
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السادس 6 ج1 بقلم ليله عادل
❀❀༺༻❀✧
العودة (عناق الدم)❞
✧❀༺༻❀✧
في زحام الدنيا، التقت قلوبٌ ذاقت طعم الحب لأول مرة، فارتجف فيها الأمل ارتجاف طفلٍ يتعلّم المشي.وأخرى أنهكها الوجع حتى صارت على حافة الفراق، لا تدري أتمضي في طريقها أم تعود إلى الوراء.وبينهما قلوبٌ حائرة، تائهة بين ما تشتهي وما يُفرض عليها، تبحث عن مرفأ يهبها الطمأنينة، فلا تجده إلا في لحظة صدقٍ عابرة.
الحبُّ موجود دائمًا… لكنّه لا يسكن جميع القلوب بالطريقة نفسها."}
[بعنوان: قلوب تحيا وقلوب تموت]
مدينة سيوه الثامنة مساءً.
في الليل اجتمع أفراد الرحلة في قلب الصحراء، وقد التفوا حول النيران المشتعلة، تتعالى بجانبهم الأغاني العرباوية، بينما راح بعض البدو يرقصون في دائرة مليئة بالحيوية، انتشرت رائحة الشواء في الأجواء، واختلطت بعبق الشاي السيوي الساخن الذي كان يتنقل بين الأيادي، بدا المشهد ساحرًا، بدويًّا خالصًا، يبعث في النفوس الدفء والانبهار.
جلس رشدي إلى جوار مي، فهو لا يعرف في المكان سواها.
رشدي وهو ينظر من حوله: تعرفي إن دي يمكن أول مرة أحضر حفلة بالشكل ده؟
مي وهي تحتسي الشاي: فعلا !
رشدي بتأكيد: أنا لفيت بلاد كتير، يمكن مافيش دولة مازورتهاش، بس الأجواء دي بالتفاصيل دي لا.
مي باستغراب:غريبه يعني عمرك ما عملت خيمه نايت.
رشدي موضحاً: حضرت أكيد مع الشله، بس الفرق إننا كنا احنا اللي عاملين كل حاجة،الشوي، الخيمة، لكن..
قاطعته مي بابتسامة ساخرة: الفرق إن كان فيه خمرة ورقص وأغاني مجنونة صح؟
رشدي ضاحكا: صح.
مي: طب وانت شايف إيه؟ الأجواء دي أحلى ولا بتاعتكم؟
رشدي متنهدا: أنا حاسس إني ملان، بس مش لدرجة أقوم وأمشي، يعني أقدر أتحمل.
سكت قليلًا ثم مال نحوها بلطف: بقولك إيه، ماتيجي نتعرف على بعض بقى.
مي بدهشة: هنتعرف بعض إزاي؟
رشدي: نسأل بعض الأسئلة السخيفة دي .. بتحبي إيه، بتكرهي إيه، بتشربي إيه..
مي ساخرة:عايز تلعبها ليه لما أنت مش مقتنع بيها، وشايفها سخيفه.
رشدي موضحاً: مش حكاية مش مقتنع، بس أنا كنت بتريق على أي حد بيعملها، وبعدين ما هو نعمل أي حاجة بدل الملل.
مي بهدوء: بس ساعات بتجيب نتيجة، بتعرَّف الشخصيات على بعض.
رشدي بنبرة حادة: طب نغير الكتالوج بقى، اسأليني: أكتر حاجة بكرهها، أكتر حاجة بتعصبني، أكتر حاجة ما بحبهاش.
مي ضاحكة: ماشي يا سيدي، قول بقى.
رشدي مبتسما وهو يعد على أصابعه: أكتر أكل مش بحبه القلقاس، وصينية البطاطس باللحمة، والحاجات المسلوقة عمومًا، مش بحب الألوان الفسفورية، عارفاها؟ البرتقالي الفسفوري، الأخضر الفسفوري، الأصفر، بحب الألوان الغامقة زى الأسود أو الرمادي، بكره البني جدًا، مع إني ساعات بلبس منه درجاته التانية زي البيج والكافيه والأوف وايت.
مي: يعني بتكره البني نفسه، لكن درجاته بتحبها.
رشدي متابع: اممم، ومش بحب الهدوء المبالغ فيه، زى إن أفضل قاعد قدام البحر كده وأسرح، ولو حد لسانه طال عليّا، إيدي بتطول تلقائي.
مي بدهشة: يعني ممكن تضرب ستات عادي؟
رشدي مستنكرا وهو يرتشف رشقه من شاي: الراجل اللي يقولك "أنا مبضربش ست عشان أخلاقي متسمحش" ده كذاب، لما تيجي لحظة وتقل أدبها عليه، هيمسكها يضربها غصب عنه.
مي بضر: بس في رجالة بتضرب من غير سبب، وده مرض، مرة صاحبتي جوزها ضربها عشان خبّت منه شاحن التليفون!
رشدي:ده واحد متخلف ملناش علاقة بيه، دول ملناش علاقة بيهم، إنما أنا؟ لأ، مش أي حاجة تستاهل الضرب، أنا بضرب في حالات نادره يعني.
ضحك بعدها وهو يكمل: شوفي، لو أنتِ خدتِي مني الشاحن، هقعد اجري وراكي، مش همد إيدي، وبعدين يعني البنات اللي شبهك الواحد يستحي يضربهم.
مي بدهشة: يستحي؟
رشدي وهو يهز راسه ضاحكا:ليكى حق تندهشي، حتى أنا مستغرب الكلمة طلعت مني إزاي.
ضحكا معا.
ثم غيّر الموضوع: يلا دورك أنتِ بقى، بتكرهي أيه؟
مي بتردد: مش عارفة، يمكن مفيش حاجة بكرهها، بس أنا عكسك، بحب الالوان، مش بحب الدوشة، بحب الهدوء، وأكلتي المفضلة صينية البطاطس.
رشدي مازحًا: طب خلاص، نطلق من دلوقتي أحسن
ده إحنا من البداية مفيش أي حاجة مشتركة.
ضحكت مي لأول مرة بخفة:بس أنا زيك مش بحب اللون البني.
رشدي باسما: أهو كده بدأنا نتفق.
أخذا يتحدثان ويضحكان، ثم انشغلا بلعبة الكوتشينة.
كان رشدي يخمها كالعادة ويحاول إخفاء أوراقه بابتسامة خبيثة.
زفرت مي باعتراض:أنا مش فاهمة أنت بتكسبني إزاي! دي خامس مره.
رشدي ساخرًا: شكلك مش بتعرفي تلعبي.
مي بإصرار: بعرف والله بس أنت اللي شكلك شاطر قوي.
رشدي وهو يرمقها بجدية ممزوجة بالمرح: تصدقي؟ صعبتِي عليا، خلاص هعترف، أنا كنت بخمك.
مي ضاحكة: أخص عليك!
رشدي: خلاص نلعب بضمير المرة دي.
مي وهي تضحك: الظبطه بفورة
رشدي: اتفقنا.
مي بحماس:هصحصحلك
وفعلًا فازت مي، فصفقت بسعادة: فوزت!
جلسا يضحكان، كأن رشدي قد خلع وجهه المعتاد وارتدى آخر أكثر بساطة ومرحًا، وكأن مي ترى للمرة الأولى هذا الجانب المختلف منه.
القاهرة
قصر الراوي
غرفة هبة وياسين الثامنه مساءً
ساد الغرفة صمت خانق، لا يسمع فيه سوى أنفاس هبة المتوترة كانت تتحرك ذهاباً وإيابًا، كأن الدقائق تُثقل صدرها أكثر فأكثر، وعيناها لا تفارق الباب كمن ينتظر انفجاراً.
وفجأة، انفتح الباب دخل ياسين بخطوة واثقة، ممسكاً بهاتفه، وصوته يعلو منسجماً مع لحن يعرفه جيداً:
في جوه قلبي حاجة مستخبية كل أما أجي أقولها فجأة مش بقدر 🎶 والكلمة ديّا فيها عندي راحة بال... حبيتك يوم ماتلاقينا لما حكينا أول كلام 🎶"
كان يغني باندماج كأنه في عالم آخر، يهز رأسه بخفة، وابتسامة عابرة ترتسم على شفتيه.
التفتت هبة نحوه بغتة، نظرتها حادة كالسهم، صوتها يرتجف غضباً: أيوه طبعًا! جاي مبسوط وفرحان، ولا فارق معاك أي حاجة، والتحفة اللي سايبها في البيت دي آخر اهتمامك!
رفع ياسين عينيه إليها لحظة، ثم أشاح بنظره ومضى نحو الخزانة، فتحها بهدوء، وبدأ يفتش بين ثيابه متجاهلاً وجودها.
صاحت هبة وصوتها يعلو مع كل كلمة: أنا بكلمك على فكرة!
استدار نصف استدارة، عينيه ضيقتين وصوته بارد:
عايزة إيه مني يا هبة؟
اقتربت منه خطوة، قبضتاها ترتجفان، وكأنها تحاول كبح دموعها: فايزة هانم النهارده كلمتني بأسلوب اقل مايقال عليه شئ وقح! وبعدين بدل متروح تشتكيني لمامتك، تعال اتكلم معايا، دي أفعال ولاد ناس؟
أغلق ياسين الخزانة فجأة، ثم انحنى بجسده قليلاً حتى صار بمستواها، وصوته صار أكثر حزماً:
أولاً، اسمها والدتك فايزة هانم.
ثانيًا، وطي صوتك وإنتي بتتكلمي معايا، أنا بسمع كويس.
ثالثًا، أنا مروحتش اشتكيت كنت قاعد مخنوق، سألتني: مالك، أكيد مراتك السبب، طلقها؟ وأنا قولت مفيش حاجة.
رابعًا، لما تيجي تتكلمي معايا، تتكلمي باحترام، أنا مش شغال عندك ولا واحد من اللي في المكتب، أنا جوزك.
ارتجف صوت هبة، وعيناها امتلأتا بالدموع: أنت مشوفتش مامتك كلمتني إزاي؟ وهددتني إنها تخليك تطلقني!
ثبت ياسين نظره عليها، ورد بنبره منخفضة لكنها حادة كحد السيف: متخافيش أنا محدش بيخليني أعمل حاجة غير بمزاجي لو عايز أطلقك هطلقك بنفسي ولو مش عايز حتى لو الدنيا اتقلبت مش هطلقك فريحي نفسك.
عاد ليستأنف البحث في ملابسه ببرود، فقالت هبة بحدة: هو أنت هتخرج تاني؟
ياسين وهو يسحب قميصًا: هخرج مع أصحابي ما إنتِ مشغولة دلوقتي في حاجات كتير أهم.
تقدمت أمامه بخطوة، كأنها تسد عليه الطريق، وصوتها يرتفع: ياسين إحنا كده مش هننفع خالص.
