رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الخامس 5 ج1 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الخامس 5 ج1 
بقلم ليله عادل


❀༺༻❀✧

العودة (عناق الدم)❞ 
✧❀༺༻❀✧
{"ألا تدري؟ ربما هو العشق وأنت لا تعلم ذلك الانبهار، تلك الرجفة، تلك المشاعر التي لم تفهمها بعد، قد تكون هي الحب، ما ظننته بعيدًا قد حدث،وماحسبته لن يأتي ربما جاء، فحتى القلوب التي نظنها حجرًا تذوب. }
            

            [بعنوان: نبض في قلب صلد]

وقف رشدي أمامها، لتظهر السيدة بابتسامة واسعة وهي تقول بصوت مبحوح من الزمن: رشدي بيه، إزيك يا ابني؟

اتضحت ملامحها؛ امرأة في أواخر الستينات، وجهها محفور بالتجاعيد، والفقر مطبوع على ثيابها، ترتدي عبايه سودا 

ابتسم رشدي ابتسامة صغيرة وهو يرد بهدوء:
الحمد لله، عاملة إيه؟

وهي تزيح طرف طرحتها: نحمده يابنى على كل حال، إيه الغيبة الطويلة دي؟ تعالى أدخل يا ابني.

دخل رشدي المنزل المتواضع، كان البيت صغير جدًا، أثاثه بسيط. جلس على الأريكة القديمة، بينما جلست السيدة على مقعد خشبي مقابله، تلمع عينيها بالحنين.

السيده بابتسامة شوق: والله إنت واحشني يا رشدي بيه، إيه كل الغيبة دي؟! أنا قلقت عليك، لولا الراجل إللي بتبعته كل أول شهر، كان زماني اتجننت، هو إللي طمني وقال لي إنك كويس الحمدلله.

ابتسم رشدي ابتسامة سريعة:حقيقي كنت مشغول جدا.

سألت بلهفة صافية: إخواتك عاملين إيه؟ كلكم بخير؟ وسليم كويس؟

رشدي وهو يحرك رأسه:آه، كلنا الحمد لله بخير، وسليم بخير برضه.

رفعت يدها بالدعاء: ربنا يشفيه يا رب العالمين.

رشدي: يارب.

السيدة بقلق: لسه معملش العملية ولا خلف؟!

رشدي زم شفتيه بأسف: لا معملهاش والخلفه مربطته بعملية.

السيدة  بحنان: ربنا يشفيه ويزح عنه والله نفسي اشوفه!

وبينما هي تتحدث، رن هاتف رشدي، رفعه سريعًا إلى أذنه: ألو، يا شوقي؟ بجد؟ طيب أنا جاي أمن ها.

توقف قليلًا ثم نهض قائلًا: أنا لازم أمشي.

نظرت له السيدة بعين مكسورة: إيه ده يا ابني؟ لسه ماقعدتش، ولا حتى شفتها، هي بره عند الجيران
ده إنت وحشتها أوي.

رشدي وهو يخرج مبلغًا من جيبه، يضعه في يدها:
معلش، مره تانية، هقعد أكتر خلي دول معاكي يلا، سلام.

ابتسمت ابتسامة متعبة وهي تردد: سلام يا ابني، ربنا يسترها معاك ويبعد عنك كل شر وسلامي لخواتك.

وخرج رشدي مسرعًا، تاركًا خلفه قلبها المعلق به منذ سنوات.

ترى، من تكون هذه السيدة؟ ومن هي الأخرى التي تشتاق رؤيته؟

منزل سارة السابعة مساء 

السفرة 

جلست سارة على المائدة، وأمامها أبناؤها، بينما جلس عماد بجوارهم، كانت تقطع الدجاج بعناية وتوزعه في الأطباق بإهتمام ظاهر، تحاول أن تُشعر أبنائها بالدفء الذي يفتقدونه.

سارة بإهتمام: يلا يا كارما إنتي ومازن عايزاكم تاكلوا الأكل ده كله فاهمين،

هزا رأسهما بإيجاب 

أضافت سارة بتهكم خبيث: ما هي صافيناز طول عمرها كده، لا عندها دم ولا إحساس، والله ساعات بحس إن العيال مش عيالها أصلًا.

نظر عماد إليها بضيق، وهو يتناول الطعام ببطء، ثم ألقى نظرة نحو الأولاد كأنه يحذرها أن تكف عن الحديث أمامهم.

ثم قال بعصبية مكتومة: أنا كمان متعصب منها جدًا، هي مهملة فيهم، بتضربهم كمان.

اعتدلت سارة في جلستها، عيناها تقدحان شررًا: وإنت سكت ليه؟! كنت اديتها بالقلم!

أدار عماد وجهه نحوها بنظرة طويلة مشحونة، توحي بالتحذير، بينما الأولاد ينظرون إليهما بترقب.

قالت بسرعة لتتدارك الموقف: قصدي يعني كان المفروض صاحبك يردعها، بقولك إيه خلينا نتكلم بعدين.

بدأ الجميع يتناولون الطعام، كانت سارة حانية جدًا مع أبنائها، تملأ لهم الأطباق بنفسها، تمسح فم الصغيرة، وتحثهم على الأكل، وبعد أن انتهوا، قالت بحزم حنون: يلا بقى، روحوا كملوا مذاكرة.

قالت كارمن، بصوت طفولي لم تتجاوز السادسة: أنا عايزة أقعد مع بابي.

ابتسم عماد وهو ينحني نحوها: هتكلم مع مامي في حاجة مهمة، وبعدها هقعد معاكي ومع مازن.

قاطعه مازن، بلهجة ممتعضة الذي أصبح الآن في سن المراهقة يبدو إنه في 12من عمره: إنت دايمًا بتقول كده وبتمشي وتسيبنا في الآخر.

عماد بسرعة: لا مش هسيبكم تاني.

رفع مازن، صوته قليلًا، وفي عينيه دموع مكبوتة: إنت على طول مسافر! عمرنا ماشفناك موجود معانا زي باقي صحابي إللي آباؤهم بيحضروا معاهم كل حاجة.

شعر عماد بجرح في قلبه، مد يده وربت على خد ابنه ثم قبله: أنا آسف يا مازن أوعدك هحاول أظبط شغلي، وماسافرش كتير النهاردة هبات معاكم ومش هسافر.

ابتسم مازن، على استحياء، ثم نهض هو وأخته ليدخلا إلى غرفتهما.

غرفة النوم - سارة وعماد

جلست سارة على حافة السرير، بينما تبعها عماد بخطوات متثاقلة.

قال بحزن: ماتوقعتش إن مازن كبر كده، وإن ممكن يحصل بينا حوار بالشكل ده.

سارة بحدة: شوفت؟! قلتلك إن مازن بقى واعي وفاهم عنده 12سنة، وبنتك داخلة في ست سنين. لحد إمتى هتفضل مستخبي يا أستاذ عماد؟

تنهد قائلًا وهو يحاول أن يخفي ارتباكه: هانت يا سارة، هانت.

ضحكت بتهكم: هانت؟! بقالي 13سنة بسمع الكلمة دي.

عماد بتهكم غاضب: بقولك إيه؟! هو أنا هفضل كل شوية أسمع نفس الكلام؟! ماتنسيش إنك إنتي إللي اخترتي الوضع ده، مش بعد ماقربنا نحقق الحلم تيجي تلوميني.

خفضت سارة رأسها بحزن: عندك حق أنا إللي أخترت، ولازم أدفع ثمن اختياري عموما.

رفعت عينها وقالت بحسم: أنا قررت أسفر الولد بره، هدخله مدرسة هناك، مش هينفع يقعد هنا مازن دلوقتي عارف إنك متجوز، وإنك ليك حياة تانية عرف إنك اتجوزتيني عشان مراتك مش كويسة، ومش ناسي الحقيقة، وأنا على قد مابقدر بجمل صورتك قصاد إبنك، بس هو دايمًا بيسألني: هو بابي بيخاف منها للدرجة دي؟ وأنا بقوله لأ بيخاف علينا.

عماد وهو يتنهد: يعني اتكلمتي معاه؟ موافق؟

سارة: مبسوط بالفكرة جدًا وأنا كلمت أخويا، وهيقعد معاه هناك، إنتم هترجعوا القصر إمتى؟

عماد: لسة عزت ماتكلمش في حاجة.

ضحكت سارة بخبث، بعينين تلمعان بمكر: بس بجد، صافي دي ماتعرفش يعني إيه كلمة "ماما"ساعات بحس إن العيال دول مش عيالها أصلًا. طريقة تصرفها غريبة، فجأة راحت أمريكا، ورجعت بيهم!

ضيق عماد عينيه متوجسًا: تقصدي إيه؟! راحت أشترت العيال؟ ولا بترمي على إيه بالظبط؟

رفعت سارة يديها: لا لا مش قصدي خيانة، ماتقلقش. بس إنت واثق فيها ليه كده؟

رمقها عماد بغضب: بصي يا سارة صافي ممكن أقول عنها أي حاجة واستنى منها كل حاجة إلا الخيانة. لأنها بتعشقني.

ضحكت سارة بخبث: طيب... حلوة حتة "اشترتهم" دي ماتشوف لنا بقى بيبيعوا العيال هناك بكام؟! يمكن نشتري جوز زي مراتك.

وقف عماد فجأة وهو يقول بحدة: أنا هروح أقعد مع الولاد إنتي النهاردة دمك تقيل.

وغادر الغرفة، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلاً، وعيون سارة تلمع بغموض.

أوقات مختلفة أماكن متفرقة في مدينة شرم الشيخ.

منذ ثلاثة أيام وياسين يقيم في الفندق، غارق في دوامة مؤتمرات واجتماعات لا تنتهي، ترافقه لوجين وإحدى المديرات. وخلال تلك الفترة لم يتصل بهبة، ولا هي حاولت الاتصال به؛ وكأن الصمت كان خيارهما لتهدأ الأمور.

الشاليه.

جلس ياسين على مقعد خشبي بجوار حوض السباحة، متكئًا بظهره إلى الوراء، كوب عصير نصف فارغ بجانبه بدت عليه علامات الإرهاق والضجر بعد ثلاثة أيام من العمل المتواصل.

اقتربت لوجين بخطوات هادئة وقالت بصوت منخفض: مستر ياسين.

إلتفت إليها رافعًا حاجبيه بملل: بلاش تقولي عندي اجتماعات تاني أنا زهقت خلاص مش كفاية إللي عملته الأيام إللي فاتت؟ خدي يوسف معاكي خليه يحضر مكاني

ابتسمت بإعتذار: أنا آسفة والله يا فندم بس أعمل إيه؟ الشغل ماشي كده ولازم حضرتك بنفسك إللي تحضر.

ضحك بسخرية خفيفة: شغل يخص سليم، صح؟

جلست على المقعد المقابل له: مظبوط، طب ليه ماتقسمش الشغل بينك وبين إخواتك؟

أزاح نظره نحو البحر وزفر بضيق:ماينفعش سليم مستأمني، وعايز يحس إنه لسه موجود شايف إني أكتر واحد ينفع يكمل مكانه.

لوجين بإهتمام: هو بصراحة منظم جدًا، عامل دراسة كاملة وجداول واضحة،ماسابش الدنيا عشوائي أنا ونور شغالين بيها طول الوقت والحمد لله إحنا أخذنا كل المشاريع إللي جينا عشانها وهنكمل على نفس النهج.

أجاب وهو ما زال يطالع الأفق:الحمدلله 

نظرت إليه مليًا ثم قالت بخفوت: شكلك مرهق أوي.

نظر لها بملل: لا أنا زهقان.

سكتت لحظة، ثم قالت بتردد:طب حضرتك ماتكلم المدام تيجي؟ الاجتماعات الجاية خفيفة ومعظم الضيوف جايين بزوجاتهم، وجودك بزوجتك هيبقى أفضل، أنا ماقصدش أقولك تعمل إيه، بس بوضح الفكرة.

ابتسم ابتسامة مائلة للحزن: مراتي مشغولة مش هينفع عشان بنتي.

رفعت حاجبيها بدهشة:حضرتك عندك بنوتة؟

ضحك وهو يخرج هاتفه: إنتِ متعرفيش؟ عندي بنوتة زي القمر، اسمها نالا استني أوريكي صورتها.

مد لها الهاتف، وعلى الشاشة صورة طفلة صغيرة بريئة ملامحها تشبهه إلى حد كبير.

لوجين بإعجاب صادق: زي القمر ما شاء الله، فيها شبه منك كتير ربنا يخليهالك ويخليها لوالدتها.

أعاد الهاتف إلى جيبه مبتسمًا بفخر مكتوم: آمين.

ثم غير الموضوع فجأة: بقولك عرفتي موضوع السباق إللي هيحصل هنا؟

نظرت له بإستغراب: سباق؟

ضحك ياسين: آها سباق عربيات أنا عايز أحط اسمي فيه، هيكون يوم الجمعة.

لوجين: بس إحنا راجعين القاهرة الجمعة.

هز رأسه بجدية: مش هانرجع الجمعة لو حابة ترجعي، أرجعي بس أنا لازم أدخل السباق حطي اسمي وهبعتلك الإيميل.

ابتسمت مرتبكة:حضرتك من هواة السباقات؟

أبتسم وهو ينظر إلى البحر: طول عمري، بس بعد ماخلفت، ابتعدت شوية دلوقتي محتاج أفصل.

لوجين برفق: تمام هبلغهم طيب حضرتك ناوي تقعد أكتر من كدة علشان أبلغ في البيت؟

فكر قليلًا ثم قال: ممكن نرجع الحد أو الأتنين. محتاج وقت زيادة أفصل فيه.

أومأت وهي تكتب ملاحظاتها:خلاص يا فندم هقولهم الأتنين.

نهض ياسين من مكانه وهو يعدل سترته: متشكر يا لوجين.

قالت بإبتسامة صغيرة مقتضبة: العفو يا فندم.

وهو في طريقه للخارج، ألتفت يسألها: الاجتماع الساعة كام؟

أجابته: العشاء الساعة 9بالظبط.

ياسين وهو يبتعد: تمام وإنتِ مش كل حاجة شغل كده، أفصلي أخرجي شويه، ها.

أكتفت بهز رأسها في صمت، وابتسامة خفيفة مرت سريعًا على وجهها.

تحرك ياسين وبدأ يسير على الشاطئ عيناه معلقتان بأمواج البحر التي تتكسر بهدوء، وأفكاره تتنازع داخله مد يده إلى هاتفه، تردد قليلًا ثم ضغط زر الإتصال.

جاءه صوت هبة عبر السماعة، جافًا ومتعبًا: لسه فاكر تكلمني؟

أجاب بصوت منخفض: كنت مشغول.

هبة بحدة: كنت مشغول ولا مش طايق تكلمني؟

تنهد ياسين، ثم قال بلهجة أقرب للرجاء: بصراحة قلت نستنى لما نهدى شوية.

هبة بحمود: وعايز إيه بقى؟

تبسم ياسين: أحجز لك طيارة وتعالي، الجو جميل وأنا محتاجك تبقي جنبي هاتي نالا وتعالي.

جاء صوتها صارمًا: أنا قلتلك كذا مرة أنا مابحبش أجي وإنت عندك شغل.

أجابها بسرعة: خلاص يا هبة، أنا من يوم الجمعة هبقى فاضي، تعاليلي، فيه سباق نحضره زي زمان.

سكتت لحظة ثم ردت بلا مبالاة: لا، أنا من يوم السبت عندي شغل مش هينفع.

أطرق ياسين برأسه ثم قال بفتور: طب يا هبة، براحتك. سلام.

أنهى المكالمة، ووضعه في جيب بنطاله، تمتم وهو يزفر بضيق: أقسم بالله نكدية.

القاهرة 
في أحد النوادي الرياضية, الخامسة مساءً 

دخل رشدي النادي بخطواتٍ واثقة، ويرتدي بدلة كاجوال ونظارة شمسية، يتفحص المكان بعينيه، ثم توجه إلى أحد الملاعب الرياضية وكان في انتظاره شوقي.

رشدي متسائلا وهو ينظر من حوله: هي فين؟

شوقي موضحاً: بتجري دلوقتي ياباشا، وعندها تمرين سباحة كمان ساعتين.

ضحك رشدي وهو يشير لبدلته الكاجوال الأنيقة:
أنا لو روحت أجري بالمنظر ده، مش هتصدقني بجنيه.

ظهرت من بعيد، كان شوقي يراقبها، أقترب بخطوة ساخرة:
مستحيل طبعا يا باشا تصدق ، بس آهي جاية هناك اهى.

رفع رشدي عينيه، فرأى مي تقترب بخطوات سريعة بعد إنتهاء تمرينها، ملامحها مرهقة قليلًا من الركض، لكنها ما زالت مشرقة.

ألتفت إلى شوقي هامسًا: طب أسحب إنت.

غادر شوقي المكان تاركًا له المجال تقدم رشدي بخطواتٍ ثابتة حتى وقف أمامها.

دخل رشدي بخطوات واثقة، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، حتى وقف أمامها قائلًا: إيه الصدف الكتير دي؟

رفعت مي حاجبيها بدهشة:إنت...

ضحك بخفة وهو يميل بجسده قليلًا للأمام: أه أنا؟ إيه الأخبار؟! مجتيش يعني يوم الجمعة؟

أجابت بنبرة عابرة: كنت تعبانة شوية.

رشدي سريعًا: ألف سلامة عليكي.

مررت مي عينيها عليه في صمت، قبل أن تقول بجدية: وياترى هتقولي برضه إنك كل يوم هنا؟

ضحك رشدي وهز رأسه: لا، أنا مش كل يوم هنا، أنا بلف في الأهلي أصلي أهلاوي، وفيه نوادي تانية كتير بس هنا؟ لا، وبعدين أنا جايلك مخصوص، من غير "تحوير من أبو آخر" زي ما بيقولوا.

نظرت إليه بإستهجان: وعرفت منين إن أنا هنا؟

ابتسم بثقة وهو يثبت نظره عليها: أنا بعرف حاجات كتير.

سكتت مي لوهلة، رمشت بعينيها مرتين ثم ألتقطت زجاجة الماء وارتشفت القليل، بينما كان هو يراقبها بإبتسامة هادئة لا تفارق وجهه.

ثم قال، بنبرة أقرب للثقة والاعتياد: بقولك، ماتروحي تبدلي هدومك بدل ماتبردي، وهستناكي في الكافتيريا إللي هناك دي وهطلب لك عصير أناناس.

مدت مي وجهها متعجبة، حاجباها انعقدا في دهشة وهي تقول:وعرفت كمان إني بحب عصير الأناناس؟

ضحك رشدي بخفة، وأمال رأسه جانبًا: ما قلتلك أنا عارف عنك حاجات كتير عملت دكتوراه في التحريات عليكي.

تنفست مي بحدة وهي تتأفف:طب بقولك إيه، أحترم نفسك وأمشي وياريت ماشوفكش تاني.

استدارت بخطوات سريعة نحو غرفة تبديل الملابس، بينما أكتفى رشدي بإبتسامة صامتة لم تفارقه.

جلس بعدها في الكافتيريا، مطمئنًا أن مي ستأتي كعادتها.

وبالفعل بعد قليل، دخلت وجلست على إحدى الطاولات، طلبت كوب عصير ما إن إبتعد الجرسون حتى رفع رشدي صوته بخفة مقصودة: خليهم أتنين أناناس.

ثم سحب الكرسي أمامها وجلس نصف جلسه ، قبل أن يقف فجأة بتذكر، ويقول وكأنه يتدارك نفسه: ممكن أقعد؟

تنهدت مي بضيق وهي تحدق فيه:لأ.

أبتسم برخامة وهو ينزلق بالكرسي إلى الطاولة: ميرسي جدًا.

نظرت له بإستغراب: هو ده اسمه إيه بقى؟

أجاب بخفة وابتسامة واسعة وهو يخلع نظارته الشمسية ويضعها على الطاولة: اسمه إني عايز أتعرف عليكي.

رفعت مي ذقنها عاليًا وقالت بحزم: وأنا مش عايزة أتعرف عليك وبعدين أسلوبك ده أنا مش بحبه.

أمال رشدي رأسه بدهشة صادقة: ليه بقى؟ أنا جيتلك صريح، ومحبتش العب عليكى أكتر من كده ، كان ممكن أعمل زي يوم المول او المكتبة، أطلعلك فجأة وتصدقي إنها صدفة، وقادر أقنعك، بس أنا محبيتش أمشي معاكي بالطريقة دي ومش شبهي كمان.

سكت لحظة ثم أعتدل في جلسته وقال بنبرة جدية لأول مرة: بصي، إنتي خطفتيني من أول مرة شفتك مع زيزي، من يومها وأنا بدور عليكي، وعرفت كل حاجة عنك.

جاء الجرسون وضع كوب العصير على الطاولة ثم أنسحب.

ألتفتت مي إليه بضجر واضح: إنت عايز إيه؟!

رشدي بهدوء وهو يرفع الكوب: قولت لك أنا معجب بيكي.

رفعت مي حاجبيها مستنكرة: بس إنت متعرفنيش، مشوفتنيش غير٣مرات. 

ابتسم رشدي وهو يومئ برأسه: أنا لو شفتك نص مرة هيبقى كفاية، الحاجات دي مبتجيش بالعدد.

مي بسخرية: أمال بتيجي بإيه؟

ضحك ابتسامة لطيفة وأجاب ببساطة: بالراحة النفسية.

مي بصرامة، تقبض على يديها فوق الطاولة:
طيب وأنا مش معجبة بيك، ورافضة الموضوع.

أمال رشدي جسده للأمام وهو يسأل بإصرار: والسبب؟

قطبت مي جبينها وقالت ببرود: وأنا لازم أقولك السبب؟

رشدي رفع عينيه إليها بإصرار هادئ وقال: من حقي أعرف السبب.

أجابت مي بلا تردد، وصوتها ممتزج بالبرود: مش عايزة وخلاص، شفتك معجبتنيش، بالنسبة لي إنت صاحب واحدة عرفتها صدفة، حتى مش صاحبتي.

ضحك رشدي بخفة، مائلاً بجسده للأمام: طب متعرفيني يمكن تُعْجَبِي بيا.

هزت مي رأسها سريعًا: معتقدش.

رفع رشدي حاجبيه مستغربًا، ثم قال بخفة: ليه بس؟ والله أنا لذيذ! آه يمكن قليل الأدب حبتين، بس أقسم بالله مع البنات إللي شبهك بحاول أبقى مؤدب.

لم تستطع مي منع نفسها من الابتسام، وقالت ساخرة: بتحاول تبقى مؤدب؟

أومأ رشدي بجدية مصطنعة: آه والله بحاول بشتغل على نفسي.

تأملته مي قليلًا ثم قالت: إنت جريء وغريب.

تنفس رشدي بعمق، وكأنه قرر أن يتكلم بجدية أكثر مما اعتاد، ثم قال بنبرة عقلانية لم يتوقعها أحد منه:
أنا بسميها صراحه ، أسمعيني يا مي أنا أول مرة شفتك مع زيزي، خطفتيني، حسيتك مختلفة ولما اتكلمنا في العربية دخلتي دماغي، عملت عليكي تحريات، وأكيد دلوقتي عارفة أنا مين؟! ودي طريقتنا، مبنعرفش حد غير بالطريقة دي، عرفت عنك كل حاجة، ويوم ماقابلتك في المكتبة، أنا كنت عارف إنك هناك، أنا مابقراش، ولا ليا في القراءة أصلا ، رُحت مخصوص يمكن نتعرف لأن للأسف الشديد، مكانش فيه فرصة تانية تجمعنا ، دى حتى علشان اخلق لنفسي فرصه تانيه اقابلك فيها قعدت الحراس حبس انفرادي يقرأوا لى الكتاب ويجيبوا لى ملخص احفظه علشان اعرف افتح كلام معاكى واعرف اهبد في سياق الموضوع لما اجى لك المكتبه يوم الجمعه بس أنت مجتيش ، ويوم المول نفس الحكاية، إنتِ مش بتخرجي كتير مع زيزي، وأنا متأكد إنك معجبكيش جوهم قلت أجي لك  النهاردة وأقولك دوغرى بدل ما اقعد ألف وأدور وأفضل أقولك صدفة وجو أفلام الخمسينات ده.

سكتت مي للحظة، تنظر إليه بنظرات متفحصة، ثم قالت بهدوء ممزوج بالتحفظ: صراحتك عجبتني، بس أنا ماليش في الكلام ده وبعدين اشمعنا أنا؟ أكيد قولت الكلام ده لبنات كتير قبلي.

ابتسم رشدي بثقة، وصوته أنخفض كأنه سر: أكيد قولت لبنات كتير إنهم مختلفين، بس إنتي فعلًا مختلفة المرة دي طالعة من قلبي مش تثبيت.

أجابت مي وهي تشيح بنظرها بعيدًا: يمكن علشان محجبة.

ابتسم رشدي وهو يرفع كتفيه باستخفاف وقال: والله ممكن معرفش، أنا أول مرة أتعرف على واحدة محجبة، بس معتقدش ده السبب لأني أخر حد يفكر كدة، إنتِ كشخص فيكي حاجة، زي المغناطيس أول مرة بنت تشغلني كده ، أنا آخري مع أي بنت ساعتين: أشوفها في مكان، أروح أكلمها، لو جت معايا تمام، ماجتش؟ نص ساعة وتختفي من دماغي ولو عملتلي فيها تقيلة أو دخلتني في قصة تحدي، بوقعها وبعدين بقول لها باي باي.

نظرت له مي بحدة: يعني أنت بتعترف إنك هتعمل معايا كده لو رفضت؟

ابتسم بخفة وهو يميل بجسده للأمام: لأ، أنا بقولك إللي بيحصل عادةً ، بس إنتِ حكاية تانية، إنتِ قولتِلي ردك بصراحة، مش عاملة فيها بتتقلي، فأطمني، أنا مش هعمل كده ولا عايز حتى.

سكت لحظة، عينيه متعلقة بها، ثم قال بصوت منخفض غير معتاد منه: أنا مش هقولك "أنا بحبك" أنا عمري ماحبيت، ولا أعرف يعني إيه حب، بس فعلاً أنتِ عاجباني عايز أتكلم معاكي ، عايز أقرب منك.

تجمدت ملامح مي، ونبرتها تحولت إلى هدوء لكن حاسم: ماشي يا رشدي، بس أنا مش من النوع إللي بيكلم ولاد، حتى زمايلي في الكلية بالكاد العلاقة في حدود، فبلاش تضايقني، إحنا ممكن نتكلم لو الظروف جمعتنا زي المكتبة أو أي مكان غير كده لأ.

ابتسم رشدي ابتسامة صغيرة، لكن عينيه لمعت بإصرار وهو يرد: أنا حابب أحاديثنا تبقى أقوى من كده، أحب أقولك "تعالي نخرج"، نتكلم بأريحية، يمكن يحصل بينا حاجة أنا أول مرة أتكلم مع حد كدة أنا عندي ٣٤سنه عمرها ماحصلتلي فا دي معجزه اسمع مني.

هزت مي رأسها بحسم: مش هقدر، أنا آسفة يا رشدي، أنا معرفكش كفاية، ومش قادرة أقبل الموضوع، ومن فضلك ماتحاولش تقابلني تاني.

وقفت سريعًا، أمسكت حقيبتها ورحلت بخطوات ثابتة، تاركة رشدي جالسًا وحده، يتبعها بنظراته حتى ابتعدت عن الكافتيريا، وظلت على شفتيه ابتسامة خفيفة غامضة.

لم يعرف إن كانت ابتسامة تحدي جديد، أم بداية تعلق حقيقي !؟

في كافيه هادئ الرابعة مساءً 

دخلت ندى ومصطفى من الباب بخطوات بطيئة، تتردد أنفاسهما في الجو الثقيل 

نظرت ندى من حولها بحذر، وكأنها تبحث عن شيء مفقود.

ندى، وهي تلتفت إليه بحدة: إحنا مارحناش المكان بتاعنا! ليه؟!

جلس مصطفى على المقعد المقابل، ساكت، عيناه تتابع حركاتها في صمت.

ندى، وهي ما زالت واقفة أمام الطاولة: وكمان مابتقوليش أختاري الترابيزة إللي عايزاها؟

مصطفى بجمود: هتفضلي واقفة كتير؟

جلست ندى ببطء، تحاول أن تبدو متماسكة، بينما قلبها يضطرب.

أقترب الجرسون ليسجل الطلبات: عايزين تشربوا إيه؟

مصطفى، بنبرة عابرة: واحد شاي شوفها هتشرب إيه.

ندى، بضيق ظهر على ملامحها: إنت نسيت أنا بحب إيه؟

مصطفى نفخ بعمق، ثم أشار للجرسون أن يبتعد قليلاً.
أقترب منها، صوته هادئ لكنه حاد كالسكين: أتلمي، أنا بحاول أتعامل معاكي بتربيتي من نبيلة، بس عندي استعداد أتعامل معاكي بتربيتي من عبد الحميد أختاري.

ندى، متفاجئة من نبرته: إنت اتغيرت بقيت كدة ليه؟!

عاد بظهره على المقعد ظل صامت وهو يشيح بوجهه في إتجاه آخر بصمت

تنهدت ندى وألتفتت للجرسون سريعًا وقالت: لوسمحت عايزة ليمون بالنعناع.

أومأ الجرسون وغادر.

مصطفى، وهو يعيد نظره إليها: أتفضلي أنا سامعك.

ندى، بصوت مرتجف، تحاول أن تحافظ على هدوئها:
إنت ليه بتعاملني كده يا مصطفى؟ مش عايز تسمعني؟ مش عايز تشوفني بقلبك؟ أديني فرصة،جربني أنا بحبك أوي هتخسر إيه؟

مصطفى، مائل بجسده نحوها، صوته ممتلئ بالألم والغضب: بخسر كتير، زي مثلا اتنقلت من القاهرة لإسكندرية بسببك، سبت أكتر من مستشفى بسببك، أخويا كمان اتظلم في شغله بسببك، رغم إنه كان في مركز مرموق، أترفض، أمي رفعتي ضغطها، كنتِ هتخسريني صديق عمري أذيتك وصلت لكل الناس إللي بحبها. عايزة إيه تاني يا ندى؟

ندى، بعينين دامعتين، بصوت مبحوح: عارفة، عارفة إني غلطت كتير في حقك، وفي حقكم كلكم، بس والله كان غصب عني، حقك عليا سامحني أنا اتغيرت، جربني مرة، أديني فرصة، بس اسمعني بهدوء مش بغضب شوفني بقلبك، إللي كان بيحبني زمان مش بعينك إللي مش فاكرة الوحش وبس.

مصطفى هز رأسه بضيق، صوته متأثر لكنه ما زال قاسيًا: عارفة أنا فعلاً كنت جاي النهاردة، وقسماً بالله كنت حاطط في دماغي إني هتعامل معاكي بهدوء يمكن؟!!

تنهد بعصبية، ثم أكمل: بس أول ماشفتك حسيت إني متعصب، مخنوق، ومتضايق جدًا، مش قادر أقعد ماكنتش فاهم يعني إيه أكره حد، لحد ما إنتِ علمتيني بقيت كل ما أقعد معاكي أحس بخنقة.

خفض صوته قليلًا، وكأن الكلمات بتخرج من قلبه مباشرة: تعرفي يا ندى؟ أنا بسأل نفسي سؤال يمكن كل يوم، إزاي واحدة كنت بحبها كده يتحول حبي ليها لكابوس؟ النور يبقى ظلمة، السكون يبقى دوشة، الراحة تبقى خنقة بشوفك بحس جوايا نار مش قادرة أوصفها غضب في حياتي ماحستهوش.

رفع عينيه نحوها مباشرة: اقتنعي إن إحنا مش هينفع نكمل وحاولي تروحي لدكتور نفسي أنا مش هقولها تاني (أشار نخو قلبه)؛ أنا هنا... مات قلبي ناحيتك.

ندى، تبتلع ريقها بصعوبة: قصدك إيه؟ قصدك إنك ممكن تحب واحدة تانية؟

مصطفى، ببرود قاتل: طبعًا أحب، وأتجوز، وأعيش حياة سعيدة ومرتاحة من غير مابقى مخنوق ولا ندمان ولا متعصب فاكراني هاعيش على ذكري حبك إللي بندم عليه كل يوم.

ندى، بعينين جاحظتين:على فكرة لو اتجوزت حد عليّا والله هقتلها.

مصطفى، ساخراً بمرارة: شوفتي بقى، إنتي واحدة ماتغيرتيش لو كنتي اتغيرتي زي مابتدعي، حتى لو بكلامي إللي بيوجع، كنتي هاتردي رد تاني خالص إنتِ مؤذية إنتِ مريضة يا ندى، أبعدي عني، وأبعدي عن حياتي، ومالكيش دعوة بيلندا تاني.

صوته أرتفع قليلًا، لكنه ظل ثابتًا: واقتنعي إن فرصتنا مع بعض صفر خلي عندك كرامة شوية، إنتي طلعتي من قلبي ومن حياتي بأقولك مش طايق أشوفك.

نهض واقفًا، أخرج بعض النقود ووضعها على الطاولة، نظر إليها للمرة الأخيرة وقال بصرامة: أنا مش هقول لوالدك على المقابلة دي بس المرة الجاية هقوله.

غادر، تاركًا ندى غارقة في صمت ثقيل، تحاول أن تستوعب أن النهاية جاءت بهذا الحسم.

فيلا صافيناز السادسة مساءً 

توقفت سيارة عزت أمام الفيلا، فتح لها الحارس، هبط منها بخطوات واثقة وهيبة واضحة، فتح له أحد الخدم الباب بسرعة، رحب به بإحترام:وأهلًا وسهلًا يا باشا ثانية واحدة أبلغ الهانم.

الصالون 

جلس عزت في الصالون الفخم. كانا ـ زين ومريم ـ يلعبان بالجوار، هرعا نحوه بحماس:
جدو!

ضمهما إليه، قبّلهما وهو يضحك، ثم مسح على رأسيهما: وحشتوني عاملين ايه 

مريم: الحمدلله إمتى هنرجع القصر يا جدو

عزت: قريب.

غرفة النوم

كانت صافيناز تضع اللمسات الأخيرة على أظافرها مع الكوافيرة.

دخلت الخادمة: صافيناز هانم عزت باشا تحت.

رفعت صافيناز رأسها بإستغراب: بابي تحت؟!

لحظة صمت، عقدت فيها حاجبيها، لكنها سرعان ماتحولت من الإستغراب إلى ابتسامة واسعة بإنتصار وفخر، وهي تقول في نفسها:"أكيد جاي يرجعني بنفسه... وخايف يخسرني."

أخذت نفسًا عميقًا بأرتياح، ارتدت حذاءها، ثم نظرت إلى العاملة: استنيني هنا.

هبطت الدرج بخطوات واثقة، وجدت أولادها بين ذراعيه تبسمت بإنتصار أكبر واقتربت منه: عزت باشا مفاجأة غير متوقعة حقيقي.

رفع نظره إليها، ثم عاد ينظر للأولاد، صوته جاد:
ماشاء الله كبروا.

صافيناز: عندهم تمن سنين دلوقتي.

أشار عزت للأطفال أن يخرجوا: حبايب جدو، ممكن تسيبوني مع مامي نتكلم لوحدنا؟

زين: هتقعد تلعب معانا؟

ابتسم عزت: هشوف لو ماعنديش شغل.

نظرت صافيناز بعينيها إلى إحدى الخادمات: كندة... خدي الأولاد.

تحرك الأطفال نحوها، لكن نظرات عزت بقيت معلقة عليهم.

ثم ابتسم ابتسامة صغيرة بنبرة فيها شيء مريب: عارفة يا صافيناز؟ أول مرة آخد بالي إنهم لا شبهك ولا شبه أبوهم. خدوا من هنا ومن هنا لكن مش منكم.

رفعت حاجبيها بإستنكار: إيه المشكلة يعني؟ مش عيب لو طلعوا شبه خلانهم أو جدهم، ده شرف ليا.

عزت بإستنكار: بس هما حتى مش شبهنا.

جلس على الأريكة، وضع ساقًا فوق الأخرى، صوته منخفض لكن حاد: أنا سمعت كلام سخيف من والدتك شبه التهديد.

سارعت صافيناز وجلست أمامه: تهديد؟! لا يا باشا أنا مقدرش أهددك أنا مين أصلاً عشان اهدد عزت والراوي!

حدّق في عينيها ببرود، ونبرة عزت الراوي ظهرت واضحة قال بتأكيد: بالظبط إنتِ مين؟ من غيري صفر أقدر أدوسك بجزمتي.

تململت في مكانها لكنها حافظت على نظرة قوية: أنا بس ماحبيتش أتحاسب لوحدي، بأمن نفسي، آه يمكن كنت سبب في آخر جريمة، لكن يا باشا ماتنساش في جرائم كتير اتعملت بموافقتك وبعلمك وإللي ماكنتش تعرفه، لما عرفته سكت وإللي يسكت يبقى شريك حتى لو ماوسخش إيده.

قهقه عزت بسخرية مريرة: وتفتكري سليم لو عرف؟ فاكرة هيعديها؟ هايسيبك؟ ولا هايسيبنا؟ وقتها كلنا هنغرق.

رفعت ذقنها بتحدٍ وضحكت بخفة عصبية: صح كلنا، أنا خسرت كل حاجة خلاص ولازم أخسركم معايا وبعدين، أنا ماطلبتش غير أرجع القصر الأسهم والمشاكل مع سليم تتحل بعدين.

اتكأ عزت للخلف، نظراته باردة كحد السيف: عارفة يا صافيناز، حتى رشدي بكل سفالته ماتجرأش يساومني، ولا حتى سليم، مع كل إللي بيني وبينه، عمره مالعب قصادي إلا لو أنا غلطت فيه، يعني كل مرة سليم هدد فيها كان بسبب شيء اتأذي منه علشان كدة ماخدتش رد فعل، إنما إنتِ

صمت للحظة رامقها بنظرة ضيق وإشميزاز: طماعة، وقلبك أسود، وتأكدت إني فشلت في تربيتك، وعندك استعداد تدمري الدنيا كلها علشان تأمني نفسك، وأول مرة أركز إنك أسوأ أولادي أنا كنت ظالم رشدي.

اقترب فجأة، صوته خافت لكنه كالطلقة بنظرة شرسة: مشكلتك إنك افتكرتيني راجل طيب علشان بتعامل معاكم كأب، بس صدقيني أنا ماعنديش مانع أسيب دور الأب وأرجع أبقى عزت الراوي إللي الناس كلها بتخاف منه.

ابتسم ابتسامة باردة، وهو يعود بظهره على الأريكة بأريحية متسائل: قوليلي يا صافي لو عماد حبيبك إللي نقلتي له كل ثروتك، عرف إن زين ومريم مش ولاده وإنهم متبنين هيعمل إيه؟!

هنا صدمت صافيناز كادت عينيها ان تخرج من مخرجها عدلت جلستها لكن عزت لم يتوقف تابع على ذات الوتيرة:
ولو عرف كمان إنك عمرك ماهتخلفي مش علشان مش عايزة تبوظي جسمك وكفاية اتنين، تؤ. عشان أساسًا ماعندكيش رحم.

تجمدت ملامحها، الدم أنسحب من وجهها التوتر أصبح حليفها وكأن الكلمات توقفت في حلقها.

تابع عزت بنبرة مميتة هادئة وعين لا ترفع من عليها: أنا عارف من زمان، القصة إللي جيتي حكتيها مادخلتش دماغي، دورت ووصلت، وإنتِ بغبائك سهلتِ عليا، غرورك صورلك إن محدش هيشك، بس أي غبي لو سأل سؤال واحد هناك، كان هيفضحك والدتك ماتعرفش، وإللي جابلي المعلومة قتلته بإيدي عشان مايبقاش لحد عليكي سيف.

إنحنى قليلًا للأمام، صوته ينقط سم:
تخيلي يا صافي لو بعت لعماد رسالة صغيرة أسأله: الولاد مش شبهك ليه؟ ومرة تانية أبعتله صورة ليكي زمان مع هادي إللي ميعرفش عنه حاجة! وأخلي النار تلعب في دماغه؟ ولما أحس إن خلاص اتجنن أكشفله الحقيقة؟ بس في الحالتين لا هيسامحك ولا هيبقى ليكي مكان عنده, خصوصًا بعد ماخدتِ كل حاجة وحطتيها بإيده.
أضاف بإستهزاء صارم: إنتي بتثقي فيه أكتر مننا؟ أنا هقعد أتفرج وهو بيسرقك وأنا مبسوط، ماكنتش حابب أكشف سرك بس إنتي اضطرتيني.

بلعت ريقها بصعوبة، همست برعب متلعثم  فقد انتهت اللعبه ولابد ان تستسلم: حضرتك عايز إيه؟

ابتسم وهو ينهض واقفًا، صوته صار أعلى:عايزك تلزمي حدودك وتفكري ألف مرة قبل ماتلعبي قصادي، هرجعك القصر، مش علشان بخاف منك، لكن علشان تبقي تحت عيني وأربيكي من  جديد.

تراجع خطوة، نظراته حادة: فلوسك مع عماد مش قصتي لكن عندي كلمة أخيرة: لحد دلوقتي لسه معتبرك بنتي..
تابع بتهديد صريح: بلاش تخليني أعتبرك عدوة لإن ساعتها هسحقك. وأنا متأكد إنك ماعندكيش استعداد تخسري لا عماد، ولا الولاد يعرفوا إنهم مش منك ولا إنك عمرك مهتخلفي ولا حتى تخسري حمايتنا.

ابتسم ابتسامة قاسية وهو يستدير: المرة دي لعبتيها غلط استني مكالمتي هقولك إمتى ترجعي القصر، وبالشروط إللي مافيهاش نقاش، وتنسي المجموعة وتنسي الأسهم مش هخسر سليم عشان واحدة زيك، ولو فكرتي هعمل وصية، وأحرمك من الميراث.

رمقها بنظرة قاطعة أخيرة، ثم تحرك، تركها واقفة كتمثال، وجهها شاحب، عينيها تائهتين، وكأن الأرض انسحبت من تحتها.

تصلبت صافيناز في مكانها، ثم ارتجف جسدها فجأة
اندفعت إلى الطاولة القريبة، أطاحت بما عليها بعنف، ثم سقطت على الأرض.

إنهالت بيديها على السجادة ضربًا، تارة تبكي، وتارة تصرخ بلا صوت وجهها يتقلب بين الغضب والجنون، عيناها دامعتان كوحش جريح، وأنفاسها متقطعة كأن شيئًا يخنقها من الداخل بقيت على حالها، محطمة، وحدها في الصالون يزداد صمتًا وثقلاً مع كل ثانية تمر لقد خسرت كل شيء، وهذه المرة لا مهرب لها، فخصمها عزت يقف أمامها بنفسه، لا بشكل عادي، بل وهو قابض على كارثة تهددها وتكشفها.

(بعد يومين)
شرم الشيخ 

حلبة السباق للسيارات الرياضية الثانية مساءً.

الجمهور على الجانبين، أصوات تصفيق وهتافات، كل الناس متحمسة للسباق على وشك البدء، السيارات مصطفة، محركات تدوي في الهواء، الأدرينالين يعلى.

ياسين يقف في المنتصف، يرتدي بدلة السباق، ممسكاً الخوذة في يده، ينظر حوله بثقة. 

اقتربت لوجين منه، بابتسامة، 

لاحظ ياسين ابتسامتها قال معلقاً: بتبتسمي كده ليه؟

لوجين، بخفة، تنظر له: شكلك مختلف.

رفع ياسين، حاجبه مستغربًا: مختلف إزاي؟

مالت لوجين، برأسها قليلًا وضحكت بخجل: يعني، مش عارفة مختلف.

اقترب ياسين، منها خطوة، ينظر لها مباشرة: تركبي معايا؟

تراجعت لوجين للخلف وقالت باعتراض: لاااا ماليش فيه الصراحة..

ضيق ياسين عينه: بتخافي

لوجين هزت راسها بتوضيح،: لا مبخافش، بس مابحبوش إنت روح، وأنا هشجعك.

ابتسم ياسين بخفة، يربت على خوذته: هو أنتي كنت ناوية تشجعي حد غيري ولا إيه؟ والله كنت رفدتك.

لوجين تضحك: هههه مقدرش أصلا معرفش غيرك ماتكسفنيش بقى.

ضحكا معًا، تحركت بجانبه حتى وصل سيارته.
وقفت تتابعه بخفقان قلب، بينما ارتدى خوذته وصعد.
انطلق السباق، المحركات تعلو، والجمهور يهتف.
ياسين يناور بثقة، يسبق الجميع، يعبر خط النهاية وسط تصفيق وضجة كبيرة ركضت لوجين بخفة نحوه، عينيها تلمع من الفرحة مد ياسين كفه كي يعمل "هاي فايف، لكن لوجين تتردد لحظة بخجل... ثم رفعت إيدها وتلمس إيده بخفة.

لوجين، بإبتسامة كبيرة: مبروك!

ياسين، يضحك، عيناه تلمعان: الله يبارك فيكي! ياااه... كان واحشني الإحساس ده حاسس إني رجعت سنين ورا.

نظرت لوجين له بتعجب: ليه أصلا تبطل حاجة بتحبها؟

ياسين، بجدية وخفة: عشان اتجوزت.

ضيقت لوجين، عينيها مستغربة: بس الجواز مابيوقفش الحياة بل بالعكس هو بيجمل الحياة، بيخلي الحياة تستمر بشكل أفضل، بصراحة أنا من أنصار مقولة اي الاتنين بيكملوا بعض وبيحقق مع بعض الأحلام مش بيوقفوا بعض.

صمت للحظة ونظر بعيدا ثم نظرت له تابعت بعقلانية: هو في بعض الأحيان الواحد لو كان شقي قبل جوازه بيتغير في الجزء ده، لكن حاجة زي دي، مادام بتبسطك ومافيهاش أي خطورة ممكن تعملها، مش لازم بنفس الكمية إللي كنت تعملها زمان، بس على الأقل كل شهر مرة.

يخلع ياسين الخوذة من على رأسه ويمرر يده في شعره:، يتنهد بتعب: هبة ماكانتش بتساعدني في الموضوع ده، مش بس السباق، فيه حاحات تانية بطلت أعملها، بصي، أنا أصلا مش شخص روتيني، بحب السفر، بحب أجرب حاجة جديدة، حياة مجنونة، هبه شوية، روتينية، مالقتش تشجيع منها لما بطلب منها بترفض .

ينظر إلى لوجين بإبتسامة حنين، عيناه تتذكر الماضي أضاف: وبسبب ده للإسف، بعدت عن الحاجات إللي بحبها، مش عارف كده، فجأة لقيتني أتحوات لراجل بتاع من شغله لبيته ومن بيته لشغله، واحد مش شبهي ولا عمره كان شبهي كأن عندي ١٠٠سنة مش ٣٠سنة.

تبسم بشغف كأنه يتذكر ما كان عليه:أنا كنت بحب السباقات، الرحلات البحرية تسلق الجبال كان نفسي اوي بعد الجواز أسافر أماكن ماسافرتهاش، ومراتي تشاركني اهتماماتي، هي كمان يكون عندها أهتمامات أشاركها..

أختفت الابتسامة اتحولت لأسف وخذلان أضاف: بس للأسف ولا عملت حاجة جديدة ولا حتى استمريت على القديم وخلتنى نسخة منها..

جلس على مقعد معدني بجوار الحلبة، يتنفس بعمق. نبرة صوته مرهقة، عينيه فيها شرود: بس الفترة دي عندي معرفش بقى عندي شبه فرط حركة... محتاج أعمل كل حاجة كنت بحبها أخرج أسهر اتجنن، ونفس الوقت محتاج أقعد على الكنبة وأفضل متنّح زي المشلول.

نظرت له لوجين وكأنها تفهم ما يقول قالت بتفهم: متلخبط.

ياسين يبتسم ابتسامة صغيرة وهو ينظر لها: بالظبط دوشة كبيرة جوايا .

لوجين، بنبرة هادئة عقلانية: طب ليه ماتحاولش ترجع تاني تعمل حاجة بتحبها، وتطلب من مدام هبة تشاركك؟ يعني أحيانًا كتير مش لازم أشارك بالجسد جوزي أو حبيبي الحاجة إللي هو بيحبها حتى لو أنا مابحبهاش، مجرد إني أشاركه بكلمة بإبتسامة، أشجعه يعملها كافي.

تقترب بخطوة صغيرة منه، بعفوية بيديها: يعني مثلًا لو أنا مكان مدام هبة، وحضرتك بتحب السباقات، وأنا مابحبهاش أكيد إنت هتجرب تقوللي تشجعيني أجرب، لو جربتها وعجبتني، ممكن أستمر معاك ولو ماعجبتنيش تمام، مش هبقى معاك، بس هاجي أتفرج عليك أحجزلك مثلًا لو فيه سباقات، أشاركك فيها. وده الصح.

مال ياسين بجسده للخلف على الكرسي، يتأمل كلامها.

تابعت لوجين، بحماس أكبر: فإنت ليه ماتقولهاش تعمل كدة؟! أطلب منها مش عيب، سيبك من قصة "الاهتمام ما بيتطلبش" لأ، الإهتمام بيتطلب.

تابعت بنبرة حكيمة هادئة بإبتسامة رقيقة: فيه ناس مابيعرفوش يحبونا بالطريقة إللي إحنا عايزينها مش علشان هما وحشين؟! لأ.. هما فاكرين إنهم عاملين إللي عليهم، بيحبوا بس حبهم مش مشبع لينا، نعمل إيه؟ نظلمهم؟ بالتأكيد لا؟! نطلب. نقول لهم: أنا محتاج كذا. أنا عايز كذا..

تتوقف لحظة وتنظر له بتركيز: خصوصًا إنتم كرجالة إيه المشكلة لما تطلب من مراتك؟ يعني إنت بتطلب حاجات تانية عادي فاهمنى طبعاً، ليه بقي في حاجات دي وهي الاهم لأ؟

نظر ياسين للأرض،هز رأسه بحزن خفيف: أنا حاولت كتير وهي للأسف مافيش.

تبسمت لوجين، بنبرة متفائلة، ترفع سبابتها بخفة وكأنها تعطيه حلًا:حاول تاني، يمكن الطريقة اللي استخدمتها أو أسلوبك ماكانش صح ومادام متجوزين عن حب أكيد هتتحل.

ياسين ينظر لها صامتًا، وكأنه يزن كلامها.

فجأة تبسم ياسين بخفة: بقولك إيه أنا جعان تيجي ناكل؟

لوجين تبسمت: حضرتك تحب تاكل إيه؟

ياسين، بتفكير لحظة: ستيك بالمشروم.

توميء لوجين برأسها موافقًا: خلاص، أنا هطلبه حالًا، عقبال ما تبدل هدومك ونوصل يكون كل حاجة جهزت.

ياسين وهو ينهض واقفًا، يربت على كتفها بخفة: تمام أطلبي أكل لنفسك كمان، ماشي؟

لوجين قالت بإبتسامة خفيفة: تمام يا فندم.

ابتسم ياسين وهو يرمقها بنظرة مرحة: ياريت بقى نشوف لنا حاجة نعملها النهاردة، واليومين الجايين لازم نستغل الإجازة.

توقف لحظة وضيق عينيه وهو يضيف: مش إنتي عايزة تثبتي إنك مديرة مكتب شاطرة؟

أجابت بثقة: أكيد طبعًا يا فندم.

هز رأسه بتحدي مازح: خلاص، عايزك تعملي لي برنامج في اليومين دول أنا مش عايز أنام أنا ممكن أخرج وسط ضغط عادي.

ضحكت لوجين: ماتشتغلش وسط ضغط بس بتخرج وسط ضغط عادي؟!.

ابتسم ياسين: بدأتي تفهميني غمز لها.

أجابته بنبرة مطمئنة: إنت شكلك بس محتاج تفصل خلاص سيب ده عليا.

قال ضاحكًا: هسيبه عليكي، حتى لو هرقص مع قرش.

ضحكت بحرارة وردت: مش لدرجة قرش. اديني ساعتين وهقول لك على بروجرام ماحصلش.

هز ياسين رأسه مبتسمًا: ماشي.

بعد وقت /غرفة ياسين

جلس ياسين في غرفته يتصفح هاتفه بملامح مرهقة، طرق أحد الموظفين الباب بخفة، وما إن أذن له بالدخول حتى قال بإحترام: جلسة المساج كمان عشر دقايق يا فندم.

رفع ياسين حاجبيه بإستغراب، تمتم لنفسه بدهشة:
مساج! هو أنا حاجز حاجة زي دي؟

مد يده إلى الهاتف وأتصل بلوجين، وما إن فتحت الخط حتى جاء صوتها السريع وكأنها كانت تنتظره: مش إنت مرهق ومحتاج تفك شوية؟ أنا حجزتلك جلسة مساج.

زفر ياسين ضاحكًا بنصف سخرية: هو ده البرنامج؟

ردت بإبتسامة تحدي: أتقل، مش إنت مابتحبش حد يقولك كل حاجة مرة واحدة؟

ابتسم ساخرًا وهو ينهض من مقعده: ماشي يا ستي.

وبعد قليل
غرفة المساج كان ياسين بالفعل ممددًا على السرير المخصص للمساج، يغمض عينيه بإرتياح وهو يستسلم لذلك الاسترخاء بعد عمل متواصل لعدة أيام وبعد إنتهاء الجلسة نزل إلى الجاكوزي، ثم كان في انتظاره سناك خفيف ومشروب، طلبته له لوجين مسبقًا مع فيلم كوميدي.

مع حلول المساء، رن هاتفه من جديد، وصوتها هذه المرة بدا أكثر حماسة: أنا حجزتلك حفلة لتامر حسني الليلة.

جلس ياسين مستقيمًا، عيناه اتسعتا بدهشة، ثم ضحك بخفة:
أنا بقالي كتير ماحضرتش حفلات، طب إيه، هروح لوحدي ولا إيه؟

ردت بسرعة بنبرة عملية: لو حابب حد يجي معاك، عرفني حالًا علشان أحجز.

ياسين: أنا معرفش غيرك.

صمت للحظة، ثم ابتسم بخبث هو أنا مش مديرك؟

لوجين بإحترام: أيوة طبعًا يا فندم.

ياسين بخفة: خلاص إنتِ هتحضري معايا.

لوجين برفض: لا أنا عايزة أنام.

يلوي شفتيه وهو يضحك: إيه إللي عايزة أنام؟ مديرك بيقول لك يلا يبقى أوامر تتنفذ، أنزلي معايا وهستناكي تحت.

أغلق الخط قبل ردها، ضحكت لوجين وتوجهت للخزانة تختار ماترتديه.

أغلق ياسين الهاتف ووقف أمام المرآة، يبدل ملابسه إلى بنطال جينز وتيشيرت كاجوال. 

  عند باب القاعة
ظهرت لوجين عند باب القاعة ترتدي بنطال أنيق وتيشيرت بحمالات، تجمع شعرها لأعلى بما يناسب أجواء الحفل.

ابتسم ياسين وهو يطالعها: إيه الجمال ده؟ شكلك حلو في الكاجوال، واخد عليكي طول الوقت بالرسمي.

لوجين بإبتسامة رقيقة: لكل مقام مقال يا مستر ياسين.

معترضًا بإبتسامة خفيفة: لا، هنا قولي ياسين بس.

لوجين :حاضر.

يميل برأسه مبتسمًا: يلا.

وبالفعل دخلا معًا إلى الحفل، جلسا في الصف الأول. الأجواء صاخبة، الأضواء تتراقص والأصوات تتعالى، الجميع يضحك ويصور. على المسرح، كان تامر حسني يلهب القاعة بأغانيه.

إنحنى ياسين نحوها وسط الصخب مبتسمًا: الحفلة دي تحفة بجد.

ضحكت وهي ترفع صوتها فوق الموسيقى: على فكرة، إنت النهاردة سهرتني، ومش عارفة هعملك البروجرام إزاي بكرة.

رفع كأس الماء مازحًا: طب قوليلي بقى، بكرة برنامجك ليا هيبقى إيه؟

نظرت له بثقة وأجابت بجدية مصطنعة الصبح هنصحى نعمل ديفينج، هنقضي اليوم كله في البحر، نصطاد سمك ونأكله.

ضحكت وقالت بنبرة مزاح: وبما إنك قلتلي قبل كده بتريقة هترقصيني مع القروش، فأنا قررت أخليك ترقص بس مع الدولفين وتشوف القروش من قريب. وبعدها هانلبس الباراشوت وننط من الطيارة.

توقف عن الضحك وحدق فيها بذهول ممزوج بإبتسامة مكتومة؛ إنتي بتتكلمي جد؟

مي بتأكيد وحماس: طبعًا وبلليل  هيبقى فيه عشا هادي على جزيرة، هنركب مراكب صغيرة  نص ساعة كدة ونخيم هناك ونستنى الشروق.

أطلق ضحكة طويلة ثم تمتم بصوت منخفض وسط الموسيقى؛ واضح إني سلمت نفسي رسمي.

ضحكت بخفة: هو أنا مش قلتلك من الأول سلم لي نفسك وأنا هعملك أحلى برنامج في التلات أيام دول؟

رفع كفه وضرب كفها بإبتسامة: قشطة عليكي.

في اليوم التالي

يخت
نري ياسين متوقفا على  سطح اليخت. كان يرتدي بدلة الغوص، يثبت نظارته جيدًا قبل أن يقفز إلى البحر برفقة الغطاسين. لم تكن تلك المرة الأولى له، لكنه بدا مستمتعًا وكأنه يستعيد شغفًا قديمًا غاب عنه لسنوات.

أما لوجين، فقد جلست على القارب تتابع المشهد عبر الشاشة، ترتدي ملابس كاجوال بسيطة بعيدة عن الرسمية، وعيناها تراقبانه بإبتسامة خفيفة.

بعد أن أنهى الغوص وغير ياسين ملابسه، أقترب منها مبتسمًا وقال بخفة: تقريبا بقالي أربع سنين ماعملتش ديفينج

لوجين: أي خدمة.

ياسين وهو يحتسى القليل من العصير: إيه يا لوجين إنتِ هتفضلي قاعدة تتفرجي عليا كده؟"

ابتسمت ببراءة: أعمل إيه يعني؟

قال وهو يلمع عينيه بالمزاح: ماتنزلي، قلتلك خدي راحتك، إحنا دلوقتي مش مدير وأسيست، اعتبرينا اتنين أصحاب.

ضحكت بخجل وردت: العفو يا فندم.

اقترب أكثر وهو يمازحها: إيه يا فندم ده؟! قولتك ياسين فكي ، يلا روحي غيري هدومك

ترددت قليلًا: أصل أنا ماعملتش حسابي الصراحة.

نظر إليها بتركيز ثم سألها: وتليفونك فين؟

مدت يدها وأخرجته: أهو فيه حاجة؟

أخذه منها وأعطاه لأحد الحراس: خد ده معاك… معاكي أي حاجة تانية تخافي عليها؟

نظرت إليه في دهشة لم تستوعب الأمر بعد رد على نظراتها موضحاً:
يعني تليفون، لاب توب، ساعة، حاجة تبوظ من المياه

أجابت بتلقائية: لا 

صمتت لوهلة فهمت:  إنت ناوي تعمل إيه؟! لا أوعى.

كادت أن تركض، لكنه سبقها ودفعها بخفة إلى البحر.

صرخت وهي تسقط: إنت بتهزر؟!

قفز خلفها وضحك عاليًا: أوعي تكوني بتعرفي تعومي!

خرجت من الماء وهي تضحك وترش عليه:
بعرف مغرقش!

بدأ الأثنان يلهوان برش الماء على بعضهما، ثم دخلا في مسابقة غطس وعوم قصيرة، كان واضحًا أنها تجيد السباحة، وضحكاتهما تملأ الأجواء. ومر وقت، وحين صعدا ثانيةً إلى القارب، غيرا ملابسهما وتناولا سمكًا طازجًا مشويًا، بينما الابتسامة لا تفارق وجهيهما.

بعد الغداء، جاء دور تجربة الباراشوت. ارتديا الأحزمة وربطا بالحبال، ثم أنطلق القارب مسرعًا ليرتفعا عاليًا في السماء. صرخت لوجين بخوف ممتزج بالضحك: إنت قولت عايز تعوض السنين إللى فاتتك أنا مالي.

ضحك ياسين بحرية وهو يفتح ذراعيه: مديرك لازم تشاركيه مابحبش أعمل حاجة لوحدي

ضحكا معا وأخذت تصرخ فهي كانت خائفة وهو كان يضحك عليها لكنها استمتعت خاصة عندم  يقوم السائق بتنزيل الحبل وجعلهم يلمسوا الماء 

هبطا بعدها على سطح اليخت والضحكة لم تفارق شفاههما.

مع غروب الشمس، توجها إلى جزيرة صغيرة على متن قارب بسيط مع مجموعة أخرى من المسافرين. كانت المراكب لا تحمل أكثر من أربعة أشخاص، تتحرك بين الأمواج بخفة. وحين وصلوا، نصبوا الخيام وأشعلوا النار، وكانت الأجواء عامرة بالبهجة وظلا هناك  حتى شروق.

على مدى الأيام الثلاثة، حرصت لوجين أن تكون لكل يوم تجربة جديدة؛ مرةً قفزا من الطائرة كما وعدته، ومرةً أخذته إلى رحلة صيد مع الصيادين حيث اصطاد السمك بنفسه لأول مرة، وكانت ترافقه دائمًا بإبتسامة مشجعة.

كانت تلك الأيام الثلاثة مليئة باللحظات الخاصة والذكريات التي لن تُنسى.

شاطئ البحر 
في الليلة الأخيرة، جلست لوجين على صخرة أمام من البحر، تستمع لصوت الأمواج المتلاطمة. جاء ياسين إليها يحمل كأسًا بيده، وجلس أمامها.

سألها وهو يرفع الكأس: بتضايقي لو شربت قدامك؟

هزت رأسها نافية: لا براحتك.

نظر إليها بجدية: إنتِ  بتشربي؟

ضحكت بخجل: يعني كل فين وفين كده لو فيه مناسبة، مش بشرب أي نوع، بس حاجات خفيفة.

ابتسم وقال بهدوء: أنا بس سألت عشان فيه ناس مابيحبوش حد يشرب معاهم،  زي هبة، ممكن ماتحبنيش أشرب في الشارع، لكن في البيت عادي، وبنشرب سوا.

نظرت له بإبتسامة صامتة برقة ثم تظرت إلى البحر.

أخذ رشفة صغيرة ثم قال وهو ينظر لها بعين ممتنة:
أنا بشكرك جدًا على التلات أيام دول، كنت محتاجهم بشكل إنتِ مش متخيلّاه.

نظرت إليه بعطف: يعني بجد عجبوك نجحت؟!

ابتسم مؤكدًا: جدا، أكتر حاجة عجبتني موضوع الدولفين، وحكاية إني أروح مع الصيادين أصطاد، دي حركة جديدة عليّ، أول مرة أعملها.

ابتسمت بفخر: أنا كنت خايفة تزهق من التكرار، خاصة إنت قولت عملت معظمها قبل كدة، حاولت أطلعلك حاجات جديدة.

ضحك بخفة: أنا بقالى سنين ماعملتش حاجة، فأعتبري كل حاجة أول مرة ثم سكت قليلًا وأضاف بصوت متحسر:
كان نفسي أوي هبة تبقى معايا بس للأسف.

لوجين بهدوء: من رأيي تتكلم معاها تاني إنت دلوقتي شحنت طاقة إيجابية، خرجت كل الضغوط. لما ترجع مصر، خدلك يومين إجازة وسافر معاها أي مكان بتحبه.

ياسين وهو يتنهد: هي بتحب أسبانيا.

ابتسمت تحدثت بنبرة هادئة حماسية: خلاص، لما ننزل مصر هاشوفلك حجز لأسبانيا، وأعملك برنامج زي ده، بس لازم تعرفني  هي بتحب إيه وإنت بتحب إيه، وتشاركوا بعض. أكيد هاتلاقوا اختيار يجمعكم.

هز ياسين رأسه برفض: لا هترفض.

ابتسمت بثبات وقالت بعقلانية: مافيش الكلام ده،  الست بتحب الراجل المتمسك بالعلاقة، بتحس إنه بيحارب عشانها لكن إللي مابيعملش حاجة، بيقع من نظرها، صدقني إحنا البنات بنفرح بحاجات بسيطة زي دي زي الأطفال لما تلاقيك بعد زعلكم مهتم تصالحها وبتحاول هتفرح.

ابتسم ياسين أخيرًا: حاضر يا ستي هجرب لو ده إللي هيرجعها بس أنا عارفها نكدية.

ضحكت لوجين وقالت بعقلانية: ممكن بقى تبدل كلمة نكد بمود مش حلو، أو زعلها طال، قول لها: يا حبيبتي، تعالي نفك شوية، نرجع زي زمان، دايمًا ابتدي بالحاجات إللي هي بتحبها، وبعدها حاجتك إنت إديها أكتر من اختيار  وبالتأكيد فيه حاجة منهم هتعجبها لو ماعجبهاش نشوف تاني خليها تحس إنك بتحاول علشانها إنت الراجل.

أومأ ياسين وهو يتنهد موافقًا: هعمل كده.

ابتسمت قائلة وهي تنهض: طب أنا هقوم أنام، بكرة هنصحى بدري،  وإنت هتفضل قاعد؟"

أجاب مبتسمًا: آه هقعد على البحر شوية.

قالت وهي تبتعد بخطوات هادئة: ماتتأخرش. وهبعتلك ليمون يهدي أعصابك. باي تصبح على خير.

ابتسم ياسين وهو ينظر إليها: وإنتِ بخير شكرا يا لوجين إنك بتسمعيني.

نظرت له بإبتسامة رقيقة ورحلت، بينما ظل جالسًا أمام البحر، يستمع لصوت الموج، والكلمات الأخيرة ترن في أذنه وكأنها بداية طريق جديد.

فيلا عائلة ماسة / غرفة سلوى،

جلست سلوى أمام مكتب كبير، منشغلة بصنع إكسسوارات بيديها أمامها عدة العمل، فصوص ملونة، وأسلاك رفيعة، وقد أنجزت بالفعل عدة عقود وخواتم في منتهى الجمال يلمعون تحت الضوء. على الجدار بجانبها علّقت بعض الأدوات الصغيرة.

كانت سعدية تجلس خلفها على السرير، منهمكة في طيّ الملابس.

دخلت إحدى الخادمات وهي تحمل حقيبة أنيقة وباقة ورد.

الخادمة:  الهدايا دي جت لحضرتك يا هانم.

رفعت راسها بإهتمام: هاتيهم هنا.

اخذت الكارت الموضوع على الباقة: أنا مبسوط باللي إنتِ وصلتِ ليه، وإن شاء الله تحققي كل أحلامك.

ابتسمت وهي تخرج هدية ملفوفة بعناية، كانت بلورة جميلة، وبجانبها عروسة صغيرة.

ثم أخرجت كارت آخر: عارف إن مهما جالك بلورات أو عرايس، هتفضلي تفرحي زي الطفلة.

تنهدت بسعادة وهي تضم الباقة بين أحضانها هي تعرف إنه مكي.

سعدية بسخرية بمزاح: إيه الضحكة إللي من هنا لهنا دي؟! وسبتى شغلك؟! آمال فين أسكتي ياما ماتكلمنيش سيبيني أركز

نظرت  لها وهي تضحك: فيه إيه يا ماما هو أنا المفروض مضحكش ومتبسطش يعني إن جتلي الهدايا؟!

سعدية بفضول: طب قوليلي الهدايا دي من مين؟ من المجهول برضه؟

سلوى تتظاهر باللامبالاة: أيوة المجهول برضه.

سعدية وهي تطوي الملابس بخبث: يا ترى مين ده؟

سلوى تضحك وهي تهز كتفها: والله معرفش ولا عايزة أعرف ماتسيبيني أفرح وخلاص.

سعدية بسخرية: ماتعرفيش؟؟ هنعمل نفسنا إننا منعرفش إن هو مكي قلبت شفتيها يمين ويسارا أكملت: بت هو لسة مسافر!

نهضت سلوى وهي تضع البوكيه والهدايا على الفراش معرفش ومايهمنيش، وبعدين يا ماما، سيبيني أركز بقى في إللي بعمله بعدين متخلي   الخدامين يطبقوا الهدوم

سعدية: لو ماعملتش حاجة بإيدي أحس إني مقطوعة.

سكتت لحظة ثم أشارت للتلفاز:  شغليلي المسلسل التركي إللي بحبه.

سلوى: حاضر.

أمسكت سعدية بإبتسامة: الورد والهدايا والنبي حلوين خسارة فيكي.

رفعت سلوى عينيها نحوها وهي تمسك الريموت تنتقل بين القنوات.

على إتجاه آخر 
في شرفة أحد الفنادق، كان مكي يقف متحدثًا في هاتفه بصوت منخفض: استلمت كل حاجة؟! تمام لو فيه أي جديد عرفني.
أنهى المكالمة، أخرج صورة صغيرة لسلوى من جيبه، نظر إليها مطولًا بعينين يغلب عليهما الشوق تمتم بصوت مبحوح: وحشتيني.

منزل ماسة العاشرة مساءً 
غرفة النوم 

تمددت ماسة على سريرها، التلفاز يعمل أمامها تنظر اليه بلا إهتمام، بينما أصابعها تتحرك بكسل فوق شاشة الهاتف، تتصفح صفحة الفيسبوك الخاصة بها، كان إيهاب قد أنشأها لها، تعرض صورًا ومقاطع فيديو، ابتسامتها كانت باهتة حتى توقفت فجأة أمام خبر يتصدر الشاشة: "غياب سليم الراوى عن المؤتمر الأخير ، وسفره المفاجئ منذ فترة كبيره لأسباب غامضه ومجهوله ! ".

توقفت أنفاسها لحظة، وعيناها علقتا عند صورته ، كبرت الصورة، وشيء ما في داخلها يهمس لها: "خشي على صفحته".

ترددت، ثم ضغطت على اسمه في مؤشر البحث واخذت تتفقد صفحة سليم، جامدة كعادتها لا منشورات كثيرة، آخر ما كتبه كان منذ أربعة أشهر، أي قبل أن تغادر بشهر كامل !

ضحكت بسخرية وهي تهمس: صفحه عليها عناكب أقسم بالله، آخر منشور من ٤شهور؟ ده تقريبا من قبل ما أمشي.

أكملت تصفح، فتحت الصور بلا وعي، ظهرت صوره بمفرده وصورها معه، ابتسامة شاردة ارتسمت فوق شفتيها، كانت هي دائمًا من تنشر، بينما هو لم يهتم أبدًا.

دق قلبها بشعور غريب، لم تفهمه هل هو شوق؟ أم وجع؟ أم مزيج بينهما؟ وقفت عند صورة قديمة لهما في سويسرا، وهو يضمها وكانت السعادة  تغمرها، المكان الذي أحباه وتمنوا العيش فيه للأبد ، قلبت الصورة فظهرت أمامها صورة أخرى ألتقطت قبل الحادثة، قبل أن تنكسر حياتها.

انهمرت دمعة حارة من عينيها تجاوزت الصور سريعًا حتى استقرت عند صورته وحده، ملامحه تزداد وضوحًا أمامها، كل شيء فيه بدا جميلًا ببطء، مررت أصابعها على الشاشة، وكأنها تلمس وجهه.

تمتمت بصوت مرتجف: أنت وحشتني، وحشتني أووي.

شردت في ملامحه قليلا بإبتسامة شوق بعد ثواني تلاشت الإبتسامة فجأة تحولت للإستغراب كيف لها أن تبتسم أو تشعر بذلك عقدت بين حاجبيها

أغلقت الهاتف فجأة وألقته بعيدًا عنها، تهز رأسها بقوة برفض:
لا... لا، أنت موحشتنيش دي تهيؤات أنا أصلا بكرهك.

وقفت أمام المرآة، تحدق في عينيها، كأنها تخاطب نفسها بصرامة بنبرة متأثرة بعينين تترقرق بدموع الوجع:
أوعي تنسي إللي عمله فيكي، فوقي دى كان هيموتك، كان هيغتصبك، أداكي علقة موت، أوعي تنسى الحزام إللي نزل بيه على جسمك من غير رحمة، أنتِ هونتي عليه، افتكرى السنة إللي قلب حياتك فيها جحيم، وتهديداته لأهلك، فوقي يا ماسة فوقي، الراجل اللي كنتي بتحبيه واتجوزتيه مات، الراجل إللي يستاهل تشتاقي له مات، اللي قدامك دلوقتي مش سليم، مش كراميل، ده واحد غريب، واحد منعرفوش ، سليم اللي حبتيه مات من زمان.

صمتت لحظة، ثم خانتها دموعها إنهارت جالسة على الأرض، دموعها تغرق وجهها، يديها تغطي ملامحها المرتجفة وفجأة، شعرت ببرودة خفيفة تسري من خلفها، كأن أحدًا يقف هناك لم تلتفت، حتى أحست بيد توضع ببطء فوق كتفها.

رفعت رأسها ببطء، عينها تهبط أولًا على تلك اليد، ثم ارتجف جسدها وهي ترفع نظرها أكثر، لتجده أمامها سليم لم يكن جسدًا حيًا، بل طيف، ظل له ملامح ، كأنه يتوهج من بين دموعها وخيالها.

ابتعدت للخلف مصدومة، بينما صوته يتردد في أذنها، عميقًا، ثابتًا: لا مش هتقدري تنسيني أنا جواكي في كل حتة فيكي بجري في دمك.

صرخت وهي تهز رأسها برفض: لا أنا بقيت بكرهك!

ابتسم طيف سليم ابتسامة ساخرة، اقترب أكثر وقال بثقة: متضحكيش على نفسك أنتِ بتقولي الكلمة دي بس علشان تقنعي نفسك إنك بتكرهيني لكن الحقيقة لسة بتحبيني مستحيل تكرهيني.

ارتجفت شفتيها وهي تصرخ: بقولك بكرهك! هعلم قلبي يكرهك، أنت كنت هتموتني، أنت ضربتني علقة موت وأنا معملتش حاجة! كسرتني بعد ماوعدتنى إنك عمرك ماهتعملها تانى، كسرت الحاجة الوحيدة الحلوة اللي كانت بينا ! أنا بكرهك ومش هرجعلك.

ضحك الطيف بخفوت، عيناه تلمعان: طب ليه فتحتي صورتي النهاردة؟ ليه دايما بتفكري فيا ؟

شهقت، دموعها تتساقط بغزارة، تصرخ في وجهه: أنا بكرهك أمشي! 

اغمضت عينيها بقوة، كأنها تريد طرده من عقلها، غطت وجهها بكفيها، تردد بعصبية: أمشي… أمشي بقى!

لكن حين فتحت عينيها كان مايزال واقفًا، ينظر إليها بثبات ، قال بهدوء يخترق روحها: أنا هفضل جواكي جوا روحك غصب عنك.

أغمضت عينيها مرة أخرى بكل قوتها، قلبها يخبط في صدرها، وعندما فتحت عينيها أخيرًا لم تجد سوى انعكاسها وحدها في المرآة.

صرخت بحرقة، أمسكت شيئًا من على الطاولة وقذفته بعنف نحو المرآة، تحطمت زجاجها إلى قطع صغيرة على الأرض، وانعكاسها تهشم معها، ارتعشت، رفعت يديها للسماء، تبكي وتقول: يا رب خليني أكرهه، خليني أنساه، خليني أنجو منه يارب .

انفجرت بالبكاء، لكن بين الشظايا، لاح لها ظل لم يكن انعكاسها وحدها، بل ملامحه ظهرت واضحة في الزجاج المكسور مرة أخرى كأن قطعة من روحها تستدعيه رغماً عنها ! صوته اخترق الصمت، ثابتاً بارداً: متحاوليش، عملتيها كتير ، دعيتِي كتير ، ولسة أنا جواكي.

رفعت عينيها ببطء، تحدّق في شظايا المرايا، وجهها تحول من ضعف إلى عناد ردت بصوت مرتعش لكنه متحدٍ: حتى لو بحبك مش هرجعلك وهييجي يوم وهكرهك وهبعد ومش هبص ورايا.

ضحك بخفوت، كأنما يستهزئ بها:مستحيل قلبي جواكي إزاي هتطلعيني؟

مدت يدها تمسح دموعها بعصبية، ثم رفعت رأسها وكلماتها خرجت حادة، كأنها تقسم: هطلعك حتى لو هموت وأنا بحاول.

لم تكد تنطق الكلمة الأخيرة حتى تلاشى الظل من الشظايا، لم يبق سوى وجهها الممزق بين قطع الزجاج المكسور، جلست للحظة، تتنفس بعنف، وفي عينيها لأول مرة شرارة صغيرة من القوة، كأنها تخوض حربًا طويلة لكنها بدأت تدرك أن لها سلاحًا.

وضعت كفها المرتعش فوق قلبها، تشعرت بنبضه العنيف يطرق صدرها كأنه يذكرها بالحقيقة، أغمضت عينيها، وابتسمت بمرارة: يمكن لسة بحبك بس مش معنى كدة إني هفضل أسيرة ليك.

لم تنم ماسة طوال الليل، فقط جلست تبكي، تستعيد تفاصيل كثيرة مما كان بينها وبين سليم ، الذكريات تطايرت بلا توقف أمام عينيها، كأنها تحدث الآن، لأول مرة منذ هروبها تطاردها الذكريات بهذه القوة، نعم، كانت تتذكره ، لم يغب عن بالها يومًا، لكن تلك الليلة مختلفة.

حاولت أن تهرب من التفكير، فتحت باب الشرفة ، الهواء البارد لفح وجهها، لكنها تجمدت حين رأته يقف بجانبها، يبتسم تلك الابتسامة التي تعرفها جيدًا ، ارتجف جسدها، التفتت نحوه سريعًا، فلم تجد شيئًا.

عادت للداخل مسرعة، دخلت المرحاض لتغسل وجهها بالماء البارد، وحين رفعت عينيها إلى المرآة، شهقت مذعورة؛ كان يقف خلفها بوضوح. ألتفتت برعب، لكن المكان كان فارغًا.

ارتجفت، تحركت كأنها تهرب من شبح يلاحقها، ثم وقفت تحت الدش، تترك الماء ينساب على رأسها وجسدها، تحاول أن تهدأ، أن تغسل كل شيء عالق بروحها.

بعد قليل، خرجت من المرحاض، تلفّ منشفة حول جسدها وأخرى فوق رأسها، كأنها تخفي ضعفها تحت طبقات من القماش، جلست على الفراش، مبللة العينين والروح، رفعت أناملها المرتعشة إلى جبينها، تغمض عينيها في تعب، لكن الهواجس مازالت تتربص بها، تنتظر اللحظة لتعود من جديد.

وفجأة…
فلاش باك في النرويج، العاشرة مساءً
كانت ماسة واقفة في شرفة أحد الفنادق، أضواء المدينة الأوروبية تتلألأ تحت قدميها، والبرد يلسع وجنتيها، اقترب سليم من خلفها بإبتسامة دافئة، وألقى معطفه على كتفيها ، ألتقت عيناهما وقال بصوت منخفض: مستحيل أسيبك تبردي حتى من الهوا لازم يعدي من خلالي قبل ما يلمسك.

ضحكت بخفة، واتكأت على كتفه: كلامك ده يخليني مش عايزة اللحظة دي تخلص.

لم يجب، فقط رفع يدها إلى شفتيه وقبل أصابعها ببطء، كأنه يقسم بحبها تجمد العالم كله في تلك اللحظة.

بعد دقائق من الصمت، أسندت رأسها على كتفه، وهو طوّق ظهرها بذراعه، قال وهو يحدق في السماء: الجو حلو أوي أنا همد الإجازة أسبوع كمان.

ضحكت مستسلمة لدفئه: بس الجو جوا حضنك أحلى.

ابتسم بطرف عينه، ورفع كفها وقبلها من منتصف يدها ورفعت هي طرف الشال الذي وضعه حول كتفيها، وأسدلته فوقهما معًا، كأنها تجمع قلبهما في غطاء واحد.

سليم بصوت خفيف: عارفة أنا شفت مين وأنا بجيبلك الشوكولاتة من تحت؟

ماسة بلهفة:مين؟

سليم: دكتور مروان.

اتسعت عيناها بدهشة: بجد!؟

سليم:  أيوه سلم عليا وسألني عن أخباري، قلت له كل حاجة تمام، سألني كمان ليه وقفت الجلسات ، قولت له إني خلاص مبقتش محتاجها بس حسيت إنه مش مقتنع.

نظرت له بقلق: طب يا حبيبي لو المفروض تكمل وتطمن، ليه مكملتش؟

عدل سليم من زاويته توقف أمامها مباشرة تساءل في قلق :إنتي حاسة إني لسه محتاجها ؟

ماسة هزت رأسها بإبتسامة: لا يا روحي، بصراحة مش حاسة إنك محتاجها ، بس هو فاهم أكتر مننا.

سليم معترض: لأ بالعكس، إحنا نعرف أكتر من أي دكتور أنا حاسس إني بقيت أهدى، آه بتعصب ساعات، بس من آخر مرة مرفعتش إيدي عليكى ، وبطلت الحاجات إللي كانت بتزعلك وهو ده المهم.

ثم مد كفيه يضم وجهها بكفيه، ركز النظر في عينيها الزرقاوين، صوته متحشرج بالصدق بعين لا ترمش:وأنا مستحيل أرجع زي ماكنت، أنا مش محتاج مروان ولا غيره، أنا محتاجك إنتي، إنتي مسكني وهدوئي  ودوايا  وكل حاجة، وبعدين أنا لو حسيت نفسي رجعت تاني أكيد هروح للدكتور، بتثقي فيا ولا لأ؟

ابتسمت بعاطفة، وضمت رأسها إلى صدره:مش بثق غير فيك، ومتأكدة إنك مستحيل ترجع زي ما كنت، أنا بحبك أوي.

ضمها بقوة، وصوته أنكسر بالحنية: وأنا بموت فيكي.

باك إلى الواقع
فتحت ماسة عينيها فجأة، دمعة انسابت على وجنتها همست بمرارة وهي تمسح وجهها: بس إنت رجعت، رجعت أسوأ من ماكنت ياريتك سمعت كلامي.

الذاكرة لم ترحمها اندفعت بها إلى صورة أخرى…

فلاش باك  قصر الراوي
كان سليم مستلقيًا على بطنه، ظهره عارٍ، وماسة فوقه، تدلك عضلاته المتعبة، كانت ترتدي قميص نوم أبيض قصير، شعرها منسدل بحرية. بدا سليم مستمتعًا وهو يقول بصوت مبحوح: أقفيلي على ضهري كده شوية.

ضحكت: إنت ناسي ولا إيه؟ زمان كنت 15سنة، 40 كيلو، دلوقتي بقيت 55، هكسر ضهرك!

سليم  بتصميم: أقفي بس.

ترددت لحظة، ثم وقفت بخفة فوق ظهره ، بعد ثوانٍ، قفزت سريعًا وهي تضحك: لا لا، مش قادرة، خايفة عليك عشان الرصاصة كمان خليها مساج بس.

أكملت المساج بيدها على  ظهرة بنعومة  يبدو أنها تتردد في قول شيء ابتلعت ريقها وقالت: بقولك إيه يا سالوملوم ماتيجي نروح لدكتور مروان؟ أنا كمان محتاجه أروح.

رفع عينه نحوها بتعجب: ليه؟ حاسة بإيه؟

بهدوء: مش عارفة، مش مظبوطة من بعد الحادثة، وأنت كمان تعالي نروح سوا، مش لازم مروان، أي حد، وعلشان أنت طبعا مانع الخروج وكده ، هاته هنا.

عدل من نومته وجلس أمامها قطب حاجبيه: أنا مش محتاج دكتور أنا كويس لازم تصدقيني.

اقتربت منه، طبعت قبلة على خده: حاضر يا سليم، حاضر  اقتربت منه وضمته بحب

باك، إلى الواقع

شهقت ماسة وهي تضغط بكفها على صدرها، وقعت عيناها على الوشم المحفور باسمه عند قلبها، مسحته بعنف، كأنها تقتلع جلدة من لحمها ثم نظرت إلى معصمها، حيث نصف القلب الذي يكتمل بنصف القلب الآخر الذي على معصمه، وحاولت أن تخربشه بأصابعها لكن لا جدوي.

انفجرت في نوبة بكاء أخرى، جسدها كله يرتجف، وصوتها خرج كصرخة: هخرجك من قلبي يا سليم، كإنك مكنتش موجود، هعرف إزاي أكرهك!

سقطت منهارة، وظلت تلك الليلة تمزقها الذكريات؛ الجميلة منها والمريرة، حتى جاء الصباح.

لم تذهب الى العمل؛ فكان جسدها منهك للغاية بسبب تعب قلبها، ولم تخرج من المنزل بقيت كما هي تشعر بالحزن والألم يعصف قلبها.

وفي منتصف اليوم، حملها التعب إلى ذلك المكان السحري عند البحر، الذي دلها عليه إيهاب، جلست هناك بالساعات، قدماها في الماء، وصمتها مثقل وترفع نقابها لأعلى رفعت رأسها للسماء هامسة:لحد إمتى، هفضل سجينة لذكرياتك يا سليم؟
أضافت بضعف: طب يا رب خليه يبقى كويس مادام مش عارفه أكرهه رجعه تاني سليم الحنين اللى حبيته، لكن كدة حرام والله..

ظلت على ذلك الوضع لساعات تفكر في صمت خانق حتى جاء وقت الغروب وفجأة سمعت صوتًا يناديها من بعيد: ماسة؟!

انتفضت بخوف، قلبها خبط في صدرها ألتفتت بسرعة، وجدت إيهاب واقف بيرفع نظارته بإبتسامة هادية، يرتدي كاجوال يبدو وسيما.

قال لها وهو بيضحك بخفة: إيه يا بنتي، إنتي كل ماحد ينادي عليكي تترعبي كده...




تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة