
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السابع 7 ج2 بقلم ليله عادل
توقف سليم في مكانه، والتفت إليها ببطء، وعيناه معلقتان بوجهها.
كانت نظراته موجعة وحزينة، كأنها اعتراف صامت بالذنب، وكأن قلبه يحمل سبب كل ما أصابها، مرت بينهما لحظة صمت ثقيلة، تشبه الهواء الذي يثقل الصدر، وكأن الزمن نفسه توقّف.
ونظراتها هي الأخرى لم تخفِ شيئا، عيناها تلمعان بدموع متشبعة باللوم والخذلان.
كأنها تهمس من أعماقها دون صوت: "أنت السبب... أنت اللي كسرتني."
احنى رأسه قليلا بحزن، وكأن الحمل على كتفيه صار أثقل، لم يستطع مواجهة عينيها طويلًا، رمش سريعًا ليخفي دمعة كادت تنحدر، أدار وجهه جانبًا وهو يتنفس بعمق، ثم مشى ببطء، خطواته باردة، مترددة.
تحركت ماسة معه مجبرة، وهي تحاول أن تخفي دموعها التي انسابت أخيرا.
كلاهما يسير في صمت قاتل، الحراس يحيطون بهم من الجانبين، إلى أن وصلوا إلى السيارات المتوقفة عند طرف الشاطئ.
توقفت ماسة لحظة، تنظر للسيارة وكأنها تنظر إلى قفص جديد.
بينما سليم يقف بجانبها، كتفيه منحنيان قليلًا، ووجهه مثقل بالذنب، لكن دون أن ينطق بكلمة واحدة.
صعدت ماسة إلى السيارة بصمت، وتبعها سليم، جلست تنظر إلى يديها المقيّدتين بضيق بينما كانت السيارة تتحرك ببطء وسط الطريق.
نظر سليم إلى مكي قائلا بجدية: شوف لنا محل نشتري لبس، بدل البهدلة دي.
رفعت ماسة حاجبيها بضجر، وهي تهز يديها المربوطتين: هو أنت هتفضل رابطني كده لحد مانوصل القاهرة؟
سليم بهدوء متعمد: آه.
مالت بجسدها نحوه، وهي ترفع حاجبيها مع شفتيها العليا، ثم قلبت وجهها بطفولة ممزوجة بسخرية وهي تقلده: آه... هو إيه الـ(آه)؟! اه إزاي يعني؟!"
ابتسم سليم بخفة، فالعناد الذي تبديه لم يكن إلا متعة خاصة له، أما هي، فكانت ترى في الأمر قيدا خانقا.
اقتربت ماسة منه مركزة النظر في ملامحه: متهزرش! فكني بقي، مش ههرب تاني، اصلا تعبت مش قادرة.
نظر لها سليم بطرف عينيه، ونبرة صوته تحمل مزاحا خفيفا: يعني مشكلتك إنك مش قادرة بس؟!
ماسة بإصرار، وملامحها متحفزة: آه.
شدد سليم على كلماته وهو يبتسم: أعتراف جميل.
ماسة برجاء، وهي تلمس الحبل الخشن على معصمها: فكني بقي.
أدار سليم وجهه نحوها قليلًا بنفاد صبر: لا مش هفكك، أنتِ إللي بتجبريني أعمل كده وأستخدم معاكي الأساليب دي، أنا مكنتش هعمل كده، بس أنتِ كنتِ هتقلبي بينا العربية، إيه الجنان ده؟ المرة دي ربنا سترها، والسواق كان ماشي بالراحة وكنا وسط زحمة، بس بعد كده؟ طالعين على الصحراوي هتموتينا.
رفعت ماسة صوتها برجاء وهي تحدق في عينيه بعناد: قولتلك مش هعمل حاجة! طب فك إيد، وسيب إيد، بجد مش عارفة أقعد براحتي، هضرب السواق يعني بأيد واحدة؟
أمال سليم رأسه ساخرا بنبرة جامدة: آه تعمليها، ما أنتِ بقيتى قوية بقي.
مالت ماسة بجسدها ناحيته، تنظر له برجاء: ياسيدي، ورحمة بنتي ماهعمل حاجة، فك بقى.
صمت سليم للحظه أمام رجائها، عيناه تتنقل بين وجهها ويديها، قبل أن يتنهد ويبدأ بفك يديها، حرر يدا واحدة فقط، لكن قبل أن تكتمل فرحتها، ربط الحبل في يده هو !
رفعت ماسة حاجبيها بدهشة: أنت بتعمل إيه؟
سليم بهدوء مغلف بالعند: علشان يوم ماتفكري تهربي أو تعملي حاجة، تلاقيني وراكي في قفاكي.
التفتت ماسة بعيدا، وهي تزفر بقوة وتعلق بسخرية: والله أنت في قفايا من غير حبل.
أدارت وجهها نحو النافذة، ومع ذلك ظلت بين الحين والآخر تحرك يدها المكبلة، بحرية مقصودة كنوع من العند.
سليم بصوت آمر وهو يراقب حركتها: بطلي فرك
حدقت ماسة فيه بعناد أكبر: مش عاجبك؟ فكني.
سليم بتحدي مماثل: مش هفكك، وأعملي إللي أنتِ عايزاه.
توقفت السيارات أمام أحد المحلات.
قال سليم لمكي بصرامة وهو يفتح باب السيارة: خرجلي كل الناس إللي جوه، أنا عايز المكان فاضي، مش عايز غير بنت واحدة من إللي شغالين بس.
هبط مكي ومعه بعض الحراس، يتحركون بصرامة جعلت الموجودين ينصاعون دون مقاومة، وكأنها سلطة صامتة مفروضة، تحدث مكي مع المدير بحزم، ثم عاد بعد قليل قائلاً: خمس دقايق بس والناس إللي جوه هتطلع، وندخل مكانهم.
سليم: أهم حاجة، المكان فيه كل إللي هنحتاجه؟
هز مكي رأسه ايجابا: اه؛ عندهم قسم رجالي ونسائي.
بعد قليل
دخل سليم وماسة المكان، والحراس يتحركون من حولهم، استقبلتهم فتاة في منتصف العشرينات، جميلة المظهر، بإبتسامة لطيفة.
الفتاة: أهلاً وسهلاً يا فندم، نورتونا، أجيب لكم إيه؟
ماسة بضجر، وهي تطوي ذراعيها: أي حاجة.
سليم: ممكن فستان يومي بس يكون مقفول، (ثم نظر لجسد ماسة سريعا) هاتي لها مقاس مديم (M) .
ردت ماسة فورا بإعتراض حاد: ميديم إيه؟! أنا بلبس اسمول (S).
رفع سليم حاجبيه ساخرا: مين دي إللي تلبس اسمول (S)؟ أنتِ تخنتي.
الفتاة بإبتسامة دبلوماسية: هو فعلاً عنده حق، حضرتك شاطر جدا.
رفعت ماسة حاجبها بسخرية: أنتِ هتقوليلي عن شطارته.
التفتت الفتاة إلى سليم: طب وحضرتك يا فندم؟
سليم: عايز بنطلون وقميص.
حدقت ماسة في جسده وقالت بسخريه: هاتي له لارچ، أصل شكل نفسه كانت مفتوحة الفترة إللي فاتت، فبقي متختخ.
ضحك سليم بخفة من تعليقها ولم يرد، تحركت الفتاة وجلبت لهم بعض الملابس.
قدمت لماسة فستانين: إيه رأيك يا فندم؟ الفستان ده ولا ده؟
أخذت ماسة واحداً بسرعة، دون تفكير: هاخد ده.
أما سليم فأعطته الفتاة بنطالاً وقميصاً، تحركا معًا إلى غرفه القياس لتبديل ملابسهم، ومازالت يده مربوطة بيدها، كأنها وصلة لا انفصام لها.
دخلت ماسة أولا إلى غرفة القياس، ألتفتت نحوه بضجر: متفك إيدي علشان أقيس الهدوم.
سليم ببرود: لا.
ماسة بإستنكار حاد: هو ايه اللى لا؟ اومال هقيس ازاى؟ ما أنا أكيد مش هدخلك معايا!
سليم ساخرا وهو يرفع زاوية فمه بإبتسامة: شكلك نسيتي، أني جوزك.
ماسة بحسم: مش هتدخل معايا.
أرخي سليم الحبل قليلا عن يده، وترك مسافه من الحبل أطول قليلا بين يده ويدها؛ لكى تتمكن من دخول الغرفه بمفردها: ماشي، مفيش مشكلة، اديني طولت الحبل أهو
دخلت ماسة وهي تتمتم بكلمات غاضبة، بينما بقي هو بالخارج، كانت تقوم بتحريك يدها بعند بطريقة عنيفة؛ لكي تؤلمه.
رفع سليم صوته بضجر: إيه العبط إللي بتعمليه دى؟ دراعي؟
ماسة من الداخل، وهي تشد الحبل بعناد: والله مش عاجبك، فكني.
سليم بحسم: مش هفكك.
ماسة ببرود مصطنع: خلاص اتحمل، اعملك ايه؟ مش بلبس.
ضحك سليم: طيب يا طفله يا عنيدة.
أخرجت ماسة لسانها وهي تقلب وجهها بسخرية، ثم بدأت بتبديل ملابسها، وضغطت على أعصاب سليم وهي ترفع يدها المقيدة بيده وتقول بتذمر بين الحين والآخر: ارفع إيدك ... نزل إيدك!
كانت تشد بعنف أحيانا متعمدة أن تجعله يتألم قليلا، بينما هو يجاهد أن يكتم ضحكتة، مدركا أنها لا تفعل ذلك إلا لتغيظه،
بعد دقائق خرجت من غرفة القياس مرتدية فستان أزرق بلون عينيها، بسيط لكنه أنيق، ينسدل حول جسدها برقة ونعومة.
رفعت ذقنها بتحدي صامت، وكأنها تنتظر تعليقه، لكن عينيه انزلقتا عليها سريعا ثم تحولت لشيء آخر بينما كانت الفتاة العاملة تقف بجانبه تنظر إليه مطولا بإعجاب، نظرة لم تلتقتها إلا عين ماسة.
فوقفت في المنتصف بينهم وقالت بحدة: بقولك إيه ممكن تجيبيلي كوتشي مقاس٣٧، وهو ٤١.
الفتاة سريعا: حاضر، بس على فكره الفستان جميل عليكي.
ثم التفتت بخجل نحو سليم: وعلى فكرة يا فندم، القميص التاني هيبقى أجمل على حضرتك.
اشتعلت الغيرة في عيني ماسة، فرفعت حاجبيها وردت ببرود مصطنع: لا، هو القميص اللي معاه هيبقى أحلى شكراً، مطلبناش رأيك.
ثم شدت صوتها وهي تشير لسليم: بعدين أنا مراته، وهختار له بنفسي.
تراجعت الفتاة بخطوة مرتبكة: آسفة يا فندم.
ماسة بحدة: طب يلا، روحي هاتي الحاجة اللي قولتلك عليها.
الفتاة: حاضر يا فندم.
مد سليم يده يفك أول زرار من قميصه، لكن ماسة استدارت له بسرعة وأمسكت يده برفعة حاجب: أنت بتعمل إيه؟
سليم بهدوء: بفك القميص.
رفعت حاجبيها بحد وغيرة: بتفك القميص هنا؟! أمال عاملين أوض القياس ليه؟! لم نفسك احسنلك.
ثم رمقت الفتاة التي ما زالت تتأملهم من بعيد فوقفت أمامه لتحجب الرؤيه عنها، وقالت بصوت حاد غاضب: يلا، ادخل.
ابتسم سليم ودخل غرفة القياس وهو يبتسم بخفة، عيناه تلمعان لأنه يعرف جيدا أن ماسة غيورة جدا، مهما ابتعدت المسافات أو اشتدت المشاكل، الغيرة كانت دوما تفضحها.
ظلت ماسة واقفة مكانها، تقاوم النظرة للفتاة التي عادت بالصدفة تمر من أمامها.
توقفت الفتاة ونظرت إليهما باستغراب ثم تمتمت بفضول: هو أنتم ليه مربوطين كده؟ حاجه غريبة أوي!
ماسة ببرود وهي تطوي ذراعيها: ملكيش دعوة.
الفتاة بابتسامة جريئة: على فكرة، جوزك عسول خالص.
اتسعت عينا ماسة بصدمة، وزفرت بعصبية واقتربت منها: طب بقولك إيه؟! امشي من وشي بدل ما أقسم بالله أجيبك من شعرك! واوريكي العسل اللي على حق.
تحركت الفتاة مبتعدة سريعا بخوف، بينما سليم كان يستمع من الداخل والابتسامة لا تفارقه، الغيرة بالنسبة له كانت الدليل الأوضح أن قلبها ما زال معه، والعودة قريبة لا محال.
رفع سليم يده بعنف فجأة فانشد الحبل بينهما وتألمت
دخلت له قائلة بعصبية: بقولك إيه، متشدش إيدي! شدتك غير شدتي، شوف الحجم والحجم، متستعبطش.
ضحك سليم موضحا: والله غصب عني، أنا مش طفل زيك.
خرجت وهي تضيق عينيها وتقلب وجهها بسخرية، وبعد أن انتهى سليم من ارتداء ملابسه، جلست ماسة على مقعد خشبي تحاول ارتداء الكوتشي، لكن ألم ركبتها والجرح في كفها منعها.
اقترب منها سليم سريعا: استني، أنا هلبسهولِك.
ماسة بعناد: ملكش دعوة بيا.
سليم بضجر: هو إيه اللي مليش دعوة؟ أنتِ مش قادرة تلبسي كوتشي؟ أنا هلبسهولك.
ماسة بصرامة: قولتلك لا.
قلب عينيه بغضب من عنادها الذى لا ينتهي، ثم نظر نحوها مرة أخري، وقال بصوت أجش، بتلك البحة التي تجعل جسدها يرتجف لا إراديا: ماســة
لكن هذه المرة لم تتهرب من نظراته بل واجهته بعينيها مباشرة، وقالت بتحدي واضح: لا
إلا أن سليم أمسك بيدها وأجلسها برفق على المقعد، رفع الفستان قليلًا ليكشف الجرح العميق في قدمها.
قال بنبرة معاتبه لكنها حادة: بصي جرحك عامل إزاي؟ إيه العند ده؟
ماسة بصوت خافت وهي تشعر بألم: مكنتش عارفة إنه كده.
تنهد سليم، وأمسك هاتفه واتصل بمكي ليحضر إسعافات أولية وبعد دقائق جاء مكي ومعه الحقيبه اعطاها لسليم ورحل.
رفع سليم الفستان مره أخرى لكن ماسة منعته وهي تقول: مش عايزة منك حاجة.
سليم بصرامة: اسكتي شوية.
بدأ ينظف جرحها، وهي تحاول أن تكتم ألمها.
سليم بهدوء وحنو: معلش، استحملي شوية.
وفي هذه اللحظه خانتها ملامحها فتغيرت تلك النظرة المتحفزة في عينيها وانقلبت إلى أخرى مختلفة نظرة شوق وحب دفين، فكل حركة منه، وكل لمسة مليئة بالاهتمام والحنان، أعادت لها ذكرى الأيام التي كان يغمرها فيها بنفس الدفء.
شهيقها خرج متقطعا وهي تتابعه، أصابعها ارتجفت بخفة، وكأنها تقاوم رغبة جامحة في أن تلمسه، ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها دون إرادة منها، ابتسامة فضحت الصراع بين قلب يستسلم، وعقل يقاوم.
مدت يدها ببطء، أصابعها تكاد تنغرس في خصلات شعره، عينيها تلمعان بشوق مكتوم، وأنفاسها ترتجف من قربه، لكن فجأة أغمضت عينيها بقوة، كأنها تهرب من ذكرى موحشة اجتاحتها بلا رحمة، ذكرى تركت بداخلها جرحا لم يندمل، تجمدت يدها في الهواء، ثم سقطت ببطء إلى جانبها، بينما هو ظل منشغلا بما يفعل، لم يلحظ العاصفة التي دارت بداخلها.
أنهى سليم تنظيف الجرح، ثم البسها الحذاء بنفسه،وساعدها على الوقوف وهو يتسائل بحنان: قادرة تقفي؟
ماسة بنبرة مكتومه: قادرة.
ارتدى هو الآخر حذاءه، ثم خرجا معا.
تذمرت ماسة أثناء سيرهما: هو أنت ناوي تفضل رابطني كده؟ فكني بقى.
سليم بجمود: مش واثق فيكي.
تنهدت وتبعت خطواته حتى وصلا إلى السيارات، فتح سليم الباب الخلفي فصعدت ماسه اولا وهو خلفها
وكان قد أمر سليم باحضار بعض أنواع الطعام الذي تحبه، فهو يعلم يقينا أنها جائعة ولم تأكل شيئا منذ الصباح، وحتى إن تناولت قليلا، فبعد الركض والوقوع في الماء وماجرى لها، لابد أن الجوع قد اشتد عليها، لم يفكر في نفسه لحظة واحدة، بل انشغل بها وحدها، مع أنه هو أيضا لم يذق شيئا منذ الصباح.
مد إليها كيسا بنيا وهو يبتسم قائلا:امسكي، جبتلك الأكل اللي بتحبيه: شاورما، وشيبسي لايون بالكاتشب، هتاكلي ولا هتعندي
نظرت إليه لحظة بصمت، عضت أسفل شفتيها، ثم مدت يديها وأخذت منه الكيس قائلة بحسم: هاكل عشان جعانة.
جلست تفتح السندويتش بهدوء، وأخذت لقمة صغيرة، ثم ارتشفت العصير، كان المشهد عاديا بالنسبة لها، لكن عيني سليم لم تتركها لحظة، كان يتأمل كل حركة تقوم بها وكأنها لوحة مرسومة أمامه، تلك الطريقة التي ترفع بها شعرها عن وجهها، نظرة عينيها العابرة، حتى ابتلاعها للطعام، كل شيء كان يذيب قلبه.
انتبهت ماسة إلى نظراته، فشعرت أنه ربما يكون جائعا مثلها، فمدت الساندوتش نحوه قائلة: مالك عمال تبصلى كده ليه؟ عايز حتة؟
ابتسم سليم وهز رأسه "بلا" بصمت.
ماسة بنبرة ساخرة في محاولة لإخفاء اهتمامها به: لا خد حتة، بدل متفضل تبصلي في الأكل وبطني توجعني.
ابتسم سليم، وأخذ منها الساندوتش، ثم قسمه نصفين، وأخذ الجزء الذي كانت تأكله وأعطاها النصف الآخر.
علقت ماسة: ده بتاعي أنا، واكله منه، خد التاني.
رد سليم بنبرة مغازله هو يتناول الساندوتش بتلذذ من الموضع الذى تناولته منه: لا، ده أحلى وأطعم بكتير.
وأخذ يلتهمه بشغف، بينما عيناه لا تفارقها، تبادلا النظرات للحظات، ثم حولت ماسة وجهها إلى الأمام وأكملت طعامها في صمت.
كانت قريبة منه إلى حد يشعر بأنفاسها تلامس بشرته، كلما ارتفعت رموشها ونظرت أمامها، كان يلتفت سريعا كأنه يخشى أن تضبطه متلبسا بالنظر إليها، ومع ذلك لم يستطع منع نفسه من التحديق بها.
ابتسم بضعف وهو يراقبها وأخذ يحدث نفسه بصمت "شكلها جعانة فعلا، بس أنا جعان أكتر منها، جعان قربها، ضحكتها، ريحتها وأنا بضمها لقلبي، ثم نظر إلي السماء برجاء وتمني وهو يهمس في نفسه: يارب صبرنى، لحد ما قلبها يلين ويسامح"
مرت نصف ساعة تقريبا، حتى بدأت عيناها تذبلان من النعاس أسندت رأسها إلى النافذة، وغفت قليلا، ضاق قلب سليم بالحنين، تمنى لو استندت عليه بدلا من الزجاج البارد، وما هي إلا لحظات حتى مالت بجسدها في نومها على كتفه.
سرت قشعريرة دافئة في جسده، كأنها أول مرة يلمسها حقا، شعر أن الدنيا كلها توقفت عند هذه اللحظة، كل نفس يخرج من صدرها كان يتسرب إلى قلبه كأجمل موسيقى، ورائحة شعرها التي لامست وجهه جعلته يغمض عينيه للحظة وكأنه يتنفس حياة جديدة.
أسندت جسدها أكثر، حتى وقعت رأسها على صدره، ضمها بذراعه في حنان، لم يكن مجرد عناق عابر، بل كان كأنه يحتضن دنياه كلها بين ذراعيه فكان احساسه لا يو صف وكان قلبه يضحك من فرط السعاده.
لمح مكي المشهد، فتبادل مع سليم نظرة صامتة وابتسامة خفيفة، ثم أشاح بوجهه بعيدا ليتركهما يتمتعان ببعض الخصوصيه.
ظل سليم يضمها إلى قلبه طوال الطريق، لم يغمض له جفن، فقط يراقب ملامحها النائمة بعين لا ترمش، كأنه يحاول أن يعوض تلك الأشهر التي غابت فيها عنه.
في أحد النوادي الرياضيه الثامنة مساءً
ملعب الإسكواش
تردد صوت الكرة في ملعب الإسكواش، والعرق يتصبب من جبين ياسين ولوجين. ازداد حماسها مع كل ضربة، حتى فازت في النهاية. ارفعت يديها عاليا وتصفق لنفسها، وتقفز في مكانها بفرحة طفولية.