ابتسم بسخرية خفيفة وارتفع حاجباه وكأنه يستهزئ: وأنا بقول كده برضه إيه رأيك نروح لثِرابست؟
أطرقت هبة رأسها، وصوتها يتكسر بين الغضب والحزن: لا مروحنا لأي دكتور مش هيفيد، عشان أنا عارفة مشكلتنا، مشكلتنا إني مش عايزة أقعد في القصر ده ولا عايزة ليّا علاقة بأهلك مش قادرة أقبلهم ولما نروح لثِرابست ويسألني: "إيه المشكلة؟" مش هقدر قول له: أن أمك متعنطظه، أختك بتتكلم من مناخيرها، أخوك متحرش، واثنين عايشين في اللا لا لاند، وواحد قتال قتلة، وإني أكتشف إن أهل جوزي عصابه مافيا، وأخوه الزعيم، المشكلة واضحة يا ياسين.
مسح ياسين وجهه بكفه، التعب يغزو ملامحه: هنشوف أي حل تاني، بس ممكن تقولي إنك مش مرتاحة لأهلي، لأسباب تانية غير اللي قولتيها؟
أجابت ببرود، عينيها مثبتة فيه: مفيش حل قولتلك عيلتك خلاص سقطت من نظري من ساعة ماسمعت كل حاجة وفهمت كل حاجة.
خفض ياسين صوته، وكأنه يتوسل:طب يا هبة، انسي أهلي، مش ممكن ندي نفسنا فرصة؟ نحاول نحسن من نفسنا شوية؟! خليكي معايا أنا، انسيهم بعدين هما بعدو عن كل حاجة سبنا الشغل ده من سنين، سليم وقف الشغل ده..
اقترب أكثر وهو يدقق النظرفي ملامحها: هبة، أنا لسه بحبك، صدقيني مشكلتنا مش أهلي حتى وإحنا في الفيلا إنتِ بعيدة مش حاسة إنك بعيده عني؟
هزت هبة رأسها بجمود: لا أنا مش حاسة أنت اللي مش قادر تستوعب إن الجو بتاع الخروجات الرومانسيه، والحاجات دي كانت تنفع وإحنا صغيرين، دلوقتي إحنا كبرنا، عندي مجلة، قناة، وبنت لازم أراعيها كويس، مش فاضية للحاجات دي.
شد ياسين نفسه خطوة للوراء وعينيه تتسعان: 30سنة دي كبرنا! إيه المشكلة لو سافرنا نقضي وقت سوا، انا محتاج ده، محتاج تشاركيني في ده، عايز اقضتى وقت حلو مع مراتي ولا انتِ عايزة أننا نبقى زي اللي على المعاش بيطلع رحله كل سنه وحياتهم أكل ونوم وبس؟!
أجابت ببرود: عايزاك تفهم إن في الحاجات دى دلوقت متنفعش في أولاويات.
ضحك ياسين ضحكة أقرب للمرارة: طب يعني هنروح للثِرابست عشان نصلح علاقتنا ولا لا؟!
هبه بحسم: لا مش هروح، لأنه مش هيفيد بحاجة، إحنا هنكذب عليه مشكلتنا واضحة.
ياسين بضيق وعناد: وأنا مقتنع برضو، إن مشكلتنا مش في القصر، مشكلتنا إنك بقيتي شايفة إن أي وقت نقضيه سوا حاجة تافهة، وإن شغلك والبنت أولى.
قالتها بحدة: ياسين، أكبر بقى، أنت مابقتش صغير.
ابتسم ابتسامة مكسورة: عندك حق أنا بقيت راجل تافه بيحب يخرج ويسافر، وهخرج مع أصحابي، والوقت اللي المفروض أقضيه معاكي، هقضيه معاهم، بس متشتكيش.
انكمشت هبة مكانها، ثم قالت ببرود: اعمل اللي أنت عايزه بس لو سمحت، وقف مامتك عند حدها أنا كنت هرد عليها، بس احتراما ليك معملتش كده.
التفت ياسين وهو يجمع أشياءه، صوته قاطع: ترجعي الفيلا؟
هبه: ارجع.
ياسين وهو ينظر بعيدا: لما ترجعي من السفر ارجعي الفيلا مش أنتِ مسافرة بكرة.
هبه: أيوه هسافر.
نظر إليها نظرة طويلة، ثم قال ساخرًا: تروحي وتيجي، بالسلامة يا روح قلبي، البنت هتفضل هنا متحاوليش تعترضي، هتقعد مع فريدة وباباها، وده اللي عندي، عشان مضطرش أستخدم سلطة العيلة اللي بتكرهيها، وإلا مش هتخرجي من باب القصر بالبنت، ما إحنا مافيا بقى.
ألقى كلماته الأخيرة ببرود قاتل، ثم استدار ودخل المرحاض، تاركًا الباب يغلق خلفه بثقل.
مسحت هبه وجهها بضيق وجلست
بعد وقت
سيارة ياسين التاسعة مساءً
انطلق ياسين بسيارته في شوارع القاهرة الهادئة ليلًا. كان يلف بلا هدف محدد، يستمع لصوت المحرك أكثر من أي موسيقى، لم يرغب أن يسهر مع رشدي ولا أن يعود للأماكن الصاخبة التي اعتادها؛ كان يخشى أن يعتاد عليها أكثر.
ظل يفكر، يضغط على عجلة القيادة بإصبعه، حتى تذكر ما قالته له لوجين عن مكان جميل في زايد، فجأة غير اتجاه السيارة، وقاد بثبات نحو ذلك المكان.
دخل المطعم المفتوح، أشبه بجنينة واسعة، الأشجار تحيط بالمكان، نافورة تتوسطه، وعلى الجانبٍ فرع مائي صغير تتحرك عليه قوارب صغيرة للزينة، الإضاءة خافتة، والموسيقى هادئة.
جلس ياسين وحده، طلب مشروبًا، ثم طبق مكرونة، أخرج هاتفه، التقط بعض الصور، تظاهر بالانشغال، لكنه في الحقيقة أراد فقط أن ينعزل.
وبينما هو مستغرق في وحدته، دخلت لوجين مع مجموعة من صديقاتها ضحكاتهن تملأ المكان، لكنها لمحته قبل أن يلاحظها استأذنت من صديقاتها وتقدمت بخفة حتى وقفت أمامه.
لوجين بابتسامة واسعه: إيه ده؟!
رفع ياسين عينه بتعب: الصبح وبالليل؟ كده كتير هبدأ أزهق منك.
لوجين، ضاحكة: على فكرة المكان ده بتاعنا انت اللي جاي علينا.
عقد ياسين بين حاحبيه مازحاً: بتاعكم إزاي يعني؟
لوجين: مش أنا قايلة لك إن ده مكاني المفضل أنا وصحابتي؟
تبسم ياسين مفسرا: ما هو انتِ مش فاهمة أنا كنت زهقان وعايز أروح في حتة جديدة، افتكرت المكان، قولت أجي أشوفه، فعلا طلع حلو بس مينفعش تخرجي فيه لوحدك، محتاج حد يكون معاكي.
جلست لوجين أمامه مؤكده: أيوه، هو عائلي أنا حتى قولتلك المرة اللي فاتت، روحه أنت ومراتك وبنتك عشان في كيدز إريا ومكان لطيف شكلك بتنسى.
ياسين بضجر: لا أنا كنت عايز مكان جديد الأكل عندهم تحفة المكرونة بتاعتهم جامده أوي.
لوجين: أيوه المكرونة بالخضار صح؟
ياسين: لا بالوايت صوص جميلة أوي.
ضحكت لوجين، ثم أشارت برأسها ناحية صديقاتها: طيب أنا هسيبك بقى هروح أقعد مع صحابي.
ياسين بابتسامة جانبية: خليكي جدعة واقعدي معايا نظر نحو أصدقها الثلاث: هاتيهم معانا.
اتسعت عينا لوجين بتعجب: أجيبهم يقعدوا معاك؟
هز ياسين رأسه مبتسماً بتأكيد: آه إيه المشكلة؟ حتى أحس إني هارون الرشيد وأنا قاعد معايا بنات زي القمر.
لوجين بتعجب: مش بحس فيك الطبع ده.
ياسين مازحاً: لا أنا زمان كنت شقي بس أنا دلوقتي "مخلص سيكا".
لوجين، ضاحكة: حلوة "مخلص سيكا" دي شكلك متضايق، خناقة جديدة؟
ياسين بتنهيده: مش عايز أتكلم.
زمت لوجين شفتيها بضيق: طب ليه مردتش على موضوع "الطبيب النفسي"؟
ياسين بضجر: رفضت رفض تام وغيري الموضوع، هاتي أصحابك وتعالوا ولا أقولك، أنا مش حابب المكان هنا إيه رأيك نروح مكان تاني؟ أنا هعزمكم.
لوجين بهدوء: استنى أعرض عليهم الأول.
توجهت لوجين لصديقاتها، وبعد لحظات عادت بابتسامة، البنات الثلاث وافقوا، جاؤا معها وسلّموا على ياسين.
انتقلوا جميعًا إلى مكان آخر على النيل؛ ليس نايت صريح، لكنه مكان صاخب، فيه رقص، مشروبات، موسيقى عالية، وأجواء مليئة بالحياة، انضم بعض أصدقاء ياسين هناك، فكبرت الشلة.
جلسوا معًا يلعبون ألعابًا كثيرة؛ كاريوكي يصرخون فيه بأصوات مزعجة جعلتهم ينفجرون بالضحك، لعبة الأغنية وتكملتها، حتى الكوتشينة، مرّ الليل سريعًا وسط الضحكات، الرقص، والأغاني، وياسين لأول مرة منذ فترة شعر أنه يتنفس بعيدًا عن كل مشاكله.
بعد ساعات طويلة من اللعب والضحك والموسيقى، خرجت المجموعة إلى التراس العالي المطل على النيل، النسيم البارد يلفح وجوههم، والأضواء تنعكس على سطح الماء، تقدمت لوجين ناحية السور، بدت عليها علامات الدوخة، فتوقفت لحظة، تستند بيدها.
اقترب منها ياسين فورًا، وقف بجوارها، يراقبها بقلق:
ياسين: إنتِ كويسة؟
لوجين وهي تلتقط أنفاسها: أيوه بس حاسة إني دايخة شوية.
أمسكها ياسين من كتفها ليسندها، نظر في عينيها بابتسامة مطمئنة: هو أنا بس اللي شايف إن اليوم ده تحفة؟
ضحكت لوجين بخفوت: لا والله تحفة بجد، أول مره اجي هنا، كويس إني شوفتك يا رب أشوفك على طول.
ياسين بلطف: والله أنا اللي مبسوط إنكوا وافقتوا تيجوا معايا أكيد اليوم مكانش هيبقى حلو كده لو مجيتوش طب فوقتي ولا لسه؟
هزت لوجين رأسها بخفة: آه فوقت.
ياسين: مع إنك ماشربتيش خالص.
مدت لوجين شفتيها: مش يمكن من الرقص واللعب اللي جوه؟ حسيت إني تعبت شوية، هو أنا ممكن بكره آخد أجازة.
ياسين بابتسامه: خدي أجازة، تستاهلي.
صمت للحظة نظر لها، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة: بقولك إيه؟! إيه رأيك بما إن النهارده؟ عجبك وانبسطتي كده؟ نعيد اليوم ده تاني أو كل اسبوع نلم الشله نخرج تكون جامده زي دي.
لوجين، بحماس: أنا موافقة جدًا.
الإسكندرية
احد الحدائق الثالثة مساءً
كانت ماسة جالسة في الجنينـة المطلة على البحر، أمامها علبة الطعام بلاستك، التي أعدتها من الصباح، النسيم كان من حولها عليل، وهدوء المكان يبعث شيئًا من السكينة في قلبها، لم يطل انتظارها كثيرًا، إذ ظهر مصطفى بخطوات واثقة، بعد ما قامت بالاتصال به لكي يأتي ليتناولوا الغداء سويا عند الشاطىء، كان يرتدي مصطفي قميص أبيض وبنطالًا أنيقًا، ونظارته الشمسية تزيد من وسامته ابتسمت له فورًا ولوحت بيدها.
مصطفى بنبرة مرحه:السلام عليكم، عامله ايه يا بنت خالتي.
رفعت ماسة راسها وردت بنبره أكثر مرحا: وعليكم السلام، الحمد لله يا ابن خالتي.
مصطفى وينظر من حوله: بس اشمعنا هنا.
رفعت ماسة كتفها: تغير ، تعالى أنا مستنياك عشان ناكل سوا.
جلس مصطفى بجوارها، بمسافة معقوله وبينهما وضعت الطعام فتحت العلبة وأخرجت ساندويتش، ثم مدت إليه قطعة مخلل.
ماسة بحماس: خد المخلل ده، وقول لي إيه رأيك.
مصطفى وهو يتذوق: طعمه حلو اوي، جبتيه منين ده؟
ماسة بابتسامة: أنا اللي عاملاه، عملتلكم برطمان بس قولت اخد رأيك الأول.
مصطفى بدهشة بنبرة مزاحه: بتسأليني أنا ليه يعني؟ فار تجار
ماسة بخجل: لاء، بحس أنا مبتكسفش منك زيهم، يعنى مثلاً لما أعمل حاجة جديدة، وأول مرة أقدمهالكم، بحب أخد رأيك أنت الأول.
خلع مصطفى نظارته: ده بقى على أساس إن أنا أكتر حد قريب منك يعني؟
ماسة بحزم: آه طبعًا، عندك شك في كده؟
لم يُجيب مصطفى، بل اكتفى بتناول ساندويتش آخر، بينما نظرت له ماسة باستغراب.
ماسة:طب والصمت دى بيدل عن أيه؟
مصطفى بعتاب لطيف: يدل على إن لو فعلًا أنا أقربهم ليكي زى ما بتقولى، كنتي وقت ماتتضايقي، المفروض تتصلي تقولي لي "أنا متضايقة يا مصطفى، تعال نتكلم سوا".
ماسة بتوضيح: والله مافكرتش كده، أنا خدت بعضي ومشيت كنت مخنوقه.
مصطفى بغيرة مبطنه: حتى لو، كان المفروض تحكي لي أنا الأول قبل إيهاب، وحتى لو مش هتحكي على الأقل تعرفيني لأن فعلاً قلقت عليكي.
ماسة بتفسير قالت ببراءه: الموضوع مش كده أنا شفته صدفة فحكيت..
اضافت وهي تبتسم: فكرتني بسلوى كانت بتعمل زيك كدة لما، اتكلم مع عمار في موضوع قبلها، بتزعل..
عدل مصطفي جسده في زوايتها باهتمام: طب قولي لي إيه اللي كان مزعلك امبارح.
تنهدت ماسة قليلًا ثم قالت:بص يا سيدي، وأنا قاعدة كده فتحت الموبايل قولت أشوف سليم منزل حاجة على الفيسبوك ولا لا ..
ثم اخذت تسرد ماسة لمصطفى تفاصيل ماحدث، كيف اجتاحتها الذكريات، وبللت الدموع وجنتيها، وذلك الطيف، وكيف جلست منذ الواحدة ظهرًا حتى الخامسة مساءً على البحر وهي لا تشعر بالوقت.
تنهد مصطفى وهو يضع الساندويتش برفق جانبًا، ناظرًا لها باهتمام: بصي يا ماسة أنا فاهمك وحاسس بيكي، وده شيء طبيعي، وأكيد دي أول مرة تفتحي صور ليه بعد هروبك صح؟
هزت رأسها بالإيجاب ببطء، ويداها تعبثان بلا وعي في طرف العلبة أمامها، فتابع مصطفى بنفس النبرة الهادئة:وعشان كده طبيعي المشاعر واللخبطة اللي إنتِ فيها، طبيعي تحسي إنك مشتاقة له وفي نفس الوقت متعصبة ومش حابه الشوق دي، اللي بينكم مكانش عادي، كان حب كبير وعشرة عشر سنين، ومعظمها كانت أيام سعيدة، المشاكل مبدأتش غير بعد الحادثة وبشوية كمان، يعني مش من الأول، فمشاعرك دي كلها طبيعية اللخبطة اللي جواكي بين: أنا كارهة أنا حابة، أنا عايزة أرجع انا مشتاقه، دي كلها انعكاس طبيعي بس أنا قولتلك قبل كده، مش دي اللي تستاهل توقفي حياتك عشانه في حاجات أهم.
هبطت ماسة برأسها لأسفل، وصوتها يرتجف، بعين دامعة: بس أنا مستغربة إزاي بعد كل اللي عمله فيا، لسه بحس كده؟
صمتت لحظة، وكأن المشهد يرتسم أمامها من جديد، ودموعها غلبتها بنبرة موجوعه:أنت متعرفش هو عمل فيا إيه في الليلة اللي أنا قابلتك فيها مهما قولتلك مش هعرف أوصف.
ظل مصطفى يراقبها لحظة، ثم هز رأسه بهدوء وهو يحاول أن يبدو متماسكًا رغم غصة صوته:مش محتاجة تحكي، يومها ملامح وشك قالت كل حاجة، العلامات اللي على جسمك، نظرة عينيك، صوتك وإنتي بتحكي، الألم اللي كان باين من غير كلام.
ثم ركز النظر في ملامحها، وتباع بعقلانية: بصي يا ماسة، أنتِ ممكن تكوني لسه بتحبيه؟! وده مش عيب، بس لازم تفهمي حاجة، مش كل الناس اللي بنحبهم ينفع نعيش معاهم.
ابتسم بخفة مرة، ثم تابع على نفس ذات الوتيرة: يعني ممكن اتنين بيحبوا بعض، وبيشوفوا في بعض حاجات كتير تأهلهم لخطوة الجواز. بس وجودهم في بيت واحد بيبقي دمار، وهو ده بالظبط اللي حصل بينك وبين سليم، وبيني وبين ندى، الحب ممكن يكون صادق، لكن القرب والعيشه تحت سقف واحد، ساعات بتبقى سُم.
نظرت إليه ماسة بعينين دامعتين، وصوتها مخنوق: طب وإحنا؟ هنعيش إزاي؟ مش هنستقر ونبقى عاديين زي الناس؟ هو لازم أعيش موجوعة! عشان نصيبي إني أحب واحد مش طبيعي في حبه؟
أخذ مصطفى نفسًا عميقًا، ونظر في البحر قبل أن يعود إليها بعينٍ ثابتة:
أنتِ مش هتبقي بخير غير لما تمسكي ورقة طلاقك بإيدك، ساعتها هتحسي بالأمان، وده أهم حاجة إنتي محتاجاها دلوقتي"الأمان"مش الحب، لما تلاقي الأمان هتعرفي تفكري صح ساعتها هتقدري تشوفي الأمور بوضوح، هل ترجعي لسليم وتسامحيه؟ أو تكملي في حياتك من غيره!؟
ترددت ماسة لحظة، ثم تمتمت بصوت متحشرج وهي تبحث عن عينيه: طب وأنت شايف أيه الصح اللي عمله؟ لأني محتارة ومش عارفه أخد أى قرار في الحرب اللى دايرة بين قلبي وعقلي.
زم مصطفى شفتيه وهو يلتقط قطعة صغيرة من الساندوتش يمضغها ببطء وهو ينظر لامتداد البحر أمامه، وكأنه يشتري وقت للتفكير.
ثم عاد بعينيه إلى ماسة: في حب بيأذي، وبيهد، أنتِ قولتيها قبل كده حب سليم أذاكي، زي ماحب ندى أذاني.
أطرقت ماسة رأسها لأسفل، وصوتها خرج متكسر، متردد بين القوة والانكسار: أنا قولت له امبارح، أقصد لما كان بيظهرلي كطيف، حتى لو بحبك مش هرجع.
ثم رفعت عينيها لمصطفى للحظة، وعيونها مليئه بالوجع والدموع المحبوسة، ثم انهارت دمعتين على خديها بلا مقاومة، وقالت بنبرة مليئه بالضعف: بس أنا نفسي أرتاح يا مصطفى، نفسي أنام من غير ماحلم بيه، من غير مافكر فيه، نفسي يعدي يوم كده من غير ما لحظة من لحظاته تيجي في دماغي، حتى لو مش بقولها بلساني، بس بمجرد مأقعد لوحدي أسأل نفسي: يا ترى هو فين؟ هيعمل فيا إيه؟ هيعمل في أهلي إيه؟ أهله ممكن يعملوا فيا إيه؟ هيعملوا فيكم إيه؟ أسئلة كتير مابتسيبنيش،وأكتر سؤال بيقتلني أنا عملت إيه غلط عشان أستاهل إن يحصل معايا كل ده؟
أطرق مصطفى برأسه للحظة، ثم تنفس بعمق، وتابع بهدوء وعقلانية: حياتنا لازم تعدي بصعوبات عشان نحس بطعمها وقيمتها، دي رحلة، فيها السهل والصعب والمستحيل، فيها الوجع وفيها الفرح، عمرك ماهتحسي بطعم السعادة والراحة والأمان غير لما تعدي برحلة زي اللي إنتي فيها دلوقتي.
رفعت ماسة عينيها الدامعتين بانكسار: الرحلة دي دمرتني.
ابتسم مصطفى ابتسامة صغيرة باهتة، وصوته خرج حنون لكنه بدعم وتشجيع: بس هتبنيكي تاني، عمرك يا ماسة مكنتي هتبقي بالقوة دي من غير كل اللي عديتي بيه، البنت البسيطة اللي بتقول حاضر ونعم وتصدق أي حاجة اتغيرت بقت اقوى، أنا متأكد حتى لو سليم وصلك، مش هترجعي زي ما كنتي، هتواجهيه، بس هتواجهيه بعقل مش بعند، ودي حاجة جديدة.
مسحت ماسة دموعها بظهر كفها، وحدقت بعيدًا نحو البحر كأنها تحاول أن ترى فيه ذاتها الجديدة ثم عادت بصوت أقرب إلى الاعتراف:
انا مش هنكر، إني كبرت واتعلمت كتير في الفترة الأخيرة، ولما اشتغلت واتعاملت مع ناس كتير غير سليم وبرا دايره حمايته، أنا بقيت أقوى ، وبقيت أعرف أتعامل وأرد.
رفعت عينيها نحوه وتابعت بصدق ممزوج بالخوف: بس صدقني يا مصطفى، مشكلتي عمرها ما كانت مع الناس، مشكلتي إني كان ملوي دراعي بأهلي، كأنهم حاطين جنزير في رقبتي ورابطيني بيه، والله العظيم لولا تهديدهم ليا باهلي كنت عرفت اتعامل، بس أنا خوفت لأني شفت بعيني كانوا هيسموا أختي، وضرب بابا بالعربية، وكانوا هيموتوا يوسف.
صمتت للحظات ثم تابعت بوجع: ساعات بحس إني لسه زي ما أنا لسه بخاف وساعات تانيه بحس إني قوية،
هزت رأسها بضعف وقالت وخوف دموع تسيل على وجهها: بس الحقيقة؟ أنا مش قوية، أنا ضعيفة ومكسورة، واللي كسرني كان الراجل الوحيد اللي حبيته وكان بالنسبالي معني كلمة (أمان)، ومن ساعتها أنا ظهري اتكسر والخوف بقي جزء منى.
مال مصطفى برأسه وهو ينظر في عينيها متسائلا: حتى دلوقت لسه خايفه، أمال أنا فين بقى؟
مسحت ماسة دموعها بسرعة، ابتسمت بتعجب: أنت؟!
رفع مصطفى حاجبيه بابتسامة قال بنبرة مازحه: إيه إنتِ دي؟! أنت مستضعفاني ولا إيه؟ لااااا بقولك إيه ماتستضعفنيشي.
فضحكا معا على آخر كلمه وهو يقلدها
ثم تابع هو يركز النظر في عينيها بنبرة مليئه بطمئنينه:
أنتِ زمان كنتي لوحدك بس أنا دلوقتي معاكي، ماتقلقيش، أنا جنبك.
تبسمت ماسة: والله يا مصطفي يمكن اللي مهون عليا ومطمني شوية هو وجودكم كلكم جمبي، وأتمنى أنتم كمان متخذلش فيكم زى ما اتخذلت في سليم.
مصطفى بوعد: مستحيل اخذلك ده وعد.
ابتسمت ماسه بامتنان، وقربت العلبه تجاه مصطفى بابتسامة دافئة وقالت: كل بقى، علشان مش عايزه اتاخر وممدوح يوجع لي دماغي .
مد مصطفى يده سريعًا، وتناول ساندوتش وهو يضحك قائلاً: بس تسلم ايدك الأكل طعمه تحفه
قالت ماسة بنبره حذرة:على فكرة ندى كلمتني تاني، وأنا بحاول اتهرب منها، مش عارفه اقولها ايه؟
رفع مصطفى حاجبه بجدية: ولا حاجه، خليكي زي ما انت، ولو لقيتيها بتلح كتير، قوليها متدخلنيش في حوارات مع مصطفى، وحلوا مشاكلكم مع بعض بعيد عني.
اكملا تناول الغداء، وهما يتبادلون الاحاديث المختلفه عن العمل والامور المختلفه ايضا، ثم عادوا مره اخرى الى المركز لكي يكملوا عملهم حتى 8:00 مساء.
منزل مصطفى الثامنه مساء
الصالة
في الداخل، كان إيهاب جالسًا، وإلى جواره عائشة، أما نبيلة فرفعت نظرها إليهما فور دخولهما، ارتسمت على ملامحها ابتسامة باهتة، لكن في عينيها ومضة ضيق.
مصطفى: السلام عليكم
الجميع في صوت متقارب: وعليكم السلام .
وضع مصطفى الكيس على الطاولة ضاحكًا: جبنا معانا درة مشويّة.
ابتسمت عائشة، بينما التفتت ماسة بعد أن سلمت قائلة: أنا هطلع فوق أغير وأرتاح شوية.
أوقفها مصطفى بلطف، وهو يرفع حاجبيه: ليه يا بنتي؟ خليكِي معانا، بكرة أجازة، تعالي نقعد ونسهر ونتفرج على فيلم.
ماسة بصوت هادئ: محتاجة أرتاح شوية.
في تلك اللحظة، تحركت نبيلة بسرعة لتقطع الموقف قبل أن يتدخّل أحد آخر: سيبوها يا ولاد ترتاح دي أكيد وقفة طول اليوم على حيلها.
كان تعليقها محمّلًا بما يشبه التبرير، لكن ماسة أكدت: آه، بالظبط كده.
لم يقتنع مصطفى ، ونظر إلى ماسة وأشار بيده: لا يا ماسة، مافيش الكلام ده، غيري هدومك وانزلي اقعدي معانا.
قبل أن ترد ماسة التي بدي عليها الموافقه، تدخلت نبيلة بلهجة أكثر حدّة بعض الشيء: ماتسيبها براحتها يا مصطفى.
أدار وجهه إليها مستغربًا، صمت لحظة، لكن ماسة لم تنتبه لطريقة نبيلة؛ فكان يبدو عليها أنها لا تريدها أن تجلس معهم.
ماسة: أنا فعلا محتاجه ارتاح يا مصطفى، بكره بقى نتقابل لسلام عليكم
تركهم وخرجت للخارج وصعدت بخطوات سريعة إلى شقتها.
مصطفى نظر لأمه متعجباً: في ايه يا ماما؟!
نبيلة وهي تنظر أمامها: في ايه يا مصطفى البنت تعبانه لما بترجع متاخر، كده بتبقى حيلها مهدود سيبها ترتاح، هروح احضرلك العشا.
نهضت وتوجهت الى المطبخ بينما جلس مصطفى بجانب عائشه متسائلا: هي مالها؟!
مدت عائشه وجهها: معرفش؟!
مصطفى بشك: مش ملاحظين إن هي مكانتش عايزه ماسة تقعد.
إيهاب مستنكرا: أمك دلوقتي عندها أفكار عجيبه فاكراني معجب بيها.
مصطفى متعجباً: أنت كمان
اتسعت عين عائشه بتعجب: ايه ده هي كلمتك أنت كمان في الموضوع؟؟
مصطفى: اه بس من فتره قبل منعرف حقيقتها.
إيهاب: ربنا يهديها.
في اليوم التالي
لم تتلقي ماسة الاتصال المعتاد من نبيلة الذي كانت تنتظره كل صباح إجازة لتتناول الفطور معهم، شعرت بالحرج أن تنزل دون دعوة، حتى رنّ هاتفها، وكان إيهاب وهو يقول: يلا انزلي، عشان تكلمى والدتك.
نزلت ماسه بهدوء، فوجدت في الصالة عائشة ومصطفى فقط، بينما كانت نبيلة غائبة، سلّمت بخجل وجلست.
ماسة: إزيكم عاملين إيه؟ ماما نبيلة فين؟
مصطفى بابتسامة خفيفة: عند خالتو، تعالي اقعدي.
جلست ماسه، ثم التفتت إلى عائشة: عاملة إيه مع محمد؟
ابتسمت عائشة: الحمد لله، كويسة.
في هذه الأثناء، جاء إيهاب وجلس على الأريكة، يحمل اللاب توب وهاتفين، وجعل ماسة تجلس بجانبه. بدا أنه يُحَضِّر المكالمة التي كان مُحَضَّر لها مسبقًا، وبالفعل بدأت ماسة في التحدث مع جميع أفراد عائلتها، وتبادلت معهم بعض الكلمات القصيرة، أنهت المكالمة بدموع مبهجة وهي تهمس:
خلاص ماشي يا ماما، حاضر يا حبيبتي، خدي بالك من نفسك، ما تقلقيش عليا، ماشي سلام.
مسحت دموعها وهي تتنهد براحه وتقول: الحمد لله، كويسين.
ربتت عائشة على ظهرها بحنان وهي متأثرة: وأنتِ كل مرة هتكلميهم هتفضلي تعيطي كده وتزعلي.
ماسة بتنهيدة مختلطة بالحزن: اعمل إيه؟! وحشوني جدًا إحساس صعب بجد ربنا ما يكتبه على حد الله يسامحك يا سليم.
في تلك اللحظة، فُتح الباب ودخلت نبيلة، ما أن رأت ماسه جالسة وسطهم بشعرها وملابسها البيتية العادية، حتى تغيّر وجهها، وانكمشت نظرتها بضيق خفي.
نبيلة بصوت مرتفع: السلام عليكم.
رد الجميع: وعليكم السلام.
مصطفى مبتسمًا: خالتو عاملة إيه؟
نبيلة: الحمد لله، ابقي روح زورها، بقالك كتير ماشفتهاش.
مصطفى: إن شاء الله هروح أزورهم قريب.
ثم التفتت نبيلة نحو ماسه ببرود: إزيك يا ماسه؟ عاملة إيه؟
ماسة بابتسامة باهتة: تمام الحمد لله، أنا طالعة فوق.
اعترضت عائشة بسرعة: إيه يا بنتي، عليكِ عفريت؟ كل شوية تطلعي فوق! اقعدي معانا شوية، هتقعدي لوحدك ليه؟
ماسه بابتسامة خجولة: عادي يعني.
لكن نبيلة قاطعتها بحدة: ماتسيبوها على راحتها يمكن وراها حاجة، مش كدة يا ماسة؟!
تبادل الجميع النظرات، فهذه هي المرة الثانية التي تتدخل فيها نبيلة بنفس الطريقة.
ماسة التي شعرت بالاحراج وفهمت قالت: اها فعلا ، هطلع أرتب الشقة وأغسل شوية غسيل، وهعمل ماسكات، ابقي تعالي يا شوشو نتفرج على فيلم وناكل فشار.
عائشة بابتسامة: ماشي أخلص شوية مذاكرة وأطلعلك.
ابتسمت ماسه شاكرة: عن إذنكم، ماما نبيلة، أنا عملت مخلل هيعجبك.
نبيلة ببرود: تسلم إيدك يا حبيبتي.
صعدت ماسه بخطوات مترددة، وأغلقت الباب خلفها وهي تهمس بقلق: ليه بتعاملني كده؟ أنا عملت حاجة غلط؟ لازم أسأل مصطفى.؟!
على اتجاه آخر.
اقترب مصطفى من نبيلة متسائلًا بلهجة جادة: ماما في إيه؟ دي مش أول مرة، امبارح عملتي نفس الطريقة، متطرديها أحسن!
التفتت نحوه بحدة: أنت بتتخلق عليا؟
هز مصطفى رأسه ضاغطًا على نفسه: لا أنا عايز أفهم أنتِ بتكلميها كده ليه؟ مش أول مرة!
تدخلت عائشة في الحوار بنبرة اعتراض: أيوه يا ماما، ده حتى امبارح، والله أنا حسيت إنك نفسك تقولها امشي ومتجيش هنا تاني بس مكسوفه.
وأكمل إيهاب بهدوء: فعلاً يا ماما أنا كمان حسيت، هي عملت لك إيه؟
أخذت نبيلة نفسًا عميقًا، ثم قالت بصرامة: هي معملتش حاجة، بس مش عاجبني الوضع، إزاي تخشوا عليها كده؟ قاعدين شباب وهي لوحدها!
مصطفى هز رأسه بغضب: إيه يا ماما اللي بتقوليه؟ وبعدين عائشة قاعدة!
لكن نبيلة رفعت صوتها أكثر: أنا مش مرتاحة! أنت قولت لي مبتحبهاش، وإيهاب قال مبيحبهاش، بس أنا متأكدة قلبكم ميال لها، وأنا مش هقبل بالوضع ده! دي ست متجوزه، وعيب يبقي في بينكم وبين بعض كلام.
تنفس مصطفى بتعب، مسندًا ظهره للكرسي وهو يزفر: نفس الموضوع تاني؟
هزت نبيلة رأسها بضجر، عينيها مليئتان بالشك: ثاني وثالث ورابع وعاشر، أنت مش بتشوف نفسك وأنت جاي وراها عامل إزاي؟ ولما زعلت لما إيهاب خرج معاها؟
وجهت نظراتها لإبهاب: ولا إيهاب اللي فجأة سامحها مجرد مراحت له برغم إن أحنا فضلنا قد كده نكلمه؟! كمان بقى يجيب هدايا ويهتم بيها؟ إيه ده؟
وقف إيهاب واقترب نحوها، وقال بصوت هادئ لكنه مكبوت بالغضب: ماما أنتِ عقلك كبير، أنا قولتل ك قبل كده هي زي أختي بالظبط، زي عائشة إيه اللي حضرتك بتعمليه ده؟ وبعدين هدايا ايه ده عشان التليفون اللي جبته من زمان ولا عشان العقد اللي بالصدف اللي بيتباع ب 2 جنيه، وسامحتها بعد كلامكم وكلامها غلطت إني قبلت وسمحتها؟!، وايه المشكله لما اقف معاها واخليها تكلم اهلها مادام أنا قادر على ده، وحتى لو في مشاعر، مني أو من مصطفى زي ماحضرتك بتقولي؟! هي ذنبها إيه؟
رفعت نبيلة يديها بارتباك، وصوتها امتزج بالخوف والعناد: هي مذنبهاش حاجة، بس أنا لازم اخاف على عيالي وأقطع أي شر قبل ما ييجي، أقطع أي حاجة ممكن تجيبلي مشاكل، دي حاجة حرام، وربنا قال: اجتنبوا الشبهات، مينفعش أمشي في طريق غلط وأرجع أعيط في الآخر، مينفعش احط البنزين جنب النار أنتم رجاله وهي ست وحلوه وفيها الطمع لما الناس تشوفكم طالعين ونازلين معاها، لما تقفوا معاها لوحدكم في البلكونات، هو احنا اتربينا كده؟! لازم نحط حدود الصح مبيزعلش.
نظرت عائشة إليها بدهشة، وحاجبها مرفوع: يعني أنتِ مش عايزاها تيجي هنا تاني؟
ضغطت نبيلة يديها في بعضها، وعينيها مليئتان بالقلق، وصوتها يرتجف قليلًا: لأ هتيجي طول ما إخواتك مش موجودين، وإنتم لو موجودين الكلام يبقى خفيف، لكن اللي بيحصل ده مش هينفع، أنا دلوقتي بمنع كارثة يمكن دلوقتي مافيش حاجة، بس بعدين واضح إنها هتبقى فيه؟!
زادت نظرتها الغاضبه تابعت بحده شديده:
أنتم الاتنين ممكن تحبوا واحدة متجوزة، وجوزها مش أي حد؟ أنا أعمل إيه ساعتها؟
استنى لما أخسر عيالي اللي تعبت سنين عشانهم؟
لا، من دلوقتي أنا هقطعها بإيدي واظن ده ميزعلش، جبتها يا مصطفى وقولت نساعدها قولتل ك البنت صعبت عليا، ولما حكت قصتها صعبت عليا أكتر، بس مهما كان، عمري ما هخليها تصعب عليا أكتر من ولادي، ولادي عندي أهم، ولو ماسة هتجيبلي مشاكل، يبقى هي في حالها وإحنا في حالنا.
ساد صمت ثقيل المكان، وكان نَفَسها الثقيل يقطع الأجواء، كأنه صدى خوفها.
نظر لها ايهاب بصدمه قال: أنا مندهش منك ده أنت أكتر واحده كنتي بتدافعي عنها دلوقتي ماسة بقت شر وهتعمل مشكله بيني وبين أخويا وكلامك العجيب ده؟! الله يهديكي يا امي بجد مش عارف اقول لك ايه
شد مصطفى نفسه للأمام، وبان عليه الضيق، وزفر بصوت مليء بالتوتر:
ماما أنا مش مصدقك ومش هدخل معاكي في جدال على أوهامك، اللي بتقولي ده مش موجود غير في دماغك وأنتِ كده بتشكي حتى في تربيتك لينا.
رفعت نبيلة يديها بعصبية، وعيناها تتأرجح بين الخوف والانفعال، وصوتها امتزج بالخوف والحرص:
القلب يا حبيبي، مش بيمشي بالقوانين، أنا خايفة عليكم، اللي بشوفه مش مريحني.
شدَّ مصطفى قامته أكثر، وتوترت ملامحه حتى بدا كأن صبره أوشك أن ينفد، وثبت عينيه في عيني أمه وقال بصوت يتهدج بالغضب المكبوت:
وأنا بقول لك هي بالنسبه لي اختي تصدقي بقى ماتصدقيش براحتك
تنفّس بعمق وزفر الهواء بقوة، ثم هز رأسه بحسرة :
أمي أرجوكِ اهدي اللي بتعمليه ده غلط وعيب، ماسة هتيجي في أي وقت، هي مالهاش حد غيرنا خصوصا أنا، أنا استحاله اخذلها.
ظل إيهاب ساكت طوال الوقت، ثم خرج صوته هادئًا لكن فيه وجع: يا أمي، مع احترامي، أنتِ كده بتظلميها، ماسة زي أختنا بالضبط، إيه ذنبها تسمع الكلام ده أو تحس إننا مش عايزينها؟ ده حرام.
مالت عائشة للأمام، وبصت لأمها بجدية وقالت: فعلاً يا ماما ماسة عمرها ما عملت لنا حاجة وحشة، بالعكس بتعاملنا كلنا بحب أخوي حتى لما بتتكلم مع إيهاب أو مصطفى مبتعديش حدودها حتى مفيش سلام بالايد، لو أنتِ خايفة عليهم من الشيطان، طيب، ماهو الشيطان شاطر برضه يخليكي تظلمي حد بريء.
نظرت لهم نبيلة بعين مليئ بالخوف: أنا بحميكم من نفسكم، البنت زي القمر، وأخلاقها عالية، وأي راجل يتمناها، أنا مش هقبل يحصل بينكم أي حاجة غلط.
جز مصطفى على أسنانه اصبح لا يتحمل حديث نبيله، رفع صوته ، وعينه مليئ بالحزم:
كفاية بقى! أنا وعدت ماسة إننا هنبقى أهلها وسندها ومش هقبل أي حد يكسرها، حتى لو أنتِ يا ماما لو هتعملي كده تاني، أنا هزعل منك جدًا ولو سمحتي بلاش طريقتك دي.
تركهم مصطفى، ودخل إلى غرفته بعصبية، وأغلق الباب خلفه بقوة، فاهتزّ البيت للحظة.
اقترب إيهاب ومرّر يده على رأسه بضيق، ثم قال بلهجة متوترة: أنتِ كسرتي بخاطرها لو عندك قلق أو شكوك، كلمينا إحنا بينا وبين بعض لكن إنك تقولي لها اطلعي فوق وسبوها، صوتك واضح إنك مش عايزاها.
نهضت عائشة وقالت بهدوء: أنا هطلع أقعد معاها عشان متحسش إنها لوحدها، ماسة متستاهلش الزعل ده.
وضعت نبيلة يدها على صدرها، وجلست وعيناها تلمعان بالدموع، وصوتها يخرج مرتجفًا: أنا خايفة عليكم يا ولاد، خايفة من حاجة تحصل وتضيعكم.
اعتدل إيهاب في وقفته، ونظر إلى أمه بثبات، وقال بنبرة هادئة لكن حاسمة: الخوف مش كده يا أمي، اللي بتعمليه ده بيكسر بدل مايحمي ربنا يهديكي.
قصر الراوي
السفرة السابعة مساءً
اجتمع عزّت وفايزة ومنى وطه وفريدة وإبراهيم حول مائدة العشاء الكبيرة، يسود المكان جو من الرسميّة الثقيلة، أصوات الملاعق على الأطباق كانت هي الوحيدة التي تكسر الصمت بين الحين والآخر.
دخلت صافيناز بخطوات مترددة، تحمل شيئًا من التحدي في عينيها، وقبل أن تسحب كرسيًّا لتجلس، ارتفع صوت عزت، ناظرًا إليها بحدة.
عزت بشدة: إنتِ ناوية تعملي إيه؟
توقفت صافيناز لحظة، ثم قالت ببرود مصطنع:
هقعد على العشا يا بابي.
التفت عزت نحو فايزة، رفع حاجبه مستفهمًا:
إيه يا فوفتي، ماقولتيلهاش على الشروط ولا إيه؟
فايزة بهدوء: قولتلها يا عزت
صافيناز، بضحكة قصيرة متهكمة: هو إنتم بتتكلموا جد ولا إيه؟
شبك عزت يديه معًا وهو يحدق فيها بنظرة صارمة:
أيوه، بنتكلم بجد ولو فضلتي بنفس الطريقة، هتنقلي من اوضه الضيوف اللي فوق، وهتقعدى في الاستراحة برا.
حاولت صافيناز التماسك، لكن نبرة الاحتجاج ظهرت في صوتها: أنا عملت إيه لكل دى؟ أنا مغلطتش لوحدي!
هنا ضرب عزت بكفه على الطاولة بقوة جعلت الأطباق ترتجف: كلمة كمان يا صافيناز وهأمر إن شنطك تتنقل دلوقتي حالاً على الـجست هاوس إنتِ وأولادك.
ساد صمت ثقيل، لم يتجرأ أحد على التعليق.
رفعت صافيناز نظرها إليهم جميعًا، عينيها تلمعان بالغضب والمرارة:
مفيش حد فيكوا قادر يقول كلمة، تمام إنتم هتفضلوا ملايكة، وأنا اللي هدفع الثمن، ماشي أنا قابلة بالوضع المهين ده دلوقتي، بس يرجع سليم وساعتها نشوف، محدش ينسي كلنا أيدينا متلوثه.
تركت الكرسي، وابتعدت عن المائدة بخطوات سريعة،
ساد الصمت للحظات بعد خروج صافيناز، وكل الوجوه التفتت إلى بعضها البعض في توتر ودهشة تبادلوا النظرات وكأنهم ينتظرون من يكسر هذا الجمود.
مسحت فايزة على كفها، ثم مالت بجسدها قليلًا نحو عزت وقالت بصوت منخفض: أهدى يا باشا أنا هسيطر على الوضع.
رفع عزت الملعقة بهدوء، وأخذ لقمة وكأن شيئًا لم يحدث، ثم التفت إليها بعينين ثابتتين: إنتِ فاكراني مهتم باللي هي قالته؟
صمت الجميع مترقبين، بينما هو تابع ببرود:
صافي دلوقتي زي العصفور المدبوح، عمالة تتمرمغ وتقول أي كلام سيبيها، أنا اللي ماسك زمام الأمور.
أعاد نظره إلى طبقه، وأكمل: يلا كملوا أكلكم.
عادوا جميعًا إلى الطعام في صمت، لكن التوتر ظل يخيم على القاعة، والهمس المكتوم يملأ العيون دون أن ينطق به أحد.
في اليوم التالي
منزل ماسة السادسة مساء
كانت ماسه تجلس على الاريكه تحتسى الشاي وتشاهد التلفاز.
يتعالي صوت طرق الباب فتنظر له نظرة استغراب، فمن الذى سيأتي لها في هذا الموعد!
فتحت ماسة الباب سريعًا، كانت نبيلة
ماسة بتهذب: اتفضلي يا ماما نبيلة.
دخلت نبيلة وجلست على الأريكة.
ماسة: الشاي جاهز هروح اصبلك وعندي نعناع فرش.
أسرعت ماسة لتُحضر كوب شاي وجاءت بعد دقيقة ووضعته على طاوله: اتفضلي، احلى كوبايه شاي بالنعناع.
تنهدت نبيلة وهي تنظر إليها بثبات: تسلم ايدك، زعلانة مني من اللي حصل امبارح يا بنتي؟
ابتسمت ماسة ابتسامة صغيرة: هزعل ليه؟
نبيلة بسرعة، بعينين تمتلئان باللوم: أمال يعني معدتيش عليا الصبح ولا حتى لما رجعتي.
خفضت ماسة رأسها وقالت بهدوء: معلش كنت تعبانة وروحت من الشغل متأخرة أصلاً.
اقتربت نبيلة منها، مدت يدها وربتت على كفها: والله يا ماسة أنتِ زي القمر، وأنا بحبك ربنا وحده يعلم.
ابتسمت ماسة بعفوية: وأنا كمان يا ماما نبيلة.
لكن نبيلة سحبت يدها بجدية، ونظرتها صارت أثقل:
بقولك إيه يا ماسة أنت كبيرة، ودماغك كبيرة، وبنت ناس وتعرفي الصح من الغلط، والحلال من الحرام، أنا بمنع الشيطان يا بنتي أنتِ ما شاء الله عليكي جمال وكمال، غير إن وراكي مشاكل كبيرة فهماني طبعًا؟
ترددت ماسة قليلًا، ثم رفعت نظرها إليها: فاهمة حضرتك بس أنا مش عارفة أنتِ بتقولي الكلام ده ليه، بصراحة.
تنهدت نبيلة وأكملت: هقولك بس اوعى تزعلي أنتِ زي بنتي، مينفعش مرواحك ومجيك مع إيهاب ومصطفى، كده تخلي الناس تتكلم، الناس عارفين إنك متجوزة، حتى والله لو كنتِي آنسة، كنت هاخد نفس الموقف، هتقولي عارفين إن أنا بنت خالتهم ميمنعش برضو، واحنا هنا اصلا جداد في المنطقه وعايزين سمعتنا تبقى كويسه.
اتسعت عينا ماسة بصدمة، لم تصدّق ما سمعته، شعرت بغصّة تكتم صدرها وزعلٍ ينهش قلبها، ورغم محاولتها التماسك، ارتجف جسدها بألمٍ لم تستطع إخفاءه.
تابعت نبيله تحاول التوضيح والتبرير:
أنا ماقصدش متتكلميش معاهم خالص، لأ طبعًا، بس لازم نخلي في حدود متنزليش تحت غير لو أنا موجودة، ولما تنزلي، يبقى كلام خفيف، وأنا وعائشة هنطلع نقعد معاكي، ولما إيهاب ومصطفى يبقوا موجودين يعني متنزليش كثير، متزعليش مني يا بنتي، بس أنا خايفة، خايفة قلب واحد من ولادي يتعلق بيكي وأنتِ مش هتنفعي معاهم، لا لإيهاب ولا لمصطفى، وحتى موضوع التوصيله بتاعت مصطفى ليكي دي يا ريت بلاش تتكرر و القعاد على البحر كمان بتاع ايهاب.
كانت كلماتها كالسكاكين شعرت ماسة لأول مرة أنها غريبة، وكأنها دخيلة على هذا البيت، بلعت ريقها بصعوبة محاوله أن لا تنزل دموعها، تحاول الثبات.
ماسة بصوت متهدج:حضرتك عندك حق في كل كلمة قولتيها، بس والله، لا أنا ولا إيهاب ولا مصطفى حصل بينا حاجة تستدعي خوفك، مفيش غير كل احترام وأدب، أنا ساعات برجع مع مصطفى عشان بيصادف شفت مرواحه في معادي، وإيهاب مرتين أو تلاتة اتقابلنا صدفة، مرتين عند البحر، ومرة وأنا راجعة من الشغل صدف، مش أكتر ويمكن بتشوفيني بتكلم مع مصطفى أكتر، عشان هو أول واحد عرفته هنا، وأول واحد وقف جنبي، وأكتر حد مش بخجل منه زيكم، أنا بقولك بصراحة زي ماحضرتك بتقوليلي بصراحة لكن أي حاجة تانية والله ملهاش أساس من الصحة، بس عموماً حضرتك عندك حق، أنا أسفة.
أطرقت نبيلة برأسها، وقالت بصرامة لكنها مترددة:
أنا عارفة إن دلوقتي مفيش حاجة ولازم ميبقاش في قدام كمان، أنا خايفة عليكي زي ما أنا خايفة على ولادي.
هزت ماسة رأسها وردت بطاعه: حاضر أنا هعمل اللي حضرتك عايزاه، متقلقيش، أنا هحط حدود، واعتبري كلامك متقالش.
نهضت نبيلة وهي تتنفس بصعوبة: طب عن إذنك يا بنتي.
ماسة بصوت خافت: اتفضلي.
خرجت نبيلة تاركة ماسة وحدها، جلست على الأريكة، والغصة تكتم صدرها، ارتعشت شفتاها، وبدأت دموعها تملأ عينيها حتى سالت بحرقة، لأول مرة تشعر أنها غريبة بالفعل، وأنها مهما حاولت أن تقترب ستظل على الهامش.
همست لنفسها وهي تنهار بنوبه بكاء: ليه بتعملي كده؟ أنا عملت إيه؟
ثم فجأة، ارتعش جسدها بالكامل أخذت تمسك بالأشياء حولها وتوقعها على الأرض، مزهريات صغيرة، كتب، كل ماتقع يدها عليه تكسره بانفعال، وهي تصرخ بصوت مبحوح:
أنت السبب أنت السبب! مش هسامحك في حياتي يا سليم
وانهارت باكية، جالسة على الأرض وسط الحطام، تشعر وكأنها فقدت كل شيء، لا تملك سوى وحدتها وجراحها.
في سيوة
مرت ثلاث أيام سريعة على تلك الرحلة، لكنها لم تكن عابرة، بالنسبة لرشدي شيء ما تبدّل بداخله، إحساس جديد أخذ يتشكل، لم يعرفه من قبل.
رشدي الذي لم يعرف الحب يومًا، ولم يقترب من أي فتاة إلا وفي رأسه غرض دنيء، وجد نفسه هذه المرة مختلفًا! كأنه يعيش تجربة لم يتوقعها ! صادقًا في مشاعره، مرتبكًا أمام قلبه هو قبل أي شيء.
الأيام مرت في برنامج متنوع: صباحًا يهبطون إلى العيون العلاجية، ثم جولة في البحر، وفي أوقات أخرى زيارات للأماكن الأثرية والتقاط الصور، أما الليل فكان للسهر والضحك واللعب والأحاديث الممتدة حتى الفجر.
كل ذلك كان غريبًا على رشدي، أجواء لم يعتدها، أصدقاء مي كانوا من طبقات عالية مثله، لكنهم مختلفون تمامًا عن "أصدقائه" المعتادين: لا خمور، لا انحراف، لا أفعال مشينة، فقط حياة بسيطة، راقية، هادئة.
بالتأكيد شعر رشدى بالغربه، لكنها لم تكن هي الغاية، يكفيه فقط القرب من مي، أن يشاركها الوقت والضحك، ليشعر أنه أخذ فرصة لم يحلم بها.
ففي اليوم الأول، كان يراقبها وهي تضحك مع صديقاتها على الشاطئ، لم ير في حياته ضحكة أنقى من تلك، أما هو، فظل صامتًا على غير عادته، يكتفي بالنظر، يكتفي بالشعور.
ثم توجهوا وتوقفوا على صخرة عالية تطل على مياه صافية لامعة تحت أشعة الشمس، لكن اختار رشدي مكانًا صعبًا يتهيأ للقفز منه، بينما وقفت مي تراقبه بقلق واضح، تتشبث يديها بطرف ثوبها.
مي بخوف: رشدي بالله عليك أبعد شوية، متنطش من هنا.
ابتسم رشدي ونظر إلى الآخرين وهم يقفزون من أماكن أسهل: يا بنتي ما الناس كلها بتنط.
خطت مي نحوه بخوف ورفعت يدها لتمنعه: أيوه بس همَّ بينطوا من تحت، أنت واقف في حتة خطيرة.
هز كتفيه بثقة وابتسم ابتسامة هادئة: ما تقلقيش، أنا بعرف أعوم زي الجن.
مدت مي يدها فجأة تشده للخلف، وعيناها تلمعان بتوسل: لأ بالله عليك، وأنا موجودة متعملش كده
مال رشدي برأسه قليلًا نحوها وقال ضاحكًا: أنتِ خايفة عليا؟
ردت بسرعة، وصوتها يرتعش قليلًا: أكيد هخاف عليك،
نظره لها رشدي لثواني فهو لأول مره يشعر باحساس ان يخاف عليه أحد بهذا الشكل، فما اطيب ذلك الشعور الذي يختبره للمره الاولى.
ضحك بخفة ثم أشار للأسفل: خلاص يا ستي، هنط من تحت، وأنتِ مش هتنطي؟
أطرقت مي رأسها بخجل: لأ، بخاف.
رفع رشدي حاجبه: يعني مبتعرفيش تعومي؟
هزت مي رأسها بالنفي، وتابعت موضحه: بعرف أعوم، بس مبقدرش أنط من عالي.
قال مطمئنًا، وصوته منخفض: متخافيش، أنا معاكي.
هزت رأسها بإصرار: اقسم بالله حتى بابا نفسه مقدرش يقنعني.
ضحك وهو يلوح لها بيده: ماشي، يلا ننزل من تحت.
قفز رشدي من الجزء السهل، ثم انتظرها في الأسفل، مد يده نحوها وهي تتردد لحظة، ثم أمسكت يده ونزلت بحذر، انفجر الاثنان بالضحك بعدما وصلت، ولحظات بعدها كانا يلعبان مع الآخرين في الماء.
وفي اليوم الثاني.
بينما كانوا يلعبون على الشاطئ، تسلل أحد أصدقائها ووضع كابوريا على يد مي أطلقت صرخة مدوّية جعلت الجميع ينفجر في الضحك، فصرخت وهي تضحك في الوقت نفسه: أنتم بتهزرو أنتم هبل.
أحدهم رد ساخرًا: أنتِ اللي جبانة يا مي.
فقالت وهي تلوح بيدها:آه جبانه وأنتم متخلفين
أمسكت حفنه من الرمل وأخذت تركض خلفهم تقذفه عليهم.
الضحكات عمت المكان، حتى رشدي نفسه ضحك، لكن داخله لم يكن كما ظاهره! كان هناك شعور جديد يتملكه، غيرة لم يعرفها من قبل، أخذت تزعجه بصمت من دون أن يفهمها تمامًا.
أما في الليلة الأخيرة، جلسوا جميعًا حول النار تحت السماء الممتلئة بالنجوم، تمددت مي على الرمل ورفعت بصرها إلى الأعلى قائلة: عارف أنا بحب أوي أجي هنا، مش أول مرة ليا، جيت كتير عشان أتفرج على النجوم وأعيش الجو ده.
نظر إليها رشدي مطولًا وقال بصدق: وانا والله، حبيت الجو ده برغم إنه مش شبهي خالص بس عشانك أنتِ حبيته.
ابتسمت بصمت، وسكتت، وكأن الصمت بينهما صار أعمق من أي حديث.
في خلال أيام الرحلة لم يجلسا كثيرًا بمفردهم، كان أغلب أوقاتهم وسط الأصدقاء، يلعبون الكوتشينة، يجرون خلف بعضهم في مسابقات عفوية، ويضحكون بلا توقف، الجو كله كان جديدًا على رشدي، لكنه رغم غرابته كان يشعر بالاستمتاع، فقط لأنها كانت هناك!
على أعلى الجبل الخامسة مساءً
كانت الشمس تميل نحو الغروب، والبحر يمتد تحت الجبل كمرآة زرقاء شاسعة تعكس ضوء السماء وقف رشدي عند الحافة، كتفاه منحنيان قليلًا، سيجارته بين أصابعه، والدخان يتصاعد ببطء بينما عيناه غارقتان في الأفق، شد نفسًا عميقًا من السيجارة، وزفره ببطء وكأنه يخرج همومه معه، كان يفكر في مي، في صمتها المربك، وفي أن هذه الليلة هي الأخيرة لهم هنا قبل العودة، قلبه لم يعرف للراحة طريق، كان يعرف أنه لا يستطيع أن يغادر من دون أن يفهم موقفها.
بعد قليل، ظهرت مي ترتدي فستانًا أنيقًا، وفوقه قبعه من الخوص أعلى الحجاب، تمشي بخطوات مترددة كأن الهواء يدفعها نحوه، رفعت الطقيه قليلًا؛ لتكشف عن ابتسامة خفيفة وهي تقترب.
مي بنبره متعجبة وهي تميل برأسها يمينًا: ايه المكان اللي أنت جايبنا فيه ده؟
رشدي، بابتسامة هادئة وهو يرمي نظرة خاطفة نحو البحر: حبيت إن احنا نتكلم مع بعض شوية لوحدنا، بعيد عن الدوشة والجروب الرحلة، هم مسابوناش لحظة طول الرحله.
رفعت مي حاجبيها: وأنت متضايق عشان مسابوناش؟
هز رشدي رأسه نافياً: لا خالص، أنا استمتعت، بس النهارده هنمشي، وأنتِ لسه مردتيش عليا.
مي، بصوت متردد وهي تنظر للأرض وتفرك أصابعها: أنا كنت هتكلم معاك أصلاً لما ننزل القاهرة، بس شكلك مستعجل.
رشدي، بحذر وهو يقترب نصف خطوة: ويا ترى وصلتِي لإيه؟
زمت مي شفتيها بأسف، رفعت عينيها له ثم هبطت بهما مرة أخرى: أنا بصراحة فكرت كتير قبل ما أخد أي قرار، مش هينفع يا رشدي.
هزت رأسها هي تتابع بتفسير ممزوج بخوف: خايفة من موضوع إنك من عالم مختلف عني ده مخوفني جدا، بس مقدرش أنكر طريقتك عجباني، واليومين اللي قعدناهم سوا، في حاجة فيك خلتني مشدودة ليك، حابة أعرفك أكتر بس...
نفخ رشدي دخان سيجارته ببطء، يراقبها بصمت وعينيه تضيقان قليلًا وهو يستمع لها
تنهدت مي تنهيدة قصيرة، وواصلت بصوت أهدأ، كأنها تبوح بسر: بس خايفة إنجرح، لأني بصراحة من النوع اللي بيفكر بعقله، لما تيجي تختار حد تحبه أو تختاري حد تتجوزه، خصوصًا لو أنت اللي بتختاري مش القلب، لازم تختاري بالمواصفات اللي شبهك، وأنت مش شبه مواصفات الشريك اللي في خيالي يا رشدى.
عقد رشدي، حاجبيه: يعني ؟
رفعت مي، عينيها فجأة لتقابله مباشرة موضحه: يعني أنت من الناس اللي حياتهم تحت الأضواء، عندك صحاب بنات كتير، وعلاقات محرمة ممكن تحصل بسهولة، ده غير طبعًا الشرب، ودي حاجات كان يستحيل تكون في الإنسان اللي أنا أحبه وأحب إني أكمل حياتي معاه، ويكون أب لأولادي، وفي نفس الوقت في حاجة فيك بتشدني وفي حاجة بتخوفني.
توقفت قليلاً، تنفسها متسارع، ثم أغمضت عينيها لحظة قبل أن تكمل: جوايا شخصيتين بيتكلموا، واحدة بتقول لي ممكن يكون شخص مختلف، اديله فرصة، والتانية بتقول لي مينفعش، النهاية محتومة.
شدي بفضول لكنه بهدوء وصوته فيه نبرة استنكار:محتومة؟ إزاي يعني؟! إزاي تقولي إنها محتومة حتى قبل مانخطو خطوة واحدة؟! إزاي تحكمي وأنت حتى مسمعتش دفاع المتهم! مع إن أنا مش متهم أصلاً.
مي بخجل وهي تطرق رأسها قالت بعقلانية موضحه: أنا حقيقي فاهماك والصح إني لازم أديك فرصة، بس المنطق بيقوللي مينفعش، رشدي ومي مينفعوش مع بعض، ممكن تكون كويس مع حد تاني، لكن أنا، هتحصل بينا صدمات كتير أوي يا رشدي بسبب حياتك اللي أنا وافضه كل حاجه فيها، ومبحبهاش، عشان كده بقول أزاي أدخل في طريق وأنا عارفة إن اختياري من الأساس غلط، يعني مثلًا آه أنا بتكلم في مستقبل بعيد ممكن ميحصلش، بس أنا منطقيّة جدًا بفكر في المستقبل لو اتجوزنا ورجعت سكران، هتحصل مشكلة بينا، مش هخليك تخش الأوضة، وساعتها لما نحكم حد بينا هيقول لي: ده اختيارك، الراجل مضحكش عليكي، الراجل كان واضح من الأول، فاهمني؟
مال رشدي، بجسده قليلًا للأمام وصوته اكتسب نبرة جدية نادرة: فاهمك كويس، بس المنطق مش كل حاجة، ومش لازم كل حاجه تتحل بالمنطق، لازم القلب يكون له مساحة، وأنا مطلبتش قلبك كله ولا طلبت عقلك كله، بس شوية مساحة، عشان تقدري تفكري صح، وبعدين احنا لسه هنشوف ينفع ولا لا، وبعد شوية لو تمام، هندخل في علاقة جدية، فيها برضو هنبدأ نفهم أكتر ينفع ولا لا، لو تمام هيكون في فترة خطوبة فالفترات دي كلها أنتِ أكيد هتشوفي أنا متغير ولا لا، أصلح ولا لا؟! وأنا قولتلك وهقولهالك تاني: لو حسيت إنك تستاهلي إني أتغير عشانك، ممكن أتغير.
قاطعته مي، وهي ترفع يدها بخفة: بس أنت بتقول "ممكن".
رشدي، بابتسامة وصوته يزداد دفئًا: بس مش مستحيل، أنتِ هتساعديني، أنا مش هقول لك إني ملاك، أنا مفيش حاجة حرام معملتهاش، بس اعتقد، مادام قولت لك إن عندي الاستعداد أبطل، يبقى أنا صادق، مش بثبتك، أنا أصلاً مبعرفش أثبت..
ثم تابع نبرته المستخفه المعتادة: بيقولوا عليا في العيلة إني وقح وجريء ومبكدبش، أنا بديها في الوش، مش زي أختي الحربايه.
مي باندهاش: أختك مين؟
رشدي بابتسامة جانبية وصوت ساخر: أختي الحرباية عندي أخت اسمها صافيناز أكيد عارفاها، إن شاء الله لما نقرب من بعض أكتر هديكي كتالوج كيفية التعامل مع عيلة الراوي، بس أختي دي بالذات أوعي تسلمي حتى عليها، ولو سلمتي عدي صوابعك بعدها.
مي بعتاب وهي ترفع حاجبها: على فكرة عيب تتكلم عن أختك كده، حتى لو في بينكم مشكلة.
رفع رشدي يده كأنه بيقسم: حاضر يا فندم.
ابتسمت مي ابتسامة صغيرة، وعيناها تلمعان بارتباك: أنا حاسة إنك حد كويس، بس لسه مش قادرة أخد قرار نهائي.
صمتت لحظة قصيرة، تبادلوا فيها النظرات فتنهدت وقالت:
خلاص موافقة على المبدأ، بس بشروط.
ابتسم رشدي رغم التوتر الذى يشعر به، ورد بنبره دافئه: بالرغم إني مبحبش حد يتشرط عليا، بس قولي يا ست البنات شروطك.
تنفست مي بعمق قبل أن تقول: أول حاجة، علاقتنا دي من غير مسميات لا أصحاب ولا مرتبطين، يعني مش هنتعامل كأصحاب عاديين، وفي نفس الوقت مش هنعيش دور المرتبطين.
رشدي، مقاطعا وهو يضحك بخفة: عروستي !
أكملت مي بنبرة حازمة: يعني أنت مينفعش تكلم بنات غير في الضرورة، ومش هينفع أشوفك مع بنت وأعديها، أنا عندي أصحابي شباب بس أنا كنت ناوية أول ما أدخل في علاقة ارتباط حقيقية، خلاص ميبقاش ليا غير جوزي أو الشخص اللي هرتبط بيه، فأنت لازم تعمل كده، لأن أنت الأنتيم بتوعك بنات مش شباب.
ابتسم رشدي بتفهم وهو يهز رأسه: زيزي أنا عارف (ضحك بخفة وتابع) بس زيزي دي بالنسبة لي راجل، أقسم بالله، دي أخت مش أكتر.
مي بهدوء وهي تعقد يديها أمام صدرها: ما علينا، دلوقتي مش هينفع أقول لأهلي أي حاجة غير لما أحس بمشاعر حقيقية، أنا مش هقولك من دلوقتي "بطل الحاجات دي، بس على الأقل لازم أحس إنك ناوي بجدد، خلال أسبوعين شهر بالكتير لو حسيت بمشاعر هقولك محسيتش هنقطع الموضوع، يعني اللي بينا مش صداقة، وفي نفس الوقت مش ارتباط رسمي وبرضو، ومينفعش خيانة.
صمت رشدي للحظات، وصوته ثابت ونظراته لا تهتز: وأنا موافق.
ثم نظر داخل عينيها بثقة وهو يقول: هعرفك إن رشدي يستحق الفرصة دي.
مي، بابتسامة صغيرة وهي تعدل طقيتها: هنشوف.
ظل البحر شاهدًا على صمتهما، والهواء يعبث بملابسهما، بينما الغروب غطّى السماء بلون أحمر يليق ببداية لم تحسم بعد!
إيطاليا
قصر إريك، العاشرة صباحاً
على أعلى قمة جبل شاهق، كان قصر إريك التابيلو شامخًا، تحيط به الغابات الكثيفة والسهول البعيدة.
وقف إريك عند السور الزجاجي في الشرفة العليا، مرتديًا قميصًا أبيض مفتوح الأزرار وبنطالًا أنيقًا، ممسكًا بكأس نبيذ يديره ببطء بين أصابعه، وعيناه شاخصتان نحو الأفق البعيد، كأنه يستنطق الغيوم.
خلفه مباشرة، وقف رجل ببدلة داكنة ممسكًا بملف يحتوي على صور لماسة في الإسكندرية، ومعها مصطفى وعائلته حتى ندى، وقد بدى أن مراقبتهم لم تنقطع منذ فترة طويلة.
قال الرجل بصوت منخفض وهو يتأمل الصور: لا تزال تجلس عند هذا الطبيب، تحاول إخفاء هويتها بارتداء الحجاب الذي يغطي وجهها، لكننا نعلم كل خطوة من خطواتها منذ اختفائها قبل عدة أشهر.
احتسى إريك القليل من الكأس وهو ينظر أمامه، صوته هادئ: وسليم؟ هل من أخبار عنه؟
أجاب الرجل بثبات: لا.
التفت إريك تسأل متعجبًا: كيف اختفى سليم بهذه الطريقة؟ ألم نكن نراقبه؟ كيف استطاع الهرب؟
أجاب الرجل بعد تنهيدة: خرج من مصر ووصل إلى ألمانيا، وكنا نتابعه حتى دخوله الفندق وفجأة، اختفى بدي وكأنه شعر بأنه مراقَب، أو ربما أراد ألا يعرف أحد مكانه، فهرب راجعنا جميع الكاميرات المحيطة بالفندق وداخله، ولم نجد أثرًا له هو ورجاله اختفوا تمامًا، وأظن أنهم لم يعودوا موجودين في ألمانيا انت تعلم سليم الراوي ليس سهلاً.
هز إريك راسه بشرود قليلا يفكر في أمر سليم
امتلأ قلبه بالقلق رفع عينه وقال: إن وصل سليم إلى أي معلومة، فستكون كارثة لا أتمناها الآن، لا تنسَ الشحنة المتجهة إلى الشرق الأوسط، أريد أن تصل، وبعدها يمكنني أن أبدأ الحرب.
طمأنه الرجل: لا أظن أنه تمكن من الوصول إلى أي معلومة، وحتى لو حدث ذلك، سنعرف.
اقترب إريك، صوته حذر: راقب ماسة بعناية، بمجرد أن تشعر أن سليم اكتشف خيطًا واحدًا، خذ فريقك واذهب إليها واجلبها إلى هنا تحت قدمي، هي الورقة التي سنلعب بها ضد سليم.
هز الرجل رأسه، فتابع إريك على ذات الوتيرة: كما أريدك أن تفحص كل المستشفيات الكبرى التي تُجرى فيها العمليات المماثلة لتلك التي سيجريها سليم، والأطباء أيضًا، قد يكون هناك ولا يريد أحدًا أن يعلم.
الرجل: سأفعل ذلك.
سأل إريك فجأة: وعماد ماذا عن وضعه؟
ابتسم الرجل بخبث: انتزع من زوجته أسهمها، وباع كل ممتلكاتهم لشركات بأسماء مستعاره تعود لهم، ثم عادوا إلى والده، كنت أفكر في شراء هذه الأسهم.
إريك: ولماذا نشتريها؟ تلك الأسهم لا علاقة لها بمجموعة الراوي، إنها مجرد توسعات خاصة لصافيناز. راقبها هي وزوجته الثانية... ما اسمها؟
الرجل: سارة.
إريك بصرامة: راقبها هي وأبناءها، حتى نعرف متى سيظهر سليم وما سبب اختفائه والأهم ماسة هي درع حمايتنا أمام سليم أما عماد فهو خطر حقيقي.
اقترب الرجل وقال بهدوء: لماذا لا نقتله؟ لقد أصبح ورقة محروقة.
هزّ إريك رأسه ببطء، وصوته صار أكثر حدة: عماد طمّاع والطماع أسهل من نستخلص منه المعلومات، لا تنسَ... إنه يعيش في داخلهم لكن سياتي يومه بالتأكيد.
خلال الأيام الثلاثة الماضية
تجنبت ماسة أي مواجهة مباشرة مع عائلة مصطفى بعد حديث نبيلة، كانت تمر عليهم كالعادة عند عودتها من العمل، لكنها لا تجلس، وتعتذر بأنها متعبة أو مشغولة.
لاحظوا جميعًا تغيرها، لكنها لم تُظهر انزعاجًا أو برودًا، بل ظلت تعاملهم بلباقة واحترام، اكتفت بالتواصل مع عائشة عبر الهاتف أو زيارات قصيرة، بينما ابتعدت نبيلة خجلًا بعد الموقف السابق.
حتى حين كانت تخرج للعمل، تتحاشى لقاء مصطفى، فكانت تطلب منه أن يسبقها متذرعة بأي سبب. وعند البحر، أقرب الأماكن إلى قلبها، كانت تنسحب في هدوء كلما لمحَت إيهاب هناك.
ذلك الانسحاب الصامت أقلق مصطفى أكثر من أي شيء آخر، لكنه ظلّ صامتًا، عاجزًا عن المواجهة أو عن مصارحة والدته.
في المركز الطبي، الواحدة مساء
بينما كانت ماسة تقف خلف الكونتر، اقترب منها مصطفى وقال لها بصوت مرتفع: ليندا، تعالي معايا، عايز أتكلم معاكي في حاجة.
نظرت له بعينيها، ولم تعرف ماذا تقول، فتحركت معه حتى وصلت إلى مكتبه.
مكتب مصطفى.
جلس مصطفى على المقعد الأمامي للمكتب، وجلست هي أمامه ورفعت النقاب.
ماسو باقتضاب: خير يا مصطفى؟
نظر لها مصطفى بحيرة وتسائل: إيه اللي حصل؟
ماسة بارتباك تحاول إخفاء مشاعرها: ولا أي حاجة، مفيش حاجة.
مال مصطفى تجاهها، ورد بنبره غير مقتنعه: لا، انتِ فاهمة.
نظرت ماسة جانبها، تتجنب النظر في عينيه، تحاول التظاهر بعدم الفهم: فاهمه ايه؟!.
مصطفى باستفهام: بقالك كام يوم مبتجيش تقعدي معانا، في إيه؟
ابتسمت ماسة بمراوغه: ولا أي حاجة، عادي يعني، مفيش سبب معين.
صاح مصطفى بضجر: هو أنتِ اللي طالع عليكي مافيش حاجة؟
ماسة، وهي تحاول إخفاء توترها: ماهو عشان مفيش حاجة فعلا.
تنهد مصطفى، وضيق عينيه بشك، وكأنه عرف السبب: أمي قالتلك حاجة صح؟
حكت ماسة جبينها بخفة، وقالت بمراوغه:حاجة زي إيه؟! مفيش أي حاجة.
مصطفى بحزم: امي ست كبيرة متزعليش منها أنسي اللي قالته احنا زي محنا.
رفعت ماسة رأسها قليلا، وردت باعتراض وحزم: لا، بس هي صح، أنا لما فكرت في كلامها لقيت إنها صح، حتى لو الكلام ما بينا كله احترام ودعم اخوي، هي عندها حق، أنا هفضل طول عمري البنت الهربانة اللي أنت جبتها من الشارع في نص الليل.
ثم بدأت دموعها تنهمر غصبًا عنها، وصوتها اهتز بالغصّة:
مش هينفع أطمع بالعطف والمسامحة ووقفتكم جنبي أكتر من كده، هي عندها حق، هي خايفة يحصل حاجة، إيه المشكلة؟ احنا هنتكلم، مش قاطعين كلام، هي مش عايزاك تيجي توصلني خلاص تمام، مش عايزاني أقعد مع إيهاب مش هقعد معاه، مش عايزاني أجي وأنتم موجودين، تمام برضه
أضافت برجاء لكن بنبرة حادة: ولو سمحت متعملش مشاكل ومتقولش لمامتك حاجة، وهنفذ كلامها مقتنع أو مش مقتنع مش مهم، عشان والله هتصحى تاني يوم، تلاقينى مش موجوده لو عرفت إنك قولتها حاجة.
قاطعها مصطفى بضيق: إحنا مبنعملش حاجة غلط يا ماسة.
هزت راسها بإيجاب بنبرة متأثرة: محدش هيصدق فخلاص من فضلك، لو بتعزني متقولش لمامتك إني حكيتلك حاجه، ومتعملش أي مشكلة وسيبنا كده، وأنا لما احتاج حاجة هكلمك أكيد أنا أصلاً معرفش حد غيرك، بالنسبة لإخواتك، هقلل كلامي معاهم كان المفروض أصلاً مقربش من حد غيرك، أما بالنسبة لك، لوعايز تبع