبشكرك على كل اللي عملته معايا، وعلى وقفتكم جنبي أنا معرفش لولاكم كان حصلي إيه؟!

تنفست بصعوبة، وكأنها تحاول أن تطمئنهم أكثر مما تطمئن نفسها: ومتخافوش هو مش هيعمل حاجة، علشان لو فكر يعمل حاجة، هو عارف التمن هيكون إيه!

كان سليم واقفًا يستمع اليها، قلبه يصرخ من الداخل، كان يشعر أنه مظلوم، لم يكن ينوي أن يؤذيهم، لم يخطر بباله أن يقترب منهم من الأساس، ومع ذلك وضع في صورة قاتمة، أسوأ صورة، عيناه امتلأتا بدموع مكبوته، فآخر ما بينهما كان بشعًا، لذلك هي محقة فيما تشعر به وتقوله الآن، ومع ذلك ظل عشقه لها حاضرًا.

تحركت ماسة بخطوات مثقلة، وكأن كل خطوة تنتزع من قلبها، بينما مصطفى لم يتحمل المشهد.
فتوقف أمامها بثبات يمنعها، صوته رجولي مفعم بالعزم:
لو مش عايزة تمشي متمشيش غصب عنك، أنا معاكي، مش هايقدر يعمل لك حاجة، وأنا هطلقك منه.

فور سماع تلك الكلمة، كان الأمر بالنسبة لـ سليم كأن أحدهم صفعه بقوة على وجهه، اشتعلت عيناه، كاد أن ينطق، شفتيه تشنجت، لكن ماسة رفعت بصرها إليه بنظرةٍ قاطعة تحمل معنى واحدًا "ألاَّ يتهور".

تبادلوا النظرات للحظة جز على أسنانه، أشاح بوجهه بعيدًا، وهو يمسح عليه بكفه بعصبية، شد أنفاسه في صدره محاولًا أن يتمالك نفسه، يخفي الغليان الذي يعتصره بينما عيناه تلمعان بحدة مكبوتة.

نظرت ماسة إلى مصطفى، وصوتها أنكسر كأنها تستسلم، كتفيها أرتخيا فجأة: مش هينفع خلاص.

تقدم مصطفى خطوة تجاهها ومال بجسده فى مستواها، صوته قوي لكنه يقطر رجاءً، يمد يده قليلًا نحوها دون تلامس: لا مش خلاص، متخافيش منه، هو بيستغلك علشان خوفك، لكن لو واجهتيه مش هايقدر يعمل حاجة هو طول عمره بيستغل خوفك على الناس اللي بتحبيها متخافيش علينا ولا على أهلك أنا هحميكي.

أشار لنفسه بثقة وهو يضيف، وعينيه مثبتة عليها: أنا جنبك، خليكي واثقة فيا، هو برجالته وأسلحته دي كلها ميفرقش معايا، متخافيش يا ماسة أنا جنبك، ثقي فيا.

أغمضت ماسة عينيها، تنفست بإرتجاف، ثم فتحت عينيها المليئتين بالدموع وقالت برجاء متعب، وهي تضم كفيها ببعض: أنا عايزة أمشي معاه.

ألتقط سليم الكلمة بسرعة، صوته أرتفع وفيه نفاذ صبر، وابتسامة خفيفة ساخرة ظهرت على وجهه: سمعت؟ هي عايزة تمشي معايا، خلاص بقى!

مد يده يسحبها نحوه، لكن مصطفى اعترض مرة أخرى، جسده مشدود وذراعه ممدودة أمامه: ماسة أسمعي الكلام، متروحيش معاه، أنا هحميكي منه، بالله عليكي متخافيش، خوفك دى هو للي خلاه يدمرك.

نظر له سليم نظرة حادة، قبضته تغلق وتفتح من العصبية، وقال بنبرة قوية: تحميها من مين؟ دي مراتي.

مصطفى ببحة رجولية، وعروقه بارزة في رقبته: صح مراتك، بس إنت خطر عليها، وأنا هحميها منك ومن أي حد ممكن يأذيها، مش هتاخدها لو على جثتي.

قلب سليم عينيه، حاول أن يبقى متماسكًا رغم غليانه، ذقنه مرفوع بتحدي: دكتور، أنت راجل محترم ومتربي أعتقد عيب إنك تمنعني آخد مراتي، أرجوك بلاش تختبر صبرى أكتر من كده.

أشار مصطفي إليها بنظرة مقصودة، نبرته أكثر ثباتًا: لو فعلًا بتحبها، اسألها: هي عايزة تيجي معاك من قلبها ولا خايفة منك؟ وأنا بأكدلك، إنها خايفة، وإنت عارف ده كويس.

نظر سليم إلى ماسة نظرة طويلة مشبعة بالغضب والضيق، عروقه تكاد تنتفض من شدة توتره، يضغط على أسنانه كأنما يكبح انفجاره القادم، أدركت هي المعنى جيدًا، قرأت مابداخله دون أن يتكلم، ومع ذلك، تقدم خطوة للأمام، خطواته تحمل عصبية تفضحه، فهو في النهاية يرى غريبًا يتدخل بينه وبين زوجته.

كاد أن ينطق، لكن ماسة سارعت لتقف أمامه، ترفع يدها المرتجفة قليلًا وتضعها على منتصف صدره، تقول بصوت متوسل: من فضلك أستنى يا سليم.

هبط سليم بعينيه نحوها، تلك النظرة التي تعرفها جيدًا؛ عينيه المثقلتين بالغليان والحب معًا، لكنها بعينيها توسلته من جديد، دون كلمات كأنها تقول "أرجوك أصبر".

إنفلت منه زفير طويل محمل بالقهر، ثم تنهد بصمت، وأدار وجهه جانبًا ليخفي ما يعصف بداخله.

تنهدت ماسة ورفعت رأسها بضعف، ودموعها لم تتوقف، كأنها تتشبث ببقايا شجاعة ونظرت نحو مصطفى:
مصطفى، أنا عايزة أمشي مع سليم بإرادتي، أنا عايزة ده مش خايفة منه، زهقت من الهروب، لو مكنش جه النهاردة، كانت مسألة أيام وكنت هكلمه أنا بنفسي، لأني تعبت، تعبت من الهروب ومن إني أستخبى، تعبت من القلق ومحتاجة أنام مرتاحة من غير خوف، شكراً على كل حاجة عملتها معايا، بس صدقني هي خلصت، دي النهاية، فلو سمحت أوعى تحاول تقرّب مني تاني لو حقيقي بتعزني.

أبتسم سليم ابتسامة خفيفة، مزيج بين الانتصار والمرارة، ورفع حاجبه بسخرية: سمعت؟ اهي قالتلك بنفسها، لو سمحت أوعى بقي، وشكراً على شهامتك.

مصطفى وكأنه يترجاها، يمد كفه نحوها بخوف: أنا هبقى جنبك، متخافيش.

نظرت ماسة له بصمت، عينيها تتهرب منه، وكأنها استسلمت لسليم.

رد سليم بإبتسامة هادئة لكنها منتصرة، وقبضته تشد على يدها: مش محتاجه إنك تكون جنبها؛ علشان جوزها موجود جنبها.

شبك كفه بكفها وسحبها معه برفق حازم، وخرج بهامستسلمة، ومكي يتبعه، ثم أغلق الباب خلفه بإحكام.

صرخ مصطفى، وكاد أن يركض خلفها، لكن نبيلة أمسكت ذراعه بقوة، وجهها ممتقع بالقلق، فأوقفته، وقالت برجاء: هتعمل إيه؟ دى مراته؟!

صرخ مصطفى في قهر، قبضته تضرب المقعد الباب، عروقه بارزة: إزاي اسيبها تمشي معاه؟! إزاي؟

أجابت نبيلة بحزن عميق، والدموع محبوسه في عينيها:
علشان مراته، مفيش حد يقدر يمنعه ياخدها، وإحنا خلاص، مش هنعرف نعمل لها حاجة أكتر من كده.

وقف إيهاب مذهولًا، عيناه تتنقلان بين الوجوه، يده ترتجف وهو يشير نحو الباب: هو عرف مكانها إزاي؟!

عائشة بإرتباك، والخوف بادي علي ملامحها: معرفش تفتكروا يكون حد قال له؟

مصطفى بضيق وهو يحك جبينه بحدة، ورأسه مطأطأ: معرفش.

جلس على المقعد وهو يشعر بالضجر الشديد، صوته خافت لكنه مليء بالقهر: أنا خايف عليها خايف يأذيها.

نظرت نبيلة للأرض ثم رفعت عينيها ببطء نحوه، وقالت بنبرة واثقة بحكمه: أنا حاسة إنه مش هيعملها حاجة، ولا هيأذيها كان شكله هادي، ومعملناش حاجة، لو كان في ضميره شر، كان أذانا من قبل ماتدخل البيت، هو كان عارف إنها مش هنا ولسة في الطريق، كان قادر ياخدها، بس هو جه خبط على الباب وقعد في منتهى الاحترام وكل عينه فيها ندم، أنا حسيته راجل ندمان وعرف غلطته وعايز يصلح كل حاجة عملها غلط، ومتأكدة إنه مش هيأذيها، سحبتها لحضنه بالطريقة دي، وجنون الاشتياق اللى خرج من عينه، طريقته وهو بيقولها تعالي نرجع بيتنا، ورعبه عليها لما مسكت السكينة؟! أكدت لي إنه مش هيعمل حاجة، مش هيأذيها ده واحد عاشق ماصدق إنه وصل لمراته حبيبته ورجعتله، ده واحد بيحب مراته مش عايز غير إنه يرجعها وتسامحه، فهو ولا هيأذيها ولا هيأذينا، واللي أكد ده؟!  لما وقفت قصاده يا مصطفى، معملكش حاجة، يعني واحد زي سليم باللي إحنا عرفناه عنه، لما تقف كده قصاده وتعمل اللي أنت عملته، كان ضربك، ولا كان طلع مسدسه وإداك رصاصة، حتي مكي وقف متحركش، متقلقش عليها من سليم، أقلق عليها من أهله هما السبب يابني في تدميرهم مش هو.

هزت عائشة رأسها بتأكيد وعقلانية: أنا بقول كدة برضو، إنه مياخدش أي رد فعل للى أنت عملته، دي يأكد إنه فعلا مش هيعمل حاجة، دي كان هينفعل وسكت بنظرة منها، اخدتي بالك يا ماما !

نبيلة بتأكيد: أيوة طبعاً.

هز إيهاب رأسه بتأييد: ماما عندها حق أنا مش قلقان من سليم قد مقلقان من أهله.
جز على أسنانه هو يضيف بضجر: لو بس كنا وصلنا للفيديوهات.

صمت الجميع، العيون متشابكة، والأنفاس متقطعة، فلا كلمات يمكن أن تقال.

مسح مصطفى على وجهه بكلتا يديه، يغلي داخله من الغضب، لكنه لا يعرف ماذا يفعل !

على إتجاه آخر…

في المصعد.

كانت ماسة تقف في المصعد بجانب سليم، عيناها متسعتان، تنظر إلى الأمام يبدو أنها مازالت غير مصدقة أنها الآن تمسك بيده، بينما مكي أمامها بدى وكأن كل شيء انتهى فجأة.

حين وصل المصعد إلى الطابق الأول، خرجت معه بهدوء، ومازالت أصابعها متشابكة في أصابعه، بينما قلبها يرتجف بشدّة.

أما سليم، فكان يعيش لحظة لا تشبه شيئًا مما سبق، ستة أشهر كاملة لم يرها فيها، لم يلمس يدها، لم يسمع صوتها عن قرب، يعيش فقط على بقايا خيالات، على أحلام يسهر بها ويستيقظ عليها، والآن ها هي إلى جواره، يدها بين يديه، حقيقة ملموسة، لا خيال ولا وهم، فهو يعيش أسعد لحظات حياته؛ قلبه يكاد يطير من الفرح، وكأنه استعاد أنفاسه بعد شهور طويلة من الغياب والانتظار، يشعر أن الأرض كلها تضيق وتبقى هي وحدها الأفق الواسع، يشعر بسلام غريب، سكينة لم يذقها من قبل، وكأن كل العواصف التي عاشها توقفت بمجرد أن لمست أصابعه أصابعها، ومع ذلك تماسك وأخفى انفعاله خلف ملامح جامدة، يكسو وجهه هدوء غريب، يخشى أن يكشف أكثر مما يريد.

فتح لها باب السيارة الخلفي بنفسه، كان مكي قد جلس بجانب السائق، دخلت وجلست، ثم لحق بها وجلس إلى جوارها، يراقبها بصمت، يخشى أن يرمش فتختفي، يخاف أن يكون كل هذا حلمًا آخر سيستيقظ منه فجأة.

انطلقت السيارات بعيدًا، وهو يخفي ابتسامة تتوق للخروج، لكنه يتركها حبيسة هدوء ملامحه، فيما قلبه يصرخ فرحًا "لقد عادت".

رفعت ماسة عينيها نحوه، وقالت بصوت هادئ متردد: أنت، أنت عرفت مكاني منين؟

ابتسم سليم بخفة، ورد بنبرة متماسكة لكنها تحمل غصة وهو ينظر أمامه: مسألتنيش غير السؤال ده من ساعةماشوفتيني؟

رفعت ماسة حاجبها، وقالت بنبرة حادة لكنها مرتعشة: من حقي أعرف، أنت عرفت مكاني إزاي؟

مال سليم برأسه قليلًا نحوها، وكان صوته أكثر هدوءًا: لما نوصل بيتنا هقولك.

ظل يتأملها بعينيه المليئتين بالشوق، وكأنه غير مصدق أن عينيه تراها أخيرًا، همس بعاطفة مكبوتة: تعرفي أنا مش مصدق إني شايفك بعيني حقيقي، وإن المرة دي مش هلوسة ولا خيال، لا حقيقة، وإنك رجعتيلي تاني، بين إيدي، وأخيرا نفسي رجعلي، كنت هتجنن عليكي، أنتِ وحشتيني، وحشتيني أووي...
صمت للحظة ثم تساءل بأمل يشوبه اليأس:
هو انا موحشتكيش خالص؟!

ألتفتت ماسة نحوه بسرعة، بنظرات قاطعة، وعينيها تتحرك عليه بحذر، وردت بنبره حادة: لا.

أدار سليم وجهه للأمام فجأة، وزفر بقوة، وقالت بصوت مبحوح قليلًا: بلاش تبصيلي كده

ابتسمت ماسة بسخرية، ثم نظرت للأمام: أنت مينفعش حد يبصلك غير كده أصلًا.

فجأة رفعت صوتها بتوتر وهى تهجم على السائق وتقول: أقف هنا!

السائق ألتفت بخوف: في ايه؟

ماسة بسرعه: لو سمحت، أقف هنا.

رفع سليم حاجبه، وصوته مشحون: هو ايه اللى أقف هنا، في إيه؟

ألتفتت له بحدة: يوووه، لو سمحت، أقف بس وهتعرف.

أشار سليم بيده للسائق: يا عادل، أقف.

توقف السائق، نظرت ماسة حولها، ثم ألتفتت إلى سليم: معاك فلوس كاش؟

سليم بإسترخاء مصطنع: معايا، بس ليه؟

ماسة بإصرار: هاتهم وخلاص. متسألش، بعدين هتعرف.

زفر سليم، ومد يده في جيبه وأخرج محفظته، أخرج مافيها: حوالي خمسة آلاف، مش معايا غيرهم.

نظرت ماسة لمكي في المرآة: أنت معاك فلوس كاش؟

مكي بتردد: تقريبًا معايا حوالي ألفين.

ماسة مدت يدها: هاتهم.

نظر مكي  لسليم في المرآة مستأذنا.

اومأ له سليم برأسه: أديها، أما نشوف آخرتها.

أعطاها مكي المال فتحت ماسة باب السيارة، سليم حاول أن يمسكها بسرعة: راحه فين.

ألتفتت له بعصبية وهي تزيح يده: أكيد مش ههرب.

عبرت الشارع نحو قهوة قديمة، لافتة صغيرة تتدلى فوقها، كان المكان مألوفًا لها.

هبط سليم خلفها ومعه مكي، تبعهم بعض الحراس، لكنهم وقفوا بعيدًا يراقبون.

دخلت ماسة المقهى، رائحة القهوة الثقيلة تملأ المكان، اقتربت من مكتب قديم يجلس خلفه ماهر ذلك الرجل الذي عملت عنده في بداية الراوية، الذى رفع نظَّارته حين رآها.

ماسة بإبتسامة خفيفة: السلام عليكم يا عم ماهر، إزي حضرتك؟

رفع ماهر عينيه نحوها، حاول التدقيق، ثم ابتسم: وعليكم السلام يا بنتي، أنا كويس، أنتِ دينا؟

اومأت ماسة برأسها: أيوه، أنا دينا.

ابتسم الرجل، وقال بملامح دافئة: إزيك يا بنتي؟ معلش العتب على النظر عاملة إيه؟

ماسة بلطف: الحمد لله، إزي حضرتك؟ وإزي أبرار؟

ماهر: الحمد لله يا بنتي، أنتِ فينك كده من زمان؟

مدت ماسة له الأموال بابتسامة متأثرة: موجودة، دي مبلغ لحضرتك، وده للشيخ صالح، معلش مبلغ صغير بس قريب هبعتلك مبلغ كويس تجدد بيه المكان وللشيخ صالح يجدد الجامع.

نظر ماهر لأموال بذهول: ما شاء الله! ايه الفلوس دي كلها؟

ماسة بإبتسامة رقيقة وامتنان: أنا عمري ماهنسي وقفتك معايا، أنت الوحيد اللي قبلت تشغلني وقت اما كان مش معايا ولا ورقة.

توجهت عيون ماهر نحو سليم والسيارات الفاخرة، وقال بنبرة منخفضة وهو يسألها: هما دول تبعك؟

ماسة بإبتسامة صغيرة: أيوه، ده جوزي.

ماهر بإنبهار: ما شاء الله ربنا يباركلكوا تستاهلي والله أنتِ طيبة وغلبانة، ألف مبروك يا بنتي.

ماسة بإبتسامة لطيفة: لو احتاجت أي حاجة انزل القاهرة، اسأل على مجموعة الراوي مكتب سليم بيه، وقوله أنا عم ماهر تبع مدام ماسة وبس.

ماهر: ربنا يسترها عليكي يا بنتي ويبعد عنك شر عبيده.

ماسة بعرفان: دي أحلى دعوة، سلملي على أبرار، السلام عليكم.

خرجت وكان سليم واقف منتظرها، ملامحه متعجبه: مين ده؟

ماسة وهي تدخل السيارة: ده عم ماهر.

دخل سليم بجانبها، وصوته متحشرج: مين بقى عم ماهر ده؟

أغمضت ماسة عينيها لحظة ثم فتحتها: أول ماجيت إسكندرية، محدش كان عايز يشغلني عشان مكانش معايا أي أوراق، هو الوحيد اللي قبل يشغلني، بعد توصية من شيخ الجامع، موضوع طويل، وأنا مش عايزة أتكلم معاك فيه دلوقتي.

مال سليم برأسه قليلًا نحوها، وقال بصوت منخفض وفيه تساؤل: ده عند؟

رفعت ماسة عينيها إليه، ملامحها منهكة، وردت بصوت واهن لكنه واضح: لا، بس مش عايزة أتكلم معاك دلوقتي، لسة بحاول أستوعب إنك لاقيتني وإني راجعة معاك السجن مرة تانية، بحاول أتخيل المرة دي العقاب اللي حتى خيالي مش هيقدر يوصله هيكون ايه؟!.

نظر سليم لها، وقال بعينان صادقتان رغم حزنه، ونبره هادئة حنونة: قولتلك والله ماهعمل حاجة صدقيني، ليه مش مصدقه؟

أطرقت ماسة رأسها، وزفرت ببطء ثم ردت بخذلان وهي تشيح بوجهها بعيدًا: لإني بطلت أصدقك، وأثق فيك.

سقطت الكلمات عليه كطعنة، ظل يرمقها لحظة، ثم أشاح بوجهه نحو الأمام، وهو يطلق تنهيدة ثقيلة، ويزم شفتيه بحزن واضح.

ألتقت نظراته بمكي عبر المرآة، هز مكى رأسه بمواساه وكأنه يرسل له رسالة صامتة "أستنى، لما توصلوا البيت واتكلموا ".

أجاب سليم بهزة صغيرة من رأسه، إقرارًا وصمتًا.

تحركت السيارة، تنساب في طرقات الإسكندرية،كانت ماسة تحدق عبر النافذة، لكن عينيها لم تر الشوارع ولا الناس، كانت غارقة في دوامة شعور واحد: أنها عادت لنقطة الصفر !
كل شيء من جديد لا هروب، لا حرية، لا تغيير.

وفجأة، ألتفتت ماسة نحوه ببطء نظرت إليه نظرة طويلة من أعلى رأسه حتى أسفل جسده، كأنها تفترسه بعينيها بنظرة قاسية، فيها صدمة وخذلان، وكأنها تقول بصمت: "إزاي أنا كنت في يوم بحب الراجل ده؟"

شعر سليم بثقل النظرة، أنقبض صدره وكأنها سهام تخترقه، رمش بعينيه مرتين محاولًا أن يهرب منها، ثم أطرق برأسه قليلًا، غارق في وجع صامت لم يعرف كيف يخفيه.

بدأ عقلها ينسج سيناريوهات لا تنتهي: ماذا سيفعل بها حين يصلان إلى الفيلا؟ تذكرت أول مرة هربت، كيف أعادها وحبسها ثلاثة أيام، في غرفة ليس بها أي شيء سوى جدران تخنقها فقط ولم يرحمها رغم توسلاتها أن يغفرلها خطأها أو حتى يسمعها، ثم تركها عامًا كاملًا خلف الجدران، تذكرت الليلة الأخيرة: الحزام، قبضته على عنقها، محاولته البشعة للإعتداء عليها، صرخاتها التي اختنقت، قلبها بدأ يخفق بجنون، أنفاسها تتعالى، والغصّة تعتصرها.

مازال سليم  يراقبها بطرف عينه رأى ارتجاف يديها، وشحوب وجهها، مسح بكفه على وجهه، ثم قال بصوت متماسك، تخالطه نبرة رجاء وندم: بلاش تبصيلي كده يا ماسة، فيه حاجات كتير أنتِ متعرفيهاش، لما نوصل، هفهمك كل حاجة.

لكن ماسة لم تتحرك، لم تنطق، عيناها ظلتا تطعنه بصمت أشد من الكلام، وكأنها تقول له "مفيش حاجة في الدنيا هيبرر اللى عملته"

وجه جسده في زاويتها ونظر لها، وأخذ نفسًا عميقًا، وأنخفض صوته وهو يضيف: والله العظيم يا ماسة اللي حصل يومها أنا مكنتش واعي، كنت شارب حاجة محطوطة لي في العصير، مكنش قصدي، مش ببرر غلطتى، أنا عايزك تفهمي إني مكنتش في وعيي!

لكنها لم تكن تسمعه، كانت أسيرة لصورته السوداء في رأسها: الضرب، الحبس، الصراخ.

تكررت بداخلها صرخة مكتومة؛ فكل مافي عقلها الآن أن سليم سيفعل بها كما فعل في المرات السابقة، وأنها تعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى: نفس التهديدات لها ولأهلها، ونفس العقاب، ففي المرة السابقة لم تغب سوى ليلة واحدة وفعل كل ذلك؛ فكيف سيفعل بها الآن وقد غابت ستة أشهر؟!

تملك الخوف منها، هزت رأسها بلا، ودموعها تهبط من عينيها وهي تقول بتمتمه: لا أنا مش هرجع! مستحيييل أرجع! مش هخليك تعمل فيا كدة تاني!》

زاد اهتزاز رأسها برفض، عيناها تفيض دموعًا، أنفاسها متقطعة، وفجأة وبحركة مباغتة، اندفعت بكلتا يديها نحو السائق، وضربت رأسه ليسقط على المقود، اهتزت السيارة بعنف، وأرتبك الجميع.

أختل توازن السيارة حاول مكي أن يسيطر عليها هو والسائق وأن يقفها، السرعة هدأت قليلا لكنها مازالت لاتتوقف.

بينما صرخ مكي وهو يحاول السيطرة على المقود: إيه اللى عملتيه دى؟! أنتِ اتجننتي؟!

صاح سليم من مكانه، صوته ممتزج بالغضب والذهول: ايه اللى أنتِ عملتيه دى؟!

مد سليم يده ليقبض عليها، لكنها باغته بلكمة قوية في أنفه، جعلته يصرخ متألمًا ويترنح، لم تنتظر، فتحت الباب بسرعة وقفزت إلى الخارج.

أرتطم جسدها بالأرض بقوة، زحفت على ركبتها وأنجرح كفها، لكن الخوف منحها قوة لا تُوصف، نهضت وبدأت تركض بكل ما أوتيت من طاقة، ودموعها تتطاير مع خطواتها.

اندفع سليم خارج السيارة، ووجهه مزيجا بين الغضب والهلع، وصوته يجلجل في الشارع: ماااسة! اقفي، والله ماهعملك حاجة متخافيش. 

لكن ماسه لم تلتفت اليه واخذت تركض، وسليم يركض خلفها مباشرةً، والحراس يتبعونه بهدوء حذر، بالطبع لم يسمح لأحد برفع السلاح، الجميع يحاولون السيطرة على الموقف بهدوء.

كان  سليم ينادي عليها بصوت جهوري وهو يركض خلفها: ماسة! استنى!

لكنها مستمرة في الركض، عيونها غشيتها الرعب والدموع، يديها متشابكتان مع قلبها المتسارع، الفكرة المسيطرة عليها واضحة: لو عادت معه، سيكون هلاكها أشد مما حدث في المرات السابقة.

ظل سليم يناديها، صوته متقطع بين الغضب والخوف متوسلا: ماسة! والله ماهعملك حاجة صدقيني أقفي.

وهي تركض مرعوبة، عيونها تلمع بالدموع، تحاول التنفس بصعوبة، لا تعرف كيف حصلت على هذه القوة، ولا من أين أتت سرعتها المفاجئة..

كانت تتخبط في الماره والسيارات التي تمر من حولها، لكنها لم تهتم، كل تركيزها على الهرب، كان سليم يركض خلفها، يراعي السيارات العابرة، الحراس يتبعونه بحذر، كأنهم في مطاردة سينمائية..

لكن بسبب بطئ سليم في الركض بسبب قدمه كانت هناك مسافه بينهما لكن هذه المرة لم يكف عن ملاحقتها..

الأزقة والشوارع صارت مسرحًا لهذه المطارده، كل ما كانت ماسه تصطدم بعائق محتمل، كانت تقذفه بعيدًا، سواء كان قفصًا أو دراجه كى تعيق سليم عن الوصول اليها، لكنه كان يتخطى كل هذا باحتراف.

استمروا بالركض في الشوارع، يمينا ويسارا، كانت أنفاس ماسة تتقطع، يديها ترتجف، وسليم خلفها يركض بكل قوته، والحراس يلتزمون بمسافة آمنة

وأخيرًا، وصلوا إلى الحافة المطلة على البحر، مكان مرتفع كتله صخريه، سليم أمامها، الحراس يراقبون من خلفه.

توقفت فجأة، كأن فرملة رهيبة سيطرت على جسدها أخذت نفسًا عميقًا، ترتجف من الخوف والهلع، لا تعرف ماذا تفعل.

عينيها تتسع، تنظر يمينًا ويسارًا، كل شيء حولها يقف ثابتًا، كل شيء متجمد.

رفع سليم يده للأعلى، يصرخ في الحراس: محدش يقرب لها!

حاول سليم تهدئتها، نفسه، الذي يرتفع وينخفض بسرعة، وهو يضع يديه على ركبتيه ليأخذ نفسه، 
و لتخفيف الألم الذي يعصف في قدمه.

مال قليلا للأمام وهو يلهث: اهدي، وخدي نفسك، مفيش حاجة هتحصل.

لكن ماسة، من خوفها الشديد، التقط حفنه من الطوب واخذت تلقيها عليه بقوة.

حاول سليم تجنبها بسرعة، يبتعد عنها: أنتِ اتجننتي؟! بطلي هبل بقي.

كانت تبكي بشدة، دموعها تتساقط، تصرخ وتلوح بالطوب يمينًا ويسارًا، كل حركة فيها قوة لا تصدق، كمحاولة يائسة منها، ربما تستطيع الهروب منه. 

حاول سليم تهدئتها، وكاد أن يقترب: اهدي طيب.

صرخت ماسة: متقربش مني.

وقفت على الحافة، خطوة واحدة فقط تفصلها عن السقوط.

صوتها صار حادًا، تهدد: لو قربت مني، هرمي نفسي من هنا! والله العظيم هرمي نفسي!

مد سليم يده بحذر، يحاول الثبات مكانه وصوته منخفض لكنه مليء بالحب والخوف وأنفاسه متسارعة: ماسة يا حبيبتي، اسمعيني، والله ماهعمل زي المرة اللي فاتت، وعد اقسم بالله وعد،  بعدين صدقيني أنا يومها معملتش كده بوعيي، صافيناز كانت حاطة حباية في عصير المانجا؛ عشان اتضايقت منك، وأنا شربت الكوباية، والحباية دي هي اللي عملت فيا كده، أنا لو كنت واعي كنت عملت زي ماطلبتي مني وصبرت، صدقيني، دي الحقيقة، أقسملك بالله مابكذب في حرف، أنتِ عارفة سليم حبيبك استحالة يكذب، أنا عاقبت صافيناز، أهدى بس وتعالي معايا، ولما نوصل القاهرة هقولك كل حاجة بالتفصيل، فيه حاجات كتير أنتِ مش عارفاها حصلت.

نظرت له ماسة بعينين مليئتين بالغضب والدموع، وردت بصوت متقطع من الإنفعال: أنت فاكر بقى إني هصدق إللي قولته ده؟ حتى لو كلامك صح، مش هرجع.

حاول سليم اقناعها، وصوته يخرج بين الرجاء والخوف: ليه يا ماسة مترجعيش؟ أنتِ عارفة إني بحبك، سامحيني.

صرخت وهي تهز رأسها بدموع وخذلان: عايزني أسامحك على إيه؟ على اللي عملته فيا طول السنة اللي حبستنى فيها؟ ولا اللي في الليلة دي؟ حتى لو كان فيه حباية زي ما بتقول، أنا مش فاكرة غير نظرة عينك اللى كلها قسوة، إيدك دي وهي بتخنقني، وحزامك ده وهو بينزل على جسمي من غير رحمة، وأنا عمالة اترجاك واقولك ارحمني، انا معملتش حاجة، بس غرورك وقلبك الأسود كانوا مسيطرين عليك.
انفجرت بغضب وهي تقول بحسم:
أنا مش هرجعلك تاني! المرة اللي فاتت حبستني ثلاث أيام في الأوضة وخرجتني بالعافية لما تعبت، غير الكلام اللي زي الزفت اللي سمعتهولي، وحبستك ليا في الفيلا سنة كاملة، ضربك لأخويا بالرصاص، وإهانتك لأهلي، ومنعتني أشوفهم، وكنت بتهددني بيهم، أنا عمري ماهنسى كلمة" جثثهم اللي هتنزلي من السما، لو حد فكر ياخدك مني"، مستحيل أعيد نفس السيناريو تاني، أنا عندي الموت أهون منك!

اقسم سليم بعينين دامعتين، وصوت عميق: مش هعمل كده تانى والله، والله العظيم ماهعمل حاجة.

صرخت ماسة بغضب وحزم: مش هرجعلك يا سليم، مش هرجعلك تاني! مستحيل أأمن على نفسي معاك ، أنا بكرهك.

حاول تهدئتها بخوف: طب أبعدي بس عن المكان ده وبعدين نتكلم.

ماسة بنبرة حادة: ملكش دعوة.

حاول سليم اقناعها بصوت حاني، وعينه مركزة عليها:طب هتروحي فين؟ مفيش مهرب، أنا قدامك والبحر وراكي، خلاص يا ماسة لازم تفهمي حتى لو قدرتي تهربي دلوقتي، أنا هوصللك، الحاجة الوحيدة اللي هتفرق بيننا هي الموت.

نظرت له بعينين متوهجتين بالغضب، وصوتها يتصاعد وقالت وهي تأخذ حركه تلقائيه للخلف دون أن تشعر من فرط الغضب: لو الموت هو الحاجة الوحيدة اللي هتفرقنا عن بعض يبقى يا أهلا بالموت!

تعثرت قدم ماسة فجأة، فانزلقت إلى الخلف، شهقة مرتعبة خرجت من صدرها، وصرخة مدوية ترددت بين الصخور والبحر المترامي أسفلها، اتسعت عينيها في هلع، والريح تعصف بشعرها وهي تهوي كطائر جريح لا حول له ولا قوة.

رأى سليم المشهد، فاتسعت عيناه بصدمة، كادت أن تخرج من مكانها، قلبه أنقبض بقوة حتى كاد يخرج من صدره، أندفع بجنون، وهو يقول بنبرة رجولية جهورة: ماســـــــة 

قفز خلفها دون تردد، حيث انفصل جسده عن الأرض وهو يهوي إلى الأسفل.

الهواء يحيط بها، وهي تتأرجح في الفراغ، شعرها يرفرف حول وجهها، وعيونها الممتلئة بالدموع والخوف، ثابته على سليم، الذي يسقط وراءها مباشرة إلى الأسفل.

لايفصل بينهما إلا مسافة قصيرة بالكاد تمنع يده من لمسها.

فنشاهدهما يسقطان معًا بين تلك التلة والبحر، جسدهما يتأرجح في الهواء، والرياح تصرخ حولهما.

كان سليم يسقط خلفها، واحد ذراعيه ممدوده نحوها بكل قوته، يحاول الإمساك بها، وكل نبضة في قلبه وكل نفس فيه يسعى للوصول إليها، رغم أن المسافة بينهما صغيرة لكنها تمنعه من الإمساك بها.

كان ينظر إليها بضعف شديد، وعيناه تدمعان، وهي تسقط أمامه لأسفل، ومع ذلك ظل يحمل الأمل في أن يصل إليها قبل أن تصل إلى البحر، رغم معرفته الداخلية بإستحالة ذلك 

كل ما كان يدور في خاطره: إن تمكن من الامساك بها، فسيحميها قبل أن يبتلعها البحر.

لكنه بطبيعة الحال لم يستطع الإمساك بها؛ فالجاذبية تتحكم في سقوطهما معا، وتلك المسافة اللعينة تمنعه من لمسها.

تلك الثواني القصيرة مرت كدهر، ظلا يتساقطان معا من أعلى التلة إلي البحر، واحدا خلف الآخر، تفصلهما مسافه قصيرة جدا..

وفي النهاية سبقت ماسة سقوطه بثواني، كأنها طائر تهاوى قبل أن يلحق به ظله، فارتطمت بالماء أولا، صرختها انقطعت دفعة واحدة تحت السطح البارد، ودوائر الماء تتسع حول جسدها الغارق.

بعد لحظه خاطفة، اخترق سليم سطح الماء بجسده، اندفع إلى الأعماق، والماء يحيط به من كل صوب، يبحث عنها بعينيه، يسبح بجنون في محاولة أن يجدها، قبل أن يبتلعها البحر.

لكن يبدوا أن التيار دفعها بعيدًا، فاختفت ماسة عن ناظريه في لحظة، كأن البحر ابتلعها.

جحظت عينا سليم وهو يبحث يمينًا ويسارًا بجنون، صوته يعلو بالنداء، باسمها: ماسة ماســـة عشقي 

لكن لا مجيب لم يكن أمامه سوى أن يغوص من جديد، فهي لا تستطيع السباحة جيدًا، والارتفاع قد يجعلها تخاف ويصيبها مكروه.

غطس مرة أخرى بكل ما فيه من قوة، يفتح عينيه تحت الماء رغم الملوحة التي أحرقت جفونه، قلبه يتخبط في صدره بجنون، التيار يدفعه للخلف، لكنه يسبح بعناد، يتلفت يمينًا ويسارًا، فجأة لمح جسدًا يهبط للأسفل ببطء، بلا حراك اندفع كالمجنون حتى أمسك بها، عانقها بذراعيه، هزها برفق، لكنها كانت لا تزال فاقدة للوعي، فسبح بها إلى الأعلى.

خرج وهو يلهث، رفعها بيديه عاليًا فوق الماء، يحاول أن يثبتها ضرب على وجهها بخفة، وهو يقول بصوت مرتجف من الخوف: ماسة عشقي فتحي عينك.

ثم ألتصق بشفتيها ليمنحها نفسًا، لحظة طويلة بدت له دهراً، ثم سعلت ماسة، وخرج الماء من فمها، شهقت شهقة قوية وعادت للحياة ونفسها متلاحق وهي تسعل.

سليم بقلق وهو يركز النظر في ملامحها بخوف: الحمدلله يا حبيبتي، أنتِ كويسة؟

هزت ماسة رأسها بإيجاب بصمت، فهي ما زالت غير مستوعبة ماحدث.

في تلك اللحظة، كان هناك أثنان من الحراس هبطوا مع مكي في الماء وأقتربوا منهم.

حاولوا الاقتراب لمساعدتها، لكن سليم رفض: محدش يلمسها.

ظل ممسكا بها بشدة، فلم يكن هناك أي شاطئ قريب، والشاطئ الحقيقي بعيد عنهما حاول أن يسبح بها رغم المسافة الطويلة.

حاول أن يضمها أكثر، لكنها دفعت صدره بضعف وغضب: ابعد عني، أوعى تلمسني بأيدك دي.

زمجر بنبرة غاضبة، وعيناه تقدحان شررًا: كنتي هتموتي! فاهمة؟! لو مكنتش لحقتك، كنتي خلاص انتهيتي هي وصلت إنك تموتي نفسك!

نظرت له ببرود، ملامحها متصلبة رغم ارتجافها: أنت فاكرني إني رميت نفسي؟! أنا رجلى اتزحلقت ووقعت أنا مستحيل أموت كافرة على واحد زيك.

وأخذت تضربه لكي يتركها: واعي، اوعى ايدك دى عني متلمسنيش.

سليم بحزم وضجر: ماسة بس بقي.

صمته كان أثقل من الأمواج، ظل ممسكًا بها بقوة رغم مقاومتها.

في تلك اللحظة، أقترب لانش وعلى متنه أحد الحراس.

أشار سليم بسرعة، بصوت حاد وهو يلهث: مكي، اطلع أنت الأول، أمسك إيدها.

صعد مكي على عجل، مد يده ليمسك ماسة، رفعها سليم من خصرها ليساعدها على الصعود، حتى استقرت على سطح اللانش، ثم اتبعها بارهاق بعد أن أنهكه السباحة والركض. 

جلست ماسة في زاوية القارب، تضم نفسها بذراعيها، مبللة، شاحبة، والغضب يشتعل في عينيها، لم يكن الإنقاذ بالنسبه لها بطولة، بل خنقًا جديدًا، كانت غاضبه أشد الغضب لأنه استطاع العثور عليها، وأنقاذها.