لوجين بسعادة: أخييييرا! أنا مش مصدقة نفسي، شهر يا ياسين علشان اغلبك!
وظلت تتنطط وتضحك بينما هو يقف يشاهدها والابتسامه لا تفارق وجهه.
اقتربت لوجين منه وهي تقول بحماس: لازم النهارده نوثق الحدث العظيم ده، تعال نتصور! وكمان المفروض يبقي لى جايزه.
رفع ياسين حاجبه ساخرا: كل دى علشان كسبتيني مرة؟!
لوجين: أيوه طبعًا! هو إني أكسبك حاجة سهلة؟ بقالي شهر بحاول.
ضحك ياسين وأشار بيده: طيب ماشي تعالي نخرج بره، نشرب حاجة، علشان عطشان، وبعدين نبقي نشوف موضوع الجايزه دى بعدين.
امسكت يده وهي تقول: تعال هنا، الصور الأول.
اخذت تلتقط العديد من الصور بسعاده، وهو مستسلما لها، وبعد الانتهاء خرجا من الملعب، يمشيان جنبا إلى جنب، كلاهما يرتدي ملابس رياضية أنيقة، حتى جلست لوجين على مقعد حجري تحيط به الزهور والأشجار، وذهب ياسين لإحضار العصير، ثم جاء بعد بضع دقائق وجلس بجوارها، وقدم لها كوب العصير البارد.
لوجين بابتسامة: النهارده كان يوم حلو أوى، أحلى حاجة إننا الصبح عملنا تجديف، أنا عمري مجدفت قبل كده، وحكاية إننا نزلنا نعوم في النيل فكره تحفه، رغم إن كنت حاسة إني هغرق أكتر من مره.
ياسين وهو يحتسي العصير : أيوه ما هو العوم في النيل مش سهل، التيارات شديدة، بس احنا كنا في حتة مش خطر.
لوجين بحماس: تجربة حلوة وتستاهل، عايزين نفكر في تجربة جديده الأسبوع الجاي (صمتت وأخذت تفكر لحظة) أنا عمري مطلعت قمة الهرم، تيجي نطلعها؟
ضحك ياسين، وقال باستنكار: هرم في الصيف؟ بتهزري!
ضحكت لوجين: خلاص، عمرك أكلت أكل شعبي في مكان شعبي؟
هز ياسين رأسه نافيا: مليش في الأكل ده أصلا.
لوجين بابتسامه: ولا أنا، متيجي نجرب؟
ياسين باعتراض: لا شوفي فكرة تانية، الأسبوع طويل، نبقى نفكر سوا.
أخذت رشفة من العصير ثم نظرت له: نالا عاملة إيه؟
ياسين بابتسامة: الحمد لله.
لوجين بأسف: لسه برضو الأمور مع مدام هبة مش قد كده ؟
ياسين بحدة بسيطة: بقولك إيه، إحنا اتفقنا منتكلمش في الموضوع ده خالص
حاولت لوجين اقناعه: ما هو مينفعش برضو يا ياسين، دي مراتك والأفضل إنك تحسن علاقتك بيها.
ياسين بضجر: وهل أنا محاولتش؟ وهي ليه متحاولش زى؟ ليه أنا بس اللي أبذل مجهود؟ وهي لا؟! ده حتى مش بتقدر اللي بعمله ودايما بتواجهه بصد، وعلى ايدك.
سكت لحظة، ثم غير الموضوع فجأة بابتسامة صغيرة: بقولك، هتلبسي إيه بكرة؟
لوجين باستغراب: إيه السؤال الغريب ده؟
ياسين: عادي يعني هتلبسي فستان لونه إيه؟ عشان ألبس الكرافته على لون فستانك.
ضحكت لوجين: حلوة الفكرة، بس لو عملناها هيفتكرونا كابلز وأنت راجل متجوز، فلا مينفعش.
ياسين باصرار: لونه إيه بس؟
لوجين مدت شفتيها: مش عارفة.
ياسين بابتسامه: البسي أسود، أنا كده كده ديما بلبس الكرافته السودا، فمحدش هيركز، هيفتكروها صدفه.
لوجين مازحة: أنت لئيم! طب أنا هلبس أحمر بقى.
ياسين بضحكة خفيفة: اتفقنا.
كادت أن ترد لوجين ولكن قاطعها ارتفاع رنين هاتفها يعلن عن اتصال، نظرت للشاشة، وإذا بها نغم أختها، ردت بسرعة: ألو، إيوه يا نغم؟
ثم انتفضت واقفه بهلع، وقالت بصوت مرتجف: إيه اللي حصل؟ ماما مالها؟ طب أنا جايه حالا.
ثم ركضت بسرعة بخطوات متوترة وياسين يلحقها، وملامح الخوف على وجهها تسبق خطاها.
ياسين باستفسار وهو يحاول ملاحقه خطواتها السريعه: فيه ايه فهمينى، ايه اللى حصل؟
لوجين وهى مستمره بالركض بخطوات سريعه كأنها تسابق الزمن، وبدأت دموعها بالانهمار من فرط خوفها، وردت بصوت متحشرج: ماما يا ياسين ماما تعبانه أوى.
وصلوا عند السيارات
كادت أن تصعد سيارتها، لكن أوقفها ياسين: أنتِ مش هتعرفي تسوقي وأنت بالحاله دى، تعالي معايا.
امسكها من يديها وساعدها في أن تصعد سيارته وانطلق نحو منزلها بعد أن سألها عن العنوان.
كانت لوجين طول الطريق تبكي وهي تطلب من ياسين أن يسرع وكان يحاول طمئنتها بكلمات هادئه.
فور وصولهما الى شقتها هرعت للداخل إلى غرفة أمها، لتجدها مستلقية على السرير، تتنفس بصعوبة.
لوجين بانهيار: ماما! الأزمة جاتلك تاني؟!
نغم باضطراب: فجأة تعبت اوي، مش عارفة أعمل إيه.
اقترب ياسين، ونظر للحالة بهدوء وحسم: متخافوش هتبقي كويسه إن شاء الله، بس لازم ننقلها للمستشفي فورا.
أشار لحراسه، فدخلوا بسرعة وحملوا الأم بحذر إلى السيارة، جلست لوجين بجوارها، تمسك بيدها وتبكي، بينما ياسين بجانبها يحاول تهدئتها.
وبالفعل وصلوا الى المستشفى الخاصه بعائله الراوى، استقبلهم الطبيب الذي قد سبق وأن تلقي اتصال من ياسين قبل قليل بالاستعداد لاستقبال الحاله، ادخلوها إلى غرفه الطوارئ لكي يقوموا بعمل اللازم لها.
كان ياسين يقف مع لوجين ونغم في الخارج، وكانت كل واحده تحتضن الأخري بانهيار وبكاء.
نظر لهم ياسين، وقال بنبرة مطمئنه في محاوله لتهدئتهم : اهدوا ، وبإذن الله تكون بسيطه.
ابتعدت لوجين عن نغم قليلا وقالت بنبرة متحشرجه: بسيطة ازاى يا ياسين؟! أنت مشوفتش شكلها كان عامل ازاى؟ أنا مليش غيرها بعد بابا الله يرحمه.
انهارت دموعها أكثر، فمد ياسين يده يربت على كتفها، ثم جذبها ناحيته برفق، لم تستطع المقاومة، فانهارت في حضنه تبكي للحظات قصيرة بينما يده تطبطب عليها برفق ومواساه.
خرج الدكتور من غرفة الطوارئ بعد دقائق، رفعت لوجين رأسها من حضن ياسين بسرعة، وهي تمسح دموعها بخجل، ونظرت للطبيب بلهفه: خير يا دكتور، طمني، ماما عامله ايه؟
الدكتور بعمليه: متقلقوش، الحالة مستقرة، دي أزمة صدرية طبيعية، هتفضل الليلة على الجهاز، وبإذن الله تخرج بكرة.
اقترب ياسين منها وهو يربت على كتفها: الحمد لله، مش قولت لك إن شاء الله بسيطه متقلقيش.
هزت لوجين رأسها وهى تحاول تمالك أنفاسها، بعد أن اطمئن قلبها: الحمدلله.
اقتربت نغم منها وهي تقول: انا هخش اطمن عليها
هزت لوجين رأسها بالإيجاب.
بينما نظر ياسين لها وهو يقول: تعالي نشرب حاجه عشان أنت لونك مخطوف خالص.
لوجين بنبرة متعيه: أنا مليش نفس اشرب حاجه.
سحبها من يديها: اسمعي الكلام يلا
تحركا معا للخارج، جلسا معا في حديقة المستشفى، الهواء كان هادئا ورائحة الزهور تحيط بالمكان.
عاد ياسين يحمل كوب العصير ووضعه أمامها.
تنهدت وهي تمسح دموعها: شكرا يا ياسين، على وقفتك معايا، مش عارفه من غيرك كنت عملت ايه.
ابتسم بهدوء: بطلي عبط، هو أنا عملت حاجه.
ردت بإصرار: آه طبعا، دخلتني مستشفى زي دي، وجبتلها أحسن دكاترة، ولحد دلوقتي مسبتنيش.
ياسين بابتسامة ناعمه: دى حاجة بسيطة، المهم نتطمن عليها وتقوم بالسلامه.
سكت لحظة ثم نظر إليها بجدية: تعرفي إحنا أصحاب من فترة طويلة بس أول مرة أعرف إن والدك متوفي.
تنهدت بحزن وقالت بنبرة مهتزه: متوفي من سنتين، بس لسه وفاته مأثره فيا، بحاول أضحك وأهزر وأبين اني تخطيت بس صدقني فراقه صعب وواجعني، يمكن بضحك علشان أهرب من الوجع، بس اكتشفت إنك مبتنساش مع الوقت، أنت بس بتتعود على الألم، بتفضل عايش والوجع جواك، لحد ميبقى جزء منك.
سكتت لحظة والدموع تعود إلى عينيها: أكتر حاجة مخوفاني إني أفقد أمي هى كمان، أنا مش هقدر اعيش من غيرها، مليش في الدنيا غيرها هي وأختي، مش هقدر أخسرهم، ساعات بدعي أموت قبلهم عشان محسش بوجع فراقهم، بس بعدين أفتكر إن نغم لسه صغيرة، مش هتعرف تعيش لوحدها، زي ماشوفت، كانت قاعدة جنب ماما تعيط ومعرفتش تتصرف، إحنا التلاتة ملناش غير بعض.
ابتسم ياسين وهو يربت على كتفها: ربنا يخليكوا لبعض، ومتتوجعوش في بعض أبدا، وبكرة نغم تكبر وتشد حيلها، وتقدر تواجه المواقف دي، هي عندها كام سنة؟
بهدوء: 18 سنة.
ابتسم: صغيرة اووى، تعرفي إن دي أول مرة نتكلم في حاجه تخصك؟ أنا مش عارف إزاي مسألتكيش عن حياتك، رغم إنك دايما بتهتمي تسأليني.
قالت بخفة رغم الدموع: عادي، أنتم الرجالة أصلا كده.
ضحك ياسين: إيه ده؟ أنا حاسس إني بتشتم دلوقتي.
هزت رأسها: لا، مش بتتشتم، بس أنتم فعلا كده،
مش بتهتموا بالتفاصيل زينا، مع إنها حاجه مهمه.
اقترب منها أكثر وقال: بصي، هنسيب الخناقه ده لبعدين، دلوقتي في حاجة أهم، أنا مش عايزك تقلقي، إن شاء الله هتبقى كويسة، وأنا جنبك، مش هسيبك.
لوجين باعتراض: لا لا، روح، أنا أصلا مش هروح، هفضل معاها لحد متخرج بكرة.
ابتسم وهو ينظر في عينيها: وأنا كمان مش هسيبك وهفضل معاكي، أنتِ ونغم لحد متروحوا بكره، علشان لو احتاجتوا أى حاجه.
ابتسمت له بهدوء، وتبادلا النظرات لثواني قصيرة، وهي تتأمله بابتسامه صامته.
في احد الكافيهات الثامنة مساء
جلست مي مقابل رشدي، على أحد الطاولات، تتأمل الكوب أمامها وهي تحركه ببطء، بينما عينا رشدى تتابعها باهتمام.
رشدي بابتسامة هادئة: اتمنى بقى أكون خلال الفترة اللي فاتت قدرت اكسب ثقتك وأخد فرصة.
رفعت مي عينيها نحوه، وصوتها خرج مترددا: الصراحة آه، ودي حاجة بالنسبة لي غير متوقعة.
أمال رأسه قليلا وهو يسألها باستغراب: ليه غير متوقعة؟
تنهدت، وأخذت لحظة قبل أن تجيب: لأني دايما كنت متخيلة مواصفات لشريك حياتي مختلفة عنك تماما حتى لو أنت بتحاول تتغير، بس يعني كنت ديما متخيلاه مبيشربش، ولا ليه علاقات نسائيه سابقه، اكون أنا اول شخص في حياته، يكون طموح زي، وحنين ميهونش عليه زعلي، والأهم من ده كله إنه يقدر مشاعري، أنا أصلا إنسانة رومانسية وعاطفية جدا.
ثم ضحكت ضحكة قصيرة تحمل المرارة: مع إن الناس بيشفوني من برا بيقولولي "أنتِ عقلانيه جدا يا مي، ديما بتحسبيها بعقلك." بس الحقيقة إني دايما بحسبها بقلبي!
أطرقت برأسها نحو الطاولة، وصوتها صار أقرب للهمس: بس بخبي ده، بخاف، بخاف انجرح واتوجع، عشان زي مقولتلك، أنا إنسانة حساسة جدا عكس الظاهر، وأي حاجة صغيرة ممكن تكسرني.
ابتسم رشدي: معاش ولا كان اللي يكسرك يا ست البنات طول مارشروش موجود.
ضحكت بخجل، بينما هو تابع حديثه بنبرة جادة: أنا كمان انبسطت قوي الفترة اللي فاتت، حسيت إني ببذل مجهود لأول مرة في حاجة وبتمناها، وحاسس إنها هتتم، ببذل المجهود ده من قلبي لإني متأكد إن أنا هلاقي في الآخر الحاجه اللي أنا عايزها، وبعدين انا بقالي فترة مش مبطل شرب 100% بس بيمر عليا أيام مبشربش ولو شربت اخري كاسين.
صمت للحظه ثم تابع بنبرة تحمل الكثير:
عارفة، أنا يمكن أكتر واحد من إخواتي بيشوفوني فاشل، عشان ضيعت مشاريع كتير، ولأني مندفع بزيادة، واسلوبي شويه مختلفه عن أخواتي؛ يعني أنا بالنسبه لهم راجل سوقي وبيئه
مدت وجهه، تابع بمرارة: ساعات بحس إني لو قدمت حاجة مش هاخد الامتنان اللي محتاجه، يعني مفروض لو حد معروف إنه بيغلط كتير لما ينجح حتى لو نجاح صغير يلاقي سيل تشجيع حواليه؟ أنا عمري محسيت بده، يمكن عشان كده بطلت أبذل جهد، عارف إن في الآخر مش هاخد اللي عايزه.
رفعت مي حاجبيها وقالت بعقلانية هادئه: هو أنت ليه تعمل حاجة وتستنى تشجيع من حد؟ اعمل الحاجة لنفسك، ابذل المجهود وحقق الهدف عشانك مش علشان حد تاني، حس بطعم النجاح، وقولي لنفسك أنا مش مستني حد يشجعني، أنا هشجع نفسي، انا استاهل ده، استاهل احب نفسي واقدرها، لكن لو فضلت مستني تشجيع الناس مش هتوصل، هتفضل واقف مكانك، ويمكن ترجع كمان لورا، مش كل الناس بالضرورة يكون هدفهم إنهم يدفعوك لقدام، أغلبهم هدفهم بيكون إنهم ينزلوك تحت، حتى لو أهلك.
سكتت لحظة ثم أضافت بنبرة مترددة: أنا دايما حاسة إن عندك مشكلة مع أهلك، مش قريب منهم.
أومأ ببطء وقال بنبرة صادقة: للأسف ده حقيقي، بس اعتقد يا ست البنات إنك لما تلاقي حد بيشجعك، هيديكي حماس وطاقة تقوي شغفك، لكن لما تعملي زي معملتيش كإنك مش متشافة، ده هيوجعك وهيقتل شغفك، بلاش تقنعي نفسك بكلام مش واقعي، لو الإنسان كان ينفع يعيش لوحده كان ربنا خلق آدم بس، لكن ربنا خلق آدم وحواء عشان يكملوا بعض حواء عشان تشجع آدم وتدعمه وتطبطب عليه، إنما لو فضلت لوحدي، بعمل كل حاجة لوحدي، ومبلاقيش لأي حاجة بعملها نظرة تقدير، هعمل شوية، وبعد كده هكبر.
أمالت مي رأسها قليلا وقالت بهدوء: بص أنا معاك، بس أنا قصدي لو بتحب حاجة، اعملها متبطلهاش لمجرد إن ملقتش اللى يشجعك تكمل فيها، وأكيد في يوم من الأيام هتلاقي الشخص اللي يقدر ده، ويشوف أبسط حاجة بتعملها حاجة عظيمة جدا، ويديك الامتنان والتشجيع اللي محتاجه.
ابتسم رشدي ابتسامة مترددة وقال وهو يرمقها بجدية: اتمنى تكوني أنتِ بصراحة، عشان أنا عندي أمل فيكي.
ساد الصمت لحظة، قبل أن يقطعه رشدي بنبرة أكثر جرأة: طب إيه، بقالنا شهر ونص سوا، ومقولتليش موافقة نرتبط ولا لأ، أنا عن نفسي معجب بيكي، واتعودت على وجودك، مش عارف إذا كانت المشاعر اللي عندي دي حب ولا حاجة تانية، بس أنا بطلت اشرب خمره واسهر مع العيال عشانك، اعتقد دي تعتبر سنه أولى حب، وأنتِ؟
تنفست مي ببطء وقالت: أنا كمان حاسة بحاجة بس مش قادرة أحددها، ممكن نستنى شوية ونشوف، بس يا رشدي أنا مليش في جو الارتباط وكده، يعني مش هعرف.
ابتسم رشدي وهو يقترب بجسده للأمام قليلا: ياستي، لو حابة إننا نتأكد من مشاعرنا وأهلنا يبقوا عارفين أنا موافق.
مي بهدوء: بس على أساس مرتبطين مش متصاحبين أنا معنديش الكلام ده في البيت عندي.
ضحكت رشدي وهي يهز رأسه: متصاحبين، مخطوبين، متجوزين، متفرقش معايا المسميات!
نظرت له باستغراب وهي تضيق عينيها.
فرد على تلك النظرة وهو يغمز لها: أنا بكلمك بجد، شوفي إنتِ حابة إيه؟ نتعرف على بعض، نقرب أكتر، شوفي المسمي اللى يريحك ، وأنا دايس معاكي، المهم نبقى مع بعض.
كانت مي تنظر إلى رشدي بترقب، بينما يلوح في عينيها خليط من الفضول والقلق، ارتشفت القليل من العصير، ثم وضعته برفق على الطاولة.
مي، وهي تميل برأسها قليلا: يعني أنت معندكش مشكله لو اتخطبنا وعرفنا بعض أكتر واتأكدنا من مشاعرنا خلال الخطوبة؟
رشدي بابتسامة هادئة: معنديش أي مانع، المهم نبقى سوا، خلاص، كلمي أهلك وأنا هكلم أهلي، أنا أصلا كنت عايز أعرفك على ماما وأخواتي، وسليم كمان رجع من سفره.
مي بابتسامة صغيرة: حمد لله على سلامته، بس اشمعنا سليم يعني؟
تنهد رشدي بخفة: أصل ده أخويا المقرب.
مي بتعجب: بس أنا فاكرة إنك قولت إنك مش قريب منه؟
ضحك رشدي وهو يحرك يده في الهواء كأنه يدفع اعتراضها جانبا: يا شيخة، أنا قولت كده قبل كده؟ عموما، بصي، هو أنا بنحب بعض عادي، بس دايما في بيننا شد، هو أكبر مني بحاجة بسيطة، شهور قليلة يعني، تقريبا 10أو 11شهر.
فتحت مي عينيها بدهشة طفولية: إيه ده! مامتك بتخلفكوا بسرعة كده ليه؟
ضحك رشدي بصوت عالي بسخرية: آه والله يا ست البنات، أمي دى ست غريبه متفهميهاش، بتقولك إن هي بنت ذوات وتحسيها جايه من عصور العثمانيين بتوع الطرابيش، وهي عامله زى الأرنبة جايبانا ستة ورا بعض، أربع ولاد وبنتين، أمال سابت ايه للفلاحين الأوباش على كلامها دى؟!
ضحكت مي من قلبها: أنت فظيع، أقسم بالله!
أشار رشدي إليها بإصبعه مازحا: أوعي بس لو اتجوزنا تجيبيلي فرقة كبيرة كده، أنا عايز طفل واحد بس.
مي، برقة: بس أنا بحب الأطفال.
رفع رشدي حاجبيه متحديا: طب معاكي لحد اتنين، أكتر من كده لا.
رفعت مي حاجبيها بدهشه: مبتحبش الأطفال؟
ضحك رشدي ضحكة قصيرة ساخرة: مبحبش الإخوات.
مي باستغراب: يعني إيه مبتحبش الإخوات؟
مرر رشدي يده في شعره كمن يعترف بسر دفين: ما أنا بقولك إحنا عيلة مفككة، فمش حابب ولادي يبقوا زي أنا وإخواتي.
مي بنبرة هادئة لكن حاسمة: مع الاحترام الشديد لوالدتك وتربيها ليكم، بس موضوع إنك تتعلق بإخواتك وتحبهم وتبقوا حنينين على بعض، ده مسؤليه الأب والأم، وأنا مستحيل أسمح إن ولادي يطلعوا مبيحبوش بعض أو في بينهم أي ضغينة، حتى لو كانوا ورا بعض زيك أنت وأخوك وأختك، أنا حاسة إنكم ورا بعض، بينكم سنة، صح؟
اومأ رشدي برأسه ببطء: تقريبا آه.
مي وكأنها تحاول تحليل الموقف: طب ممكن تكون مامتك لما كانت بتجيبكم ورا بعض، كانت بتدي اهتمام أكتر للبيبي الجديد وده عمل أثر سلبي وهي مخدتش بالها؟
ضحك رشدي ضحكة مُرة وأشار بيده في الهواء: لا يا ستي، أمي أصلا مكانتش مشاركه في تربيتنا، إحنا تربية دادات، معلش، لازم أكون صريح وواقعي معاكي.
مالت مي بجسدها للأمام مؤكدة: عموماً، أنا مستحيل أسمح ببعدى عن طفوله ولادي، واعتقد اللي أنت عشته مش هتحب ولادك يعيشوه، فأكيد هتكون بتحاول تمنعه أو تصلحه، في مقولة بتقول "فاقد الشيء لا يعطيه". أنا بقى بشوف إن هيعطيه أحسن كمان.
تأملها رشدي للحظات، عيناه يلمعان بخيط من الحزن الممتزج بالإعجاب.
ابتسمت مي بخفة: بس ده لو هو سوي، لأنه حس بطعم بالحرمان، فهيحب قوي إن ولاده يعيشوا ويدوقوا الحاجة اللي اتحرم منها.
ضحك رشدي: ده لو سوي بقى.
رفعت مي حاجبها وتسائلت باستغراب: وأنت مش سوي؟
زفر رشدي ببطء وهو يرسم ابتسامة باهتة على وجهه: والله يا ست البنات، أنتِ اللي تقوليلي.
صمتت مي لحظه، ثم قالت بصوت هادئ لكنه واثق: أنت عندك عيوب أكيد، وحاسة إن عندك تشوهات كده في التربية وفي العيلة، بس برضو حاسة إنك بتحاول تبقى حد كويس.
اتسعت عينا رشدي بدهشة خفيفة: تعرفي إن دي أول مرة أحس إني فيا حتة من سليم؟ أصل سليم زي كده، وبرضو اتغير عشان مراته.
أخذت مي نفسا عميقا، وأسندت كفيها على الطاولة كمن يشرح درسا مهما: بص يا رشدي، الطفل لما بيتولد بيتولد نقي، مفيهوش أي حاجة ملوثة، أكيد بيحمل جينات الشر، لكن لما بيكبر التربيته والبيئة المحيطة هي اللي بتشكل شخصيته، طبعا رقم واحد، الأم والأب، لو الأم فرقت في المعاملة، أو كانوا للأسف زي حالتك كده متكلين على الدادات، ده بيعمل خلل، وكل ما المسافة بين الأولاد والأب والأم تبعد، خاصة الأم، كل ما الخلل ده بيكبر أكتر...
صدقني يا رشدي، مفيش إنسان شرير 100% أو طيب 100%، حتى لو تشوهنا كان سبب إننا نسلك طريق الشر، ففيه وقت من الاوقات استمرارنا فيه هيكون باختيارنا، لإنك لو فضلت طول عمرك سالك نفس الطريق مبتحاولش تغيره يبقى أنت عاجبك الوضع وعايز تفضل عايش في دور الضحيه، لكن لو بتحاول تبعد عنه يبقي أنت فيك بذرة كويسة، بس مش عارف إزاي تخرجها، أو مش لاقي اللي يخرجها لك، أو مش شايف حد يستحق تخرجها علشانه.
صمت رشدي يتأملها، بينما هي تكمل بتركيز: أنا لاحظت في كلامك أكتر من مره، إنك خايف لو عملت حاجة كويسة أو اتغيرت وبطلت الحاجات الغلط اللى بتعملها، محدش يحس بيك، خايف محدش يقولك: الله يا رشدي، إنت بطلت، الله يا رشدي إنت عملت! خايف يواجهوك بالاستنكار والتقليل والسخرية، واضح إنك كل مرة كنت بتحاول تعمل حاجة كويسة كنت بتلاقي ضحكة أو تعليق ساخر من أقرب الناس ليك، وده السبب اللى خلاك مكمل فاللى بتعمله عايز تلفت الانتباه ليك حتى لو بالأفعال المشينه!
هز رشدي رأسه ببطء وهو يبتسم ابتسامة شاردة: بصي يا مي كلامك حلو ويمكن نسبه كبيره منه صح، بس أنا هفضل مقتنع إن عمر الإنسان مبيتغير الا لو حس إن حد مقدر تغيره دى، إنما التغيير لمجرد التغيير لأ، بعدين احيانا الظروف بتجبرك على الاستمرار في طرق أنتِ مش عايزاها، ولكن مجبره! يمكن علشان وصلتي لمرحله مبقاش ينفع فيها الرجوع ! فات الأوان يعنى..!
نظرت مي له بعينين قلقتين: هتفضل دي مشكلتك يا رشدي، أحنا لو منفعناش مع بعض وبعدنا، للأسف هترجع تاني تشرب كل يوم وتسهر زى الأول وأكتر، هترجع للصفر من تانى، لإنك رابط تغيرك بيا مش علشان خاطر نفسك.
طأطأ رشدي رأسه وقال بصوت منخفض: ده أكيد وقولتلك أنا بعمل كده عشانك، وبتمنى أفضل كده.
مي بصوت منخفض: أنت خايف متعرفش تكمل؟
رشدي بنبرة متوترة: الصراحة آه، هتسامحيني لو ضعفت؟
صمتت مى لحظه تفكر، ثم قالت بحيرة: مش عارفة، اللي بتمناه منك إنك تكون صادق معايا، المسامحة والمغفرة دي مقدرش أوعدك بيها، لأن مش طول الوقت المغفرة بتكون قرار صح.
وضع رشدي يده على صدره، وقال بنبرة صادقه: لا من ناحية الصدق هتلاقيه عندي، بس زي مقولتلك، اللي أنا فيه ده جديد عليا، هو أنا منكرش إني حابه، بس مش عارف هقدر أكمل ولا لأ، بس بحاول، ووجودك في حياتي مشجعنى استمر.
عضت مي شفتها بتردد: رغم إن كلامك يخوف، وعقلي عمال يقول لي اهربي، بس جوايا حاجة بتقول لي اصبري...!
رشدي بابتسامة صغيرة، ونبرة مازحه، وهو يشاور بإصبعه: امسكي بقى في اللي بتقولك اصبري دي، عشان أنا بحبها، لكن الجزمة اللي بتقولك اهربي، خليها تبعد عني بدل ما ازعلها، أنا مهوي.
ضحكت مي بخفة، ثم أمالت رأسها: هو أنت مش قولتلي من شوية إنهم بيقولوا عليك كلامك سوقي؟
اومأ رشدي برأسه، فتابعت مي بتأكيد: على فكرة عندهم حق، أنا لاحظتها في فيك كتير، بس كنت بتكسف اقولك.
انفجر رشدى في ضحكة قصيرة: لا ما أنا عارف إني وقح، بس دمي خفيف.
ساد صمت قصير قطعه رشدي بابتسامة عريضة: بقولك ايه، بفكر اعزمك على العشا عندنا في القصر الملكي.
ضيقت مي حاجبيها بغضب: أنت عبيط ولا إيه؟ مين دي اللي تيجي عندك البيت؟
فتح رشدي ذراعيه مازحا كأنه يقدم عرضا مسرحيا: بسم الله الرحمن الرحيم، ايه اللى حصل، فين مي الكيوت، الله أكبر، انصرف!
ضحكت مي رغما عنها: لا مبنصرفش، محمود مبينصرفش
رشدي متعجباً: مين محمود؟
تصنعت مي الجدية: العفريت اللي بيركبني اسمه محمود، فاظبط نفسك كده بدل ما اسيبه عليك.
انفجر رشدي ضاحكا: أنت قلبتي سواقة توك توك في ثانيه كده ليه!؟
ضحك رشدي، وهو يلوح بيده موضحا: وبعدين أنتِ ظلمتيني، أنا كنت هخلي أمي فايزة هانم تستقبلك على باب القصر، ومعاها فريدة وأختي الحرباية قصدي صافيناز، شوفتي ظلمتيني ازاى! وأنا بحاول أبقى مؤدب.
هزت مي رأسها برفض: مش هينفع والله، مفيش الكلام ده.
رشدي بابتسامه: لا فيه الكلام ده عادى، مش هجيبك القصر اغتصبك يعني، لو عايز أغتصبك، هغتصبك في أى حته مش هيفرق المكان.
زمت مي شفتيها بغضب: رشدي! بطل وقاحة.
رفع رشدي يديه كأنه يستسلم: أنا آسف، بس بجد لازم تيجي عشان تتعرفي عليهم، بصي إحنا العشا بتاعنا بيبقى الساعة سبعة، أنا هخليه ستة مخصوص عشانك، فايزه هانم بنفسها هتستناكي هي وفريدة على باب القصر علشان تطمنى إنى مش جايبك اشربك حاجه صفرا واتغرغر بيكي، تمام كده؟
زمت مي شفتيها: سيبني أفكر، وأرد عليك.
رشدي بمزاح: تعالي بمزاجك بدل ما اخطفك.
فنظرت له وضحكت بيأس.
الإسكندرية. الثامنة مساءً
منزل مصطفى
جلس مصطفى مع إيهاب ونبيلة وعائشة في الصالة، مازالوا يحاولون استيعاب ما حدث، كان الصمت يخيم عليهم حتى دخل محمد وجلس بينهم.
محمد متسائلا بتعجب: يعني هي خلاص مشيت؟
إيهاب: آه، جه أخدها.
محمد بقلق: عمل لكم حاجة؟
تنهد إيهاب: ولا عمل أي حاجة.
عائشه بضجر: شوفت بقى أنت كنت ظالمها إزاي؟ البنت وقفت قصاده، مسكت السكينة على رقبتها، وكانت هتموت نفسها، وهو أصلًا معملش أي حاجة، أهي ماسة اللي كنت شاكك فيها!
إيهاب بحدة: عائشة، ملوش لازمة الكلام ده.
عائشة بضيق: لا، ليه لازمة! كان كل شوية يضايقها بالكلام، ويتهمها إنها هتأذينا.
محمد بحده: أنا كنت خايف عليكوا يا عائشه ومش هقول لك تاني؟! بس هو عرف مكانها منين؟
مصطفى بحنق: محدش يعرف، ولا إحنا عارفين حتى حصل لها إيه، ولا عمل فيها إيه، ولا هنعرف نوصل لها إزاي؟ ثم جز على أسنانه بغضب: غبيه، ما أنا قولت لها هحميكي!
نبيلة بستنكار: كنت هتحميها إزاي هو إحنا قدهم؟
محمد بشدة: بالظبط، أنت عملت اللي عليك وزيادة، ست شهور قعدت في بيتك معززة مكرمه، وواخد بالك منها، فعداك العيب، وأهي خلاص مشيت، ركز بقى في حياتك، لازم تفهم إن دلوقتي سليم بقى عارفك، يعني أي محاولة منك ممكن تأذيك.
مصطفى بعزم: اسمع يا محمد، أنا مبخافش ومفيش حاجة هتوقفني عن حماية ماسة، أنا وعدتها إني هحافظ عليها، هي مشيت من هنا عشان خايفة علينا، خايفة سليم يعمل فينا حاجة، وأنا مستحيل أخذلها.
محمد باندهاش: أنا مش فاهم إيه إصرارك إنك تساعدها؟ لو حبيتها يا دكتور، تبقى رميت نفسك في النار، فوووق!
مصطفى بحزن صادق: هو أنتم ليه كلكم فاكرين إني بعمل كده عشان بحبها؟
سكت لحظة، ثم تابع بنبرة مكسورة: هو حب فعلاً، بس حب من نوع تاني، من غير هدف، من غير سبب، من غير حتى إني أكون عايز تمن أو مقابل، هي بالنسبة لي أخت وصديقة، إنسانه معندهاش أي حد يقف جنبها، إنسانه مكسوره وماده ايديها ليا وبتقولي "ساعدني، أنا مليش حد"، وأنا وعدتها إني هقف معاها.
وقف محمد أمام مصطفى، ونظر إليه بثبات: أنا حقيقي مش فاهمك، ما إنت وقفت وساعدتها بما فيه الكفايه، عايز منها ايه تاني!
مصطفى بحدة: محمد، لو سمحت، ملكش دعوة بالموضوع ده.
محمد بشدة: لا ليا، عشان أنت أخويا وصاحبي! مينفعش أشوفك بترمي نفسك في النار واقف أتفرج عليك، لازم أفوقك من اللي أنت فيه ده.
مصطفى بإصرار ونظرة حادة: وأنا مفيش حاجة هتوقفني عن مساعدة ماسة، ثم نظر إليه بشك: بس يا محمد، أتمنى من قلبي، إنك متكونش السبب في إن سليم يوصل لها.
اتسعت عينا محمد بانفجار: أنت اتجننت! أزاى تشك فيا؟! أنا لو كنت عايز أقوله، كنت قولت من ساعة ماعرفت، أزاى تفكر إن ممكن أعمل حاجه تكون سبب في أذيتكم!؟ بس أنا مش هحاسبك على كلامك دلوقتي، عارف إن دماغك مشغولة، أنا مش واطي للدرجه دى يا مصطفي، صحيح كان نفسي تمشي امبارح قبل بكره، لكن مستحيل أعمل كده، مش عشانها هي، لكن علشان خايف عليكم أنتم.
قاطعهم إيهاب بنبرة جدية: بدل متقعدوا تتخانقوا، لازم تفكروا هتتعاملوا إزاي مع سليم، أكيد المواجهة دي مخلصتش هنا، متنساش يا مصطفى، أنت روحت له لحد عنده وسألته عن مراته لو عندها أخت.
نبيلة بتوتر: عندك حق يا إيهاب، أنا نسيت الموضوع ده والله، هتعمل إيه يا مصطفى؟ بقولك إيه، سيبله المستشفي، ونسيب الشقة دي كمان، نروح مكان تانية.
عائشة بصدومة: إيه اللي بتقوليه ده يا ماما؟!
نبيلة بدموع: بقول الصح، انا خايفه عليكم يا بنتي، رغم إني حاسة إنه مش هيعمل حاجة، بس على رأي المثل حرس ولا تخون.
مصطفى بإصرار: أنا لا همشي ولا هنقل من مكاني، وهروح شغلي عادي جدا، وبكرة هكون في المستشفى، أنا مبخافش، ومعملتش حاجه غلط علشان اخاف منها، أنا حافظت له على مراته، وبعدين باللي ماسة حكته عنه، فسليم مش شخصية بتلعب وبتضرب في الضهر، لو كان عايز يعمل حاجة، كان عملها من أول ما دخل، دى غير أنه ممضيني على شروط جزائيه وهو بيعيني في المستشفي بتاعته كفيله تخليني عايش عمرى كله في السجن، فلو كان عايز يعمل حاجه كان استخدمهم ضدى.
نبيلة بتنهيدة: ماشي يا ابني بس يعني منروحلوش بيته ونقوله "إحنا أهو" !
مصطفى بهدوء: متقلقيش يا أمي، أنا كل اللي في دماغي دلوقتي حاجه واحده، يا ترى عمل فيها إيه؟
عائشة بصوت مرتعش: قلبي بيقول لي إنه مش هيعمل حاجة، هيعتذر لها.
ساد الصمت لوهلة، والعيون تتبادل النظرات القلقة.
فيلا سليم وماسة الجديدة تقع على ضفاف نيل المعادي العاشرة مساءً
تتقدمها مساحة واسعة من الأرض المفروشة بالعشب الأخضر، تتخللها بعض أشجار النخيل والأشجار المتناثرة، يليها امتداد النيل الهادئ، الفيلا مكونة من طابقين كبيرين، وخلفها حديقة فسيحة تضم حمام سباحة واسعا.
سيارة سليم
وحين وصلوا، مد سليم يده وربت على خدها برفق ليوقظها، فانتفضت فجأة، شهقت بأنفاس مضطربة وحدقت فيه باستغراب، حاجباها معقودان، وعيونها متسعة كأنها تستفيق من كابوس، ارتعشت أناملها وهي تمسح على وجهها بتوجّس، قلبها يخفق بسرعة.
سليم بنبرة هادئة وهو يرفع كفه أمامها كعلامة أمان: إيه يا ماسة، خوفتي كده ليه؟ أنا سليم إحنا وصلنا.
أطرقت قليلا ثم مررت بكفيها على وجهها، وأزاحت شعرها إلى الخلف بحركة مرتبكة، قبل أن تهمس بصوت خافت، منكسر: من ساعة مهربت، أي حد يصحيني وأنا نايمة، بصحى مفزوعة.
تأملها سليم بعينين مثقلتين بالأسى، ارتسمت على وجهه نظرة تحمل أكثر مما قاله صوته: بس خلاص، أنا بقيت جنبك، ولا بتخافي مني؟
رفعت عينيها نحوه ببطء، نظرة جانبية يكسوها الخذلان، وقالت بصوت مختنق بدموع مكتومة: زمان كنت بخاف من كل الناس إلا أنت، إنما دلوقتي مبخافش من كل الناس، بس بخاف منك أنت.
سقطت كلماتها على قلبه كطعنة غادرة، كغصة نبتت في أعماق روحه، فاهتز كيانه بأكمله، غامت عيناه بالدموع، وتثاقلت أنفاسه، كأنها تتسرب من صدر مثقل بجرح لا يندمل.
اتلفتت ماسه الي النافذة، عيناها تمسحان المكان بفضول متوتر: هو إحنا فين؟
سليم بنبرة مكتومه: في فيلتنا.
ترجل سليم من السيارة أولا، ثم لحقته ماسه بخطوات مترددة، يديهما مازالت مكبلة ببعضها لكن عينيها جالت في المكان بذهول، بدي غريبا عليها.
ضيقت عينيها بتعجب: إحنا فين بجد؟!
سليم بصوت ملئ بالوجع: مقولتلك، دي فيلتنا الجديدة، محبيتش نرجع في اللي فاتت، فيها ذكريات مبحبش أفتكرها.
زفرت بسخرية ثقيلة، ارتفع طرف شفتيها بمرارة: آه، تقصد السجن الجديد.
حدق سليم النظر في عينيها مباشرة: لا، فيلتنا الجديدة.
نظرت ماسة حولها ببطء، وكأنها تحاول أن تهضم المكان: بس سجنك الجديد المرة دي أحلى.
ثم رفعت يدها نحو الأفق بإشارة صغيرة، عيناها تلمعان بدهشة صافية: هو ده النيل؟
اقترب منها أكثر، صوته يتهدج بخفة: أيوه، الفيلا دي على النيل مباشرة تحبي تشوفي؟
سارت بجانبه في صمت، لكن عينيها بين الحين والآخر تلمع بخوف يختلط بانبهار !
قالت وهي تنظر نحو قيدهما: هو أنت مش هتفك البتاع ده؟ ولا لسه خايف؟
توقف لحظة، نظر إليها بجدية بالغة: هفضل خايف طول ما أنتِ مش هنا برضاكي.
نظر له ماسة بصمت، ثم خطت إلى الحافة، عيناها انبهرتا بالمنظر الممتد أمامها؛ الأرض الخضراء تعانق النهر
ابتسمت باندهاش صادق، صوتها خرج عفويا: بس المكان هنا تحفة المنظر جميل.
ابتسم سليم، وملامحه تطرقت للحظة إلى الحنين: أنا فاكر مرة قولتيلي نفسك تسكني على النيل.
التفتت إليه وهى رافعه حاجبيها بدهشه: أنا؟
أومأ وهو يسترجع الذكرى بعينين مبتسمتين: أيوه، كنتي قاعدة تتفرجي على التلفزيون، وقولتيلي قصتنا شبه فيلم أفواه وأرانب، وسألتي لو في بيوت زي بيت البطل، فاكرة؟
ابتسمت برفق، وموجة من الذكريات مرت على وجهها: أيوه، كان قبل ما أهرب بفترة صغيرة، قولتلك عايزة بيت شبه ده، وأنت وعدتني إنك هتجيب واحد شبهه.
التفتت بجسدها نحو المبنى، وسليم أشار بيده بحماس : المنظر من الناحية التانية أجمل، فيه جنينة كبيرة، وحمام سباحة
ثم وجه عينيه نحو النيل مشيرا: شايفة الجزيرة اللي في النص دي؟
تبعته بعينيها حتى وقعت على جزيرة صغيرة في قلب النهر: مالها؟
سليم بابتسامة: هي كمان ملكنا، بفكر نعمل فيها بيت صيفي صغير، ونروح له بالمركب.
ارتفع حاجبها بسخرية، وضحكة خافتة مشوبة بمرارة أفلتت منها: ده أنت عندك أمل إني هكمل معاك.
سليم بصوت مختنق بغصة: وليه متكمليش معايا؟
رفعت يديها المقيدة في وجهه بعزم: وليه أبقى معاك وأنا كده؟ وبعد كل اللي حصل؟
قاطعها بنبرة مخلصة، وعيناه تتوسلان: عشان أنا بحبك.
اغرورقت عينيها بالدموع، وشهقت بصوت مكتوم، وصاحت بحرقة: الحب لوحده مش كافي! أنا اتعلمت في الفترة اللي فاتت إننا ممكن نكون بنموت في بعض، بس مينفعش يجمعنا سقف واحد، هنقتل بعض، وده اللي حصل!
اقترب منها خطوة، عينيه تبحثان عن أي خيط أمل في ملامحها: ماحنا المفروض نتعلم من أخطائنا، ونتجنب كل حاجة بتزعلنا من بعض، نشوف المشكلة فين ونحلها، بعدين أنا قولتلك أني كنت واخد حبايه هلوسه ليه مش مصدقاني؟
أشارت نحوه بحدة خافتة، صوتها يرتعش لكنها متمسكة بالقوة: أنت مبتاخدش الكلام ده يا سليم!
رد سريعا بعينين متسعتين، وكأنه يحاول إثبات براءته: اتحطتلي، صافي هي اللي حطتهالي، كانت قصادكي بس أنا اللي شربتها، وعاقبت صافيناز لما عرفت.
ماسة بصوت مخنوق بالدموع: بس أنت كنت عارف بتعمل إيه!
حاول سليم اقناعها بملامح متوترة: هي مش بتخلي العقل مغيب كليا، بس يعني بتخلي الواحد مش عارف يتحكم في نفسه ولا يسيطر على تصرفاته، بتخليه يوصل لقمة فقدان السيطره ويتمادى.
ارتسمت على شفتيها نصف ابتسامة وجع، والدموع تنحدر من عينيها: وأنت اتماديت بزيادة، أوعى تفتكر إني ممكن أسامحك، حتى لو أخدت حباية مش هسامحك، أنا مستحيل أنسى اللحظات دي، ولا هنسى إني خرجت من البيت في نص الليل بقميص النوم وأنا مضروبه علقة موت وخايفه وتايهه لوحدى وسط الصحرا.
هبط سليم على ركبتيه أمامها، عينيه غارقتان في الدموع، نظرت له باستغراب وهو يمسك يدها المرتجفة قائلاً: طب قولي لي أعمل إيه عشان تسامحيني؟ أركع؟ أديني ركعت يا ماسة! وبقولك سامحيني، اغفري لي غلطه ارتكبتها غصب عني ولا أنا كنت قاصدها ولا كنت ناويها حتى.
اشاحت ماسة عينيها لأعلى، وقالت بصوت مكتوم: لو سمحت متعملش كده.
رفع سليم عينيه نحوها وهو يضغط على يديها بدموع تملئ عينيه: هعمل كده عشان أنا غلطت في حقك، ولازم اعتذرلك عن ذنبي، من فضلك بصيلي ... بصيلي يا ماسة، شوفيني بعينك وبقلبك.
أخرجت انفاس ساخنه، ونظرت له بعينين محترقتان بالدموع، وقلب يعصف الما، تابع سليم على نفس ذات الوتيرة بعينين تترقرق بالدموع: بس لازم تفهمي وتصدقي إني مستحيل كنت أعمل كده وأنا واعي حتى 1%، أوعي تكوني فاكرة إني مش بتعذب! أنا كمان فاكر الليلة دي، كل تفاصيلها بتطاردني، أنا كمان مش مسامح نفسي، بس لما عرفت بموضوع الحبايه قلبي ارتاح، قولت لما تعرفي هتسامحيني عشان هتفهمي إني مكنتش واعي، هتعرفي إن سليم حبيبك يستحيل يعمل في ماسته حبيبته كده، عشان أنتِ قلبه ، حته منه، روحه ومستحيل تهوني عليه... انا أضحي بنفسي ولا اضحي بيكي يا ماسه، صدقيني، أنتِ عاقبتيني عقاب شديد، عارفه يعني ايه ست شهور بعيد عن عيني، وعن حضني وعن قلبي، وعقلي اللي فيه مليون سؤال " ياترى ممكن تكوني فين؟! وبيحصل لك ايه؟!" أنتِ متعرفيش أنا حصل لي ايه في فترة غيابك، موت في الثانيه الف مره، اللي خلاني أعيش طيفك اللي كان زي ظلي، وصوت جوايا كان بيقولي "ماسة بخير"، أنا متفهم وجعك ورفضك، بس ارحميني، عقابك أنتِ كان اشد قسوه مني والله العظيم.
ثم رفع يدها إلى شفتيه ووضع قبلة عليها، وصوته يرتجف: سامحيني على كل غلطة غلطتها والله العظيم المرة دي مختلفة، مستحيل اكرر اي حاجه بتزعلك، أنا اتغيرت، وفي حاجات كتير حصلت أنتِ متعرفيهاش، أنا بتت....
قاطعته ماسة بحدة وشدت يدها منه بعنف: ولا عايزة أعرفها! سليم مبيتغيرش، سليم حتى لو اتغير شوية، بيرجع تاني اسوأ من الأول، كفايه كدب بقى، كفايه حرام عليك.
حاول أن يمسك يدها مرة أخري لكنها سحبتها بعنف قالت بدموع ووجع: لو سمحت ابعد عني! أنا تعبانة، كل مبشوفك او بحس بنفسك قريب مني، او إيدك تلمسني، بحس إن جسمي كله بيتوجع نفس الوجع اللي حسيته في الليلة دي، كل مأشوفك قلبي بيوجعني، كفايه.
أضافت وبدموع حارّة بنبره مهتزه بضعف: سواء كنت واخد حباية ولا لا؟! اللي حصل في الليلة دي أكبر من أي اعتذار، واللي حصل لي في فترة هروبي خصوصاً اول ثلاثه يام ميتنسيش، ده أنت خليتني ست شهور بعيدة عن أهلي، ست شهور مرعوبة، مبنامش، بستنجد بناس غريبة يحموني، خلتني خايفة منك! أنت جوزي! اللي المفروض تحميني، بقيت بتحامي في الغريب منك! تصور!
انهارت دموعها أكثر وهي تصرخ: أنت متخيل إحنا وصلنا لفين؟ متخيل؟
مسحت دموعها، وحاولت أن تهدأ قليلا قبل أن تضيف بمرارة: وجاي ببساطه تعتذر !! اسمع سواء كنت ظالم أو مظلوم اعتذارك مش مقبول.
رفعت يدها ومسحت وجهها، تحاول أن تمسك دموعها، وقالت بفتور متعب وهي تضع يدها على قلبها: لو سمحت كفايه، لو فعلا بتحبني كفايه كلام مش قادره اتكلم، وجودك قدامي دلوقتي واجعلي قلبي، أنا عايزة أطلع أنام، ممكن تفكني؟
كان سليم يستمع إليها وهو مازال جالسا على ركبتيه، عيناه دامعتان، يترقرق فيهما قهر دفين، كأن الوجع الذي ينخر قلبها قد تسلل إلى صدره أيضا، ورأسه منحني قليلا كأنه يهرب من ثقل الكلمات، كان يتمنى لو تمنحه تلك الفرصة التي يلهث وراءها، غير أنه في أعماقه كان يدرك أن الأمر ليس بتلك السهولة، وأن الطريق إليها محفوف بالأشواك، ولابد أن يحاول مرارا حتى يصل.
تنهد ومسح دموعه بأصابعه، وحاول أن ينهض، لكنه شعر بألم في ركبته، أغمض عينيه، وملامح الألم ارتسمت على وجهه، نظرت إليه ماسة لحظة، ثم مدت كفها نحوه لتساعده على النهوض كما كانت تفعل دائمًا، وقعت عيناه على كفها أمامه، ثم رفع بصره إليها ببطء، فرأى نظرتها الصامتة، كان يستطيع أن ينهض وحده رغم الألم، لكن فعلتها جعلته يتيقن أنها ستكون إلى جانبه، وستسانده دائما، رغم أن من دقائق قليلة مضت كان بينهما توتر ووجع.
قامت بمساعدته في الوقوف ثم سحبت يدها، اقترب منها حتى وقف امامها مباشرة وفك قيودها بهدوء،
تبادل النظرات بصمت، حتى تنهدت ماسة بتساؤل: مش هتقولي مين عرفك مكاني برضو؟
ابتسم متعجباً: شاغلك أوي للدرجه لى تعرفي مين؟
رفعت صوتها بنبرة حزينة: عايزة أعرف مين اللي خاني ومتاكدة إنك مكنتش هتعرف مكاني غير لو في حد خاني، مين يا سليم؟ محمد؟
سليم باستغراب: إشمعنا دكتور محمد؟
ماسة بصوت مبحوح، ودموعها تلمع في عينيها: لأنه أكتر واحد مكنش بيحبني وكان دايما يعاملني وحش، عامة دى موضوع طويل أوى، وأنا تعبانه وعايزه انام .
صمت سليم للحظة، ونظر لها بثبات قبل أن يتنهد ببطء وقال: لما تصحي هبقي اقولك مين؟! هو أنتِ مش عايزة تشوفي أهلك؟
التفتت له بسرعة، ودهشة: أشوف مين؟
ابتسم سليم بهدوء: تشوفي أهلك، ممكن أجيبهملك هنا، أو تروحي لهم.
ماسة بسخريه: طب وايه هي الشروط؟!
هز سليم راسه نافيا بإبتسامة هادئه: مفيش شروط بس عايز كلمة واحدة منك، وعد إنك مش هتحاولي تهربي وأنتِ معاهم.
ماسه بجمود: ولو موعدتكش؟ مش هتوديني؟
سليم بصوت هادي وواثق: هوديكي يا ماسة.
نظرت له ماسه بريبه وشك: السكينة والهدوء اللي أنت فيه ده مخوفني أكتر من وأنت متجنن، شكلك ناويلي على نية سودا !
ابتسم سليم ابتسامة دافئه، وعيناه لم تفارق عينيها: والله خالص، ولا أي حاجه.
ماسة هزت راسها بتعب: طب بجد أنا تعبانه وعايزه انام أنت فرهدتنى خالص النهارده، وريني اوضتي فين
رفع سليم حاجبيه باعتراض ضاحكا: أنا بردوا اللى فرهدتك،ماشي يا ستي تعالي نطلع.
تحركا معا لداخل الفيلا، كان المكان دافئ، أثاثه يذكرها بعالمها القديم، صورهما معلقه على الحائط، تفاصيل تشبهها، حتى الرائحه بدت مألوفة، لم تشعر بالغربه قط، بل شعرت بالارتياح ولكن داخلها مازال الحذر لا يفارقها.
صعدوا إلى الطابق الثاني
غرفة ماسة.
حين دخلوا الغرفة، اتسعت عينا ماسة بدهشة وهي تدور حول نفسها، كل شيء على ذوقها، الأثاث، التفاصيل، حتى ملابسها مرتبة في الخزانة.
ماسة بصوت مندهش وهي تلمس كم فستان: حتى اللبس أغلبه لبسي!
ابتسم سليم وهو يتابع نظراتها: أنا جبتلك كل حاجة بتحبيها.
رمقته بقلق، وقلبها يرتجف، ثم همست وهي تشيح بوجهها: أنت مش هتنام معايا هنا؟
اشار سليم بصوت هادي نحو باب خشبي جانبي: مطلبتش أنام هنا، لو احتجتي أي حاجة، الباب ده مش باب التواليت، ده باب أوضتي، حبيت اعمل باب مشترك ما بينا، بس الباب ده مش هيتفتح أبدا من عندي طول ما أنتِ رافضة، لكن أنتِ ممكن تفتحيه في أي وقت، وقت متحتاجيني ..ثم أشار إلى الجهة المقابلة: باب التواليت الناحية التانية.
تنهد بخفة، وعينيه تلتمع بحزن: نامي وارتاحي يا ماسة، واتمنى إنك لما تصحي بكرة تبقي قادرة تتكلمي معايا، محتاجين نتكلم بس نسمع بعض بتفاهم، من غير تهديد ولا صوت عالي ولاعند، نتكلم بقلب وعقل، إحنا مكناش كده !!
ارتسمت ابتسامه صغيرة بمرارة على وجهه: ساعات لما أبص ورايا قلبي بيبكي، بيبكي علينا.
أطرق برأسه قليلا، وانخفض صوته أكثر بارتباك: في حاجة من وقت مشوفتك نفسي أعملها، ممكن تسمحيلي أعملها بس برضاكي؟
نظرت ماسة له بصمت لوهله، فهي تفهم ماذا يريد، أراد أن يضمها الى صدره، لكنه أبى أن يفعل ذلك دون موافقتها، فهي تعرفه عن ظهرك قلب، رمشت بعينيها مرتين، ثم هزت رأسها ببطئ موافقة.
اقترب منها بخطوات ثابتة، ثم جذبها إلى صدره بشوق، كأنه يريد أن يذيبها داخل أضلعه، مرت دقائق وهو يتنفس بهدوء، ولأول مرة يشعر براحة غامرة.
أما هي، فقد أغمضت عينيها؛ في البداية كانت متجمدة في مكانها، لكن شيئا فشيئا بدأت ترتجف، ثم استسلمت لدفء أحضانه، وتركت نفسها تذوب بين ذراعيه، شعرت بالسكينة تتسلل إلى قلبها، مهما كابرت وكذبت على نفسها، ومهما أثقلها الغضب، لا تزال تشتاق إليه، ولا تجد راحتها إلا بين ذراعيه.
وبعد لحظات طويلة، ابتعد سليم قليلا، ونظر إليها بعينين يملؤهما الحب بابتسامة هادئة على شفتيه، ثم رفع كفيه ليحتوي وجهها برفق، وانحنى ليطبع قبلة قصيرة دافئة على جفنيها، وما أن فعل ذلك حتى تراجع فورا، وكأن تلك اللحظة وحدها كانت تكفيه.
ابتلعت ماسة غصتها، تحاول أن تهدئ أنفاسها، وعينيها تتهربان من عينيه، وكأن النظر إليه سيكشف كل ماتحاول إخفاءه من شوق وضعف.
ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه: تصبحي على خير يا قطعة السكر.
خرج سليم تاركا إياها وحدها، لم تفهم لماذا فقدت فجأة قدرتها على المقاومة، كانت تعرف تماما ما يريد، لكنها تلعن تلك المشاعر، وتلعن قلبها الذي يضعف أمامه برغم كل ما فعله.
جزت على أسنانها بغيظ، لائمة نفسها على ضعفها، على أنها تحولت للحظة إلى تلك المرأة التي ما زالت تشتاق اليه، التقطت المخدة بين ذراعيها، ضغطتها بقوة وصرخت فيها، ثم القاتها بجانبها وجلست على السرير، والحزن يكسو ملامحها.
بدأ صوتها الداخلي يهمس وهي تتأمل المكان من حولها،
فقالت بدموع ورجاء: ليه يا رب بترجعني ليه؟ ليه بتخليني أضعف قدامه؟ ليه مش عايز تشيل حبه من قلبي بعد كل اللي حصل؟ بعد كل اللي عمله فيا... ولسه بحبه! انا ليه معنديش كرامه كده؟! بس لا، أنا مستحيل أضعف وأسامحه.
أضافت بقهر، وعيناها تغمرهما الدموع: هو هيفضل زي ما هو، مش هيتغير لازم أفوق، سليم هيفضل سليم، بيوعد شوية ويرجع تاني زي الأول.
همست بنبرة مرتعش بتوجس: وبعدين إيه السكينه والهدوء اللي هو فيها دي؟ أنا حاسة إنه ناوي يعمل فيا حاجة، وخايفة منه.
أخذت تنظر حولها بارتباك، تتفحص الأركان كأنها تبحث عن كاميرات أو ميكروفونات مخفية، فجأة، انسابت إلى ذهنها خاطرة، ذكرى قديمة عادت لتطرق بابها.
(فلاش باك)
كانت تجلس مع إيهاب،في الصالة فيبدو أن تلك الجلسة كانت قبل مشكلة نبيلة، وكان معهما مصطفى ونبيلة.
ماسة بفضول: يعني أنا دلوقتي لو عايزة أعرف المكان ده فيه ميكروفونات أو كاميرات، أعمل إيه؟
ابتسم إيهاب وهو يجيبها: في أجهزة معينة بتكشف الحاجات دي، أجهزة استشعار، بس أكيد جوزك بيستخدم تقنيات عالية جدًا، خصوصًا إنك قولتي إن اللي بيشتغل معاه ناس مافيا على مستوى عالي، فمعتقدش إن الكاميرات أو الميكروفونات عنده بجودة متوسطة.
سكت قليلا ثم تابع: بس ممكن تعملي مكالمه وتقربي من الحيطان، الكتب، النجف، أو أى حاجه موجوده في الاوضه، وتشوفي لو في ذبذبات، أو تستعملي كشاف أشعة فوق بنفسجية بعد ما تطفي النور، ساعات بيبان لو في حاجة، وطبعا لو في كاميرا، أكيد هيكون فيها صوت مزروع معاها.
تنهدت ماسة: وأفرض إن الكلام ده مش متوفر؟
إيهاب: يبقى نشتغل يدوي، تبصي على كل حاجه موجوده في الاوضه حتى لو دبدوب أو عروسة خصوصا في عيونه، لأن ممكن يتزرع فيه حاجات، النسبة مش كبيرة إنك تكتشفي، لكن نجرب.
(عادت ماسة من ذكرايتها+
تتنهدت بعمق، ثم نهضت وبدأت تبحث في الغرفة مثلما أرشدها إيهاب: تفحصت كل شيء يملأ المكان، لكن ملامح الإرهاق بانت على وجهها، فقد أنهكتها مطاردة اليوم،وسقوطها في البحر، والسيارة التي كادت تفتك بها، لم تحتمل أكثر، فسقطت على الأرض وهي تبكي من شدة التعب ليس جسدا بل قلبا.
رفعت عينيها إلى السماء والدموع تتلألأ فيها وهنا قالت بصوت حزين مكسور:
يا رب، لو هترجعنا لبعض، خليه يتغير متخليش يحصل لي كده تاني، أنا تعبت والله تعبت، ليه بيحصل فيا كل ده؟ أنا عملت إيه غلط في حياتي؟ أنا بس حبيته، وكنت نفسي نبقى سعداء مع بعض، معملتش فيه حاجة وحشة يا رب، لو هترجعنا لبعض، غيره بس مترجعناش تاني لنفس الوجع يارب، أنا مش قادرة على الابتلاء ده، أنا أضعف من إني أتحمله، أضعف بكتير.
وضعت يدها على قلبها وكأنها تحاول إخراجه من صدرها:
يا رب، خرجه من قلبي وعلمني إزاي أقسى، يا تهديه وترجعه زي زمان.
ابسمت بوجع للحظة، ثم نظرت للأمام وكأن صورة من الماضي انطبعت أمامها، ابتسامتها تلاشت تدريجيا، لتحل محلها دموع وانهيار، وظلت تبكي بحرقة، لا تقوى على الصمود أكثر.
على اتجاه آخر غرفة سليم
جلس سليم على الفراش، والابتسامة تملأ ملامحه، أخيرا وجدها، وأخيرا استطاع أن يتنفس بعد طول انتظار. بينه وبينها باب واحد فقط، مجرد باب قد يفتح غدا أو بعد غد، حتى لو بعد شهور، لا يهم، المهم أنها قريبة منه، وهو لن يتوقف حتى تعود إليه باكملها.
مد يده نحو الكومودينو، تناول أدويته، احتسي القليل من الماء، ثم تمدد على ظهره واضعا يديه خلف رأسه، الابتسامة لا تفارق وجهه، رغم علمه أنها حزينة، ورغم عجزه عن مداواة جرحها حتى الآن، كما يدرك أن الأيام القادمة ستشهد شدا وجذبا، وربما صراعا مريرا بينهما، لكن في داخله يقين راسخ أنه قطع نصف الطريق إليها.
الأجمل من كل شيء أن غيرتها عليه مازالت حاضرة، وقد كانت بالنسبة له الدليل الأكبر على أن حبها لم يمت بعد، كل خفقة في قلبه كانت تقول له أنها مازالت ثابتة بجانبه، وأنها مهما ابتعدت، فإنها لن تفلت من بين يديه.
تخيلها بجواره، نائمة على الفراش، ابتسامتها الطفولية تضيء المكان، اقترب منها في وهمه، مد يده ليحيط جسدها الصغير بذراعيه، همس بصوت دافئ متشبث بالحلم: هتبقي حقيقة يا ماسة، حتى لو بعد شهور، هتبقي هنا، في حضني ومش هسيبك أبدا.
ثم أغمض عينيه، مستسلما لخياله، مبتسمًا وهو يضم الفراغ وكأنه يضمها، حتى غلبه النوم.
منزل نانا.
غرفة النوم الثانية عشر صباحا.
كانت نانا على السرير برفقة عزت، حيث عاشا معا لحظات حميمة، كان عزت ينهال عليها بقبلات متنوعة، مستمتعين بليلة مشحونة بالشغف،
وفي أثناء ذلك، يلمح المشهد شخصا يتسلل خلف الشرفة، يراقبهما عبر الكاميرا؛ يبدو من مظهره رجلا غريبا.
ياتري مين ده !!