
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الرابع 4 ج1 بقلم ليله عادل
العودة (عناق الدم)❞
{"أقسى ما يعيشه الإنسان أن يتيه في متاهة قلبه؛
حيث تختلط المشاعر حتى يعجز عن التمييز:
أهو في حبٍّ يحييه أم في كرهٍ يفنيه؟
أيمضي ناسياً أم يواصل خداع نفسه؟
كلّ ما يدركه بيقين أنّه موجوع،
وجعه لا يترك له مهرباً،
ويذكّره في كل لحظة أنّه ما زال عالقًا بين الحياة والغيا.}
[بعنوان: متاهات قلب مكسور]
أقترب الرجل، ووضع فوهة مسدسه على جبين سليم وقال بغلظة: أعترف، وتخلي عن غرورك، هذه نهايتك،
ضغط بإصبعه على الزناد، فتجمد الهواء حولهم..
وهنا صرخت ماسة، فنهضت من على السرير مفزوعة، تشعر أن قلبه سيتوقف من شدّة دقاته، جلست متشبثة بصدرها، تحاول تهدئة أنفاسها، لكن الخوف كان يعتصر قلبها وهي تلهث باسمٍ واحد: سلــــيم.
فهو كان مجرد كابوساً ليس إلا
وضعت يديها على أعلى صدرها، وعيناها كادت أن تخرج من محجريها، الخوف يخفي ملامح وجهها، وأنفاسها متلاحقة.
ماسة بتوتر: سليم... سليم... حصل له إيه؟!
تملكها شعور خانق، وكأن أنفاسًا ثقيلة تنغرز في صدرها، فيما كان قلبها يخفق بعنف حتى كاد أن يمزق أضلاعها. انهمرت دموعها بلا وعي، وإحساس غامض يخبرها أن شيئًا مكروهًا يحدث لسليم في تلك اللحظة.
مدت يدها مهرولة، أمسكت هاتفها بيد مرتجفة، وبدأت تكتب رقمًا تحفظه عن ظهر قلب، رقمًا لا يعرفه أحد سواها وسليم، وكان وسيلتها الوحيدة للوصول إليه في الطوارئ، كتبت الأرقام الأولى ثم توقفت فجأة، ارتجف عقلها بخوف: ماذا لو علموا مكانها عبر هذا الاتصال؟ وضعت يديها على جبينها، تتخبط بالأفكار، وصوت قلبها يصرخ في داخلها أن سليم ليس بخير.
اندفعت إلى الدولاب، وبدّلت ثيابها بسرعة، ثم ارتدت الإسدال والنقاب. كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل.
خرجت إلى الشارع بخطوات متوترة، تحاول التفكير: من أين يمكنها أن تكلمه بأمان؟ لا بد أن يكون من مكان بعيد، لا من الإسكندرية، بل من محافظة مجاورة.
رفعت الهاتف، واتصلت بإحدى زميلاتها في العمل.
ماسة: ألو... إزيك يا روروي؟
الصديقة: الحمد لله... إيه يا ليندا؟
ماسة بصوت متوتر: سوري إني بكلمك متأخر، بس بلعب مع ولاد خالتي مش عايزاهم يكسبوني، قوليلي إيه المحافظات إللي جنب إسكندرية؟
الصديقة: فيه البحيرة، كفر الدوار، العامرية، العجمي، كل دي قريبة.
ماسة: تمام متشكرة يا حبي باي.
أغلقت الخط واتجهت إلى الموقف الكبير، وعيناها تلتقطان أسماء المدن التي ينادي عليها السائقون، حين سمعت صوتًا ينادي "كفر الدوار"، أسرعت وركبت، ظل قلبها يضرب بقوة طوال الطريق، حتى وصلت قبيل الثانية بعد منتصف الليل، نزلت وهرعت إلى أحد الأكشاك، استأجرت هاتفًا، وبدأت تكتب الرقم
في الجهة الأخرى... ألمانيا.
كان مكي واقفًا في ممر ضيق لم نعرف لما هذا الممر، وجهه شاحب، حين رنّ هاتف سليم الخاص برقمٍ غريب، عقد حاجبيه بإستغراب، رفع السماعة بدهشة هو يعرف أن هذا رقم لا أحد سواه وسوى وماسة يعلم عنه شيء.
مكي: ألو؟
لكن حين استمعت ماسه لصوته عقدت حاجبيها من أسفل النقاب باستغراب لماذا الهاتف مع مكي وليس سليم أين سليم؟!
أزداد اضطرابها وخوفها، تحركت شفتاها، تريد أن تقول: أين سليم يا مكي؟ لكن تردّدها كبّل صوتها.
بينما مكي: ألو مين معايا؟ ألو؟ .. صمت للحظة ثم قال فجأة: إنتي فين يا ماسة!؛
اتسعت عيناها بشدة من هول الصدمة وهرعت وأغلقت الهاتف برعب، أطبقت على دموعها،أعادت الهاتف لصاحب الكشك، دفعت المال، وفرّت هاربة.
لم ينتظر مكي طويلًا، فأتصل بالرقم مباشرة. رد صاحب الكشك:
صاحب الكشك: أيوه مين
مكي الرقم ده لسة رانن عليا حالًا، مين إللي أتصل؟
صاحب الكشك: مش أنا، دي زبونة.
مكي: زبونة؟ ممكن توصفها لي؟
صاحب الكشك: كانت لابسة نقاب يا بيه، فيه حاجة؟
مكي: لا، لا، مفيش. طب إنت بتكلمني منين؟
صاحب الكشك: من موقف كفر الدوار يا بيه.
أغلق مكي الخط فورًا، ورفع هاتفه ليتصل بعشري:
مكي: عشري، فوق دلوقتي. خد رجالتك وأطلع كفر الدوار. قلبوا المكان كله، شوفوا المحافظات إللي حواليها، راجعوا الكاميرات... دوروا على واحدة منقبة. أنا هبعتلك الرقم إللي اتصل علينا ... ماسة اتصلت بسرعة.
... وفي تلك اللحظة، أغلق مكي الهاتف، ثم رفع بصره للأمام وقال متعجبا بنبرة حانية: إنتي حاسة ولا إيه؟
وكأن كلماته تحمل إدراكًا خفيًا لماسة.
على إتجاه أخر عند ماسة
كانت ماسة تبكي بحرقة، قلبها يخفق بعنف وهي تتحرك مسرعة في الشارع، ينهشها ندمٌ لأنها اتصلت به. وقفت في الطرقات تبحث عن وسيلة جديدة للهروب، تخشى أن يقتفوا أثرها، وبينما تفكر، وقع بصرها على ميكروباص ينادي على طنطا، فصعدت إليه دون تردد. وما إن مضت عشر دقائق حتى أنطلق الميكروباص.
كانت تعرف أن عليهم أن يظنوا أنها في مكان آخر، ولهذا كان لا بد أن تبتعد عن كفر الدوار بسرعة.
قلبها يؤلمها، لكن عقلها يصرخ بأن الخطر يقترب، وهي لا تملك سوى الهروب.
جلست تبكي، لا تفهم لماذا أتصلت به. هل كان الحلم وحده كافيًا ليجعلها تفعل هذا؟ لقد شعرت وكأنها تقدم نفسها على طبق من ذهب لسليم ورجاله.
وضعت يدها على صدرها تكتم أنينها كي لا يلتفت إليها أحد، فيما عقلها يتخبط بين الندم والوجع والغضب.
همست لنفسها بصوت مرتجف:
اتصلتي بيه ليه يا غبية؟ لسة بتحبيه؟ بتحبيه ليه؟ إنتِ هنتي عليه.
ثم جاءها صوت داخلي آخر:
بس يا ترى هو فين؟ أنا إزاي رقمه مش معاه. قلبي بيوجعني قوي، حاسة إن فيه حاجة.
ردّ عليها صوت أشد قسوة:
ولا فيه حاجة ولا محتاجة. إنتِ إللي غبية ولسة بتحبيه واحد داس عليكي بجزمته. ضربك وهانك وهددك بأهلك هو وأهله. عمل فيكي إللي قلتي مستحيل يعمله.
عاد صوتها الداخلي الأول متسائلًا بقلق:
طب هو سافر ليه؟ ليه مكي رد ماكانش هو؟
ليه قلبي وجعني كدة؟!
جاء صوت قاسي غاضب:
لو بيحبك ما كانش هايسافر، كان زمانه بيقلب الدنيا عليكي. لكن ده بيسافر وعايش حياته عادي.
صرخت في نفسها:
بطّلي غباء! يا ماسة سليم ما يستهلش حبك.
أنهمرت دموعها أكثر وأخذت تبكي طول الطريق وقلبها يتمزق ألما، حتى وصلت لحظة الفجر.
نظرت حولها، تبحث بعينيها المرتعشتين عن الكاميرات، تدرك أن عليها أن تغيّر ملامحها. كان لا بد أن تبدل ملابسها وتركب وسيلة أخرى.
جلست قليلًا في المحطة حتى السادسة صباحًا، ثم بدأت تتجول في الشوارع. عثرت على سوق قريب، فا اشترت فستانًا وطرحة، ودخلت حمامًا في أحد المقاهي وغيرت ملابسها. وضعت الإيشارب على وجهها كالنقاب، ثم اتجهت إلى محطة القطار. ركبت أول قطار متجه إلى الإسكندرية، وحين وصلت، دخلت بعض المحلات قرب المحطة واشترت ملابس جديدة ملوّنة ونقابًا آخر، وارتدتهم قبل أن تتجه إلى عملها.
لكن طوال الوقت، كان قلبها يوجعها بشدة. فكرة واحدة لا تفارقها: سليم... ليس بخير.
في الناحية الأخرى
كان عشري قد وصل، لكنه لم يجد أي أثر، وللأسف، المحطة كانت متهالكة تقريبًا، لا تعمل بها كاميرات، وكأنهم لم يصلوا إلى شيء. أخبر مكي بما جرى، لكن ذلك كان كافيًا ليؤكد لهم أن ماسة قريبة... قريبة جدًا.
في الناحية الأخرى
بينما ماسة كانت طوال ساعات العمل تشعر بأن قلبها يعتصرها وجعًا، كأن هناك صوتًا خفيًا يلحّ عليها بلا انقطاع: اتصلي بسليم، اطمني عليه، سليم مش كويس.
لكنها لم تكن تعرف كيف تفعل ذلك، أو من أين تأتيها الجرأة لتخطو تلك الخطوة.
حاولت أن تصبّر نفسها بحجّة واحدة تكررها داخليًا: هو أكيد بخير، لو مكانش بخير مكي مكانش رد عليَّ بالصوت الهادي ده.
إلي أن قلبها ظل يؤلمها، يصرخ بداخلها دون أن يهدأ، حتى دموعها كانت تنهمر بلا سبب واضح !
لم تعد تستطيع التركيز في العمل، حتى أنهم اضطرّوها للرحيل قبل معادها المعتاد.
هذه المرّة لم تستطع المرور على نبيلة كما اعتادت، بل صعدت مباشرة إلى شقتها، جلست هناك وحيدة، يزداد عليها الوجع، حتى شعرت كأن قلبها يوشك أن يتوقف بالفعل، كأنها أصيبت بمرض القلب من شدّة ما ينهشها من قلق داخلي، إحساسٌ غامض يثقل عليها، يخبرها بأن هناك أمرًا غير مريح يحدث لسليم وكأن شيئًا ما على وشك الانكشاف !
💞______________بقلمي_ليلةعادل。◕‿◕。
مستشفى الشمس، الواحدة مساءً
خرج مصطفى من غرفة الكشف، خطواته بطيئة كأنه مرهق من الفحص لمح محمد واقفًا مع احد المرضى.
تبادلا النظرات فأشار مصطفى برأسه بمعنى أن يأتي خلفه إلى الحديقة، فهزّ محمد رأسه موافقًا.
بعد دقائق اجتمعا في الجنينة وجلسا على مقعدين متجاورين تحت ظل شجرة.
مصطفى بهدوء: اقعد عامل إيه؟
محمد بابتسامة صغيرة وهو يجلس: تمام.
مصطفى بهدوء ممزوج بالعتاب: مبقيناش عارفين نشوفك.
تنهد محمد بضجر: الله يسامحها ندى هنعمل إيه؟ ما هي السبب، بس خلاص لما عائشة ربنا يهديها ونتجوّز هاخد شقة في إسكندرية مش عايز أبعدها عنكم فعلًا.
مصطفى بنظرة حادة: بمناسبة عائشه، إنت إيه اللي عملته مع عائشة ده؟
محمد متعجّب: عملت إيه؟
مصطفى بنبره أكثر حدة: سيبتها ومشيت! أنا كنت هكلمك في التليفون أهزّقك بس قولت كلام التليفون مش هينفع، مافيش راجل محترم يسيب بنت لوحدها وكمان دي اللي هتبقى خطيبته! حتى لو متعصّب أو متخانقين كان لازم تاخدها وتقول لها: "تعالي يا حبيبتي"، وتوصلها لحد بيتها أو على الأقل تركّبها تاكسي لكن تسيبها تمشي كده؟! ده مش تصرّف رجولي أنا هديت إيهاب بالعافيه لأنه كان عايز يكلمك يشتمك.
محمد مطأطئًا رأسه: أنا ماقصدتش أنت عندك حق بس كنت متضايق اوي العصبية خلتني مش قادر أفكر.
مصطفى يهز رأسه بثقل بعقلانية: بص يا محمد من الأول قولتلك إن عائشة محتاجة صبر ومعاملة خاصة البنت ماشافتش حنان أبوي، كل اللي شافته قسوة، فهي محتاجة تطمّن تحس إن الراجل اللي هتتجوزه أمان وحنان، إنما لما تزعق وتعمل زي ماعملت أو حتى نفس أسلوبك اللي عملته مع ماسة قبل كده ده بيخليها تخاف منك أكتر..
انحنى قليلًا للأمام وتابع بنبره صوت أهدأ وكأنه بينصح أخوه الصغير:
عائشة عايزة تشوف حنان عايزة راجل طيب ومسالم اتعامل معاها كأنها بنتك لما بنتك تغلط هتعمل إيه؟ هتسيبها وتمشي؟ لأ طبعًا، هتفهّمها غلطها وتطبطب عليها تقول لها: "إغلطِي يا حبيبتي، وأنا هصلّح وراكي، ما تخافيش، أنا جنبك" هي محتاجة ده محتاجة تحس إن الغلط مش نهاية الدنيا وإن في حضن أمان يستقبلها مهما حصل.
سكت محمد لحظه ثم رد بهدوء: فاهم يا مصطفى بس برضه أنا مطلبتش حاجة غلط كل اللي قولته إننا ناخد خطوة رسمية تبقى خطيبتي قدام الناس آه يمكن احنا في حكم المخطوبين، لكن نفسيًا أنا محتاج ده ط، حتى الدبلة اللي شايفينها بسيطة دى بالنسبالي مهمة.
مصطفى بنبره هادئه: مقولتش إنك غلط، أنت عندك حق، وأنا كمان قولتلها آخر الأسبوع لو ماخدتش قرار أنا هنهى الموضوع، بس برضه مينفعش تسيبها كده من غير ما تكلمها كام يوم، كأنك بتعاقبها، كان لازم تراضيها بكلمتين: "معلش يا حبيبتي، أنا اتعصبت النهاردة ، حقك عليا ، خدي وقتك وفكري، أنا معاكي مهما كان قرارك". الكلمتين دول كانوا هيفرقوا معاها كتير، ماتبقاش غليظ كده، البنات عايزين معاملة لينه كأنك بتتعامل مع طفلة: كلهم محتاجين حنان واحتواء ومع شوشو بالذات الموضوع محتاج ضعف الحب والاحتواء كمان.
محمد رافعا عينيه بجدية: عندك حق أنا هكلمها النهاردة وأعتذرلها.
اومأ مصطفى مبتسما ثم تابع: بقولك إيه ندى كلمتك؟
محمد متنهّد: لأ ومحذّر أي حد يديها رقمي الجديد حتى رقم أمي غيرته وأبويا دي مجنونة.
مصطفى مبتسما بمرارة: كلمت ماسة .. ليندا.
محمد ساخر: عشان ترجّعكم لبعض يعني؟
هز مصطفى راسة بمرارة: آه والأستاذة قالبة عليا جامد أوي، شايفاني قاسي بس هي مش مدركة حجم الكارثة، بس لما تتقرص منها هتعرف.
محمد بصوت منخفض وهو يمسح على رقبته: طب بقولك هو أحنا ينفع نفضل شغالين هنا؟ المفروض نمشي.
مصطفى باعتراض وحسم: لأ هنفضل شغالين هنا عادى هو ممكن يرجع في أي لحظة نتعامل عادي كأن مافيش حاجة أنا سألت في الإدارة وحاولت أجيب رقمه بس كل أرقامه مقفوله.
محمد بقلق: طب قول لي شوشو رأيها إيه فيه أمل؟
مصطفى بهدوء: عائشة؟ بنحاول معاها إنت بس كلمها واعتذر وتعال وجيبلها شوكولاته.
محمد: ماشي وإنت خد بالك من نفسك وفكّر تاني.
مصطفى بحسم وهو ينظر مباشرة في عينيه: محمد انهي بقى، أنا واخد القرار خلاص.
رفع محمد حاجبه باستهجان وضحك بخفة: أنا عارفك لما بتقفّل دماغك في حاجه بتبقى رخم المهم خد بالك من نفسك برضه، وبكرة هاجيلكم.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل.
منزل مصطفى
المطبخ الرابعة مساءً
كانت ماسة تتوقف أمام البوتاجاز، تقلب في الطعام وهي ترتدي فستانًا ناعمًا يصف رشاقة جسدها. انسدل شعرها على ظهرها في سلاسة، يمنحها جمالًا هادئًا. تذوقت الطعام قليلًا، قم اخفضت النار، وبعدها بدأت تصب الشاي، أضافت عود نعناع لكل كوب. حملت الصينية بخطوات واثقة وخرجت بها إلى الشرفة.
الشرفة
كانت نبيلة جالسة تنتظرها. وضعت ماسة الصينيه على الطاولة وجلست أمامها، تنفست نسمة هواء عليلة حرّكت أطراف شعرها.
ابتسمت نبيلة وهي تنظر إليها: ما شاء الله عليكِ يا بنتي، كل مرة أشوفك أقول ما شاء الله.
ماسة ردت بخجل، وهي تبعد شعرها عن وجهها:
ميرسي لذوقك أنا مش حلوة اوي كده، عائشة أجمل مني بكتير، على العموم الأكل خلاص قرب يخلص.
مدت نبيلة يدها نحو الكوب: تسلم إيدك يا حبيبتي، تعبتي نفسك ليه؟ مش كان المفروض ترتاحي النهاردة؟
هزت ماسة رأسها بابتسامة صغيرة: مفيش تعب يا ماما، بس قوليلي بقى، إحنا هنعمل إيه؟ أنا بصراحة مستغربة مصطفى أوي، عمري ماشوفته متعصب كده ولا بيهاجم كده، حتى ما ادانيش فرصة أتكلم! لأول مرة أحس إنه ممكن يكون قاسي وصعب كده.
احتست نبيلة رشفة صغيرة من الشاي، ثم وضعت الكوب على الطاولة وقالت بهدوء: بصي يا ماسة، مصطفى مش قاسي، ابني طيب وحنين، بس شاف منها كتير، اذته، أوعي تفتكري إن غيرة ندى انها مثلاً انها تقول له "انت بتكلم مين؟! ووريني بتكلم مين" وتكشّر في وشه، حاجة بسيط لا يا بنتي مصطفى لولا دعواتي كان زمانه اتفصل من المستشفى، كانوا بيعدّوا له غلطاته باحترام عشان عارفين إنه إنسان محترم ومالوش ذنب يعني اكتر من مره يا حبيبي يمشوه من المستشفيات بيقولوا له خلاص لحد كده بسبب بهدلتها واللي بتعمله.
رفعت ماسة حاجبيها وقالت باستغراب: طب ليه سايبها تشتغل معاه؟ يقدر يشتغل في أي مكان لوحده.
تنهدت نبيلة، ونظراتها اتجهت بعيدًا: يا حبيبتي، هي اللي بتروح له وتعمل المشاكل، مش بس معاه بس، معانا كمان. تقعد تقولنا ماتكلموش جوزي وابعدوا عنه، ومصطفى استحمل مره واثنين وعشرة مفيش فايدة، لحد العيانين رجاله وستات ما سلموش من جنانها كانت بتكلمهم وتقول لهم انتم بتكلموا جوزي ليه وعايزين منه ايه؟! فعشان كده قفل منها خالص.
خفضت ماسة عينيها إلى الطاولة، أصابعها تعبث بعود النعناع في الكوب:
والله يا ماما أنا متفهمة، بس صعبت عليا ذلها.
أومأت نبيلة ببطء: أنا كمان صعبان عليا حالها، هي بنت كويسة، متربية، وبتحبه بجد. بس الغيرة قتلتها. أذيته كتير يا ماسة، في شغله، وشغل أخواته كمان، يا حبيبي ايهاب كانت اترقه وبسبها مشوه، يمكن دلوقتي ربنا يهديها، أنا هكلمه تاني.
رفعت ماسة رأسها بابتسامة خفيفة: يا ريت، يمكن يسمعك.
احتست نبيلة من الشاي، ثم نظرت إلى ماسة بنظرة عميقة: بس الغريب...
رفعت ماسة حاجبيها: غريب إيه؟
نبيلة بلهجة متفكرة: كل واحد ليه فرصة في التغيير، خصوصًا لما يبعد، بس إنتِ مش عايزة تدي سليم نفس الفرصة مستغربه يعني انك بتحاولي تقنعي مصطفى باللي انت نفسك مش قادره تعمليه.
زفرت ماسة ببطء، وكأن حديث ثقل على صدرها:
الموضوع مختلف يا ماما، سليم غير ندى خالص.
هزت نبيلة رأسها: لا بالعكس، سليم أحسن من ندى. على الأقل بيعترف إنه غلطان. إنما ندى عمرها ما شافت نفسها غلطانة. غيرتها مش طبيعية. لكن سليم كان عارف إن تصرفاته مش صح، وكان بيقولك اصبري عليا. حتى لما راح للدكتور اتحسّن. الحادثة اللي حصلت لكم هي اللي رجعته تاني لورا.
ثم نظرت إليها بثبات:
فاللي مستغرباه يا ماسة؟ إزاي عايزة مصطفى يسمع ويدي فرصة، وإنتِ نفسك مش قادرة تعملي كده؟
انت لسه قايله لي من شوية كل واحد يستاهل فرصه يا ماما كلميه.
ارتجفت شفتا ماسة، وانخفض صوتها وهي تتكلم:
عشان زي ما قلتلك يا ماما، الموضوع مختلف. أنا اتهددت بأهلي، اتكسرت بيهم. أوعي تفتكري إني موجوعة على السنة اللي اتحبست فيها بس ومنعه اني اشوف أهلي..
أضاف بنبرة مخذوله بوجع ودموع:
لا. أنا اتخذلت فيه، إنتِ عارفة يعني إيه أقف قدام رشدي وصافيناز وقدامهم كلهم، وأقولهم مستحيل سليم يعمل كده؟ حتى لو هددني بنفسي، كنت هتحمل. لكن لما عملها يوم عمار، اتكسرت اوي. عمل الحاجة الوحيدة اللي أنا دافعت عنه باستماته فيها.
بدموع ونبرة مهتزه وهي تواصل:
بس الليلة دي ضيع كل حاجة، قولي لي إزاي؟ إزاي أنام في حضنه تاني وأنا شايفة إن الحضن ده كان ممكن يقتلني؟ أوعي تفتكري إني زعلانة من الضرب ولا حتى من إنه خنقني، ده ما يهمنيش، كل اللي حصل في عشر سنين جواز ما يساويش اللحظة اللي حاول ياخدني فيها بالعافية كسره، كسره أتمنى من قلبي ماتحصلش لأي ست عشان كده أنا مش قادرة أسامحه.
اقتربت نبيلة منها أكثر، ولمست يدها بحنان قالت بدمعه محبوسه:
على الأقل يا ماسة، إنت لما قولتي له ماتعملش كده وماتكسرش آخر حاجة بينا، وقف نفسه، دي حاجه اوعي تنسيها له، في غيره يا بنتي مابيقفوش، اسأليني أنا...
صمتت للحظات وكانها تذكرت احداث متشابهه اهتزت شفتيها:
عموماً، أنا قلتلك وهفضل أقولك: ماينفعش تفضلي هربانة، لازم ترجعي، ولازم تفكري إزاي تخلي سليم يبقى حد تاني، هو أرض طيبة، بذرتها حلوة، يستاهل فرصة، بس على شروطك. لما ترجعي له ما تسلميش بسهولة ولا تحسسيه إنك راجعة. خليكي ناوية، بس خليه يلف حوالي نفسه عشان يتعلم ميزعلكيش تاني واكيد الكم شهر اللي فاتوا علموه كتير.
ثم أضافت بابتسامة مطمئنة:
وبعدين، اطمنتي على أهلك ما شاء الله كويسين، ده ياكدلك انه ممكن اتغير؟ وإذا كان على التهديدات بتاعته وشويتين دول والحمق، يابنتي دي تربيته كده. يا بنتي، هو اتربى مع الاشكال اللي كانت بتخوفك، عايزاه يطلع عامل إزاي؟ ده الحمد لله إنه وصل معاكي لحد كده. هو ده اللي يعرف يتعامل بيه: التهديد التسلط. والأسلوب ده مش طبع، دي تربية. عارفة لو كان طبع، يا ماسة، والله ما كان اتغير، لكن الراجل فضل متغير وثابت لفترة كبيرة، لكنه اتنكّس إمتى؟ لما حصلت له الحادثة، شاف بنته بتموت، وشافك إنت كمان، لما حكايتي الحادثة، وأنا لما تخيلتها كده، والله قلبي اتقطع، هو شافها، لكن إنت ما شفتيهوش. إنت قلتي ماشفتيهوش وهو بيتضرب برصاصة، لكن هو شافك، فطبيعي يبقى كدة دماغه مش فيه، لأنه ما وصلش للعصابة. أنا مش بدافع عنه، هو غلطان، بس غلطته تتغفر. خلينا نجربه، ولو فضل زي ما هو ورجع تاني لعمايله، والله العظيم يا ماسة أنا أول واحدة أقولك سيبيه. بس المرة دي لما ترجعي، أنا هعلمك إزاي تتعاملي مع سليم أو مع أي راجل. إنت شاطرة وذكية، واللي عملتيه في السنة دي كان حلو، بس كان محتاج ذكاء أكتر. الرجالة يا بنتي بيتضحك عليهم بكلمتين.
أطرقت ماسة برأسها، وصوتها خرج مبحوح:
والله يا ماما ماعارفه، عمري ما أنكرت إن في محبة كبيرة في قلبي لسليم لحد اللحظة دي برغم اللي عمله، لدرجه اني بدعي ربنا يخرجه من قلبي أنا زعلانة اوي منه، بنام وأقوم والليلة دي قصاد عيني.
مش عارفه انساها غير جريتي في شارع بقميص النوم ولا الايام اللى نمتها في الشارع.
ربّتت نبيلة على ساقها برفق: هتِنسي وهو هينسيكي، هو بيحبك، بس الأهم يعترف بغلطه ويتغير. سليم لازم يتغير في حاجات كتير. وإنتِ كمان لازم تتغيري. زي ما شايفة إن كل إنسان يستحق فرصة، هو كمان محتاج فرصة. ما تنسيش إن الراجل مجروح، والراجل غير الست.
مسحت ماسة دمعة سالت على وجنتها، بصمت تابعت نبيلة:أما عن مصطفى، أنا هكلمه متقلقيش
ماسة: طب أنا هروح أبص على الأكل.
نهضت ماسة متجهة نحو المطبخ، بينما نبيلة رفعت يديها تدعو: ربنا يسترها عليكِ يا بنتي، ويسهّلها لك، ويسهّلها لك يا مصطفى يا ابني ويهديكي يا ندى.
توقفت ماسة أمام البوتاجاز، شاردة الفكر، تتردد كلمات نبيلة في ذهنها. همست لنفسها: على قد كلامك ما، هو صح يا ماما وجميل، بس صعب. أنا مكسورة منه أوي، وخايفة، وما حدش حاسس بيا.
أحد المولات الكبيرة، الثانية عشرة ظهرًا.
نرى مي تتحرّك بين الطوابق تدخل المحلات وتستعرض بعض الملابس بمفردها تلمس الأقمشة بابتسامة خفيفة مستمتعة بالوقت.
كان رشدي يراقب مي من بعيد بعد أن اتفق مع الحارس المكلف بمتابعتها أن يتصل به فقط عندما تكون بمفردها وبالفعل جاءته المكالمة بمكانها وهو في المجموعة فركب سيارته على الفور وتوجه نحو المول.
في أحد المحلات:
نرى مي تتفحص الفساتين والبلوزات.
كان رشدي يقف بعيدا يشاهدها بابتسامة واسعة منزّلًا نظارته الشمسية قليلًا وفجأة تحرّك وأخذ تيشيرت رجالي وتوقف أمام مي.
اتسعت عيناه وارتسمت على وجهه ابتسامة تُظهر المفاجأة وقال: إيه ده… مي! ايه الصدفة الحلوة دي! أوعي تكوني ناسياني.
مي برقة: لا طبعًا، فاكراك إزيك يا رشدي؟
رشدي يقترب بخفة: الحمد لله وإنتي عاملة إيه وبتعملى ايه هنا؟
مي بهدوء: يعنى هكون بعمل ايه في المول اكيد بعمل شوبينج (shopping) !
رد رشدي مبتسما: وأنا كمان، معكيش حد ولا إيه؟
مي تهز رأسها وتبتسم بخفة: لا، أنا لوحدي.
رشدي وهو يميل للأمام قليلاً ويضحك: وأنا كمان أصحابي الأندال محدش رضي يجى معايا.
مي تبتسم وتمسك فستانًا: اتعلِّم تبقى لوحدك محدش متاح على طول.
رشدي يضحك بخفة ويُلوّح بيده: عندك حق والله طب بقولك إيه، ما تيجي نشرب حاجة سوا ؟
ترفع مي حاجبها بتعجب: أشرب معاك حاجة ليه؟
رشدي بابتسامة: أصلي ريقي ناشف وعطشان، بقالي ساعة بلف حوالين نفسي عايز أشتري كام حاجة حلوة ولأني لوحدي تايه، ومش عارف اختار متطلعي جدعة معايا وتختاريلي حاجة على ذوقك بس لازم اعزمك على حاجة الأول.
مي وهى تهز رأسها خفيفة: أنا آسفة، مش هينفع .
رشدي ينظر لها مباشرة ويبتسم بثقة: ليه؟ مش إحنا أصحاب؟!
مي بهدوء: لا ، إحنا مش أصحاب إنت صاحب صحابي.
رشدي مازحا وهو يُلوّح بيده: خلاص نبقى أصحاب، إيه المشكلة؟ مش أنا وصّلتك مره ؟ يبقى في بيننا عشرتين عشرة القعدة اللي قعدناها وعشرة التوصيلة، فأوعي تعترضي مافيش اعتراض هنشرب حاجة يعني هنشرب حاجة.
مي تمسك فستان آخر وتحرك رأسها بجدية: والله لما أخلص هشوف بعد إذنك.
رشدي يمد يده نحو الملابس ويبتسم: إنتي لسه مخلصتيش؟
مي باقتضاب: لا لسه مخلصتش.
تبسم رشدي وهو يهز رأسه: آه، ده إحنا بنفرض سيطرة وشخصية بقي أوكي اتفضلي لفي براحتك بعدين نبقي نشوف موضوع العصير ثم تابع (برجاء طفولي) بس والنبي نقّي لي حاجة معاكى ثواب حتى اكسبي فيا ثواب.
تنهدت مي وهي تلتقط بعض الفساتين والبلوزات وتتحرك بين الرفوف: ماشي هخلص حاجتى الأول وبعدين ابقي اساعدك.
وبالفعل بدأت في قياس بعض الملابس لكنها لم تأخذ رأي رشدي ولا مرة حتى حين أراد أن يعطيها رأيه لم تهتم لكنها بعد الانتهاء اختارت له تيشيرت وقميص فشكرها.
بعد أن انتهوا من شراء الملابس
رشدي وهو يمسك الأكياس: لا بقى رايحة فين؟ هنشرب عصير يعني هنشرب عصير؟
مي بصرامة هادئة: بعد إذنك أنا مابحبش طريقة الأوامر دي والأسلوب ده.
رشدي بخفة ممزوجه بتهذب: بعد إذنك يا مدموزيل مي ممكن نشرب سوا عصير مافيهاش حاجة يعني.
مي بتحفظ: أصل أنا مش فاهمة بتاع ايه نقعد مع بعض لوحدنا ، قولت لك إحنا مش أصحاب.
رشدي بابتسامة: ما أنا قلتلك بقى في بينا عشرتين دلوقت؟!
مي بتهكم ساخر: عشرة التوصيلة وعشرة القعدة.
رشدي ضاحكا: بتحفظي بسرعة! ودلوقت بعد ال shopping بقوا تلاتة
تنهدت مي بتعب: خلاص أنا كده كده كنت مقرره بعد ما أخلص اروح اشرب حاجه فعلا لأن الجو حر وتعبت من كتر اللف فممكن اسمح لك تقعد معايا، بس هى نص ساعه بس.
تحركت وتحرك خلفها بابتسامة
في أحد الكافيهات.
جلسا رشدي ومي امام بعضهما على احد الطاولات
رشدي يضع كوبه على الطاولة ويبتسم: قولي لي بقى، إيه الأخبار؟ عاملة إيه في حياتك؟ بتعملي إيه أصلًا؟
مي تلعب بيدها على الطاولة وتنظر للأسفل بخجل:
ولا حاجة عادي يعني دراسة وكده، وإنت مش في شغلك ليه دلوقتي؟ مش المفروض إنك بزنس مان؟ المفروض تكون مشغول ديما ومعندكش وقت تهرش حتى.
رفع رشدي رأسه وعينه تلمع بخفة:صح بس إخواتي هما اللي ماسكين كل حاجة وأنا بروح كده لتثبيت وجودي مش أكتر.
مي باستغراب: يعني إيه تثبت وجود مش أكتر؟
يميل رشدي برأسه ويضحك بخفة: يعني بابا مخلي أخويا سليم هو الكل في الكل وإحنا حواليه شوية عرايس زينه ملناش لازمة.
ردت مي بعقلانية: مفيش حاجة اسمها ملكمش لازمة أنتم المفروض مجموعه وكل واحد له دور، يعنى عندك مثلا فريق الكوره بيبقي مكون من 11 لاعب كل واحد له دور معين وحاجه هو بس اللى مميز فيها بتساعد الفريق إنه يكسب ويتألق لكن مينفعش الفريق يكون ناقص او حد ميكونش موجود بتحس إنه في خلل في الفريق، وبيبقي هزيمتهم سهله، وعلى الأغلب بتكون كبيره كمان، فانتم كلكم المفروض بتكملوا بعض، علشان تكون النتيجه في الاخر نجاح المنظومه، أكيد أخوك سليم عشان يثبت وجوده اشتغل كتير على نفسه، لكن واضح إن إنت اللي لعبي إنت وإخواتك.
رشدي يضحك بخجل ويمسك كوبه: لا والله مش لعبي، بس لما متلاقيش التشجيع المناسب مهما تعملى وتجيبي شغل أو صفقة كويسه بتحسي بالاحباط إنك كده كده مهما عملتى مش عاجب فنفسك بتتقفل.
ابتسمت مي بخفة وهى تلمس فنجانها وقالت: إنت شكلك بتدلع مش لازم في كل حاجة تجيبها يتقالك برافو ده بيربي عندك إن الإنجاز مقابله تشجيع وده بيعمل نوع من أنواع الأنانية أو إنك دايمًا تبقى محتاج مقابل للحاجة اللي بتقدمها، لكن لما تقدم شيء كويس جدًا أو عبقري ساعتها هيتسقفلك لكن إنت مثلًا جبتلي صفقة سكر وحد تاني جاب صفقة بترول أكيد هيتسقف للي جاب البترول.
رشدي بضجر: آه واللي جاب السكر ده عبيط يعني؟ متبقيش زيهم !
مي بهدوء: أنا ما أقصدش كده بس أنت ليه مثلا مفكرتش تشوف اللى جاب صفقه البترول دى عمل ايه زياده عنك وتتعلم منه، مره على مره هتلاقي نفسك بتجيب صفقات أحسن منه بكتير؛ لأنك وقتها هتحول كل مره هو بيتفوق عليك فيها من لحظه فشل وهزيمه ليك لتجربة تستفيد منها وتزيدك خبرة !
كان رشدي يستمع إليها بابتسامة بينما ذهنه ينشغل بذلك الحديث فلأول مرة يتحدث معه أحد من تلك المنطقة بتلك الطريقة الكلمات راقت له على نحوٍ ما بل لامست شيئًا خفيًا في داخله لم يعترف به من قبل !
لكن سرعان ما هز رأسه رافضًا، قائلاً بنبرة تحمل عدم التصديق والاقتناع: "يمكن..."
في أعماقه كان يدرك أن الأمر ليس كذلك، فالمشكلة أعمق بكثير لم يكن الآخرون يرونه سوى الفاشل الوقح الذي لا يجلب سوى المتاعب..
أما سليم، فهو العقدة التي حطمته منذ البداية، حيث كان الأهل لا يرون سواه، كل الأنظار والاهتمام موجَّه نحوه، بينما هو ظلّ دائمًا غير مرئي مهمَّشًا كأن وجوده لا قيمة له، وهكذا تكرّست صورته في أعين الجميع الصورة التي كرهها هو نفسه قبل أن يكرهها الآخرون !
رشدي وهو يميل للامام ويغير موضوع بخفة: طب بصي… إحنا كلنا هنتقابل بكره في الأرزونا، قعدة نوبي كده على النيل هتعجبك جدًا تيجي معانا؟
تهز مي رأسها بابتسامة مترددة وتعدل طرحتها بهدوء وهى تقول: لأ عندي مذاكرة.
يميل رشدي برأسه بخفة: عادي نظبط معاد تاني يكون مناسب ليكى مش لازم تبقى بكره.
مي تزُم شفتيها وتتنهد: هبقى أشوف ممكن أكلم زيزي وأسألها.
يضحك رشدي وهو يرفع كوب العصير: ماشي براحتك المهم أنا مبسوط إن شوفتك النهارده
تبتسم مي بهدوء وتلمس حافة كوبها: طب أنا لازم أمشي بقى.
رشدي بلهفة: متخليكي شوية ملحقناش نقعد.
مي وهي تفتح حقيبتها: لا معلش مش هينفع ورايا حاجات كتير ومشغولة.
مد رشدي يده بسرعة يطلع محفظته: استني بس أنت بتعملى ايه أنا اللي هحاسب.
مي بسرعة وهي تخرج الفلوس من ,حقيبتها: لأ طبعًا! مش هينفع تدفع لي حاجة.
يضحك رشدي بخفة ويرفع حاجبه: لا خلينا متفقين أنا اسمي رشدي مش هايدي..
ثم رفع عينه نحو الفلوس التي بين يديها وقال بمزاح:
وبعدين على فكرة اللي إحنا شربناه ده بـ250 جنيه وإنتي ماسكة 100 جنيه! إيه ده؟ مش هتدفعيلي معاكي؟ بخيلة!
بسرعة أخرجت مي من حقيبتها 300 جنيه ومدّتها له.
رشدي بمزاح وهو يضحك: خديهم بقى جيبي لك "لوليتا" وإنتِ ماشية يلا يا مي الله يسهلك مش إنتِ متأخرة؟ يلا امشي.
مي وهي تبتسم بخفة: أصلي بقولك مش…
رشدي مقاطعًا وهو يلوّح بيده: ما فيش "مش"! يلا يا مشمش عشان ما تتأخريش عيب.
مي برقة وهي تقف وتعدل طرحتها بسرعة قبل أن تلتقط شنطتها: ميرسي على العصير باي باي.
رشدي يرفع يده لها بابتسامة واسعة وهو يتابعها بعينيه وهي تغادر: باي يا مشمش
اخذ ينظر لاثارها بابتسامة عريضة.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل(ʘᴗʘ✿)
خلال أسبوع.
حاول الجميع إقناع عائشة بالخطوبة، معتبرينها فترة اختبار، لكنها بقيت صامتة، يحملها خوف قديم زرعه فيها والدها، ذلك الماضي الذي جعلها ترفض بسهولة أي ارتباط.
كانت علاقة ماسة بعائلة مصطفى قوية، حتى إيهاب تعامل معها وكأن شيئًا لم يحدث، فيما واصلت ندى السؤال باستمرار، بينما مصطفى أغلق الموضوع تمامًا رافضًا أي نقاش رغم محاولات ماسة.
والجدير بالذكر أنّ قلب ماسة لم يهدأ طوال تلك الفترة؛
فقد كان يساورها شعورٌ دائم بأنّ شيئًا ما يحدث مع سليم.
وظلّ الألم يعصف بها بلا راحة،
غير أنّها كانت تحاول إشغال عقلها بأمور العمل.
سلوى بدأت عملها في محل الإكسسوارات ونجحت في مسابقة الورش بجانب مكتب المحاماة. أما رشدي فظل يتتبع مي عبر صورها رغم سفرها.
عزت استعاد صحته وعمله، والوصية التي تركها سليم لم تثر قلقًا إلا لو مات. في المقابل، صافيناز شعرت أنها خسرت كل شيء بعد إبعادها عن القصر والمجموعة، بينما ياسين وفريدة انشغلا بالعمل.
منى استغلت غياب صافيناز لتفرض نفسها كملكة القصر، تتحكم في تفاصيله كافة، خصوصًا مع انشغال الجميع.
أما سليم ومكي فقد اختفيا تمامًا، ولا أثر لهما.
💞_________بقلمي_ليلةعادل ◉‿◉
منزل مصطفى، السادسة مساء
الشرفة
وقفت ماسة بجوار عائشة تتأملان السماء المليئة بالنجوم، وكأن اللحظة صنعت خصيصًا لتفتح فيها القلوب أسرارها.
ماسة بصوت خافت وهي تميل نحوها: هو إنتِ ليه مش عايزة تتجوزي محمد؟ مش بتحبيه كفاية؟
عائشة بسرعة وهي تهز رأسها:لا أنا عايزاه. أنا بحبه، بس...
ماسة بإبتسامة جانبية: بس؟
سكتت عائشة لحظة، كأنها ترتب الكلمات في صدرها قبل أن تخرج عضت شفتها السفلية، ثم همست بخوف:بس... خايفة.
اقتربت ماسة أكثر، تبحث في عينيها: خايفة من إيه يا عائشة؟
تنهدت عائشة بعمق، وأسندت كفيها على السور البارد، عينيها تلمع بدموع وهي تقول بنبرة حزينة: خايفة أعيش مصير ماما، أو مصيرك أو حتى مصير أغلب البنات، المجتمع بتاعنا واقف دايمًا في صف الراجل، يلاقي له ألف مبرر مهما عمل، والست تدفع التمن...
أضافت بنبرة أكثر وجعًا وهي تمسح دمعة سقطت:
أنا خايفة أخسر حبي ليه، خايفة بعد الجواز يتغير، خايفة الحب يهرب من بين إيدينا...
ثم صمتت لحظة قبل أن تهمس: خايفة يعمل حاجة تكسر صورته جوا عيني وجوا قلبي، وساعتها هبقى أنا المكسورة، أنا اتعشمت ووثقت إنه مش هيبقى زي بابا، بس ولو عمل كده، أنا هموت، مش عارفة آخد قرار بحبه بس خايفة.
سكتت ماسة للحظه، تفهمها جيداً فهي عاشت مخاوف مثلها، ركزت في ملامحها وقالت بنبرة دافئة عقلانية: بصي يا عائشة، أنا حاسة بيكي وفاهمة خوفك، بس ليه تفترضي الأسوأ؟ ليه ماتفترضيش إن محمد يكون زي مصطفى وزي إيهاب؟ أنا شايفة إنهم هيكونوا أزواج محترمين مصطفى كان زوج كويس، بس ندى ماعرفتش تحتويه أو تحافظ عليه، ورغم إللي حصل بين والدتك ووالدك، مصطفى وإيهاب ماورثوش منه ده بالعكس، ورثوا من أمك الأحترام الرجولة والأخلاق هي زرعت فيهم صفات جميلة.
ابتسمت ابتسامة حزينة، عينيها تترقرق بدموع: وسليم كمان كان إنسان كويس جدًا، لكن الظروف دمرت حياتنا، أنا متأكدة لو الحادثة ماحصلتش، ولا أهلوا هددوني، كنت عشت معاه حياة زي إللي اتمنناها وكنا دلوقتي معانا أولاد كتير بس للأسف مش كل بنتمناه بيتم، يعني سليم صورته متهزتش جوايا بسببه، لكن بسبب اهله والظروف بس هو كإنسان كويس.
نظرت لها عائشة بتردد لكنها مازالت صامتة تستمع لها وعقلها يدور بين الرفض والخوف و الحب
وضعت ماسة يدها على كتف عائشة بحنان، ومسحت دموعها أضافت بحكمة:
بصي، ممكن تبدأوا بالخطوبة. علشان كمان مايزعلش، صعب على أي راجل يحس إن البنت إللي بيحبها مش ملهوفة عليه أو إن محبتها مش كفاية، ده وجع كبير، أعملي الخطوبة دلوقتي والجواز بعد الجامعة زى ما نويتي، وخلال الفترة دي، إنزلي عليه بالاختبارات زي ماتحبي، الراجل الحقيقي بيبان مهما مثّل بلاش تخسري محمد علشان ماتندميش وبلاش تتأثري بالمشاكل إللي حواليكي، مش هقولك تاني، زي مافيه عبد الحميد، فيه مصطفى وفيه إيهاب وفيه سليم قبل الحادثة.
عائشة رفعت حاجبها بدهشة: أنا مستغرباكي إنتِ بتقولي سليم بتساويه بمصطفى وايهاب بعد كل ده؟
ارتسمت على شفتي ماسة إبتسامة صغيرة ابتلعت ريقها بألم قالت بتوضيح: هبقى ناكرة وواطية، لو ماقلتش الحقيقة، أنا شفت منه الحلو والوحش، والحلو أكتر بكتير، صدقيني الوحش إللي شفته كان بسبب أهله وبسبب تربيته، وإللي عمله في الآخر، يمكن مسح حاجات كتير، من إللي عملها، علشان كدة أنا اتوجعت، بس مقدرش أنكر إن فيه صفات كويسة وعشت معاه أيام جميلة وسعيدة، يمكن أنا زي ما مامتك قالت: ماعرفتش أتعامل معاه صح..
أضافت بعقلانية موضحة:
وبعدين إنتِ ماعندكيش العيلة العقارب ولا شغل المافيا، يعني مش هاتواجهي إللي أنا واجهته، أسمعي الكلام، وياستى أمسحي سليم من الجملة لو مش مقتنعه، فيه مصطفى، فيه إيهاب، وفيه ناس كويسة حواليكي أنا للأسف دايرتي كانت مليانة سم
صمتت للحظة وأضافت كأنها تذكرت:
بس ياسين مثلًا، كان زوج كويس جداً مش عارفة إزاي نسيته، بس هبة كانت دايمًا تشكر فيه، استاذ ابراهيم زوج فريدة أنا ماشفتش منه حاجة وحشة الصراحة، آه داخل أوضة النوم الموضوع بيكون مختلف بين الأزواج، وأنا متكلمتش معاها في خصوصيات، بس إللي واضحلي إن أستاذ إبراهيم زوج كويس ومحترم بيحب فريدة، وهما كانوا بيقولوا عليه إنسان محترم..
بإبتسامة مدت يدها ووضعتها أسفل ذقنها لتجعلها تنظر لها نظرت لها عائشة تابعت ماسة: ثقي زي مافيه الوحش فيه الحلو وأنا حاسة إنه إنسان كويس سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قال الخير في أمتي إلي يوم الدين.
عائشة بنبرة مترددة وهي تفرك أصابعها بتوتر: مش عارفة المشكلة إني مش مطمنة، رد فعله لما أتعامل معاكي خوفني حسيت إنه قاسي.
ماسة ابتسمت بخفة، وضعت يدها على يد عائشة: يا عائشة، اختلافه معايا مايخوفش، بالعكس هو كان بيفكر بعقله أكتر من عاطفته، وأنا شفته راجل عاقل وبعدين، إنتِ ليه مستسلمة لفكرة الخوف أوعي تعملي زيي أنا الخوف هو إللي دمرني؟
عائشة بصوت خافت وهي تحدق في الأرض: أصل أنا مش قادرة أتخيل أخسر محمد زي ما ماما خسرت بابا، أو زيك مع سليم وندى مع مصطفى.
ماسة أطرقت قليلًا، أرتجف صدرها، ثم رفعت نظرها كأنها تواجه شبح الماضي: صدقيني، أنا وقعت في نفس الفخ، خوفي خلاني أتصرف غلط، وسليم ماستوعبش خوفي، ومافهمش الدوشة إللي كانت جوا دماغي وقتها، أنا بحبه، بس زيك كنت خايفة أخسره من كتر المشاكل، طريقته مابقيتش أتحملها بقيت أهاجمه، أزعق وأرفض ماعدتش قادرة أقول "حاضر" نفسيتي اتبدلت وإللي كان لازم أتحمله وقتها ماعرفتش هو كمان كان تعبان بعد الحادثة، وأنا كمان، بس استحملت لحد ما البنزين خلص، وهو كل مدي بيزيد ضغط، خوفت أكرهه، عشان كده طلبت أبعد وهو رفض لإنه بيحبني
دققت النظر بها كأنها تريد إثبات ذلك: عارفة؟ لو سليم كان وافق نبعد وقتها يمكن كنت أقدر أتحمل شوية مع أهله..
سكتت لحظة، عينيها تهتز بالحيرة:مش عارفة بس إللي حصل إني ضيعت وقت، وهو مافهمش موقفي ماستحملش يمكن لو فهم خوفي حاجات كتير كانت اتغيرت.
نظرت لعائشة بعينين دامعتين لكن ثابتتين: علشان كدة بقولك ماتعمليش زيي أتكلمي معاه فهميه مخاوفك أدي لمحمد فرصة جربيه في فترة الخطوبة ماتخسريهوش، وإنتِ بتحبيه، الرجالة مش بيفكروا زينا، إحنا بنفتكر إن سكوتنا مفهوم، لكن عندهم بيبان رفض أو برود، أثبتي له إنك بتحبيه، وفي نفس الوقت خليكي ذكية اختبريه شوفي ردود أفعاله هل هيطمنك؟ ولا هيعيشك في خوف يكبر جواكي؟ المهم ماتضيعيش الحب ده علشان هواجس يمكن هو يبقى نصيبك إللي يغير حياتك كلها، وأنا بقولك للمرة التانية: ماتخليش قصص الناس المؤلمة تأثر عليكي...
تبسمت لها بدعم وهي تمسك يدها: إنتِ مش لوحدك، عندك فترة طويلة تختبريه، إنتِ ذكية وعقلانية، وهتركزي في التفاصيل مش العاطفة إللي هتغلبك وجنبك أخواتك، مامتك، وأنا كمان.
عائشة أطرقت رأسها، أصابعها تعبث بخاتم صغير في يدها ثم رفعت عينيها، وفيها بريق أمل خجول، ابتسمت بخفة وهي تمسح دموعها: يمكن عندك حق يمكن فعلاً لازم أدي، نفسي وليه فرصة وماخليش خوفي متحكم فيا.
تنهدت عائشة، وهزت رأسها بإيجاب: خلاص هعمل كده.
ارتسمت إبتسامة واسعة على شفتي ماسة وهي تربت على يدها: هو ده الكلام بقى مبروك يا شوشو.
ابتسمتا لبعضهما، ثم ضمتا بعض بحب وأخوة صافية.
ابتعدت عائشة بخفة، وهي ترفع حاجبها مازحة: يجي يشوفك! وإنتي بتقنعيني بيه، وهو بيقنعني أبعد عنك ونمشيكي! بوبي بحر.
قهقهت ماسة وهي تلوّح بيدها: ههههه يا ستي بكرة يغير رأيه المهم دلوقتي إنتم، سيبك مني.
عائشة نظرت لها بعينين لامعتين وقالت بعفوية: إنتي بجد جميلة يا ماسة قلبك أبيض، ليه حق سليم يعشقك أنا لو راجل كنت مت فيكي زيه.
ضحكت ماسة بعلو، ضحكة ملأت الشرفة: يلا نقولهم الخبر.
عائشه: يلا
خرجت ماسة وعائشة من الشرفة، وقد بدا على ملامحهما شيء من الارتياح والدفء، وما إن دخلتا الصالة حتى وجدتا إيهاب ومصطفى ونبيلة في انتظار سماع الخبر.
إيهاب بلهفة: ها يا شوشو، وافقتي؟
ابتسمت عائشة بخجل، ثم أطرقت قليلًا قبل أن تجيب: أيوه، وافقت.
علا صوت الفرح، فسارعت نبيلة لتحتضنها قائلة بدموع الفرح: ألف مبروك يا روحي.
ضحك مصطفى وهو يوجه نظره إلى ماسة مازحًا:طيب إزاي أقنعتيها؟ ده أنا كنت قربت اتشل.
رفعت ماسة حاجبيها بثقة مصطنعة وقالت مبتسمة: ده سر! ماتستصغرونيش بعد كده.
أنفجر الجميع ضاحكين، فألتفتت إليها عائشة مازحة:
طب ماتقوليها زي ماكنتي بتقوليها زمان لسليم، بطريقتك حابة أشوف بجد اشمعنا حبك بسبب الكلمة دي.
قهقهت ماسة، ثم تحدتث بنبرتها ولهجتها القديمة: ماتستصغرنييشي!
ساد صمت قصير مفاجئ على إيهاب ومصطفى خصوضا، فهي لها طريقة في نطقها مثيرة بشكل ملفت للإنتباه ليست مثيرة بمعناها لكنها لطيفة وبها نكهة تجعل من يسمعها بالأخص من الذكور يسحر بها، قبل أن يتفجر المكان كله بالضحك.
عائشه: عنده حق يعجب بيكي بعد ماتستصغرنيشي دي.
ماسة: أفهم من كدة إني بتعاكس
عائشه وهي تضحك: اها.
عادوا جميعًا للضحك مرة أخرى، وكأن الضحكة أعادت للحظة بريقًا من أيام مضت.
إيهاب: خلاص هكلم محمد علشان نحدد الخطوبة نخليها الجمعة الجاية
جلست ماسة إلى جوار مصطفى، لكن على مسافة، وكأنها تعمدت أن تعدل جلستها في زاويته. نظرت إليه بجدية وقالت:
حلينا مشكلة عائشة، مشكلتك إنت بقى بالله عليك أسمعها.
مسح مصطفى على وجهه بتعب: إنتي طلعتِ مابتسمعيش الكلام وعنيدة.
ضحكت ماسة بخفة: آه جدًا، ما هو أنا هقنعك هقنعك، كلمها علشان خاطري.
ضحك مصطفى، فردت عليه ماسة بإصرار:
خلاص، بلاش علشان خاطري خليها علشان خاطر إيهاب، ماما، شوشو، ومحمد مع إني مش طايقاها، بس مش مهم.
سأل إيهاب وهو يقترب: هو إيه الحكاية؟
نبيلة بهدوء: أصل ندى كلمت ماسة، وقالتلها تحاول تخلي مصطفى يكلمها ويديها فرصة وفعلاً، ماسة قالت هتحاول تقنعه.
هز إيهاب رأسه ساخرًا: ماسة، شفتي قصتك مأساة قد إيه؟ مصطفى مأساته أكبر، وندى صعبة.
ابتسمت ماسة بطيبة: بس أنا شايفاها ست مذلولة، وحرام، وبعدين أنا مابقولهوش أرجعلها، أنا بقول له أسمعها.
تساءلت عائشة بهدوء: وبعد مايسمعها، تفتكري ممكن يرجع؟
مصطفى بحسم: أكيد لا.
رفعت نبيلة حاجبيها وقالت: على فكرة، أنا مع ماسة. ممكن تكون السنة دي اتغيرت، إنت مطلقها بقالك حوالي 14شهر ربنا خلق الدنيا في ست أيام، وكل يوم الحال بيتبدل يمكن اتعلمت من فراقك، زمان كنت تسيبها يومين أو أسبوع وترجع حتى لما طلقتها أول مرة، قعدت شهر ورجعتها لكن دلوقتي دول سنه واكتر من شهر طويلة أسمعها.
ماسة بتأييد: بالظبط كدة إنت مش قادر تشوف إنها اتغيرت بجد، علشان دايمًا شايفها بتعمل مشاكل وغيورة وبوظت حياتك وشغلك وشغل إخواتك بس لو هديت كده ورحت لها بعقلك هادي، هتعرف تحكم صح.
ثم إلتفتت إلى عائشة وهي تضحك: أنا دلوقتي عرفت ورثتي العند ده منين، ياخربيت كده إيه ده!
ضحك إيهاب مازحًا: ماسة اتعصبت يا جماعة.
ضحكت ماسة بصوت عالٍ: أيوه بجد! أخوك مستفز أوي إيه ده؟ بقالي أسبوع بتحايل عليه!
تنهد مصطفى: يعني إنتي وماما هترتاحوا لما أسمعها؟ حاضر هسمعها بس أقسم بالله، لو ماتغيرتس ولسة زي ما هي، أنا مش فارق معايا أروحلها إللي عايزه منك يا ماسة، بالله عليكي، أوعي تأمني لها.
إيهاب بسرعة: آه طبعًا، أوعي تفكري تحكي لها حاجة إنتي ليندا وبس.
ابتسمت ماسة بخفة:لا ماتقلقوش. عمري ماحكيت لحد حاجة أصلاً وبعدين ماتخوفنيش بالله عليكم.
إيهاب بجدية: لأ، إحنا عايزينك تخافي، ندى يتخاف منها إنتي ماتعرفيش كانت بتعمل إيه؟! مرة بهدلتني عند المديرة، إبنها كان تعبان وكلمت مصطفى بالليل تسأله حاجة، الاستاذة مسكتها وبهدلتها، وقالتلها إزاي تكلمي راجل متجوز بالليل، مش في التليفون بس، راحت لها المكتب! وفي الآخر أنا اترفدت، بعد ماكنت في مكان مهم.
اتسعت عينا ماسة بدهشة:معقولة؟ للدرجة دي؟
سكتت لحظة، ثم اضافت بصوت منخفض: أنا مش عارفة أقتنع، أصل أنا برضه كنت بعمل خناقات مع سليم علشان كنت بغير عليه.
ابتسم مصطفى ابتسامة باهتة: لأ، من شخصيتك قدرنا نفهم إنتي عاملة إزاي في غيرتك، ندى حاجة تانية، مؤذيه، عموماً حاضر يا ماسة، هعمل إللي إنتم عايزينه، علشان ماتقولوش عليا قلبي قاسي.
سألته ماسة بإهتمام: طب هاتكلمها إمتى؟ علشان أقول لها، دي بتكلمني في اليوم عشر مرات.
إيهاب بمزاح: بس كده، هنبدأ نحس إنها فعلًا اتغيرت.
ضحكت ماسة: هو إنت بتتريق؟
هزت نبيلة رأسها: لأ يا بنتي مش بيتريق. أصلها زمان كانت ممكن تتصل بكل واحد فينا ميت مرة في اليوم.
ابتسمت ماسة برقة قالت بطيبه:علشان بتحبه، معلهش طب ها، اقولها امتى إيه؟
عائشة بمرح: والله ماسة دي طلعت طيبة وغلبانة أوي.
مصطفى بفتور: بعد خطوبة عائشة لاني مش عايز أعكر مزاجي حاليا.
ابتسمت ماسة: ماشي شكرًا يا مصطفى، وبالمناسبة، بما إن فيه أخبار حلوة، أنا هقوم أعمل لكم صينية بسبوسة، وبكرة هعمل لكم شوية أكل إنما إيه تحفة.
ثم ضحكت: ممكن بقى حد فيكم يا شباب ينزل يجيبلي الحاجات بتاعة البسبوسة؟
إيهاب بخفة: قوليلي إللي محتاجاه، وأجيبلك، أنا نازل أجيب العشا.
💞_______________بقلمي ليلةعادل ◉‿◉
مطعم فاخر، السادسة مساءً
تجلس فايزة على الطاولة، تتناول طعامها بهدوء، تمسك الشوكة والسكينة تتناول العشاء وكأنها تؤدي طقسًا ملكيًا.
بعد دقائق، تقترب صافيناز بخطوات واثقة وهادئة، تجلس أمامها.
صافيناز بإبتسامة متكلفة: بالهنا يا هانم.
فايزة، وهي ترفع عينها للحظة ثم تواصل تناول مافي الشوكة: ميرسي تحبي أطلبلك؟
صافيناز ببرود: تؤ.
يصمت المكان للحظات، عينا صافيناز تضيقان وهي ترمق فايزة بإهتمام مريب.
تساءلت صافيناز بنبرة لاذعة: غريبة أوي إنك قادرة تاكلي عادي جدًا بعد كل الخراب إللي حصل، ولا علشان الخراب ده ما أثرش غير فيا أنا؟
فايزة،وهي تضع الشوكة جانبًا وتلتفت إليها متعجبة: ما أثرش إزاي؟
صافيناز بتهكم وإتهام: إنتِ لسه في القصر، وكل حاجة لسة ملككم، حتى لو فيه وصية.
تتناول فايزة المنديل برشاقة وتمسح فمها، تعيد جلستها بإستقامة أرستقراطية: أنا والباشا، اتأثرنا كتير مش علشان بخرج أو باكل يبقى إحنا كده مبسوطين.
قاطعتها صافيناز، بإبتسامة خبث: لا لا، أنا عرفت من مصادري إنكم كلمتوا سليم، وهيرجعلكم إللي أنتم عايزينه، معادا أنا ورشدي، آه صحيح لسة معملش حاجة، بس سليم مادام قال هيعمل بيعمل هو بس بيلاعبكم شويه بقيت فاهماه.
ترفع فايزة حاجبًا بإستهجان، تومئ برأسها: إيه؟ إنتي بتتجسسي علينا؟
صافيناز ساخرة: وإيه المشكلة؟ كلنا بنتجسس على بعض.
أضافت وهي تميل للأمام قليلًا، عينيها مركزة في ملامح فايزة ونبرتها تحمل تهديدًا مبطنًا:
اسمعي يا مامي، أنا مش هقبل بالمهزلة دي أكتر من كده، شوفي حلول، ولحد ماسليم يرجع هفضل مسالمة وهادية بس أكتر من كده؟ مش هقدر.
ضيقت فايزة عينيها: يعني إيه؟
صافيناز بحسم: يعني لما سليم يرجع، تتكلموا معاه، أنا لازم أرجع القصر، وأرجع المجموعة، وآخد نسبتي.
فايزة بدهشة: وتدخلي القصر إزاي بعد عملتك ونقلك كل حاجة لعماد؟! عزت مش طايقك.
صافيناز، بلهجة واثقة ممزوجة بتهكم: طبيعي أنقل كل حاجة لعماد، لإني بثق فيه، ومابثقش فيكم، إنتم كنتوا عايزين تاخدوا مني كل حاجة، كنتوا عايزين صافيناز الرواي تبقى ماتملكش حتى تمن أكلة زي دي.
تضحك فايزة بإستهزاء وهي ترفع كوب الماء وتحتسيه: ضحكتيني؟ إنتي بتثقي في عماد؟
نبرتها تزداد حدة: عماد ده أول واحد هيبيعك لما الدنيا تنهار، عماد بيلعب بيكي مابيحبش غير فلوسك.
ترتكز صافيناز للخلف، وتبتسم بسخرية: دلوقتي بقى وحش؟ مش ده عماد إللي كان مشاركم في كل حاجة؟
أومأت فايزة، بهدوء زاحف كالعقارب: صح، عشان المصلحة، كلنا حطينا إيدنا في إيد بعض علشان كل واحد يوصل للي عايزه.
اتكأت فايزة بظهرها على الكرسي وتركت جسدها في استرخاء متعمد، وكأن الأمر كله لعبة صغيرة بيدها.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة قبل أن ترفع عينيها نحو صافيناز بنظرة استخفاف ببرود قاتل:
إنتوا لعبتوا على نقطة ضعفي، كرهي لماسة، وأنا لعبت على نقطة ضعفكم، هوسكم بالعرش، الفرق إيه؟ إني كنت شايفاكم مجرد أدوات في إيدي، وأنا إللي حركتكم زي ما أنا عايزة، والنتيجة؟ أنا فضلت واقفة، وإنتوا إللي وقعتوا.
ضحكت صافيناز بخفة وهي تلعب في خصلات شعرها وكأنها لم تهتز قالت ببرود قاتل: بس أوعي تطمني كده، ماسة راجعة، لو مش النهاردة، يبقى بكرة أو بعده، سفر سليم المفاجئ ده عليه علامات استفهام، حتى هي مقدرتش بالرغم كل إللي حصل لها خاطرت وجت تشوف أهلها... ده معناه حاجة واحدة: ماسة راجعة لانها مش قادرة تتحمل فكرة الهروب، وساعتها يا مامي كل إللي عندك هينهار.
استفزت فايزة، وقد ضربت الطاولة بكفها: هاتي من الآخر عايزة إيه؟
صافيناز بهدوء حازم: قلتلك. عايزة أرجع القصر، وأرجع المجموعة، وآخد نسبتي.
فايزة تتحدث من بين أسنانها بإستهجان: مستحيل، وإنتِ عارفة إنه مستحيل، ده سليم.
رمقتها صافيناز، بنظرة حاسمة و بنبرة مميتة: أنا مش هخسر لوحدي، أنا حطيت الحباية لسليم مظبوط، بس ماتنسيش إنتي والباشا ورشدي ومنى، وكلنا، كنا مشتركين في الحادثة، في سقوطها أول مرة؟! في رجوع لورجينا، في تلفيق لسليم أكاذيب. في تخويف ماسة، وسليم لو عرف، مش هايشوفكم ملائكة وأنا شيطانة تؤ الكل هايغرق.
تتسع عينا فايزة بغيظ: إنتي بتهدديني؟
صافيناز، وهي تهز رأسها بإبتسامة ساخرة: لأ
مقدرش بس قوليلي أعمل إيه؟ كلكم اتخليتوا عني، بقيت كبش فدى وأنا مش هقبل بدور ده؟! أنا لازم أنجو مش هموت نفسي علشانكم..
تابعتها بنظرة حادة وكأنها تعلن عن مخالبها: قولي للباشا بلاش يعمل ملاك لإنه كان عارف كل حاجة وموافق عليها من أول سقوط ماسة لحد أسبابها للهروب إنتي قلتي إنك عرفتيه و وافق وقبل إنتوا مش هتعملوا ملايكة على حساب صافيناز.
ثم تنهض ببطء، وألقت نظرة جانبية باردة: قولي للباشا كمان أن صافي هتتكلم أنا خلاص خسرت كل حاجة وماعنديش إللي أخسره، رجعوني القصر وأنا هفضل حافظة السر، أما النسبة والمجموعة، عندي استعداد أستنى سليم، بس إني أخرج برة وأتمنع من كل حاجة؟ مستحيل أنا هفضل صافيناز الرواي، الملكة.
تبتسم ساخرة وهي تستدير قالت بالتركية: "Afiyet olsun (بالهنا والشفا).
تحركت صافيناز، تاركة خلفها فراغًا ثقيلًا يضغط على صدر فايزة ظلت وحدها، أنفاسها متقطعة، وعيناها معلقتان في الفراغ، تسترجع كلمات صافيناز المليئة بالتهديد أشتعل الغضب في أعماقها، فعضت على أسنانها حتى كاد صريرها يسمع مدت يدها إلى الكأس الزجاجي، قبضت عليه بقوة غير واعية، فصدر صوت تشقق حاد اخترق الصمت، وتناثرت شظايا صغيرة بينما انساب الدم الدافئ من كفها فوق المفرش الأبيض الناصع، يلطخه بلون صارخ كالخيانة.
أحد الجرسونات يقترب بقلق: فيه حاجة يا هانم؟
رفعت يدها المضرجة بالدم للحظة، بنظرة متجمدة، فيتراجع الحارس والجرسون بخطوات حائرة.
اتسعت عيناها وهي تحدق أمامها، وصوت داخلي يعلو في رأسها: وفجأة يهتز هاتفها على الطاولة رسالة جديدة: ركزي مع جوزك شوية.
تتسع عيناها، تلتقط الهاتف، ترى صورة عزت وهو يناول نانا وردة ترفع حاجبيها بإستغراب زمت شفتيها بغضب، ثم تضغط اتصالًا سريعًا بعد ثواني قالت بحزم: أنا عايزاك في خدمة، هبعتلك رقم شوفلي الرسائل دي بتتبعتلي من مين؟! لا ماتعملش أي حاجة غير لما أقول لك.
تغلق الخط، تضع الهاتف بعصبية على الطاولة. الدم ما زال يتساقط من يدها، فتضغط عليها بمنديل أشارت للجرسون: شيل الحاجات دي وجيبلي كاس ريد واين.
ظلت جالسة في مكانها، نظراتها تائهة.
خارج المطعم، في الجهة المقابلة، سيارة سوداء ساكنة.
بداخلها رجل مجهول، نصف وجهه غارق في الظل، لا يظهر سوى يده على الهاتف ولحية قصيرة تلمع تحت الضوء عيناه معلقتان بفايزة من بعيد، يراقبها بصمت، قبل أن يشيح ببصره عائدًا إلى شاشة هاتفه ثم قاد السيارة.
قصر الراوي
الهول السادسة مساءً
هبطت منى من على الدرج بخطوات واثقة، ترتدي فستانًا أنيقًا، وعينيها تلمعان بالثقة.
في الهول، كانت الخادمة "عفاف" ترتب المزهريات. توقفت منى أمامها وقالت بنبرة آمرة:
منى: الفازة دي مكانها مش هنا.
أشارت بأصابعها للركن الآخر، ثم تابعت بلهجة متعالية: حطيها هناك، ومن النهاردة أي حاجة في القصر ده لازم تعدي عليا الأول، أنا ست القصر هنا.
وقفت في منتصف الهول، متعمدة أن يكون صوتها مسموعًا.
في الصالون الرئيسي.
على الأريكة الكبيرة جلس إبراهيم يحتسي قهوته بهدوء، إلى جواره فريدة التي كانت مسترخية، بينما جلس رشدي على مقعد جانبي ممسكًا بسيجارة، تبادلوا النظرات على حديثها، ثم أطلقوا ضحكات مكتومة.
فريدة بإبتسامة ساخرة: منى عايشة حياتها على الآخر في ظل غياب مامي وصافيناز.
إبراهيم وهو يرفع فنجان القهوة: خليها تعشلها يومين، لحد ما الهانم ترجع.
رشدي ساخرًا وهو يسحب نفسًا من سيجارته: الكل دلوقتي بيجرب ياخد دور، بس بكرة الفران ترجع جحرها.
فريدة ضاحكة: مامي لما ترجع هتحصل مشكلة
إبراهيم بنبرة هادئة واثقة: فايزة هانم عاقلة، هتتصرف بهدوء، وكل حاجة هترجع مكانها.
تابعت منى خطواتها بثبات حتى وقفت أمام المرآة الضخمة المعلقة على الجدار اعتدلت في وقفتها، أمالت رأسها قليلًا كأنها تتأمل انعكاسها بإعجاب، ثم ابتسمت لنفسها ابتسامة صغيرة وهمست في سرها:وأنا الملكة هنا...
رفعت ذقنها للأعلى بفخر، كأنها تصدق الصورة التي تراها، غير عابئة بالضحكات التي ما زالت تتردد خلفها.
منى بأمر: يلا يا عواطف، خلينا نشوف حسابات الشهر، وخليهم يحضروا العشا.
عواطف: أوامرك يا هانم.
فيلا هبة وياسين التاسعة مساءً
الصالون
كانت هبة تجلس أعلى الأريكة، تمسك هاتفها، حين دخل ياسين وهو يحمل طبقين من الطعام، وعلى الطاولة الصغيرة كان موضوع مسبقًا طبق من السلطة.
ياسين وهو يقترب منها: خلاص بقى سيبي التليفون أنا جيت.
رفعت عينيها إليه: ثانية واحد..
وضع ياسين الطعام على الطاولة، ثم سحب الهاتف من بين يديها بإبتسامة: أنا بقيت موجود.
نظرت إلى الطعام بإستغراب: إنت إللي عامل الأكل ده؟
ابتسم: أيوه، أنا إللي عامل الأكل ده.
هبه بدهشة: بقالك سنين مامعملتش أكل بإيدك.
ياسين وهو يظبط الأطباق: ما إنتِ عارفة مابعملش غير لما يكون عندي نفس.
رفعت هبة حاجبيها بشدة: تقصد إن أنا سادة نفسك؟
تنفس بعمق محاولًا تفادي المشكلة: هو إحنا ماينفعش نقعد ساعة مع بعض من غير مانتخانق؟ من غير مشاكل؟ يعني نرجع زي زمان، فاكرة زمان؟
هبة ببرود: على فكرة أنا مابعملش مشاكل، أنا برد على كلامك.
حاول يغير الحديث: إيه رأيك نشغل موسيقى ونولع شموع؟
نهض، شغل موسيقى من المشغل، ثم أخذ بعض الشموع من درج قريب وأشعلها، وعاد ليجلس بجانبها وهو يبتسم: كده أحسن وحشتني الأجواء دي.
قطع قطعة لحم من طبقه وقدمها لها: قولي رأيك، لذيذة ولا لأ؟
هبة وهي تمضغ بإبتسامة صغيرة: تسلم إيدك.
ياسين وهو يتناول الطعام: أنا هسافر بعد بكرة شرم ماتيجي معايا.
رفعت نظرها إليه بجمود: وأجي معاك أعمل إيه؟ إنت أصلاً هتبقى مشغول ومش فاضيلي.
ابتسم محاولًا إقناعها: لا، هو يوم واحد بس إللي هكون مشغول فيه، بعد كده فاضي. هيبقى فيه كذا إجتماع، وكل واحد جايب مراته معاه بدل مابقى لوحدي.
هزت هبة رأسها: لا مش هاينفع إنت عارف أنا مابحبش أحضر الاجتماعات بتاعتكم. ماليش فيها ولا بفهم فيها.
ياسين بهدوء: مش مشكلة بس على الأقل تبقي جنبي أنا محتاجك جنبي.
هبه بسرعة: هو أنا بطلب منك تيجي معايا شغلي أو الاجتماعات بتاعتي؟
ابتسم بمرارة: أنا عرضت عليكي كتير أجي معاكي، بتقولي لي لأ، وبعدين هو إنتي يعني م بتقوليش علشان ما أطلبش منك تيجي؟! بقولك أنا حابب تبقي معايا تشاركيني.
ابتعدت عن الطعام وأمسكت هاتفها من جديد: سوري يا ياسين أنا بجد مابحبش الجو ده، ومش هنبقى مبسوطين يرضيك أروح مكان أبقى مخنوقة فيه.
تنهد ياسين وهو ينظر أمامه لا مايرضينيش نظر لها متسائل: مش هتكملي أكلك؟
رفعت قدميها على الأريكة وهي تلعب في هاتفها: لا أنا مش جعانة بس قلت آكل حاجة بسيطة علشان ماتزعلش.
نظر إليها بتمعن: هو إنتِ مش شايفة إنك اتغيرتي أوي؟
هبة بضيق: ياسين لو سمحت ماتعليش صوتك، إنت عارف أنا مابحبش الطريقة دي.
توقف بعصبية: بقولك إيه أنا بدأت أزهق وخدي بالك، اللي إنت فيه ده مش حلو أنا مش فاهم انتي عايزة إيه؟
وقفت أمامه باندفاع: أنا إللي مش فاهمة! هو غلط إني اهتم ببنتي؟ الناس الطبيعيين بيربوا أولادهم، مايسيبوهمش للدادا، بنتك تعبانة آه بقت أحسن، بس لسة ماخفتش مية في المية، المفروض تزعقلي وتقول لي خدي بالك من البنت! مش تفضل كل شوية تتخانق معايا عشان مابنخرجش.
ضرب الطاولة بيده: تاخدي بالك من البنت وتهمليني أنا؟ إحنا بقالنا مدة ماقعدناش مع بعض، حتى دلوقتي شوفي أسلوبك، إيه البرود ده، أنا افتكرت لما نسيب القصر ونيجي هنا هاتهدي بس ولا أي حاجة.
رفعت صوتها: لو عايز ترجع القصر أرجع.
تجمد واقفًا، ثم قال بصوت خافت يقطر غضبًا: إحنا هنرجع، بس مش بمزاجك مش وقت ماتحبي تمشي تمشي، وقت ماتحبي ترجعي، ترجعي وبعدين إنتِ أصلاً بتروحي هناك بتبقى نكدية وأنا قرفت.
صرخت هبة بضجر: لإني مابحبش أهلك ومابحبش القصر ومابحبش وجودي هناك. أنا بقعد هناك غصب عني علشان حضرتك عايز كده! فاكر إنك بكدة بتربيني؟
اقترب منها بهدوء شديد: أربيكي ليه؟ هو إنتي ناقصاك تربية؟ عيب الكلام إللي بتقوليه ده؟! فكري فيه قبل ماتنطقيه،أنا خارج.
هبة بغضب: هتروح فين؟
رد بحدة وهو يلتقط مفاتيحه: وإنتي مالك؟ خليكي في تليفونك وفي شغلك ومع بنتك. مالكِش دعوة بيا اهتمامك مش مقبول.
ألتفت بعصبية، وخرج تاركًا إياها، بينما بقيت هي وحدها تحدق في الفراغ، يداها ترتجفان والهاتف بين أصابعها.
جلست على الأريكة يغمرها الحزن والغضب، لكن دموعها رفضت أن تهبط.
في الخارج، صعد ياسين بسيارته، أخذ يتجول في الشوارع حتى أنتهى به المطاف أمام أحد الملاهي الليلية، حيث كان أصدقاؤه ورشدي هناك.
الملهى الليلي، الحادية عشر مساءً
رشدي وهو يحتضنه بصدمة: إيه ده، أخويا الصغير؟ إيه إللي حصل؟ إ.
ضحك ثم همس في أذنه: مش بقولك الجواز ده بيسد النفس؟ ماصدقتنيش.
ياسين ببرود: ده مش بيسد النفس؟! ده بيموت النفس، واد يا رشدي أوعى تتجوز، أقسم بالله إنت ملك أديك شايف.
ربت رشدي على كتفه: وهو يضحك ماتقلقش، هندلعك ونسيك نكد هبوش يا ياسو.
وبالفعل وانخرطوا في الرقص والضحك، لكن ياسين أكتفى بالعصائر، لم يمس الشراب، حاول أن يقضي الوقت معهم، إلا أن بداخله كان شيء آخر يشتعل...