رفعت عينيها نحوه، وصوتها مشبع بالرفض: لحقتني ليه؟

اقترب منها قليلًا، يقطر ماءً، نظرته حادة لكنها تحمل وجعًا مكتومًا: أنا قولتلك قبل كده، الحاجة الوحيدة اللي هتفرقنا عن بعض هي الموت، وإني هموت بعدك ب3 ثواني؟

ارتجف جفنيها، ونظرت له نظرة حادة، كأنها تريد أن تمحو تلك الذكرى من عقلها، لكن فجأة تدفق المشهد في رأسها…

فلاش باك:
منذ تسع سنوات، تركيا، طرابزون 

على تل شاهق، كان هناك أرجوحة معلقة على حافة جبل، وأسفلها البحر الواسع، سليم وماسة ممسكان بأيدي بعضهما، وهما في غايه السعادة، والرياح تداعب وجهيهما، والجبال تحيط بهما من كل جانب.

ابتسم سليم وهو ينظر إلى الأرجوحة، وعينيه تلمعان بالحماس: إيه رأيك؟ حلوة؟ طلعت زي إللي شوفتيها في الفيلم بتاع امبارح؟

نظرت ماسة للأسفل، المسافة والمياه المخيفة أسفلها جعلت قلبها ينبض بسرعة، وكتفاها يرتجفان: هي زيها بالظبط، بعد اما اتعملت.
رفعت عينيها له، وهي تتابع: بس المنظر مرعب جدًا، فأنا هسمع كلامك بتاع إمبارح، إن مش كل حاجة بنشوفها ينفع ننفذها، التهور بتاعي ده مينفعش، فأنا مش هركبها رغم إني هموت وأجربها بس لا لا..

ابتسم سليم برقة، وضغط على يديها مطمئنا: متخافيش أنا هبقى معاكي.

شددت ماسة قبضتها على الحبل، كتفها يرتفع قليلًا من الخوف: خايفة يا سليم.

أقترب سليم منها، ونظر داخل عينيها ومسح على خدها متسائلا: بتثقي فيا ولا لا؟!

ابسمت برقة: أكيد بثق فيك.

اتبسم وهو يداعب أنفها بأنفه: طب يلا.

ابتسمت ماسة بخجل، حاجباها يرتفعان قليلاً من الارتباك والخوف، جلست بهدوء، أخذت نفسًا عميقًا، ومسكت الحبل بقوة.

سليم بإبتسامة: جاهزة؟

أغمضت ماسة عينيها للحظة، ثم فتحتها، نظرت بطرف عينيها للأسفل، واخدت نفسًا عميقًا، ثم هزت رأسها: يلا يا كراميل.

دفعها سليم بهدوء، جسدها يعلو في الهواء، شعرت وكأنها تطير كالفراشات، قدميها ممدودتان، شعرها يرفرف مع الرياح، وابتسامة كبيرة على وجهها: تحفة يا سليم، لازم تجربها!

ضحك سليم وهو يقول: هجربها بعدك.

ضحكت ماسة بفرحة: أنا مبسوطة أوي، بجد شكراً إنك شجعتني أركب.

راقبها سليم بعينين تلتمعان بالدفء: أنا أهم حاجة عندى إنك تكوني مبسوطه وبس.

ماسة، وهي تهتز قليلاً من الحركة: بس بالراحة، أوعى تزق جامد.

عقد سليم حاحبيه متسائلا: خايفة؟

ضحكت ماسة بخوف: أه، المنظر مرعب بس الإحساس حلو، زق بالراحة.

بدأ سليم يدفعها مرة أخرى، وماسه تغمض عينيها، بابتسامتها عريضة، رأسها يتمايل مع حركة الأرجوحة، لكن فجأة دفع سليم الأرجوحه بشدة، فشعرت بالخوف، قبضت على الحبل بشدة وشهقت وعينيها تتسيعان.

أوقفها سليم وضمها بذراعيه من خصرها، ظهرها ألتصق بصدره، وضع رأسه على كتفها وهمس متسائل: خوفتي؟

ارتفعت أنفاسها بسرعة، بربشت بعينيها: أيوه، خوفت.

ابتسم سليم وهو يقول بصدق ليطمئنها: متخافيش، طول ما أنا جنبك، همسكك زي دلوقتي مستحيل أسمح إنك تقعي.

ماسة بقلق: طب لو وقعت؟

سليم بثقة: همدلك إيدي، وهمسك بكل قوتي وهنقذك.

مالت ماسة برأسها قليلاً ورفعت عينيها نحوه:طب أفرض إيدي فلتت من إيدك ووقعت؟

ابتسم سليم هو ينظر داخل بحور عينيها بوعد صادق: أكيد هارمي نفسي وراكي على طول من غير لحظة تفكير.

ماسة بتوتر ودهشة: طب لو مت؟

سليم، بنبرة حانية وعميقة: هموت بعدك، يا بثلاث ثواني يا بثانية؟!

ضيقت ماسة عيناها باستغراب: أشمعنا ثلاث ثواني وثانية؟ مش فاهمة؟!

ركز سليم النظر داخل عينيها بإتساع بؤبؤ عينه، بعين لا ترمش، بإبتسامة هادية، صوته أقرب لأعتراف دافيء: هموت بعدك بثلاث ثواني؛ لو موتي وأنتِ بعيد عني، أول ثانية لما أعرف الخبر، تاني ثانية أستوعبه، تالت ثانية بعد اما أستوعب مش هتحمل فهموت...إنما بقى بتاعة الثانية، دي لو موتي وأنتِ قصاد عيني، نفس الثانية إللي قلبك هيقف فيها، هي نفس الثانية إللي قلبي أنا كمان هيقف فيها، بس طبعاً اتمنى أنا أموت قبلك.

ضيقت ماسة عينيها بتعجب وهي ممتلئة بمزيج الحب والفرحة بعينين اغرورقت بالدموع: للدرجة دي بتحبني؟

نظر لها سليم بعشق صادق بعين لا ترمش: وأكتر، ماقدرش أعيش من غيرك  لحظة، حياتي ملهاش معنى من غيرك، طول ما أنتِ بتنفسي، أنا بتنفس.

نظرت ماسة له بعينين مترددة، وفيها شرارة تحدي طفولي: طب ولو تُهت منك؟

ضيق سليم عينيه متعجبا وهو يعقد بين حاجبيه متسائلا بإستغراب وابتسامة: هتوهي مني إزاي؟

أطرقت برأسها ثم رفعت حاجبيها بإصرار: أفرض.

سليم، بلهجة واثقة، وعينيه لا تفارقها: هلاقيكي.

ضحكت ماسة بخفة، وهي تهز رأسها: ما هو أنت أصلا مش هتكون عارف المكان.

اقترب أكثر، وصوته منخفض لكنه واثق: مهما كان المكان اللي هتروحي فيه، هفضل أدور عليكي لحد اما الاقيكي.

نظرت له طويلاً، وكأنها تختبر صدقه: متأكد إنك هتلاقيني؟

أجابها سريعًا، بعينين مشتعلة بالثقة: هلاقيكي مهما حصل، ده شيء ملوش أي احتماليه تانيه، هلاقيكي يعني هلاقيكي.

سكتت لحظة ثم نظرت له بفضول: هو أنت أصلا ليه عملت كده؟ كنت بتختبر ثقتي فيك؟ ولا كنت عايز تشجعني؟

هز رأسه نافيا، وصوته عميق موضحاً: ولا ده، ولا ده، أنا عملت كده عشان أوريكي إن مهما حصل هتلاقيني معاكي، مهما وقعتي، إيدي هتتمد ليكي وهنقذك، لو جوه النار، إيدي هتتمد ليكي، وهخبيكي جوه قلبي، ومهما واجهتي من صعوبات ومشاكل، هتلاقيني واقف قدامك، أحميكي بروحي، الموت الحاجة الوحيدة اللي تقدر تفرقنا.

تبسمت ماسة برقة، بعينين لامعتين، بصوت خافت: بس أنت لسه قايل إن حتى لو مت، هتموت بعدي بثلاث ثواني، يعني حتى بعد اما أموت، هنبقى مع بعض في الجنة يعني مش هنتفرق.
ثم نظرت في عينيه بعشق وثقة، بابتسامة رقيقة مرسومة على شفتيها، وأصابعها تداعب لحيته برفق وهي تهمس أضافت: أنا كمان، هموت بعدك بثانية واحدة.
انخفضت يدها بهدوء لتستقر فوق قلبه، وضغطت بخفة كأنها تُقسم أمامه: اللحظة اللي قلبك هيقف فيها، قلبي كمان هيقف. لأني مستحيل أقدر أعيش من غيرك.

ارتسمت ابتسامة حب بينهما، تبادلا نظرات عميقة، اقترب وجهه من وجهها ثم تبادلوا قبلة عميق مليئة بالشوق والعشق مرت لحظات، ثم ابتعدت ماسة قليلًا، وهي تبتسم بخجل.

رفع سليم حاجبه: ها لسة بتثقي فيا؟

هزت ماسة رأسها بابتسامة واثقة: انا مش بثق غير فيك.

ابتسم سليم بتحدي: يبقى متخافيش لو زقيتك جامد زي مابتحبي.

ضحكا معًا، وبدأ سليم يدفع الأرجوحة بقوة كما تحب، هذه المرة، لم تخف، بل أمسكت الحبال بثبات، ووجهها مطمئن، عيونها مليئة بيقين أن سليم مستحيل يفلِتها من إيده، أو يسمح لها أن تقع.

بااااك
عادت ماسة من تلك الذكرى، هي وسليم كأنهما يعيشان اللحظة ذاتها، عينيها مشتعلة بالضيق والغضب، بينما عيناه تحملان بقايا ابتسامة خفيفة، ذكره ذلك الموقف بما كان بالنسبة له حياة، غير أنه لم يجد منها الآن ذلك الشوق أو المحبة التي كان ينتظرها.

ظلت صامتة، كأن الزمن توقف بينهما، وصلوا إلى الشاطئ، كان مكي أول من هبط بينما توقفت ماسة مكانها جسدها متصلّب، وكأن فكرة الهروب تراودها من جديد، رفعت عينيها الحادتين نحوه، نظراتها تصرخ "سأفعل ما أريد"، لكنه يعرف هذه النظرة جيدًا.

رفع يده وأشار نحوها وهو يقول بصرامة: بتفكري تهربي.

لكنها لم ترد.

في لحظة اندفعت ماسة للهرب، ركضت خطوات قليلة، إلا أن سليم أنقض عليها بسرعة، قبض على يدها بعنف، حاولت ضربه، أن تفلت منه، وحتى عضته من أذنه بقوة، افلتها للحظة، لكنها لم تكن قادرة على النجاة، بالكاد ركضت بضع خطوات، لكنه لحق بها مرة أخرى، أمسكها من ذراعها بقوة وهو يهتف بصوت رجولي غاضب: بــس بقي يا ماسة بطلى جنان.

ماسة وهي تحاول أن تتملص منه: أوعي! مستحيل أرجع معاك.

أدارها إليه، صوته حاد: ماسة قولت كفايه بقي.

توقفت أمامه، تتنفس بعصبية، نظراتها متحدية، تكاد تتطاير شررًا: مستحيل أستسلمك، وحتى لو عرفت ترجعني النهاردة، أعرف إني ههرب منك تاني وثالث وألف، لحد ماخلص منك للأبد.

ارتسمت بعينيه نظرة مرعبة، لم يرد فقط صاح بصوت جهور وهو ينظر لها بثبات: مكي هاتلي حبل بسرعة.

تراجعت ماسة برأسها، عينيها متسعة: هتعمل إيه يا مجنون؟!

أجاب بصرامة: مضطر.

أقترب أحد الحراس وأعطى الحبل صاحت ماسة وهي تحاول التملص: أوعى متقربش مني.

لكن سليم أمسكها بقوة من ذراعيها، بينما تولى مكي ربط يديها معًا، رغم محاولاتها العنيفة للإفلات منه.

نظرت إليه بعينين دامعتين، ممتلئتين بالغضب: أنت مقتنع باللي أنت عملته ده؟

قرب وجهه منها، صوته ثابت وهادئ: أنتِ للي اضطرتيني لكده.

ثم أضاف بصرامة: يلا هتمشي جنبي بهدوء ولا أسحبك بالحبل.

اخفضت ماسة رأسها قليلًا، حاول كبح دموعها ثم بدأت تتحرك أمامه، خطواتها مثقلة، يداها مربوطتان، محاطة بالحراس من كل جانب جسدها مستسلم، لكن قلبها يصرخ.

كان الألم مرسومًا على ملامحها، تتكئ على خطاها بصعوبة، وقدمها تؤلمها فتسير ببطء وهي تعرج.

لمح سليم ذلك، نظر إليها بقلق وهو يشير نحو قدميها: رجلك مالها؟

رفعت عينيها نحوه بحدة، وأجابت بصوت جاف: ملكش دعوة.

تابعت سيرها وهي تحاول الصمود، اقترب منها قليلًا ومد يده ليمسك ساقها، لكنها تراجعت للخلف،صارخة: متحطش إيدك عليا أنت فاهم؟!

أصر، بصوت أقل حدة لكنه عميق: خليني أشوف فيها جرح ولا لا.

سارت ماسة أمامه ببطء، يداها مقيدتان، خطواتها مثقلة وهي تحارب دموعها كي لا تنفلت.

قالت كلماتها بمرارة، وكأنها طعنة في قلبه: متقلقش، حتى لو فيها جرح، مش بيوجع قد الجرح اللي جوه القلب، يا ريت كل الجروح تبقى زي كدة.






تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة