رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السادس 6 ج2 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السادس 6 ج2 
بقلم ليله عادل



قاطعها بضجر وهو يشير بيده: من فضلك متكليهاش، أنا وعدتك، وأنا كمان مبرجعش في وعودي يا ماسة، اوعي تتغيري معايا عشان لو اتغيرتي معايا ساعتها أنا هعمل مشكلة.

مسحت دموعها بيدها: طب عشان خاطري، خلينا ننفذ اللي هي عايزاه صدقني، أنا لو عايزة حاجة، أكيد هاجي أتكلم معاك وحياتي ده أول طلب اطلبه منك.

تنهد مصطفي ومسح وجهه، ورد بنبرة معتذرة: ماشي، أنا آسف يا ماسة، بس صدقيني أمي بتحبك بس هي بتخاف علينا زياده عن اللزوم.

ردت ماسة بهدوء وعقلانية: حقها تخاف، مش زعلان منها، هي عندما حق يا مصطفي، أنا نسيت نفسي معاكم، اعتبرتكم زي عمار ويوسف، والله العظيم اتعاملت بتلقائية، لكن في دين وفي عادات لازم نحترمهم، أنا ست متجوزه لازم احترم جوزي في وجوده زي غيابه، حتى لو مش بعمل حاجة غلط، بس الحاجات دي فعلا متصحش.
ثم تنهدت ماسة، وتابعت متسائلة: هو أنت هتسافر القاهرة بكرة؟

هز مصطفى رأسه بإيجاب: اه مسافر في حاجة؟!

رفعت عينيها نحوه: أسأل لو سليم رجع أو هيرجع قريب كده وقولي.

ضيق مصطفى عينه باستغراب: بتفكري ترجعي ولا أيه!

نظرت بعيدًا بنبرة متعبة، وكأنها استسلمت للواقع: آه بس يرجع، لأن بجد كفاية، تعبت ونفسيتي تعبت، واللى يحصل يحصل.

اتسعت عينا مصطفى بتعجب: للدرجة دي كلام ماما أثّر فيكي؟

هزت رأسها بنفي، وأجابت بنبرة متعبه: لا والله، بس ده الصح، مش هينفع أفضل هربانه كده كأني عامله عمله، أنا محتاجة أحطّ حد للخوف والكوابيس اللي بقت ملازمني زي ظلي.

ثم نهضت قائلة: هقوم بقي عشان الشغل.

كادت أن تخرج، لكنها التفتت له وقالت بتنبيه: خليك فاكر، أنت وعدتيني.

رفع عينيه نحوها بصمت، بينما خرجت هي، عضّ مصطفى على أسنانه بضيق؛ فهي محقة، حتى لو لم تكن علاقتهما تحمل أي نية سيئة، فالأمر يظلّ خطأ، ولا يصحّ أن تظلّ هاربة.

منزل نانا، العاشرة مساءً

جلست نانا على الأريكة، طبق الأكل في يدها والتلفاز أمامها يملأ المكان بضجيج فجأة، اهتز هاتفها برسائل متتالية.

فتحت الرسائل، وصدمت بصور واضحة لها مع عزت؛ تارة وهي تضحك بجانبه، وأخرى وهو يضع يده على كتفها، وثالثة كأنها في لحظة حميمة بجواره.

تسمرت مكانها، يدها ارتجفت، وضغطت على رأسها بخوف وهي تهمس لنفسها: يا نهار أسود، لو عزت شاف الصور دي، ممكن يقتلني! عيونها تدور بارتباك: مين ده؟ عايز إيه؟ وبيبعتلي الصور دي ليه دلوقتي؟!

وضعت الهاتف بعيدًا، لكنها لم تستطع منع ارتعاش يديها، أو الصداع الذي بدأ يفتك برأسها.

على اتجاه اخر في قصر الراوي 

غرفة فايزة

فايزة جالسة على السرير، تقلب في هاتفها، بينما عزت مستلقٍ بجوارها يراجع بعض الأوراق فجأة، ظهرت رسالة غامضة على شاشتها.
"مش عيب الملكة تتخان مع واحدة زي دي؟"

رفعت فايزة الهاتف ببطء، عينيها اتسعت وهي ترى نفس الصور، عزت مع نانا.

شعور مختلط اجتاحها؛ الغضب، القرف، والإهانة وجهها توتر قليلا لكن ظل ثابتاً، التفت عزت بكسل، لمحها بعينيه من طرف نظرة عابرة، لكنه لم يعلق.

أغلقت فايزة الهاتف بسرعة، وأخذت نفسًا عميقًا، نعم
هي تعرف من يبعث الرسال لكنها لم تثور، لم تصرخ بل بدت هادئة على نحو مريب، وكأنها تخطط في صمت لرد قاسٍي رد يجعل اللعبة تنقلب على الجميع.
💞_________________بقلمي ليلةعادل 
في أحد الكافيهات الرابعة مساءً 

جلست عائشة مع محمد على الطاولة، يتناولان الآيس كريم والابتسامة لا تفارق وجهيهما وهما يتناولان الاحاديث.

محمد وهو متعجب: بس غريبة، والدك لحد دلوقتي مأخدش أي رد فعل؟

ردت عائشة وهي تتناول ملعقة آيس كريم بلا مبالاة: لا، هو ميعرفش حاجة لحد دلوقتي، وبصراحة مش فارق معايا يعرف أو ميعرفش.

محمد بلطف: بس برضه، مهما كان ده والدك.

رفعت عائشة رأسها بضجر يختلط بحزن مكتوم: والدي إيه يا محمد؟! دي أبوة بالاسم في البطاقة، ولا عشان في بينا صلة دم؟! الأبوة سند، ذكريات، كلمة حلوة، حضن يطبطب..
تابعت وبعينيها دامعة محبوسة بنبرة متأثرة: 
أنا مش فاكرة له غير إنه كان بيضرب أمي ويخونها، والوقاحة وصلت إنه يجيب ستات منحطّة البيت عندنا! واحنا موجودين وبهدلنا كتير...
هزت رأسها في أسى: الأبوة حاجة تانية خالص، الأب قدوة وحنان وأمان، لكن هو ولا أي حاجة من دي، بالنسبة لي أبويا ميت، وملوش أي حق عندي.

نظر لها محمد بهدوء: أنا متفهم، لكن أقصد تتوصلي معاه عشان صلة الرحم بس.

مسحت عائشة دمعتها بضيق: هو أنا غلطت فيه؟! لما بييجي يسلم أو يسأل، بكلمه باحترام، ديني وأمي علّموني كده، لكن غير كده، مالوش عندي حاجة، إلا لو تعب أو حصله شيء، ساعتها عيني ليه، لكن هو مزرعش عشان يحصد، بالله عليك، متفتحش الموضوع ده تاني.

ابتسم محمد محاولًا تغيير الجو: زي متحبي، المهم أنتِ عاملة إيه؟ أخبار كورس الـ English؟

عائشة بابتسامة صغيرة: الحمد لله، تمام.

محمد باهتمام: مبتفكريش تاخدي لغة تانية؟ مش أنتِ كنتِ عايزة تسافري؟

عائشة بتمنى: اه نفسي جدًا.

اقترب محمد بجسده من طاوله وقال بحماس: طب إيه رأيك نتعلم ألماني سوا؟ التعليم الطبي هناك قوي جدًا نتشجع ونشد بعض، نسافر أنا أشتغل وأنتِ تكملي ماجستير.

عائشة وعيونها تلتمع: فكرة جميلة، ماشي، أنا معاك.

محمد بابتسامة واسعة: اتفقنا.
تردد لحظة ثم قال: قوليلي إيه اللي حصل مع ماسة؟ مصطفى متضايق جدًا، وقالي مقولش، بس أنتِ عارفة إني مبعرفش أخبي عنك حاجة.

زفرت عائشة بأسف: إحنا كلنا متضايقين من ماما، بس بيني وبينك، هي عندها حق، أنا حاسة إن مصطفى حبها، هو بينكر، أنا عارفة أخويا.

محمد مؤيدًا: فعلاً مصطفى حبها هو بيضحك على نفسه واللي حصل ده هو صح.

ضحكت عائشة بخفة: هي بصراحة قمر وتتحب، بس مفيش أمل بتحب سليم بجنون، كل جملة تطلع منها لازم فيها اسمه، حبها باين أوي.
تنهدت بحزن: وأخويا هو اللي هينجرح ويدفع التمن، عشان كده محبتش أعاتب ماما.

ثم نهضت وهي تبتسم بحماس: يلا خلص بقي عشان نلحق الفيلم، إيهاب اكيد خلص شغله؟

توقف محمد وهو يضحك: والله أنا فرحان إنهم سمحوا لي أقعد معاكي ربع ساعة لوحدنا قبل منقابلهم، متوقعتش إن إيهاب ومصطفى يحطوا شرط "الخروجات لازم بوجودهم أو بطنط"

عائشة ساخرة: إذا كان عاجبك.

تبسم محمد وهو يتأملها: عاجبني، أنا اتكلمت.

قصر الراوي

حديقة القصر السادسة مساءً 

جلست فايزة على الأريكة الحجرية المزخرفة وسط الحديقة، تقرأ أحد المجالات، نظراتها ثابتة، ملامحها تحمل برودًا معتادًا، اقتربت صافيناز وجلست بجوارها مترددة، تحاول أن تخفي توترها.

بدأت صافيناز الحديث مباشرة، بصوت حاد: أنا عايزة أفهم لحد إمتى هفضل أتحمل السخافات دي كلها؟

نظرت إليها فايزة من طرف عينها، وأجابت بجفاء: أنتِ مش مضطرة تستحملي السخافات يا صافيناز! ممكن تمشي.

شدت صافيناز ظهرها، ورد بعناد: لأ مش همشي.

ابتسمت فايزة ابتسامة ساخرة، أغلقت المجلة، ثم مالت نحوها قليلًا: خلاص خليكي، أنتِ حاطة هدف في دماغك، فاكرة لما يرجع سليم هتعملي حاجة؟!أنا متأكدة إن رجوعك وهدوءك المريب، وقبولك بالأوضاع المهينة ليه أسباب أكبر بكتير من أطماعك، واضح إن عزت ماسك عليكي حاجة كبيرة إيه هي؟ الله أعلم.

اهتزت ملامح صافيناز للحظة، وحاولت إنكار الأمر: مش، مش ماسك عليا حاجة.

ضحكت فايزة ضحكة قصيرة باردة: عزت ده عشرة أربعة وأربعين سنة، أنا أعرفه أكتر ماهو يعرف نفسه، اسمعي نصيحتي ياصافيناز اقبلي بالوضع ده، وحاولي تشتغلي على نفسك وتغيري من أسلوبك، أنا مش عارفة إزاي هتعمليها؟! بس عارفه إنك غلطتي يوم مفكرتي تقفي قصاد عزت، وده الثمن.

اقتربت منها أكثر، همست بنبرة حادة كالسيف: وأوعي تقوليلي "أنا هقول لسليم كل حاجة، وإن إيدي متلوسة بالدم زيكم بالظبط، أنتِ أجبن من كده، لو فتحتِي بوقك، هتخسري حتى الهدوم اللي لابساها أنتِ عارفة سليم كويس هيصفيكي قبل مايصفينا إحنا، حاولي تقبلي إنك خسرتي.

نهضت فايزة واقفة، عدلت وشاحها على كتفها، تحركت بخطوات ثابتة بعيدًا، تاركة خلفها صافيناز غارقة بين الغضب والخوف.

عمارة مصطفى، الرابعة مساءً

دخلت ماسه العمارة وهي تحمل أكياس الخضار، خطواتها سريعة كأنها تسابق أي مواجهة، توقفت عند زر المصعد تضغطه بسرعه فهى لا تريد أن تتحدث مع إيهاب الذي يأتي خلفها، وما لبثت أن سمعت وقع خطوات يقترب.

دخل إيهاب، ابتسم حين لمحها، ثم وقف بجوارها: عاملة إيه يا هاربة؟

أجابت ماسه بطرف عينيها، متجنبة النظر الكامل إليه: الحمد لله وأنت؟

ابتسم إيهاب ابتسامة باهتة، وقال بمرارة خفيفة: لو كان يهمك كنتي سألتي من غير مسبقك.

فُتِحَ باب المصعد، دخلت ماسه بسرعة، رفعت هاتفها تتظاهر بالانشغال بمكالمة، لكن إيهاب لاحظ بوضوح محاولتها للهروب من الحديث.
فجأة، توقف المصعد، فارتجفت ماسه، وقالت بقلق: إيه ده؟

تحرك إيهاب نحوها مد ذراعه، سحب الهاتف من يدها وهو يرمقها: باين إنك مش بتتكلمي حد، ليه بتهربي مني؟من كام يوم وأنتِ متغيرة معانا كل مرة أحاول أكلمك، تتهربي.

خفضت ماسه رأسها، نظراتها سقطت إلى الأرض تكلمت بصوت منخفض لكنه يحمل حزماً خفيًا: يا إيهاب أنت فاهم. أنا مش عايزة مشاكل، عايزة أعيش جوه الحيطة مش جنبها، مش عايزة أخسركم، ولا عايزة طنط تزعل منكم بسببي، أو تتغير معايا، خلينا من بعيد لبعيد، كدة أحسن وده الصح.

وقع كلامها كالصاعقة على إيهاب، أدرك أنها علمت كل شيء عن قرار والدته، لم يجد ما يقوله، بدي شاحب الوجه، واكتفى بالصمت.

مدت ماسه يدها وضغطت زر المصعد مرة أخرى بيد مرتعشة، قلبها يدق بعنف، لكنها تماسكت شعرت أن ثقل المسؤولية تجاه الجميع يسحقها، لكنها لم تملك إلا أن تكمل الصعود في صمت.

وخلال شهرين.
اقتربت مي من رشدي، بينما حاول هو الابتعاد عن صخب حياته السابقة، فقلّل من الخمر والعلاقات المحرمه لكنه لم يقطعها تمامًا.

أما هبة فانشغلت بعملها في المجلة ورعاية نالا، متجاهلة محاولات ياسين لاسترجاعها رغم نصائح لوجين، التي مع الوقت أصبحت الأقرب إليه.

صافيناز بقيت مهمَّشة، لا أحد يحدّثها أو يجلس معها وهذا كان يشعل الغضب بها أكثر يبدو أنها تخطط لشيء.

ولا تزال الرسائل تصل إلى فايزة ونانا فتزيد الغموض!

وفي المقابل،أصبحت علاقة محمد وعائشة جيدة، يحاول كلٌّ منهما التقارب.

تدهورت علاقة ماسة مع مصطفى وعائلته بعد حديث نبيلة، فابتعدت تمامًا عنهم، ولم تعد تجلس معهم، مكتفية بالذهاب إلى عملها ثم الصعود مباشرة إلى شقتها، حتى أن نبيلة توقفت عن زيارتها لشعورها بالخجل.

الجدير بالذكر أن أربع أشهر قد مرت على سفر سليم، وستة أشهر إلا اسبوعين على هروب ماسة.

ظل سليم مختفيًا، لا أحد يعرف عنه شيئًا، وبرغم محاولات الجميع لمعرفة مكانه أو سبب اختفائه، بقي الغموض مسيطرًا حتى عاد فجأة، كما سافر فجأة، دون أن يفهم أحد لماذا رحل أو لماذا عاد.
💞_____________بقلمي_ليلةعادل 。⁠◕⁠‿⁠◕⁠。

قصر الراوي، السابعة مساءً

السفرة

اجتمع أفراد عائلة الراوي كأيام الخوالي، لم يغب أحد سوى سليم، وكان مقعده الفارغ يثقل المكان.

وبعد دقائق، دخل بخطوات هادئة، ابتسامة غريبة ترتسم على وجهه، وكأنه زاد وسامة فوق وسامته.

توقف عند المدخل، وقال بصوت هادئ مصطنع الاشتياق: عيلتي الغالية، وحشتوني.

التفتوا جميعًا نحوه بدهشة، بينما نهض ياسين سريعًا واقترب منه ليضمه: حمد الله على السلامة يا عم الشبح كنت فين؟

ابتسم سليم وهو يرد: هقولك، إيه الأخبار؟ متجمعين كده دايمًا؟

قامت فريدة واحتضنته بحنان: حبيبي عامل إيه؟ ايه الحلاوة دي؟! هو السفر بيحلي للدرجه دي؟!

سليم بإبتسامة وهو يقبلها: حبييتي ده جمال عيونك عامله ايه وحشتيني.

فريدة بإبتسامة: تمام يا حبيبي الحمد لله 

ظل طه جالساً في مكانه ورد بهدوء: حمد لله على سلامتك يا سليم 

منى بمغازله: احلويت اوي شكل السفريه دي كانت جامده اخر حاجه.

سليم بإبتسامة ساخرة: اخر 10حاجات والله يا منمن مش حاجه واحده، فلازم احلو.
واضاف وهو يحدّق في مراد ابن طه الاكبر: أنا سمعت إن مراد بدأ ينزل المجموعة.

أجاب مراد بفخر، وكتفاه مرفوعان: آه طبعًا يا عمو، خلاص كلها كام شهر وأكمل ١٦سنه.

رفع سليم حاجبه وهو يبتسم بمكر: عمو مين؟! أنت قربت تجيبني، ابقى تعالى خد مني دروس، في كيفت إدارة مجموعة الراوي.

تدخلت منى ضاحكة وهي تشير إلى مراد: أنا قولت له كده، قولت له سيبك من كل دول، أول ماسليم يرجع متقومش من على مكتبه.

ضحك سليم وقال وهو يومئ لها: طول عمرك عارفة المصلحة والصح فين يا منى، بترمي الشبك صح، وأنت كمان يا تيم، انزل مع مراد وخد خبرة.

ثم رفع رأسه باحثًا بعينيه وسأل: أمال نالا فين حبيبة قلب عمو؟

أجابه ياسين مبتسمًا: فوق نايمة

سليم بدهشة: بدري كدة!

هبه موضحه وهي لا تنتظر له: كان عندها تمرين سباحه وجاية تعبانة أكلت ونامت.

تنهد سليم بخفة وأومأ: أوكيه.

ركز سليم عينه نحو بطنها: هو أنتِ مش كنتي حامل اوعي تكوني ولدتي 

حكت هبه في انفها: البيبي نزل أجهضت بس الكلام ده من بدري قوي. 

سليم بأسف: أنا اسف، مكنتش عارف اي حاجه الفتره اللي فاتت دي كنت مشغول متزعليش إن شاء الله ربنا يعوضكم، 

جلس في مقعده بجانب عزت، الذي بادره بنبرة جادة: أخيرًا ظهرت.

ابتسم سليم جانبيًا: آه أخيرًا ظهرت.

رئيس الخدم: اجيبلك طبق يا سليم بيه 

سليم: اه هاتي يا عواطف.

رفع رشدي حاجبه باعتراض بطريقته المعهودة: أنا اتمنتچت ليه؟!

نظرله سليم متعجباً: إزاي يعني؟

لوح رشدي بيده بمزاح: أصلك سلمت على الكل واطمنت عليهم، ولما جيت عند أبو الرشاريش منتجته! هو أنا شفاف للدرجة دي؟

ابتسم سليم: أخبارك إيه يا رشد؟

ضحك رشدي ابتسامة سخيفة ويميل بجسده للأمام: زي الفل، كنت عايزك في حوار كده، أخوي، محتاج أستعين بخبراتك، بس خليه سر بينا، يا اخويا ياحبيبي.

ضحك سليم معلقا بخفة وهو يومئ برأسه: ربنا يستر من حوارتك بعد حبيبي دي.

وضع رشدي يده على صدره وكأنه مظلوم: والمصحف ظالمني، بس مقبولة منك يا مَلك.

عزت وهو يضع الملعقة: رشدي بطل هزار خليني أتكلم في المهم.

رشدي: امرك يا كينج اتكتمت.

نظر عزت لسليم قال بجدية: ياريت يا سليم بعد العشا ندخل المكتب نتكلم شوية، القعدة دي كان لازم تحصل من أربع شهور.

رفع سليم عينيه نحو الجميع، صوته يحمل قوة شخصية: ليه منتكلمش دلوقتي والكل موجود؟ ماهو الكل عارف، والكل مشارك، وكل واحد ليه نصيب.

وضعت عواطف الصحن رفع سليم عينه نحوها: اطلعي بره شويه يا عواطف وخدي باقي الخدم معاكي.

هزت راسها بإيجاب وهي تشير بيديها وبالفعل خرجت وخرج معها الباقي. 

فريدة بحزم: بعد اذنك يا سليم لحظه، نظرت لبناتها، لليان، خدي اخواتك واطلعوا اوضكم، نظرت للباقي الأبناء: انتم أكمان اطلعوا اوضكم.

وبالفعل تحرك الجميع الأبناء وتركوا السفر

فريدة موضحه: مش حبه الأولاد يسمعوا الكلام ده.

سليم بهدوء: طول عمرك بتفهمي.

تنهد ثم التفت سليم نحو عزت مباشرة، نبرته مليئة بالثقة التي ترسم قوته: هتتكلم معايا عن الوصية صح؟ متقلقش كلها عشر دقايق ومازن يكلمك بنفسه، وهيقولك إني غيرت الوصية، زي ماوعدتك.

تنهد وهو يأخذ بعض الطعام في صحنه، ثم بدأ يتناوله وهو يضيف: للعلم، أنا مغيرها من تلات شهور، بس موصي مازن إنه ميقولش لحد، لحد ما أنا أبلغكم بنفسي.
ثم رفع نظرته الشرسة لعزت: كنت حابب ألعب بأعصابكم شوية.

فايزة باهتمام: وياترى غيرت فيها إيه بقى؟

رفع سليم شوكته ببطء وتناول مافيها: اللي وعدت بيه الباشا، نصيبك ونصيب الباشا هيرجعلكم بس مش دلوقتي لما أموت وعليكي خير، ولو عملتوها انتم قبلي! نسبتكم هتبقى ملكي..
ثم اضاف بنبرة ساخرة: ولو اخواتي المؤدبين اتعلموا الادب اكثر كل واحد هتزيد نسبته 1% زي ما الباشا موصي بعد عمر طويل، بعدين هي مش كل حاجة أصلًا كانت ملكي، حق إدارة بموجب التوكيل العام.

قاطعتهم صافيناز بحدة: طب وأنا؟

رفع سليم عينيه نحوها، صوته بارد وقوي: أنتِ، ماتتكلميش غير بإذني فاهمة؟

صافيناز بغيظ: يعني إيه؟

تجاهلها سليم، ثم عاد النظر لعزت واضاف: أما رشدي زي ماوعدتك يا باشا، طول ما هو ماشي على الخط المستقيم هرجعله املاكه، والاتفاق بيني وبين فريدة وياسين وطه زي ما هو.

هز عزت رأسه بتوتر: طب افترض إنك مت في أي لحظة، هنخسر كل حاجة كدة؟! يعنى شقى السنين هيروح؟!

رد سليم بحدة، نبرته تقطع الهواء: هو حضرتك عندك مشكلة في الفهم؟ أنا قولت في حالة قتلي، أو قتل مراتي.
ابتسم ابتسامة ساخرة وهو ينظر حوله: أصل أنا عارف إخواتي بيحبوني قد إيه.

فايزة مستفسرة بشك: أنت ليه خايف إن حد من إخواتك يقتلك؟

رفع سليم عينيه نحو فايزة، وصوته خرج بلهجة واثقة: أنا مش خايف يا فايزة هانم، أنا بحمي نفسي.
ارتسمت على شفتاه نصف ابتسامه ساخره وهو يقول:
انتي عارفة الشيطان قليل الأدب، ساعات بيجي يوسوس للواحد، يقوله: إيه يعني لو خلصت على أخوك، وتبقي كل حاجه ملكك، أخوك ده أكتر واحد هيقف ضد مصلحتك، وكمان مراته، عشان هتورثه وتاخد نصيبها، والطمع وحش يا فايزة هانم.
توقف لحظة، ثم ابتسم ابتسامة ساخرة: هو أنا عملت إيه غلط؟ ما الباشا في يوم من الأيام عمل كده مع إخوته والدنيا دوارة، وبعدين أنا مقولتش هاخد حاجة دلوقتي، مع إني أقدر أعملها بسهولة، أنا بس شرطت: في حالة قتلي، أو قتل مراتي وحط تحت الكلمة دي مليون خط.

فايزه متسائله: طب واللي انت عملته مع صافيناز؟!

التفت سليم مباشرة نحو صافيناز، عيناه حادتان، صوته بارد لكنه صارم: غلطة صافيناز كانت كبيرة ومتتغفرش، كان المفروض تمنها الموت، بس أنا حسيت إن قتلها رحمة، وهي دلوقتي قاعدة قدامي متعذبة ولا عارفة تدخل المجموعة ولا ليها مكان فيها، نسبتها راحت للأبد، بالنسبة لي كده اتربت.

صافيناز بصوت مرتجف، دموعها تكاد تنفجر فهي تحاول أن تستعطفه: يعني أنت مش هترجعلي نصيبي زي رشدي؟ أنا معترفة بغلطتي أنا آسفه، كان مقلب، والله كان مقلب، وأنا مالي؟ هو جه فيك، وعارفة إن اللي حصل مش مقبول بس يعني اعتبره لعب عيال، أنا باعتذرلك، وبعدين ده بابي مشاني من القصر ولسه راجعة قريب! وأنت ضربتني، طب رجعني المجموعة وبلاش النسبة.

وحينما فعلت صافيناز ذلك كان رشدي يحتسي الماء فجأه شرق واخذ يكح وهو يضحك علي دموع التماسيح تلك فهو يعرفها جيداً 

رفع سليم حاجبه ببطء، وسقط صوته كالحكم: والله يا صافيناز، لو ماسة سامحتك وغفرتلك، وطلبت مني أسامحك وأعديها ساعتها ممكن اسامحك لكن مش أكيد؟! إن شاء الله لما مراتي ترجع بالسلامة من السفر هتقعدي قدامها، وتعتذري لها، وتبوسي إيديها، ورجلها وتطلبي المغفرة.

عزت وهو يزفر بحدة: حقك تعمل كده، وأكتر كمان.

رفع رشدي عينه بتردد، قال بنبرة مستخفه: أنا بس عندي سؤال محشور في زوري من يوم اللي حصل، هي الوصية دي مش المفروض تشتغل بموجب قتلك؟ بعد الشر عنك طبعا يا اخويا يا حبيبي، فـ طول ما أنت عايش، كل واحد فينا بيتعامل بنسبته، بس عشان معاك التوكيل العام إحنا كده نعتبر عساكر في لعبة شطرنج صح؟!

ارتسمت على شفتي سليم ضحكة قصيرة خالية من المرح: مظبوط يا رشدي، بس أنا غيرت الوصية،كل حاجة هترجع للباشا والهانم، زي الأول، إلا أنت وصافيناز، بس أنت لو مؤدب، حاجتك هترجعلك، إنما هي تصلي كتير وتدعي إن ماسة تسامحها وأنا يمكن انسي واسامح.

رفع رشدي إيده كأنه بيقسم: مع إني معملتش حاجة واتاخدت في الرجلين، بس ماشي هقبلها منك، بعدين أقسم بالله انا مؤدب بقالي فترة، حتى اسألهم بقيت برجع بدري.

عزت بتأكيد: فعلاً رشدي بقاله حوالي شهر ونص أو أكتر مش بيسهر كتير ومبقتش أشوفه بيشرب زي الأول

سليم وهو يومئ برأسه: سمعت.

ابتسم رشد وهو يلمح: اه مش بس كدة، في أخبار حلوة قريب ممكن تسمعوها.

تنهد عزت بقلق: خير هتعمل مصيبه ايه؟!

لمعت عينا رشدي بوميض غريب: مفاجأة 

نظر ياسين لسليم: أنا وأنت محتاجين نقعد شوية مع بعض عشان نتكلم في الشغل.

هز سليم رأسه بإيجاب بصمت 

رفعت فايزة حاجبها باهتمام: ويا ترى الوصية دي بقى؟ أنت وإخواتك متفقين على إيه فيها؟

التفت سليم إليها ببرود: Pardon يا هانم، بس ملكيش دعوة.

حركت فريدة يدها بقلق: وهي ماسة مسافرة فين كل ده هترجع امتى.

نهض سليم وهو ينظر لهم جميعًا: بعدين يا فيفي.

ثم التفتت الى ياسين وتابع: أنا هستناك في الجنينة يا ياسين.
وأثناء خروجه من القاعه وقعت عينه على عفاف: اعمليلي قهوتي في الجنينة العلوية.

بعد أن خرج سليم، ساد صمت ثقيل للحظات نظر عزت للجميع بصرامة وقال: أنا مش عايز بقى أي مفاجآت ولا مخططات من ورا ضهري سامعة يا صافيناز؟ خلينا محترمين ونبوس مش بس الإيدين لا والرجلين كمان، ولازم تفهمي إنك تحت عين سليم وتحت عيني أنا كمان وعين فايزة.

خفضت صافيناز رأسها فهي لا بد أن تطاطي للريح في تلك الفتره: أكيد طبعًا.

أشار عزت إليها بحدة: لو في دماغك حاجة، يا ويلك مني..
ثم التفت إلى عماد بابتسامة جانبية: منوّر يا عماد.

وكأنه يذكرها أنه سيكشف لعماد المستور، إذا فعلت شيء، فهو يهدهها بطريقته الخاصه، نظر عماد له باستغراب، لكنه لم يعلّق.

تدخلت فايزة محاولة كسر التوتر: هو أنت مش عارف سليم كان مسافر فين؟

هزّ عزت رأسه بضيق: مش هيقول بس أتمنى ياسين أو فريدة لما يعرفوا، يجوا يقولوا لي.

نظر له فريده وياسين بصمت واكملوا طعمهم
وأنهى ياسين طعامه بهدوء، ثم نهض متجهًا للحديقة.

في الحديقة 

جلس سليم على المقعد الخشبي وسط صمت الليل
أخرج هاتفه من جيبه، فتح المعرض ببطء، ووقف عند صورة ماسته.
ظل يحدق فيها طويلًا، عينيه تلمعان بلمعة مختلفة، خليط بين الحنين والقلق.
ابتسم ابتسامة باهتة وهو يهمس: خلاص أنا رجعت، وهوصلك، أنتِ وحشتيني أوي يا قطعة السكر الحلو اللي محلي حياتي.

مرت لحظة صمت، قبل أن يغلق الشاشة ويضع الهاتف بجانبه.
تنهد بعمق، ثم رفع عينيه نحو السماء، وكأنه يطلب صبرًا على ذلك الاشتياق الذي فتك به من الله.

في تلك اللحظة، ظهر ياسين من مدخل الحديقة اقترب بخطوات مترددة، وقال وهو يجلس أمامه: حمد الله على السلامة.

نظر له سليم بابتسامة: الله يسلمك.

جلس ياسين متململًا، عيناه تلمعان بفضول: مش هتقولي بقى كنت مسافر فين؟ أربع شهور اختفيت فيهم؟! تعرف إن الباشا دور وراك بس معرفش يوصل لحاجة.

سليم بهدوء: بعدين يا ياسين مش وقته.

وفجأة مال للأمام، وتسأل بنبرة معاتبه: قولي ايه اللي حصل؟! مراتك اجهضت ازاي؟! كانت تعبانه؟؟ وأزي معرفش؟؟ أنا يمكن كنت مشغول قبل ماسافر بس مش معنى كده إن حاجه زي دي تحصل وأنا معرفش بيها؟!

ياسين بضيق: أنت صدقت اللي اتقال جوه؟! هي راحت سقطت بمزاجها، عملت كده من غير ما تقولي، لكن هي متعرفش إني عارف؟! كمان علاقتنا بقالها فتره زفت، مره كده من فتره كبيره حصلت مشكله بيننا لدرجه ضربتها قلم.

خفض صوته فجأة، ثم رفع نظره متوترًا: اتصالحنا، بس مبقيناش زي الأول، من يومها مش عارف أرجع، ولا حتى هي، في حاجه كده اتبنت ما بينا، وبعيدا عن كل ده، هبة بقت غريبة ومستفزة وبفكر أطلقها.

اتسعت عينا سليم بدهشة، واعتدل في جلسته: إيه اللي أنت بتقوله ده؟!

شد ياسين أنفاسه، وعض شفته السفلى وقال بتأكيد: بكلمك جد، هبة بقت مملة، كل شوية كلام عن القصر وعن شغلنا القديم، عن رشدي وطريقته وعن الهانم وصافيناز، مش عايزة تفصل، وأنا قبلت أعيش بعيد زي ماطلبت، بس مبقيتش قادر أستحمل، دي حتى مش مصدقه إن احنا بعدنا.

ضرب الطاولة بقبضته بخفة، وصوته يزداد حدة: أنا لسه عندي 30 سنة يا سليم، مش حاسس إني عايش، اللي مصبرني إني بقول يمكن ترجع زي زمان البنت اللي أنا حبيتها، بس لو مرجعتش، هطلقها.

رد سليم بسرعه وهو يشير بيده كمن يوقفه: بطل جنان، الطلاق مش لعبة، متنساش نالا.

تنهد ياسين بعمق وأسند ظهره للكرسي: البنت أفضل لها تعيش مع اتنين بيحبوا ويحترموا بعض حتى لو بعيد، أحسن من إنها تشوف اتنين مش طايقين بعض، بعدين هي نزلت الطفل من غير متقولي، وسامحتها، أنا أصلاً مكانش ينفع أتجوز بدري كده.

رفع سليم يده مهدّئًا: طب إهدى أنت بتحبها وهي بتحبك، كل مشكلة وليها حل، اتكلم معاها مرة واتنين، متيأسش عشان متندمش.

هز ياسين رأسه شاردًا: ماشي بقولك إيه، غير الموضوع.

سكت لحظة وهو يمرر أصابعه على الطاولة، ثم أضاف: قولي بخصوص صافيناز، لو ماسة سامحتها، هترجعلها حاجتها؟ بجد؟

تنهد سليم بحيره: مش عارف؟! بس أنا مش هسلم من اذانهم غير وأنا رابطهم بالوصيه دي.

رفع ياسين حاجبه بريبة، مائلًا برأسه: عندك حق، متغيرش حاجة هي قليلة الأدب وقلبها أسود وتستاهل، والله رشدي برغم جنونه بحس إنه أخويا وعنده قلب عنها.. 
ثم أضاف وهو يتسال بتعجب: هي ماسة فين أصلاً؟ اختفائها غريب.

تنهد سليم وأشاح بنظره، يفرقع أصابعه بتوتر: هي كويسة الحمد لله، قريب أوي هتشوفوها، وبعدين إيه اللي عاجبك في القصر والزحمة دي؟ متاخد مراتك وتعيشوا في فيلتكم بعيد عن كل ده.

أشار ياسين بإصبعه مؤكدًا: أنا عملت كده فعلاً، بس هي مستفزة وقليلة الأدب، قولت أربيها وأشوف إيه اللي بيغيظها، لقيتها بتجنن لما تيجي القصر، فخلاص هجيبها القصر.

رفع سليم حاجبه، مائلًا للأمام: هي خناقة! اسمع مني بطل عرق الراوي ده، هتندم، اسألني أنا، جينات قذرة.

ضحك ياسين ضحكة قصيرة بلا روح: مش خناقة، بس أنت مش فاهم، هبة من ساعة مجابت نالا وهي متغيرة، وبتزيد سوء، مراتك ذات نفسها لاحظت يوم الحفلة، وردت عليها ببرود، أنت نفسك قولتلها: مش عايز منك اهتمام مزيف، إذا أنتم ملاحظين التغيرات دي، كمان مبقاش فارق معاها غير شغلها والبنت، أنا نفسي مبقاليش وجود في حياتها.

تغيّر صوته بضيق شديد: سليم، هبة غير ماسة، ماسة حتى لو عملت مشاكل عمرها مطولت لسانها عليك، ولا عايرتك بتربيتك ولا قالت لك أنت تربيه دادا، ولا فكرت تمد إيدها عليك، لكن أنا من ساعة محصلت الحكاية دي في جدار اتبنى بيني وبينها، مش قادر أعيش معاها.

زفر بعصبية ولوح بيده في الهواء: بالله عليك غير الموضوع.

تنهّد سليم بأسف، عينيه تلمعان بخيبة، فلم يتوقع أن تصل حياة ياسين إلى هذا الحد من التصدع. 

مسح على قدمه ببطء قال: حاضر، بس فكر تاني البعد صعب.

ارتشف رشفة من القهوة، ووضع الفنجان بهدوء، ثم رفع عينيه إلى ياسين بجدية: تعال كلمني عن الشغل، الفترة اللي فاتت كان عامل إزاي؟

فيلا سليم، الواحدة صباحًا

دخل سليم إلى الفيلا، تلك التي تركها كما هي منذ سفرة، الصور المعلقة لماسة مازالت تملأ الجدران، كأنها لم تفارقه يومًا.

صعد الدرج بخطوات مثقلة حتى بلغ غرفتها فتح الباب بهدوء، كأن أنفاسه تخشى أن توقظ ذكرى نائمة هناك.

تلك الغرفة الشاهدة على الليلة المشؤومة، ليلة تحول فيها من عاشق إلى وحش، أخذ يتأمل الأركان بعين منهكة، يتذكر كيف كان يضربها بلا رحمة، كيف صفعها، كيف هبط الحزام على جسدها مرارًا كأن بينهما انتقامًا لا حبًّا.

ضغط رأسه بيده ومسح وجهه بيأس، يحاول طرد الذكرى، لكن كيف ينسى ماحفر داخله؟ ومع ذلك، تذكر الحقيقة: لم يكن هو، بل ذلك السم الملعون الذي دسته شقيقته في عصيره.
ذلك الذي جعله مختلفًا، عديم الرحمة لو كان واعيًا، لو كان سليم حقًا ما كان ليفعل ذلك.

لكنّه لم يحتمل أن يظلّ في تلك الغرفة الملعونة، فخرج مسرعًا ودخل إلى الغرفة التي كنّا نشاهدها قبل الفلاش باك، الغرفة التي كان يتخيّلها فيها.

فور دخوله، اتجه مباشرةً نحو صورتها المعلّقة على الجدار، تلك التي كان يحدّثها دائمًا وكأنها حيّة أمامه.

اقترب منها، نظر إليها بعين غارقة في العشق والوجع، بعينٍ لا ترمش.

تأمل ملامحها بشوق يفيض من قلبه، وقال بصوت مرتعش: وحشتيني، وحشتيني أوي، شهور عدت وإنتي بعيد عن حضني.

لمعت دمعة في عينيه وهو يهمس: هو أنا موحشتكيش للدرجة دي؟ للدرجه قلبك زعلان مني؟

أطرق رأسه قليلًا، ثم هزه كأنه يجيب نفسه: عندك حق تزعلي وتخافي، بس المرة دي مختلفة، صدقيني، أنا هرجعك، هرجعك لقلبي، لجوه حضني، ومش هسمح لحد، ولا لحاجة تفرقنا تاني، هتعرفي إني مظلوم، وإني لو كنت واعي، كان مستحيل أعمل كده، وهنرجع زي زمان، ونحقق كل حلم حلمناه، مستحيل أسمح إن حاجة تفرقنا، ولا وجع يدخل قلبك بسببي تاني، هعمل المستحيل عشان تسامحيني، المرة دى والله مختلفه، البعد كسرني ياماسة.

مسح دمعته، ثم مد يده ليلمس صورتها بشوق، عيناه 
دامعتان، وتنهد تنهيده طويلة خرجت من صدره بألم.

تحرك إلى الحمام. خلع ملابسه وفتح الماء الساخن يغسل جسده المرهق، بعد أن انتهى، لف فوطة حول خصره ووقف أمام المرآة المبللة بالبخار، مسحها بيده بخفة، لتنكشف ملامحه المرهقة.

سقطت عيناه على الوشم المحفور باسمها قرب قلبه، ذلك الذي غرسه في جلده بالآلة الحادّة،إلى جانبه الوشم القديم، الذي خطّه في أوّل ذكرى لزواجهما، يوم اتفقا معًا على نقش اسميهما.
مدّ يده يلامس الحروف، فإذا بالذكريات تعصف بقلبه من جديد...

فلاش باك، ليلة هروب ماسة الأخيرة 

عاد إلى الفيلا بعد أن فشل في إيجادها، كل شيء محطم: الزجاج متناثر، الأثاث مقلوب، وقف وسط الخراب بندم، وصور مافعله بها تنهش ذاكرته: صراخها، توسلاتها المرتجفة، ضربه لها بالحزام، شعر بغضب يخنق صدره، وحزن يفتت قلبه.

وقع نظره على قطعة زجاج، التقطها بيد مرتجفة، نزع قميصه، وبدأ يغرسها في جلده عند موضع قلبه، خط اسمها بدمه، يئن مع كل حركة الألم يعصف بجسده، لكنه أدرك أن الجرح النازف على صدره أهون من الجرح الغائر في قلبه.

دمه يتساقط، وعيناه تدمعان وهو يهمس: مستحيل تبعدي، طول ما القلب ده بينبض باسمك.

عودة إلى الحاضر

انتفض سليم من الذكرى، وهو مازال أمام المرآة عيناه تومضان بتصميم، صوته مشبع بالإصرار: هرجعك يا ماسة هرجعك لو في جحر التعبان مستحيل أسمح أنك تبعدي عني تاني.

مجموعة الراوي

مكتب سليم العاشرة صباحًا

جلس سليم خلف مكتبه في هدوء، يقرأ بعض الأوراق بتركيز، انفتح الباب ببطء، ودخل عزت بخطوات واثقة.

قال وهو يتقدم نحوه:حمد لله على السلامة.

رفع سليم عينيه عن الأوراق، وضعها على المكتب بهدوء: الله يسلمك.

جلس عزت على المقعد المقابل، ينظر إليه باهتمام قبل أن يلمع الغضب في عينيه ويشير بيده بحدة: كنت فين بقى؟ وقبل متجاوب، أنت مكنتش في ألمانيا أنا عرفت، بلاش تمثيل.

ابتسم سليم بسخرية وهو يتكئ على الكرسي: أنا مش همثل مكنتش في ألمانيا فعلًا، دي كانت ستارة.

تجهم عزت: طب فهمني

أجابه سليم بهدوء بارد: بعدين، بعدين يا ولدي العزيز.

ارتبك عزت قليلًا، ثم اقترب بصوت يحمل القلق: طب هسألك سؤال، سافرت عشان حاجة تخص الحادثة؟

أغلق سليم ملامحه تمامًا: مش هجاوبك.

زفر عزت بضيق:هو سر حربي ولا إيه؟

سليم بجمود وهو يشيح بيده: هتعرف بعدين.

صمت عزت لوهلة، ثم تنهد وقال: عموماً مازن قالي أنك مضيت على الوصية، عايز أقولك حاجة: إخواتك، مهما كان أذاهم، ومهما كان فيهم...

قاطعه سليم بنبرة قاسية وهو يشير بيده: لأ هيقتلوني؟ وبعدين زي مابيقولوا "من خاف سلم". كل حاجة ماشية زي ما هي، كأن الوصية مش موجودة، الوصية مش هتتنفذ غير في قتلي، أنا مش فاهم إيه الدراما اللي عاملينها دي، ولا أنتم كنتوا بتخططوا لقتلي وأنا بوظت خطتكم؟

عبس عزت بانزعاج: بطل جنان، لكن طريقتك دي ضايقتني، وخلِّت أختك تتصرف تصرفات زبالة.

ضحك سليم ببرود: والله يا باشا أنا خليتك تشوف زبالة عيالك، بس اللي أنا متعجب منه رشدي!

تأمله عزت بقلق: وأنت كمان هدوءك غريب.

أشار سليم بإيماءة مقتضبة: عموماً، كل اللي جاي مختلف، بس أنت رجّعت صافيناز؟ أنا عرفت إنك طردتها.

عزت ببرود مشابه: زي ما أنت بتأدبها بطريقتك إنك تحرمها من دخول المجموعة وتاخد منها الأسهم، أنا كمان بأدبها بطريقتي.

نهض سليم وهو يغلق الملف: تمام، أنا بقى هستأذنك عندي شغل كتير محتاج أراجعه.

وقف عزت من مكانه، تحرك نحو الباب ثم توقف واستدار بنظرة متسائلة: مش هتقولي برضه كنت مسافر ليه؟

فتح سليم ملفًا جديدًا، وأخذ يركز فيه دون أن يجيبه هز عزت رأسه بيأس، ثم غادر ببطء.
💞__________________بقلمي_ليلةعادل 
في إحدى القاعات المفتوحة على ضفاف النيل، السادسة مساءً.

الأضواء والزينة تتلألأ، والموسيقى تعم المكان بين راقصين وشاربين الحفل احتفاء بنجاح خط الإكسسوارات الجديد، وكانت سلوى من أبرز مصمميه.

امتلأ الحفل بزملاء سلوى وأصدقائها وأشقائها، وكان طارق حاضرًا، قريبا ليصبح خطيبها.

وفي خضم الاحتفال، دخل مكي وقف بعيدًا يراقبها، يتابعها بابتسامة صغيرة مشرقة، فرِحًا بنجاحها، في البداية لم تنتبه سلوى لوجوده إلا بعد دقائق تبادلت معه النظرات، فابتسم وكأنه يعلن عن حضوره، لكنها لم تُعره اهتمامًا وأكملت الحفل.

بعد قليل، دعاها بعض أصدقائها لتشارك في لعبة مع باقي المصممين الخمسة الذين نجحوا في الكولكشن، الانضمام للعبة، حيث وُجهت أسئلة عنهم للحاضرين. تبادلوا الضحكات والسخرية لعدم معرفة البعض، حتى وصل الدور إليها.

أحد الزملاء: دلوقتي جه دور سلوى، يلا يا سلوى نشوف كام واحد هنا يعرفك كويس.

السؤال الأول: إيه أكتر زهرة سلوى بتحبها؟

رد طارق بسرعه وثقه: البنفسج.

نظرت سلوى باستغراب، فهي لم تحبها من قبل.

سلوى: لا، حاجة تانية! أنا قولتلك؟

طارق: القرنفل؟

زمت سلوى شفتيها بأسف: لأ، دي ماسة أختي اللي بتحبها.

طارق سكت لحظة وهو يفكر، وكادت سلوى أن تجيب، لكن قبل أن تفعل سبقها مكي قائلاً: الورد الأحمر.

التفتت الأنظار كلها إلى مكي، فابتسم وهو يرمقها.

نظرت سلوى له بصمت، ثم قالت بنبرة مكتومة: فعلاً.. الأحمر.

المقدمة: السؤال التاني.. إيه أكتر أكل بتحبيه؟

إحدى صديقاتها: ورق العنب.

هزت سلوى رأسها بلا.

أخرى: الكباب.

عمار ضاحكًا: أختي بتحب كل حاجة مبتقولش لا.

سلوى بطفوله: عيب والله! في أكل بحبه جدًا.

يوسف: يبقى المحشي.

سلوى: لا.

ظل مكي صامتًا يراقب، ربما أحد يجيب.

طارق قال: شاورما.

وعندما لاحظ أن الجميع يخطئ، قال بهدوء: البامية والرز بالشعرية.

نظرت سلوى بارتباك، بينما نظر إليها بابتسامة.

هزت سلوى بتأكيد بنبرة مكتومه: صح.

المقدمة: أول مرة سلوى صممت فيها كانت عندها كام سنة؟

الجميع صمت، لم يرد أحد، تبادلوا النظرات بصمت.

سلوى بمزاح: أخص عليكم ازاي متعرفوش؟ ده أنا حكيت لمعظمكم القصة.

تبسم مكي بهدوء وبدأ يروي القصة كأنه يحفظها عن ظهر قلب: كان سبع سنين، وكانت بتبيع الأسورة بربع جنيه هي وماسة، واللي ياخد أربعة بجنيه ياخد معاهم واحدة وخاتم هدية، أول حاجة عملتها في حياتها كانت هدية لماسة في عيد ميلادها: أسورة من الخرز، جمعت الخرز من أسورة مقطوعة بتاعة لورين، وعملتها من الخيط لونها روز، حاولت تلزق وردة، بس ماعرفتش، لأنها كانت محتاجة مسدس شمع، وهي وقتها مكانتش تعرف، وكانت الوردة قرنفل كمان.

كان مكي يتحدث وهو ينظر لعين سلوى، وهي أيضًا تنظر إليه، أعينهما لم تتحرك لحظة، كأنها تقول شيئًا داخل قلبهما ما يزال موجوداً بعد انتهائه.

ساد الصمت، وتوجهت أنظار الجميع إلى مكي، خاصة عمار ويوسف وأمنية.

أمنية باندهاش: مش ده مكي؟

عمار تمتم: اه ايه اللى جابه؟!

المقدمة: هايل! ده أنت شكلك حافظها، ممكن تعرفنا بنفسك؟

مكي بابتسامة: صديق قديم.

المقدمة تبسمت.

شعرت سلوى بوجع داخلي، وحاولت الهروب من نظراته. قالت بصوت مرتعش: خلاص بقى، مش عايزة أكمل اللعبة دي.

تحركت مبتعدة، لكن مكي وقف في طريقها ومنعها.

مكي بابتسامة محبة: مبروك، حققتي حلمك.

سلوى بهدوء: لسه محققتوش، دي لسه البداية.

مكي بدعم: بس بدأتي في الطريق، وده شيء عظيم.

سلوى بفضول: رجعت من السفر امتى؟!

مكي: من كام يوم، انتِ لسه مع الولد ده؟

سلوى بحدة خفيفة: ده مش ولد، ده دكتور وهنتخطب قريب.

مكي بنبرة فيها سخرية وغيرة: بس الولد، قصدي الدكتور طلع مش عارفك، مفيش سؤال جاوب عليه صح!

سلوى بجمود: مش لازم يكون عارف كل تفاصيل حياتي عشان يثبت إنه إنسان كويس، أنا مش بالتافهة دي.

علّق مكي متعجبا: أمال فين كلامك بقى؟ لو حبيبك ميعرفش أبسط تفاصيلك، يبقى مبيحبكيش، لأنه زي مامهتمش بتفاصيل بسيطة، أكيد مش هيهتم بالكبيرة.

ردت سلوى بنبرة موجوعة، هاربة: هو أنت عايز مني إيه يا مكي؟ هو أنت مش بعدت شهور؟ وقفلنا بقى الموضوع ده وقولتلي إنك خلاص؟

صمت مكي لحظة، ثم قال بحزن وهو يزم شفتيه: مظبوط بس مش عارف، طلعت اضعف من قراري..

ركز النظر في ملامحها وتنفس ببطء وقال بنبره موجوعه: عارفة يا سلوى؟ أنا مش عايز أرجعلك، بس غيران.

اضاف وهو يضغط على كلماته، يتنفس بحدة كأن صدره ضاق مد يده في الهواء بعصبية:
لما بشوفك مع أي حد غيري قلبي بيتحرق، لما بسمع إنك معاه بتجنن، نفسي أحرق العالم، وأحرقه هو كمان.

توقّف فجأة، ثم تنهد تنهيدة طويلة خرجت كأنها وجع متراكم: أنا مش مبسوط، ولا عارف أكون مبسوط، افتكرت إني هكون مبسوط وعادي، بس طلعت غلطان..

مرر أصابعه في شعره بعصبية، وانحنى قليلًا للأمام وكأنه يهرب من ثقل مشاعره:
طول الشهور اللي فاتت وأنا مش عارف أبطل تفكير فيكي، بفرح لفرحك، وبزعل لزعلك، وفي نفس الوقت زعلان منك، مجروح منك أوي، وغضبان منك لدرجة مالهاش وصف..

ابتسم ابتسامة مشوهة، نصفها مرارة ونصفها اعتراف:بس لسه بحبك.

شد قبضته بقوة، وعيناه تلمعان بحدة: حرب جوايا، ما بين إني أحاول تاني وأرجعك، ومابين إني أقول كفاية، شعور متناقض مش عارف أعمل إيه.

اقترب خطوة، وصوته يخفت، يرتجف وكأنه يعترف بخطيئة: كل مافتكر إن احنا خلاص، كان فاضل أيام على جوازنا، وفجأة كل حاجة اتبدلت أحس بوجع..

مد يده إلى صدره وضغط بقوة على موضع قلبه، وكأن الوجع سينفجر من بين ضلوعه: وجع هنا، مالوش دوا ولا ليه مسكن زي المرض اللي ملوش علاج وجع ملوش علاج.

رفع عينيه إليها ببطء، ممتلئتين بمرارة دموع متحجره في عينه، ثم همس بصوت منكسر: قوليلي أعمل إيه؟

كانت تستمع له سلوى وهي تشعر بالوجع يعصب بقلبها ودموع تملا عينيها فهي مازالت تحبه لكنها تكابر تشعر بالوجع لكنها تحاول أن تعمي نفسها عنه.

سلوى بحزن وعين دامعة: الحل كان في إيدك بس انت اللي اخترت.

مكي بهدوء، بنبرة محشرجة: وعمري ماهندم على اختياري، وانتِ كمان اخترتي، ومقتنعة إنك صح، وأنا كمان مقتنع إني صح، ومش ندمان.

ارتسمت ابتسامة حزينة على وجه سلوى، ونظرت بعيدًا بوجع، وعيناها تترقرقان بالدموع: احنا الاتنين، حتى لو لسه بنحب بعض، مستحيل يجمعنا طريق، أنت لسه قايلها: كل واحد مقتنع باختياره.

ركز مكي نظره في ملامحها، وهو يميل عليها قليلاً وكله أمل: ممكن يجمعنا يا سلوى، لو بطلتي تعندي وتفكري بنفس الطريقة، أتمنى الشهور اللي فاتت تكون غيرتك، ولو شوية..

مد يده بنظرة مليئة بالرجاء والحب: وأهو.. بمد إيدي تاني ليكي، ممكن متكسريهاش؟ خلينا نبدأ طريقنا اللي معرفناش نكمله، كفاية بعد وعناد خلي الحب اللي بينا يبقى أقوى.

هزت سلوى رأسها بلا بحزن وقلب يعصف من الوجع: مش هينفع يا مكي مش هينفع، أنت معندكش استعداد تتنازل عن صاحبك، وأنا كمان معنديش استعداد أتنازل عن أختي، أنت مقتنع إن صاحبك مغلطش، ومقتنع كمان إنك مخذلتنيش..

رفعت عينيها نحوه بوجع وخذلان:
بس أنا مقتنعة إنك خذلتني، وإنك كان لازم تقف معايا أكتر من كده، أنت وجعتني وكسرتني في عشمي فيك.

مسحت دموعها التى سقطت وهي تاخذ أنفاسها باعتراف وحب: يمكن بحبك ولسه بحبك، وزيك بالظبط مش مبسوطة، وكنت بفرح جدًا لما تبعتلي الورد، أو تتصل بيا، أو تبعت الهدايا والرسائل، أنا كنت عارفه أنه أنت اللي بتعمل كدة، أنا كمان زيك كنت بفرح وبتوجع في نفس الوقت، بس هل أنت عندك استعداد تتنازل؟

رمقها مكي بعين مخذوله وأجابها بهدوء واقتناع: مش هتنازل يا سلوى، عشان أنا عارف إني مغلطتش (زفر بغضب) حاولي تقتنعي إن أنتِ اللي غلطانه كفايه بقى..

في تلك اللحظة، اقترب طارق، وامسك يد سلوى 

طارق بستفزاز: إزيك يا مكي؟

وهنا نظر مكي الى ايديهما المتشابكه بغيره وغضب، لكن حاول تمالك غضبه.

أجابه بنبرة بارده وهو يرفع عينه نحوه: كويس يا دكتور.. وأنت؟

شد طارق إيده أكتر على سلوى كأنه يعلن امتلاكه لها: الحمد لله، ابقى تعال خطوبتنا، هتنورنا أكيد.

شعرت سلوى بارتباك؛ تعلم أثر تلك الحركه على مكي، بينما مكي كانت نيران الغيرة تأكله.

مكي، بنبرة رجولية هادئة لكنها حاسمة: شيل إيدك.

طارق باستفزاز: انت في دماغك حاجة؟ دي خطيبتي.

قلب مكي وجهه واغمض عينه وهو يجز على اسنانه وحاول باقصى قوه عنده أن يتمالك غضبه: بقولك تاني شيل إيدك بدل ماكسرهالك 

طارق بستفزاز أكبر: وأنا بقولك ملكش دعوة، دى خطبتى أنت مالك؟! ولا أنت بتحب تسمع أنت مالك كتير. 

نظر مكي لسلوى وهو يحاول تمالك غضبه: سلوى،متخلنيش أعمل مصيبة.

سلوى بضجر: وأنا اللي بقولك ملكش دعوة يا مكي.

نظر لها مكي بعينه قال بحسم وتحذير: سلوى، لو موقفتيش العبط اللي بتعمليه ده، المرة دي هتبقى النهاية صدقيني، امشي معايا وخلينا نوقف المسرحية المملة دي.

توقفت سلوى بجانب طارق وكأنها تعلن اختيارها وقالت بحسم: أنا قولتلك خلاص هي خلصت.

تجمد مكي في مكانه، شعر أن النهاية وقعت بالفعل وجع وخذلان كبير اخترق قلبه، وأدرك أنها اختارت طارق، وأنه لو استمر في مطاردتها، سيخسر نفسه وكرامته أكثر.

هز مكي رأسه بإيجاب وهو ينظر بعينه لإسفل، عيناه ترفضان البكاء، قلبه يشعر بالخذلان لكن كان ثابتا: تمام، أنتِ اللي اختارتي.

رفع عينيه لها، لكن هذه المرة كانت نظرة غريبة لم ترها منه من قبل قال بحسم: المرة دي مش هتشوفيني تاني، حتى لو صدفة، ده وعد.

كانت كلماته تهبط على قلب سلوى كأنها خنجر، لكن جنونها وما علمته عنه وشعرها أنه لم يقف بجانبها أمام جنون سليم كان أكبر من حديثه أو مسامحتها.

تحرك مكي مغادرًا، لكن طارق استفزه وهو يقول: ياريت تبطل تطاردها، وخلي عندك كرامة، هي مش عايزاك اللي عملته دلوقتي قصاد الناس، ميخليش واحدة حرة ترجع لحبيبها، في حاجات أهم، زي الأخلاق.

ضغط مكي على أسنانه بعنف، عروقه في عنقه برزت، كأن الغضب كله انفجر دفعة واحدة التفت فجأة، وبحركة خاطفة باغت طارق بلكمة صاعقة بوجهه تراجع طارق مترنّحًا، قبل أن يهوي أرضًا، ارتطم جسده بالأرضية في صوت مكتوم، لتتفجر الدماء من شفته السفلى وينكسر أنفه، فتتشوه ملامحه بحمرة غامرة.

شهقت سلوى بقوة، اتسعت عيناها في صدمة، وتجمدت في مكانها لا تدري إن كان عليها أن تهرع نحو طارق أم نحو مكي.

ارتفعت يدها لا إراديًا لتغطي فمها، تخنق شهقة أخرى، بينما أنفاسها تتلاحق مرتبكة، تلاقت عيناها بعين مكي للحظة خاطفة؛ كان عيناه تطلقان شرارا.

أرادت أن تنطق، أن تقول شيئًا، لكن الكلمات اختنقت في حلقها، ولم يخرج منها سوى ارتعاشة صامتة.

رفع مكي يده من جديد ليستكمل ضربته، لكنها نظرت إليه بعينيها المرتعشتين كأنها تتوسل صامتة أن يتوقف، تجمد للحظة وهو يتأملها، ثم أسقط يده وكبح نفسه زفرت هي بارتياح.

كل ذلك لم يستغرق سوى ثوانٍي قليلة، بينما بدأ بعض الحاضرين يتجمعون من حولهم.

رفع مكي يده عاليًا في إشارة حاسمة أوقفت الجميع، وصوته يخرج متقطعًا من حنجرته الملتهبة بالغضب: متخافوش، أنا مش هضربه تاني.

تنهد بعمق، ثم تحرك نحو الخارج، يلقي نظرة أخيرة، كأنها وداع لا عودة بعده.

وهنا جاء عمار ويوسف مسرعين، فقد كانوا بعيدين ولم يشاهدوا ما حدث بوضوح، لكن رأوا أثر الضربة.

عمار بتعجب: إيه اللي حصل؟

سلوى بحزن وهي تبكي: خلونا نمشي من هنا.

خرجت سلوى مسرعة، وتبعتها أمنية، وصعدوا السيارة.

في السيارة، جلست أمنية خلف المقود، عمار بجوارها، بينما جلس يوسف وسلوى في الخلف.

عمار بحدة: أنا عايز أفهم إيه اللي حصل؟

أجابته سلوى وهي تنظر من النافذ بحزن ونبرة مكتومة : بعدين يا عمار، بعدين.

يوسف بغضب: يعني إيه بعدين؟ متنطقي! ماله مكي ضرب طارق ليه؟!

أمنية وهي تقود: يا جماعة، سيبوها تهدى أكيد حصلت مشكلة، بالراحة عليها.

يوسف بغضب: احنا مش هنخلص بقى من مشاكله؟ ماحنا كنا مرتاحين من يوم ماختفى هو وسليم.

سلوى بدفاع: هو معملش حاجة،طارق اللي استفزه.

عمار بغضب: يعني إيه؟

سلوى بشدة: يعني قفلوا على الموضوع ده بقى كفاية.

نظرت أمنية لعمار ومدت يدها وأمسكت يده بمعنى: سيبها تهدى.

فيلا عائلة ماسة، الثانية عشرة مساءً

كانت سلوى جالسة على حافة السرير، تضم ساقيها إلى صدرها، ووجهها محمر من البكاء، شعرها مبعثر وترتدي وملابسها المنزليه، بين الحين والآخر ترفع كفها لتمسح دموعها.

انفتح الباب فجأة، ودخلت سعدية بخطوات متثاقلة، أول ما وقعت عيناها على ابنتها وضعت يديها أسفل ذقنها، رفعت حاجبها بسخرية وقالت بنبرة فيها تهكم ظاهر: مالك يا اختي؟ شايلة طاجن ستة فوق راسك وبتعيطي ليه؟ متقوليش مفيش يا ماما، أنتِ من ساعة مرجعتي من الحفلة امبارح وأنتِ على الحال ده.

اقتربت وجلست على طرف السرير أمامها، مدت يدها على ركبة سلوى بحنان مصطنع: مالك يا أختي؟

رفعت سلوى وجهها بعينين منتفختين وقالت بصوت مبحوح: قولتلك مفيش حاجة يا ماما.

قهقهت سعدية بخفة ساخرة وهزت رأسها: مفيش حاجة! مش هو ده مكي اللي قولنا مش عايزينه؟ وقولنا له يبعد خلاص.
لوحت بيكفها وهي تقول بسخريه: وقولنا: هش يامكي هش هش..
تابعت بنبرة أكثر سخريه:
ولما اتهش مكي، زعلنا، وأول مايجيب وردة ولا يبعت هدية، من غير اسم، ابتسامتك بتبقى من هنا لهنا وتنوري زي القمر في تمامه، بعدين جبنا طارق وقولنا هنتخطب بس نخلص الامتحانات، برغم إني مليش في الكلام ده، بس مش مهم، مادام جه وقرأ الفاتحة خلاص، ظهرلنا مكي بشحمه ولحمه ووقفنا قدام الناس كلها، وأنتِ بنفسك قولتيله: ملكش دعوة، وامشي وهشش، واتهشي مكي، وقالك خلاص، مش هتشوفي وشي تاني، دلوقتي بعيطي ليه؟! مش ده اللي عايزاه، ولا هو كده عيني فيه وأقول أخيه.

أشاحت سلوى بوجهها بعيدًا، وعضت على شفتها السفلى كأنها تحاول أن تكتم شهقتها: أنا مش بعيط عشانه، أنا أصلاً مش زعلانة،متتوهميش. 

ضربت سعدية كفها على فخذها بحركة حادة وصوتها ارتفع: اتوهم؟ لا يا أختي مش بتوهم! مكي ده اللي مقعدك لحد دلوقتي من غير جواز، وكل مايجيلك عريس تقولي لا، وافقتي على طارق بس من كتر زني عليكي، خوفتي لأجوزك واحد من بتوع البلد، مكي ده هو اللي خلاكي تفضلي سنين مستنياه يجي يتقدم، خلاص مادام بتحبيه سامحيه فين المشكلة؟ هو عنده حق، إيه ذنبه في اللي حصل؟ مشكلتنا مع سليم، مكي عمل اللي عليه؟!

التفتت سلوى بحدة، عينيها تلتمع بالدموع، وصوتها يرتجف: لا يا ماما، معملش اللي عليه، كان ممكن يعمل حاجات كتير، هو اشتري سليم وباعني.

قاطعتها سعدية بسرعة، عينها تبرق بالغضب، وصوتها قاطع: لا يا اختي، هو مشترهوش! وباعك! اختك هربت؟ مفيش راجل يقبلها على نفسه؟ كنتِي عايزاه يعمل إيه؟ سليم غلط مقولناش حاجه بس مكي عمل حاجات كتير كويسه كنتي عايزاه يعمل ايه؟!

صرخت سلوى وهي تضرب كفها في صدرها: كنت عايزاه يعمل زي سليم، لو كان سليم مكانه، أقسم بالله، مكي ده مكانش يتجرأ يعمل كده، سليم مبيقبلش حاجه على ماسة، شوف أنتم لما ضربتوها عمل فيكم ايه؟! شوفي بيعمل في أهله ايه؟! كان نفسي أنا كمان احس إن خطيبي اللي هيبقى جوزي كرامتي وكرامة أهلي فوق كل شيء عنده، بس للأسف.

تجمدت ملامح سعدية، وصوتها صار أهدأ لكن عينها متسعة: بصي يا بنتي، مكي راجل محترم متضيعهوش من إيدك، مادام بتحبيه هو ولسه رايدك، وبعدين أنا شايفة إن سليم خلاص، ربنا هداه وبعد عن شيطانه، بكرة ماسة ترجع، وكل حاجة ترجع زي زمان، اذا كان يعني على مكي والله أنا مش شايفه إن هو غلطان، يوم عمار والله الراجل حاول يحل الموضوع بالعقل وبالهدوء، بس اخوكي كان مجنون يومها، وبعدين ده مسك اللي اسمه إسماعيل وبهدله وكان هيقتله لما عرف اللى عمله معاكي، خلاص بقى يا بنتي خلينا نفرح ونرجع زي زمان.

مسحت سلوى دموعها بظهر يدها بعصبية، وانحنت على ركبتيها: مفيش حاجة هترجع زي زمان أنتِ مش عارفة حاجة.

نظرة قلق ارتسمت في عين سعدية، ورفعت إصبعها في وجه ابنتها بتساؤل: أنا حاسة إنك مخبية علينا سر أنتِ واختك، حاجة أكبر من الهروبة دي.

تجمدت سلوى للحظة، ثم دفنت وجهها بين كفيها، صوتها خرج خافتًا يرتجف: اه في، بس ريحي نفسك ولو هموتيني والله ماهقول، بس في حاجة كبيرة اوي، وحشة اوي، فيها دم!

شهقت سعدية، ووضعت يدها على صدرها، قلبها يدق بجنون: بت! بتخوفيني ليه؟

رفعت سلوى عينيها الغارقتين بالدموع وقالت بحدة مخنوقة: خافي يا ماما واسكتي بقى، وأوعي تسألي تاني، أنا مش هعرف أقولك غير كده.

مدت سعدية يدها وأمسكت بكفها بقوة، وصوتها يرتعش: طب الحكاية دي هتأذي أختك؟

أغمضت سلوى عينيها، دموعها سالت بغزارة، وهمست: هتأذينا كلنا مش اختي بس، وأنا مش هقدر أرجع لمكي، حتى لو قلبي لسه بيحبه، أكتر حاجة قاهراني إن فات أكتر من سنة ونص ولسه بحبه، وحاسة إني هعيد نفس الغلطة اللي عملتها قبل كده، لما اتخطبت وهعيدها دلوقت مع طارق، رغم إنه راجل محترم.

تنهدت سعدية بوجع، وهزت رأسها بيأس: يبقى سيبك من طارق، واستهدي بالله، مع إني مش عاجباني قعدتك من غير جواز، كملتي أربعة وعشرين سنة، يا بنتي.

مسحت سلوى دموعها بغضب، وردت بحدة: أنا كملت 24 مش 44 يا ماما.

رفعت سعدية حاجبها وقالت بمرارة: أيوه 24، بس اللي قدك معاهم عيال، أنا قلبي مش قادر يفرح لا بيكى ولا بأختك اللي جوزتها على كف عفريت ولا شوفتلها عيل حتى ،أنتم بنات، والبنت بتستر بدري.

تابعت بنظر صارمه بحسم: بصي أخرك معايا، تخلصي الجامعة، معنديش صبر أكتر من كده، ترجعي لمكي ولا مترجعيش مش فارقة، العريس المحترم اللي يجيلك، هنوافق عليه، عايزة تصبري مع طارق وتشوفيه؟ ماشي، مش عايزة خلاص، بس قبل متعملي الخطوبة، عشان لو اتخطبتي مش هتسيبيه.

رفعت سلوى عينيها الغارقتين بالدموع، شفايفها ترجف: هو أنتِ بتهدديني يعني؟

مدت سعدية يدها ومسحت على شعرها برفق، وابتسامة حزينة كسرت ملامحها: لا يا حبيبتي، بفهمك وبوعيكي، عقلك في راسك تعرفي خلاصك.

مطعم فاخر، الثامنة مساءً.

جلس سليم خلف طاولة كبيرة، يده تحرك فنجان القهوة ببطء، جلس مكي مقابله.

رفع فنجان قهوته وأخذ رشفة قصيرة، ثم قال بصوت منخفض لكن حاد: مبلاش إسماعيل، ليه إسماعيل؟ ما هي بقالها شهور مختفية ومقدرش يوصلها.

هز سليم، رأسه بإيجاب موضحاً: بس متنساش إنه عرف إن في مكالمات مهكرة بتوصل لأهلها، بس مقدرش يخترق الذبذبات بتاعتها.

مكي: ما هو ده، يبين إنه مش شايف شغله كويس.

سليم معترضًا: لا هو ماخدش أوامر مني.

مكي برفض وضيق: أنا مش عايزك تشتغل معاه بعد اللي حصل.

سليم موضحًا بهدوء: أنا متصلتش بيه، هو اللي اتصل وقال:"أنا عايزك يا سليم" أنا كده كده نهيت شغلي معاه، هو اللي كان عامل يدور علينا.

اتكئ مكي على كرسيه بعصبية: ماشي زي ماتشوف، أنت عنيد أصلاً، بس قسماً بجلال الله لو طول لسانه هقتله أنا مش طايقه، (تنهد متسائلا) أنت مش هتعرفهم كنت مسافر ليه؟!

رفع سليم رأسه ببطء، وهو يربت على الطاولة: لا مش دلوقتي بعدين، أوصل لماسة الأول، ماسة أهم، مينفعش حد يعرف إننا كنا مسافرين وإيه اللي حصل هناك غير بعد ما أوصل لماسة.

أضاف وهو يحتسى القهو بتساؤل: كنت فين امبارح؟

تنهد مكي بأسف: ما أنت عارف الحفلة.

مال سليم للأمام: أنا أقصد بعدها اختفيت، وتليفونك اتقفل.

مكي، متنهدًا: كنت متضايق شويه، لسه نفس العند، مفيش أي تغيير، كل حاجة زي ما هي، اديتها آخر فرصة، قولتلها: لو هتفضلي مع اللى اسمه طارق ده هتبقى انتهت، وطبعا اختارته.

سليم بهدوء عقلاني وهو ينظر بعيد: طول ما احنا مش عارفين أسبابهم، ومحلناش اللغز، سلوى وماسة هيفضلوا زي ماهما، ويبقى الحال كما هو عليه.

رد مكي بعصبية واضحة: عارف يا سليم، أنا واصل مع سلوى لنقطة مش حلوة، أنا خلاص معنديش استعداد أسامح، مهما كان، حتى لو حد بعتلها فيديوهات وأنا نايم مع واحدة على السرير، مش هسامحها، لأنها مجتش سألتني: "ده حقيقي ولا لا؟ أنت خنت ولا لا؟" صدقت واتعاملت مع الشكوك دي عادي جدًا.

رجع سليم للخلف وهو يمسح بكفه على وجهه بتعب: المهم إحنا خلاص رجعنا مصر، خلصنا المهمة الأولى، دلوقتي في مهمة ثانية متقلش أهمية، لازم ندور على ماسة أنا حاسس إنها مش جوه القاهرة.

انحني مكي للأمام بخفة: بس أنا حاسس إنها جوه القاهرة وبتسافر عشان توهمنا.

هز سليم راسه رافضاً بإصرار: تؤ مش جو القاهرة، عموماً هندور في كل محافظة ولازم المكالمه الجايه نحدد مكانها.

وهنا دخل اسماعيل المطعم، يرتدي بدلة أنيقة، ملامحه مشدودة.
اقترب منهم وهو يقول: مساء الخير حمد لله على سلامتكم 

رفع سليم رأسه، وقال بجمود: خير يا إسماعيل؟ عايز إيه؟

جلس إسماعيل، متسائلا: كنتم فين؟

مكي بجمود: هو أنت جايبنا هنا عشان تسألنا كنتم فين؟

رد إسماعيل بإبتسامة باردة: لا بس زي ما قولت لعشري، الأجهزة رصدت ذبذبات معينة، مكالمات وصلت لأهل ماسة.

اقترب سليم قليلاً: وهل وصلت لأي نتيجة؟

إسماعيل بحذر: واضح إنها مع محترف، فاهم هو بيعمل إيه؟! بيستخدم برامج مختلفة وأنظمة معقدة، المكالمات دي محصلتش إلا 3 مرات: الأولى مكالمة طويلة نسبياً، الثانية والثالثة مكالمات صغيرة جدًا للأسف يا سليم لإنك امرت إن كل الميكروفونات تترفع من الفيلا الا مراقبه التليفونات كان ممكن نوصل لحاجات كثير.

تسأل مكي: طيب هي من داخل القاهرة ولا من براها؟

رفع إسماعيل كتفيه: مقدرناش نحدد أي حاجه.

رمقه سليم بنظره حاده من أعلى لأسفل ثم تساءل بهدوء: وأنت ليه بعد كل اللي حصل بتساعدنا؟!

ابتسم إسماعيل نصف ابتسامة: أنت رجعتلي مراتي وابني كويسين وبخير، وتفهمت أسبابك واللي بينا برده كبير.

ابتسم مكي على حديثه الذي لم يصدقه بينما سليم لم يتحرك سكانا، هادئ كهدوء البحر الذي يخدعك بجماله ثم يبلعك.

قال مكي بنبرة حاسمة: بقولك، إحنا شغلنا مع بعض انتهى أنا متأكد إنك بتدور على حاجة تمسكها على سليم وعلينا كلنا، بس أنت عارف إن اللعب مع سليم خطر وخسارتك أكيدة.

أضاف سليم، على حديث مكي وهو يضع فنجانه جانبًا: شكرًا على المعلومة يا إسماعيل، متحاولش تكلمنا تاني، شغلنا مع بعض انتهى، اما أنت وبابا والعيلة، مليش دعوة بيكم.

رد إسماعيل، بهدوء: تمام.

ربت مكي على كتف سليم وهو يهم بالتحرك: يلا نتحرك.

اخذ ينظر لهما اسماعيل نظرة بها الكثير؟!

تحرك سليم مع مكي نحو باب المطعم

سليم وهو يخطو بثقة، وقال بصوت منخفض لكنه حاد: إسماعيل مش سهل، وغدار حط عينك عليه.

مكي بحسم: من غير متقول، بس اليومين الجايين لازم أسافر لأمي وأجيبها محتاجني في حاجة.

تبسم سليم، وهو يمسح على ظهره بخفة: لا يا حبيبي، سافر زي ما أنت عايز، كفاية تعبتك معايا الفترة اللي فاتت أوي.

نظر له مكي بزعل: متقولش كده، أنت أخويا يا سليم.

سليم بامتنان: ربنا ميحرمنيش منك.
 تبسما لبعضهما وتحركا.

خلال تلك الفترة.
لم يتوقف سليم عن البحث عن ماسة بدقة وإصرار، مترقبًا تلك المكالمة التي قد تجمعهما من جديد، لكنها لم تأتِ أبدًا، ورغم ذلك، لم يهدأ قلبه عن مواصلة البحث.

أما مكي، فقد أغلق صفحة سلوى تمامًا، ولم يعد يطارد صوتها في المكالمات كما اعتاد، حتى في عيد ميلادها، مرّ اليوم دون أن يلتفت إليه أو يُبدي أي اهتمام.

في المقابل، كانت سلوى تقوم بالاتصال بطارق الذي توقف عن الرد عليها بسبب ما فعلته وتركها له في الحفلة.

بعد أسبوعين من رجوع سليم. 

المركز الطبي الحاديه عشر مساءً.

كانت ماسة تقف خلف الكونتر كعادتها، تعد الشاي والقهوة وتبيع بعض الأشياء للزبائن المكان يسوده هدوء اعتيادي، حتى قطعه فجأة صوت امرأة تختنق، وقفت اللقمة في حلقها، وبدأت تسعل بعنف غير قادرة على التنفس، هرع من حولها إليها في هلع، أصوات متشابكة تنادي: دكتور! حد ينادى دكتور؟!

تجمدت ماسة للحظة، عينيها تحت النقاب تتابع الموقف وقلبها يخفق بقوة، وفجأة لمعت في ذهنها صورة قديمة: أمها وهي تنقذ أختها سلوى الصغيرة بنفس الطريقة، وتذكرت أيضًا مشهدًا عابرًا شاهدته من قبل في أحد الأفلام.

لم تنتظر أكثر، انطلقت نحو المرأة بخطوات سريعة، وقفت خلفها واحتضنتها من الخلف بقوة، ثم ضغطت بيديها على بطنها مرارًا ثوانٍي قليلة خرجت القطعة العالقة من فم السيدة مع سعالٍ حاد، وانطلقت أنفاسها من جديد.

ساد المكان صمت قصير تخللته شهقات ارتياح، اقترب الطبيب الذي كان قد وصل للتو، فحص السيدة سريعًا، ثم التفت إلى ماسة بابتسامة إعجاب:
برافو عليكِي، أنقذتي حياتها.

أم السيدة هرولت نحو ماسة، تمسك يديها بعاطفة جياشة: ربنا يخليكِي يا بنتي ربنا يسترك.

ماسة، بخجل وبساطة: محصلش حاجة ده واجب.
الحمد لله إنها بخير.

ثم عادت إلى مكانها خلف الكونتر، كأن شيئًا لم يحدث، بينما العيون كلها ما زالت تلاحقها بإعجاب وامتنان.

كانت إيناس تحدق في ماسة بعينين ممتلئتين بالضيق، وصوتها يقطر سخرية: إيه اللي أنتِ عملتيه ده؟! شايفة نفسك فاهمة في كل حاجة؟ أنا مش فاهمة أصلاً أنتِ خريجة إيه بالظبط؟

رفعت ماسة عينيها نحوها وردت بسخط: ملكيش دعوة.

أكملت عملها في يوم طويل لم تجد فيه فرصة للجلوس أو الراحة ولو لدقائق، وعند الساعة الثالثة عصرًا، شعرت أنها لم تعد قادرة على إكمال باقي اليوم، فاستأذنت لتغادر مبكرًا، ارتدت ملابسها وخرجت إلى الشارع، حيث وقفت تنتظر سيارة تقلّها.

لكن أثناء ذلك، خرج مصطفى من المبنى، وحين وقعت عينه عليها توقّف للحظة، ثم اقترب منها باستغراب: مالك يا ماسة؟شكلك مرهق.

رفعت رأسها بضعف: خلاص اهو مروّحة.

اقترب منها أكثر، بعينين مليئتين بالقلق:
ليه؟ مش المفروض تروحي خمسه 

اجابته: تعبت فاستأذنت امشي بدرى.

ابتسم لها بلطف ألف سلامة عليكي، تعالى أوصلك، أنا مروح دلوقتي.

هزت رأسها برفض: لا مش هينفع.

اقترب منها خطوة أخرى، صوته حنون: ليه مش هينفع؟

باقضاب: أنت عارف بالله عليك مش عايزة مشاكل.

بحزم وهو يهز رأسه: والله يا ماسة لو مجتيش فعلا هتحصل المشاكل! يلا عشان تحكيلي على بطولاتك النهارده.

ابتسمت محاولة للتخفيف من الموقف: ما أنا حاسة إني خدت عين بعد البطولات دي!

وبالفعل صعدت ماسة إلى السيارة، وأخذا يتحدثان عن أخباره وأخبارها، يتبادلان تفاصيل الأيام الماضية بين ابتسامات خفيفة وتعليقات عابرة، وبينما كان الحديث يجري، تطرقت ماسة إلى محاولات ندى المتكرّرة في الاتصال بها، وأوضحت أنها لا ترغب في الرد عليها، وكأنها تهرب من مواجهة لا تريدها الآن.

وعند وصولهما فوجئا بأن الطريق مقفول.

مصطفى وهو يوجّه السيارة: الطريق مقفول، لازم ندخل من الحارة دي ونمشي شوية، مفيش ركنة هنا، فهركن العربية ونكمل.

أومأت ماسة بالموافقة: أوكي.

نزلت ماسة من السيارة أولًا، بينما ركن مصطفى سيارته، بعدها لحق بها، ودخلا معًا من شارع جانبي يشبه الحارة لكنه أوسع قليلًا، واستكملا حديثهما وهما يسيران، ماسة تضحك وهي تحكي له ما فعلت.

ماسة وهي تلهث من الضحك: أنا مش مصدقة يا مصطفى! دي كانت هتموت قدامي والناس كلها بتصوت وأنا معاهم فجأة افتكرت ماما زمان وهي بتعمل كده مع سلوى، وحتى كنت شايفة نفس الحركة في مسلسل تركي من يومين، قولت أجرب، وجابت نتيجة! 

ضحكت بخفة وهي ترفع حاجبيها: أهو رسمي بقيت بطلة أكشن بس النسخة البلدي.

مصطفى وهو يهز رأسه مبتسمًا: أنا نفسي يا ماسة، وأنتِ بتحكيلي عن بطولاتك، متجيبيش سيرة إنك شوفتيها في فيلم أو من حد، نفسي مرة تكون من نفسك كده.

ماسة بمرح:أنا مش عارفة خبراتي مضايقاكم في إيه! مش مهم خبراتي جت منين، المهم إنها بتظبط.

ضحك مصطفى باستسلام: والله عندك حق.

وأثناء حديثهما، تعثرت قدمها في طوبة كبيرة، فصرخت بألم:آه آه!

انحنى مصطفى نحوها دون أن يلمسها: أنتِ كويسة؟

امسكت ماسة قدمها: رجلي خبطت في الطوبة دي.

أبعدت الطوبة على جنب بحرص حتى لا يتعثر فيها أحد آخر، لكنها لم تستطع كبح تأوّهها.

مدّ مصطفى يده ليسندها: وجعاكي؟

ماسة بوجه مشدود: يعني تفتكر اتكسرت؟

مصطفى بهدوء: بلاش أفورة، لو كانت اتكسرت كان زمانك لمّا علينا الشارع كله، يمكن التواء بس وبعدين أنتِ لابسة كعب عالي ليه؟

ماسة بابتسامة صغيرة رغم الألم: اتعودت عليه من وأنا عندي 15سنة.

مصطفى: بس أنتِ طويلة مش محتاجة كعب.

ماسة بخفة: أنا 168، بس سليم طويل واتعودت.

مصطفى معترضا: هو تقريبا طولي، واحنا الفرق مابينا مش بعيد يعني من غير كعب.

توقفت فجأة لتقيس المسافة بين طولها وطوله. ضحكت بخفة: لا، هو أطول منك شوية سليم 185.

ضحك مصطفى: يعني الخمسة سنتي دول فارقين معاكي أوي؟

ماسة وهي تضحك: أنت مش عارف الخمسة سنتي دول بيعملوا إيه والله من غير كعب!

مد مصطفى يده: طب يلا نطلع فوق، نطمن عليكي.

وصلا إلى العمارة، دخلا المصعد، ورفعت نقابها

مصطفى معلقاً وهو يضحك: أنت ما بتصدقي.

ماسة: اه والله ما بصدق الجو حر.

طرقت ماسة الباب بخفة، ومازالت تضحك مع مصطفى على نكتة صغيرة، عيناها نصف مغمضتين من المرح.

لكن فجأة، اخترق اللحظة صوت عميق، ناعم، مألوف كطعنة في القلب: Aşkım

تجمدت الضحكة على شفتيها، كأن الهواء انقطع، رأسها تحركت ببطء، ثقيلة، تهتز كأنها لا تملك السيطرة عليها عيناها تتسعان شيئًا فشيئًا، جسدها كله يرتجف، والصدمة تسري في عروقها مثل كهرباء صاعقة ثم وجدت نفسها وجهًا لوجه أمامه سليم، حقيقة لا خيال بملامحه التي حفظتها عن ظهر قلب






تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة