
رواية أسد مشكى الفصل السادس والاربعون 46 بقلم رحمة نبيل
| مهر مُنتظر |
وقِيل في معنى الزَّواج، أن تَختار مَن يستحقُّ الاطّلاع علىٰ عيُوبكَ، فيَقبلها ثمّ يَستُرهَا!
- الرّافعي.
الفصل اهداء للجميلة " زينب محمود " و " رضوى عمرو ".
صلوا على نبي الرحمة ..
قراءة ممتعة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فقط امنحيني قلبكِ، أو خذي روحي ."
صمت كبير لف المكان حولهما وكلمات أرسلان يرن صداها في المكان وفي صدرها، ارتجفت يدها التي امسكها أرسلان وهو مايزال ينظر في عيونها مبتسمًا، لترد له البسمة بأخرى أشد رقة وهي تبعد الخنجر عن صدره ببطء تهمس بصوت منخفض :
_ كيف امنحك ما تملك بالفعل مولاي ؟!
التمعت عيون أرسلان بشكل قوي وقد شعر في هذه اللحظة أنه ينال مكافأة صبره طوال تلك العقود، والله لو كان يعلم طوال تلك السنوات أن مكافأة كفاحه وصبره ستكون" سلمى " لقابل مصائبه ببسمة واسعة، وصدر رحب .
سحب يده يدس خنجره في ثوبه، ومن ثم مال بنصفه العلوي نصف ميلة وهو يخفض رأسه ببطء يضع يده اليمنى جهة قلبه يردد بصوت حاني :
_ مرحبًا بكِ زهرة في حياتي القاحلة المقفرة سليمى .
اتسعت بسمة سلمى وكادت أن ترفع طرف ثوبها لتنحني بالمثل، لولا يد أرسلان التي امسكتها بسرعة يضم كفها بحنان :
_ لا تفعلي رجاءً.
ختم كلماته وهو يلتقط كفها يضغط عليه بحنان شديد، وهي تنظر له بأعين ملتمعة، تتحرك معه بهدوء، بينما اصطف جنوده على الجانبية باحترام والنساء في الخلف وبمجرد أن خطى الإثنين خارج بوابة القصر صوب ساحة الاحتفال، فجأة انتفضت سلمى وهي تبصر الكثير والكثير من وريقات الزهور تهطل عليها كما السيل من الاعلى .
وأرسلان يتحرك معها ببسمة واسعة وهي تراقب ما يحدث حولها بأنفاس مخطوفة، وصوت قديم من ذاكرتها يرن بأذنها.
" أوتعلم لود، أنا لا أحب هذه الأشياء التقليدية التي تبدو في ظاهرها سخيفة، لكن حتى تلك السخافة تستهويني أحيانًا، أن يمطرني زوجي بالزهور يوم زفافي سيكون لهو شيء تقليدي ....رائع "
رفعت سلمى عيونها بسرعة صوب خالد متأكدة أنه هو من أخبر أرسلان بذلك لتبصر التماع الدموع بعيونه وبسمة واسعة ترتسم على فمه، لتبتسم بحنان وحب وهي ترفع كفها تلوح له بامتنان .
وهو هز رأسه يراقبها وقد فشل في كبت دموعه، لا يصدق أنها تُزف الآن لشخص يحبها وتحبه، أخته الحبيبة التي كان قد بدأ ييأس أن تميل لرجل في عالمهم، والغريب أنها لم تفعل، بل سافرت عبر العوالم لتحصل على رجلها الخاص .
حركت سلمى عيونها تراقب العم جلال وعمها وديلارا وعثمان وجميع من تعلم تبتسم لهم بحب، وعلى عكس المتوقع لم تكن وحيدة يوم زفافها، الجميع حولها ينقصها فقط والديها .
ارتجفت يدها بخفة، ليميل عليها أرسلان هامسًا بحنان :
_ بخير سليمى ؟؟
_ أكثر مما كنت في أي وقت ارسلان، لقد ... أنت حققت لي حلمًا .
ابتسم لها بحنان هامسًا بصوت منخفض :
_ ليطيل الله بعمري وافعل دائمًا .
توقف في المنتصف، حيث تتحرك هي صوب قاعة النساء مع الباقية، ينظر لها بحب :
_ إذن حلوتي ألقاكِ بعدما ينتهي الاحتفال، وحتى ذلك الوقت احتفظي بروحي واحسني الاهتمام بها .
ختم كلماته وهو يمسك كفها يميل عليه يقبل باطنه، ومن ثم ترك يدها بهدوء تسحبها كهرمان التي كادت تطير في هذه اللحظة من شدة سعادتها لسعادة شقيقها .
وأرسلان نظر لها بحب يغمز لها لتبتسم كهرمان وهي ترفع يدها له بقبلة، ومن ثم غادرت وهي تشير للنساء كي يتبعنها .
بينما إيفان يقف جوار أرسلان يضم يديه لصدره :
_ حقًا ؟؟ حتى يوم زفافك أيها الوغد ؟! ألن تترك زوجتي وشأنها ؟!
_ أترك زوجتك ؟؟ أترك الحياة ولا أترك شقيقتي أيها الحقير .
ختم حديثه وهو يتحرك صوب منتصف الساحة، يرفع يديه يستعد للرقص حيث يتجمع الرجال للأحتفال، ولم يكد يتحدث بكلمة أو ينضم لهم، حتى أبصر أمامه جسد يقف جانبًا يراقب الجميع بأعين حريصة وكأنه يخشى أن يُسحب في دوامة الرقص دون أن يشعر .
وفجأة صدح هتاف أرسلان وهو ينطلق صوب ذلك الجسد يهجم عليه دون مقدمات :
_ العجوز شهــــــــدان ؟؟؟؟
وفي ثواني قبل أن يستوعب العريف ما يحدث كان جسده يسقط ارضًا بقوة وفوقه أرسلان الذي احتضنه بقوة ولم ينجو من العريف شيء سوى بومته التي طارت بسرعة قبل السقوط .
والعريف كاد قلبه يتوقف مما حدث وهو يصرخ بصوت مرتفع يحاول دفع أرسلان عنه :
_ أيها الحقير ابتعد عني، اقسم بالله لم أكن أرغب بالحضور، لكنني أُجبرت على ذلك، ابتعد عني تبًا للجميع، أحضروا حصان سأعود لسفيد ولو سيرًا على الأقدام.
أطلق أرسلان ضحكة مرتفعة وهو يضمه بقوة لا يصدق وقد كان العدو الأول للعريف بعدهم هو الزفاف وأي تجمع بشري يزيد عن خمسة أشخاص، لذا كان يعتزل في مكتبته حينما يحين زفاف أحدهم قبل أن يجبره سالار أو إيفان على الخروج ومشاركتهم الاحتفال بالاجبار.
نهض أرسلان وهو يضحك بصوت صاخب يساعده في النهوض :
_ اعذرني لم اصدق حين ابصرتك.
نفض العريف يده، ومن ثم حدق في وجهه بضيق شديد في الوقت الذي استقرت به البومة مجددًا على كتفه ليضربها بعنف :
_ تهربين مجددًا بمجرد أن اقترب مني، هذا بدلًا من مهاجمته ايتها الحقيرة ؟؟ والله ليتك لم تعودي أيتها الحقيرة .
تشنجت ملامح أرسلان وهو ينظر صوب البومة وكأنه يتحداها مشيرة لها :
_ تهاجمني؟؟ هذه ؟!
تراجعت البومة وهي تتحرك من الكتف المواجه لأرسلان صوب الكتف الآخر، والعريف يراقبها بضيق يضربها بقوة لتطير خوفًا منه :
_ لا فائدة ترجى منكِ لو أنني أحضرت لي دجاجة انتفع ببيضها لكان خيرًا لي .
أطلق أرسلان ضحكات مرتفعة قبل أن يشعر بيد المعتصم تجذبه لمنتصف الساحة ليشارك الرجال الرقص، وفي هذه اللحظة لو كان هناك أحدهم ينافس أرسلان سعادة فقد كان حتمًا إيفان الذي انطلق صوبه يجذبه لأحضانه بقوة، يرفع يده وهو يطلق صيحات سعيدة وسالار يراقبهم ببهجة، قبل أن يجذبه إيفان لهم ويجذب نزار والمعتصم وتيم وخالد والجميع .
حتى أن آزار وبارق أخذوا يرقصون بجنون مع ضربات الدف خلفهم والجنود ورجال الشعب تقريبًا الجميع في ساحة قلعة مشكى يشاركون في الحدث العجيب الذي حدث في هذه اللحظة .
الجميع يراقب الملوك وقادة الجيوش وقد اختلفت صورتهم في هذه اللحظة عن صورتهم في الحروب وهم ملطخين بالدماء، ليتضح للبعض في النهاية أن هناك جزء آخر في حياتهم لم يعلموا عنه شيء .
هناك جانب آخر للصورة غير واضحًا لهم .
وأرسلان ولأول مرة يرفع صوته بالغناء بصوت قوي جهوري، الصوت نفسه الذي لطالما نادى بالحرب وبث كلمات قوية في جيشه وقت القتال، ها هو يشدو بقوة كلمات تراثية فارسية لأنشودة تتردد طوال الوقت في الزفاف .
في هذه اللحظة كان أرسلان يرقص بكل خلية من جسده، لا يصدق أنه وصل لهذه اللحظة من حياته، وفي الواقع هو طوال الوقت كان على يقين أنه سيأتي يومًا ويكرمه الله بزوجة يحبها ولو كان لأنه تعهد بحب زوجته، لكن كرم الله فاض وغطى كامل توقعاته ولم يرزقه فقط بامرأة يحبها لأنها زوجته .
بل رزقه بامرأة يحبها لأنها سليمى ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأمر لم يختلف كثيرًا عند النساء، حيث فاطمة قد تجمعت النساء في منتصف الساحة يؤدون رقصة الأغصان ومعهن فاطمة، التي كانت تتحرك بسعادة بالغة وكأن شقيقتها هي من تزف اليوم .
وسلمى فقط تقف جانبًا تصفق لهن بحماس شديد، حماس ازداد مع زيادة حدة الرقصة لدرجة أن سلمى رفعت إصبعًا واطلقت صفير حاد قوي مرتفع جعل الجميع ينظر صوبها بتعجب، وتبارك أبت إلا أن تشاركها الإحراج، فاطلقت ضحكة مرتفعة وهي تضم شفتيها بين اصبعيها تطلق صفيرًا مشابهًا، وقد نفعتها مهارة استيقاف الحافلة أو السيارات .
نظرت لها سلمى وهي تضحك قبل أن تشعر بفاطمة تجذبها لتشاركهن الرقص، ورغم أنها لم تحفظ سوى حركات محدودة من تلك الرقصة إلا أن ذلك لم يمنعها من مشاركتهن وقد تحولت القاعة الخاصة بالنساء لساحة احتفال تنافس ساحة الرجال في الخارج .
ابتسمت كهرمان وهي ترتكن على الجدار تتنفس بسرعة كي ترتاح من المجهود الذي بذلته، تتذكر تحذيرات إيفان لها ألا ترهق نفسها لأجل حالتها .
لكن كيف لا تفعل وهذا زفاف أرسلان والدها وشقيقها ورفيقها وحبيبها الاول، الشخص الذي ضحى بنصف حياته لأجلها، الشخص الذي لولاه بعد لطف الله عليها لما صمدت في هذا العالم ثانية واحدة، هي كانت تحيا وتقاوم لأنها تعلم أنها إن سقطت فسيكون هناك أرسلان ليتلقفها ومن ثم يقيم جحيمًا على الجميع انتقامًا لسقوطها.
" اتعلم الرقص فقط لاجلك اخي، انتظر زفافك وسأرقص لك واغني حتى تفنى انفاسي أخي"
" لا أراني الله بكِ سوءًا حبيبتي، ثم الأمر ليس بهذه البساطة، في الحقيقة اتخيل في بعض الأحيان أنني لن أبصر هذا اليوم قريبًا أو ربما أبدًا، أخشى أنني سأكمل حياتي وحيدًا كهرمان "
" لا تقل هذا أخي، بالله أن نصف نساء الممالك يتمنين رجل مثلك و..."
" يخافونني كهرمان، نصف النساء يخافونني حبيبتي "
" هذا ما تظنه أنت أخي، ألا تبصر هيئتك في المرآة أخي، أنت رائع من الداخل والخارج اخي، والكمال لله وحده بالطبع، انتظر ليأتي ذلك اليوم وتجد زوجتك صدقني اقسم أنني سأقيم احتفالًا يفوق احتفالي بيوم زفافي "
ابتسم لها أرسلان بحب وهو يجذبها لأحضانه:
" لا تحملي هم زفافك اتركي هذا عليّ أنا "
" سترقص لأجلي أخي ؟؟"
" بل سأبكي فراقكِ حبيبتي "
ضحكت كهرمان وهي تضرب كتفه ظنًا أنه يمزح، ولم يكن في الواقع .
والآن ها هي تقف في قاعة نساء مشكى الخاصة بالاحتفالات والتي شهدت زواجات واحتفالات كثيرة، الآن جاء الوقت لتشهد زفاف ملكها ..
وبعد ساعات قليلة ارتفع صوت امرأة من الخارج وهي تردد بصوت مرتفع كي يسمعه الجميع من بين الضجيج :
_ وقت تقديم الهدايا يا نساء، تجهزوا فالملك ينتظر عروسه .
شعرت سلمى فجأة بالمكان حولها يدور وبأن صوت أنفاسها المرتفع مسموع لها وللجميع حولها، ولثواني ارتجف جسدها حينما شعرت بيد كهرمان تضم مرفقها بحب وهي تنزل غطاء الوجه لها :
_ هيا عزيزتي أخي لن يصبر طويلًا، يكفيه ثلاثة عقود في انتظارك سلمى .
ختمت حديثها ليضحك البعض حولها، وتتحرك معهم سلمى وهي تشعر بأن كل خطوة تخطوها تقربها من حياة جديدة، لا تدري إن كانت ستستطيع التأقلم عليها أم لا، لكن كل ما تعلمه أنها لا يمكنها التأقلم مع حياة تخلو منه هو .
ذلك الرجل الذي يتوسط الرجال في الساحة وهو يراقبها ببسمة واسعة وملامح هادئة وسيمة يمد يده لها بحب شديد، ينتظر أن تصل له، وحينما شعرت بتلامس كفيهما جذبها أرسلان له بهدوء كبير وهو يتنفس براحة شديدة وكأن حياته توقفت عند هذه اللحظة، لحظة تمنى أن تستمر أبد الدهر، ها هو وعلى مرأى ومسمع من الجميع يعلن سليمى رفقة عمر وانيسة الدهر .
مال لها يهمس بصوت منخفض :
_ اليوم أُصنف نفسي أكثر رجال الأرض حظًا لأمتلاكي سليمى...
رمشت سلمى من أسفل الغطاء ولم تكد تبدي أي ردة فعل حتى شعرت بقبلة تهبط على جبينها لتبتسم وتتنهد براحة كبيرة وهي تشعر بصدرها يرتفع بوتيرة سريعة تهمس بصوت منخفض :
_ فاق حبي لك الحدود أرسلان، أنا الآن شاكرة لوصية أبي التي ألقت بي بين أحضانك هنا .
اتسعت بسمة أرسلان وهو يميل على أذنها يهمس بصوت خافت :
_ ليست وصية عزيزتي، بل قلبي هو من ارادك واتخذ الوصية حجة، فوالدك أوصاني فقط بالاعتناء بكِ ومساعدتك لتتأقلمي على المكان، ثم تركك لتتولي مسؤولية نفسك .
صمت يراقب تحرك رأسها بحركة توشي بصدمتها ليكمل همس :
_لكنني كنت أكثر الاوغاد أنانية لأحتفظ بكِ لنفسي، رافضًا أن يتولى غيري مسؤولية مساعدتك أو اسعادك .
رفعت وجهها له ليبتسم بسمة واسعة وهو يبتعد عنها يسحبها بهدوء صوب المقاعد التي تتوسط الساحة لتبدأ مراسم الزفاف .
وقد كان أول من تقدم ليقدم الهدايا هو خالد والذي كان يراقبها بأعين دامعة وبسمة واسعة، يحمل بين يديه صندوق هدايا ملون مع شرائط ملونة تلقفتها سلمى وهي تبتسم تشكره بحب دون حتى أن تعلم ما تحتويه الهدية، وخالد فقط تحدث بصوت به غصة بكاء :
_ هذه ...هذه مزهرية تشبه تلك التي حطمها موزي من قبل والتي كانت ترجع لوالدك، لقد احضرتها لكِ منذ أشهر قبل مجيئي هنا ونسيت جلبها معي، واحضرها أبي وهو قادم، فقط اتمنى أن...تعجبك .
نظرت له سلمى ثواني وهي تضع الهدية جانبًا، ثم نهضت تضمه بسرعة باكية بسعادة ليبادلها خالد العناق وهو يبكي بتأثر .
خالد الذي رغم كل أفعاله كان أقرب لها من نفسها منذ طفولتهما، شاركها حياة لا تعلم من كان ليفعل إن لم يكن هو موجودًا، أخوها، وصديقها، ورفيق طفولتها وشبابها، العزيز خالد .
وأرسلان يراقب ما يحدث بهدوء يقدر تلك اللحظة، وقد جربها سابقًا، لا يزال يتذكر ارتكانه للجدار ذات يوم يبكي رحيل صغيرته، ابتسم بحنان وهو ينهض يربت على كتف سلمى :
_ لِمَ البكاء سليمى، أين سيذهب هو، سيظل معكِ هنا ولن يبتعد وسترينه كل ثانية ليكدر حياتي وحياتك حبيبتي.
رفعت له سلمى وجهها وهي تردد بصوت باكي :
_ حقًا لقد قال إنه سيعود مع العم جلال أرسلان.
ضمها أرسلان بحب وهو يقبل رأسها بحنان :
_ سأحب رؤيته يحاول ذلك عزيزتي، والله يقيمن في سجون مشكى ولا يخطو خطوة تبكيكِ .
اتسعت بسمة سلمى بقوة وهي تنظر صوب خالد الذي تشنج بصدمة، وفي الواقع هو كان مترددًا بشأن الرحيل وقد وجد ذاته بين الجميع هنا ولأول مرة يكون صداقات دون غرض من وراء ذلك، بل ووجد المرأة التي يبتغيها رفيقة لحياته .
وحين ذكرها تحركت رأسه بين الجميع صوب الموقع الذي كانت تتوسط والذي يتابعه منذ جاءت مع النساء، يبتسم لها بحب ليبصرها تخفض رأسها بخجل شديد، ونعم ربما كل الايام السابقة وكل مرة قفز فيها أمام عيونها دون مقدمات ساهمت لبناء مكانة له داخل صدر حور والتي تتلقى الاهتمام هي والصغير لاول مرة، تختبر صدق المشاعر لأول مرة .
وخالد في هذه اللحظة قرر أنه اكتفى من محاولة التقرب هذه، ليقسم بينه وبين نفسه أنه لن يقترب منها مرة أخرى إلا حينما يتأكد أنها ستكون له وحلاله....
ومن بعد خالد جاء جلال يقدم هديته، والعم انورين الذي لم يتقبل الأمر مائة بالمائة، ما يزال حانقًا على كل ما يحدث، لكنه قرر مجاراة النهر .
وديلارا التي رغم كل ما حدث وكل ما جرى بينهما، بدأت تتقرب منها في الآونة الأخيرة .
في الحقيقة ديلارا كانت تتخذ معرفتها وقرابتها بالملكة ذريعة لتكون جوار تيم وتراه أكثر الوقت، لتقترب وبدون شعور من سلمى وتعلم أنها خسرت الكثير ببعدها عنها.
ضمتها وهي تهمس بصوت خافت حنون :
_ مبارك حبيبتي عساها فرحة العمر .
ابتسمت سلمى بحب شديد وهي تربت على كتفها تحرك عيونها صوب تيم الذي كان ينظر لديلارا بطرف عيونه ومن ثم همست :
_ العقبى لكِ عزيزتي .
خجلت ديلارا وهي تبتعد عنها تنحني جانبًا تاركة الباقيين يقدمون هداياهم، وعيونها لا تتحرك عن تيم تحاول ألا تطيل النظر به كي لا تلفت الإنتباه .
لكن أثناء محاولتها لعدم لفت انتباه أحدهم، لفتت انتباهه هو، ليبعد عيونه عن محدثه ينظر صوبها بهدوء وهي ورغم وجود غطاء يخفي وجهها شعرت بالتوتر الشديد وهي تلف رأسها في الاتجاه المعاكس بسرعة تحاول أن تتمالك نفسها .
_ يا ويلي لقد ابصرني، ما هذه المصيبة؟
أما عن تيم فقد ابتسم بسمة واسعة وهو يراقبها ورغم غطاء وجهها إلا أنه تعرف عليها من حركاتها المتوترة ووقفتها، يحرك عيونه بعيدًا عنها يدور بها بين الجميع حتى توقفت عند أحدهم يقترب منه بخطوات بطيئة وهو يجاور ذلك الرجل .
أما عن ديلارا فقد أخذت ترفع عيونها شيئًا فشيء تبحث عنه بين الجميع، ليشحب وجهها فجأة حينما أبصرته يجاور عثمان ووالدها يتحدث لهم بهدوء .
شعرت بأن نهايتها اقتربت وأن أقدامها فقدت قدرتها على حملها وستسقط ارضًا من هول الموقف، وفي خضم أفكارها وهي تبحث لنفسها عن مخرج مما يحدث أبصرت عيون عثمان تُثبت عليها وهو يرمقها بنظرات غامضة جعلتها تبعد وجهها، بل وتبتعد هي ذاتها عن المكان بأكمله..
ومن بين كل تلك الأحداث حان وقت تقديم إيفان مع كهرمان هداياهم، ليتقدم الاثنان يضعون ما بأيديهم على الطاولة وتبعهم سالار وكذلك تبارك ومن ثم الباقيين واحدًا تلو الآخر، حتى فاطمة التي اقتربت تضع مغلفًا بالون الازرق تردد ببسمة واسعة :
_ أتمنى أن يعجبك .
بادلتها سلمى البسمة بأخرى :
_ طالما أنه منك فاضمن لكِ أنه اعجبني منذ هذه اللحظة .
اتسعت بسمة فاطمة بقوة وهي تنظر بسعادة صوب المعتصم الذي ابتسم لها بحب .
أبصرت سلمى من بين الجميع رجل يقترب منهم بوجه يبدو مريحًا للنظر مع لحية بيضاء وهيبة تناسب عمره، وملامح تظهر عليها الحكمة، كان يتحرك صوبهم يحمل بين يديه حقيبة هدايا كما الجميع، لتبتسم بلطف وهي تنظر صوب أرسلان بتعجب من هوية هذا الرجل وقد شبهته في نفسها بحكماء العصور القديمة .
لكن كل تلك الصور الفلكلورية الملائكية التي رسمتها في ذهنها تلاشت حين فتح الرجل فمه يلقي ما بيده على الطاولة حانقًا وكأنه حزينًا لا أنه لا يستطيع أن يلقيها في وجه أرسلان .
_ خذ، زواج ميمون، عسى أن يأخذك الزواج منا ولا نبصر وجهك البهي في سفيد .
اتسعت عيون سلمى بقوة وهي تنظر له بصدمة من كلماته، ومن ثم تحركت بعيونها صوب أرسلان بغية مواساته على فظاظة العجوز، لكن بسمة أرسلان الواسعة الجمتها، ومن ثم انفجر في الضحك كما الجميع حولها وهي لا تفهم، هل أصبحت الوقاحة تضحك .
بينما أرسلان حاول أن يظهر بمظهر جدي يتنحنح بصوت هادئ، وأشار للرجل يعرفها عليه بكل جدية :
_ هذا يا عزيزتي عريف سفيد، كبير عجائز الممالك الاربع، يقود حزب الملك آزار وبارق، مؤسس نظرية فناء البشرية، ومؤلف كتاب الفوائد العشر للأنعزال عن البشر.
كانت سلمى تنظر له بعدم فهم، ونبرة الجدية في حديث أرسلان أخبرتها أنه لا يمزح، بينما هي تشنجت تحرك نظراتها بين العريف وارسلان الذي أكمل بجدية سرعان ما تلاشت وهو ينفجر في الضحك دون قدرة على إمساك ضحكاته :
_ ولقد خصص لي فصلًا كاملًا في كتابه تحت عنوان ( صحة الأبدان في الابتعاد عن أرسلان) .
ختم حديثه ليطلق إيفان ضحكة مرتفعة يتذكر ذلك الكتاب الذي كان للجميع نصيب منه، حتى سالار لم ينجو من الأمر، لكن الفرق أن العريف خصص له فقط صفحتين مخبرًا إياه أنه يوفر صفحاته لباقية البشر.
يتعجب أن يمتلك ذلك العجوز وقتًا لتأليف كتاب يهجيهم به .
كبت سالار ضحكته بصعوبة يحاول ألا يظهر للعريف تأثره بكلمات أرسلان، وهو يربت على كتف العريف :
_ أرسلان عيب عليك تتحدث عن العم شهدان بهذا الشكــ...
وللأسف خنقته ضحكاته وقطعت كلماته، لينفجر وهو يبصر وجه العريف، يميل على إيفان يدفن وجهه في كتفه ضاحكًا، بينما العريف فقط رمقهم بضيق وغضب :
_ والله كتاب واحد لا يكفيكم، فقط تنتهي عصوركم واحرق كل كتب التاريخ التي ذكرت اسمائكم، حتى لا يتبقى لسلالتكم سوى كتبي الخاصة .
والضحكات كانت الرد الوحيد عليه وهو فقط لوى ثغره بضيق ينظر حوله بحثًا عن البومة :
_ أنا المخطئ لأنني جئت زفاف هذا الوقح .
ولم يكد يتحرك حتى انقض عليه أرسلان يضمه بحب :
_ والله لا تفعل أيها العريف، تبقى أنت ونرحل، نمزح معك .
والعريف فقط يدعي الحنق والضيق، بينما سالار اقترب يقبل رأسه بحنان وايفان يحاول أن يستسمحه .
في حين أن البومة التي كان يبحث عنها منذ ثواني كانت تقبع أسفل موزي الذي جلس على جناحها بغضب بعدما أفسدت عليه جلسته، وهي تحاول الإفلات منه مصدرة صوتًا تلاشى في صخب الزفاف.
لكن موزي فقط ظل جالسًا لا ينتوي الحراك في الواقع، يتناول طعامه بكل هدوء ليس وكأن طير مسكين يكاد يفقد جناحه أسفله الآن.
أقبل الباقيين لتقديم الهدايا حتى حانت اللحظة التي ينتظرها الجميع، اللحظة التي سيبصر بها الجميع مهر أرسلان لزوجته، المهر الذي أخذ يتغنى أمام الجميع أنه لم ولن يأتي أحدهم بمثله .
_ إذن عزيزي نحن ننتظر ؟!
حرك أرسلان عيونه صوب سالار وهو يبتسم بسمة صغيرة مستفزة يحاول بها تلاشي الأمر، فهو نعم كان يستفزهم فقط لمجرد الاستفزاز، لكنه لم يكن ينتوي مشاركة مهره لزوجته مع أحد:
_ تنتظر ماذا سالار، على حسب ما أعلم هذا المهر لزوجتي عزيزي .
اتسعت بسمة إيفان وهو يتدخل في الحديث :
_ الأمر مسألة شخصية الآن أرسلان وقد اصبت الجميع بصداع حول المهر الذي ستقدمه لزوجتك، والآن نحن جميعًا ننتظر .
زفر أرسلان بضيق شديد :
_ أنتم حقًا لا تطاقون، ثم أنا مهري ليس هنا، وانا لا أريد أن ارهقكم و...
_ لا بأس عزيزي نمتلك أحصنة تنقلنا حيث نشاء لا تحمل أنت همًا لنا .
نفخ أرسلان بقوة وقد كان يأبى أن يشاركه أحدهم هذه اللحظة، فهو في وجود الرجال سيكون من الصعب أن يستقبل سعادة امرأته أو حتى يبصر لمعة عيونها ويستمتع بكل لحظة وهو يشاهد ردة فعلها .
لذا قرر أن يشاركهم جزء صغير من هديته ويحتفظ بجزئه الخاص لهما فقط، زفر بصوت مرتفع وهو يخرج من جيب سترته ورقة يمدها صوب إيفان بملامح حانقة غاضبة، ليتعجب إيفان الأمر وهو ينتزع منه الورقة بريبة يقرأها يحاول فهم ما يحدث .
وسالار الذي لأول مرة يأكله فضوله اقترب يكاد يدخل وجهه في الورقة يقرأ ما خُطّ به، قبل أن تتشنج ملامحه، يحرك عيونه صوب أرسلان الذي كان يضم يديه لصدره :
_ هذا ....هذا ....ما هذا ؟؟ ما معنى هذا ؟! زهرة سلمى ؟؟ماذا تقصد ؟!
حركت سلمى رأسها بعدم فهم لجملة سالار، لينتزع أرسلان الورقة بقوة من بين أنامل إيفان وهو يهتف بجدية يتحسس الورقة بحنان وكأن قبضة إيفان افسدتها :
- هذا إقرار رسمي من الملك بارق أن يتم تغيير اسم الزهرة التي اعجبت زوجتي لتحمل اسمها، ومن الآن وصاعدًا سيتم ذكرها في كتب النباتات باسم زوجتي، وسيتم تغييرها في الكتب القديمة لتحمل اسم زوجتي .
اتسعت عيون سلمى وهي تنظر بصدمة كبيرة صوب أرسلان وقد شعرت أنها تهزي، هل كان أرسلان من الجنون ليفعل ذلك ؟! هل هذا ممكنًا حتى ؟؟ يغير اسم نبتة في الكتب ؟؟
هراء ..
وكأن إيفان سمع أفكارها لينطق بنفس السؤال وهو ينظر صوب بارق :
_ ماذا ؟؟ تغير اسم الزهرة؟ هل هذا ممكن ؟؟
هز أرسلان كتفه بهدوء وبسمة واسعة باردة :
_ لا أعلم ولا اهتم، اردته وأخذته، وبالطبع لا ننسى جهود العزيز نزار ليقنع حماه العزيز، وكذلك الملك بارق الذي قبل برغبتي بطيب نفس و...
_ لم أفعل لقد أجبرتني على ذلك .
_ شكرًا لك على كل حال، شكرًا لكم جميعًا لمساهمكتم في جعل حفل زفافي افضل بوجودكم ومساعدتكم لي في هذا اليوم واخص بالشكر رفاقي الاحباء، والملك بارق مجددًا .
ختم حديثه وهو يتحرك صوب بارق يضمه بقوة والاخير يقاوم بحنق شديد لا يصدق أن أرسلان أجبره على الأمر حقًا .
" أنت تمزح معي صحيح ؟؟"
" لا لا أفعل، أنا بالفعل أريد تغيير اسم هذه الزهرة ليصبح باسم زوجتي "
" هذا ليس منزل أرسلان و ليس حصان أو غيره لتغير اسمه، ومن ثم هناك الكثير من الكتب التي تدون بها هذه الزهور والنباتات و..."
هز أرسلان رأسه بهدوء واقتناع وقد قطع مسافة من مملكته صوب مملكة سبز لأجل رغبة مجنونة في نفسه، ووالله لن يغادر دونها .
" نعم جيد أنك ذكرت هذا سنغير اسمها في الكتب كذلك "
" أرسلان أنت تطلب مستحيلًا، جد شيئًا آخر، إن أردت يمكنني اعطائك بعض الزهور لزراعتها لها أو أيًا كان "
" حسنًا أنت بالفعل ستعطيني الكثير منها، لكن بعدما تغير اسمها، وتذكر أنك فقط تتخلى عن اسم زهرة، في حين أنني تخليت عن إرث ابي واهديته لزوج ابنتك الحقير ليسعد ابنتك به وهذا أيضًا كان مستحيلًا، وقبلته "
ونعم كان يدرك أرسلان أنه حقيرًا، لكن لا بأس الجميع حقير في بعض الأوقات فلا بأس أن يكون لأجلها .
تنهد بارق بضيق يحاول التحدث للجزء المتعقل داخل أرسلان:
"اسمعني يا بني هذا جنون، ليس ممكنًا أن تغير اسم زهرة، كما أنه سيأخذ وقتًا لتغيير الوثائق و..."
" لك كامل الوقت يومين لا أكثر وتسلمني إقرار منك أنك ستغير اسم الزهرة ليصبح باسم سلمى وبطيب نفس "
خرج بارق من أفكاره على صوت أرسلان الذي كان يضمه بحب :
_ أنت لم تعد تحمل ضغينة لي صحيح ؟!
نظر له بارق بضيق ليقبل أرسلان رأسه بقوة وهو يضمه له بشكل جعل بارق يضحك دون شعور يربت على ظهره بحب شديد، لا يبتأس وقد رد له جميل اسعاد ابنته بما تحلم يوم زفافها رغم معرفته أن مكانة هذه الأحصنة تعني أكثر من مكانة الزهرة لسبز :
_ مبارك لك بني .
اتسعت بسمة أرسلان وهو يبتعد عنه يهتف بجدية وبسمة واسعة :
_ إذن اعزائي هذه بلادكم وهذا قصركم، والجميع يتعامل كما لو أنه في منزله الخاص، استأذنكم لساعات قليلة ريثما اسلم زوجتي مهرها واعود لكم .
وقبل التحرك تحدث نزار بعدم فهم :
_ أولم تفعل بالفعل ؟؟
غمز له أرسلان، ومن ثم سحب كف سلمى التي ما تزال مجمدة من الصدمة في مكانها وهي تحرك عيونها بين الجميع وكأنها تستكشف إن كان محيطها حلمًا أو لا .
ولم تشعر بأرسلان الذي حملها فوق حصانه بهدوء شديد وهو يطمئن أنها بخير، يصعد خلفها يردد بهدوء :
_ السلام عليكم جميعًا.
ومن بعد هذه اللحظة اختفى أرسلان بهدوء من أمام أعين الجميع تاركًا إياهم يتابعونه بصدمة والكل يتساءل عما يمتلك أرسلان في جعبته لزوجته، وإن لم يكن تسمية الزهرة التي تحبها زوجته باسمها مهرًا فما يمكن أن يكون مهرها ؟؟؟
اقترب إيفان من كهرمان وهو يتساءل بجدية :
_ تدركين ما يتحدث عنه شقيقك ؟!
_ حسبتك تفعل، لقد كنت اعتمد عليك إيفان لتخبرني بما يحدث الآن.
هز كتفيه بجهل وقد على الفضول أوجه الجميع، وقبل أن يفكر أحدهم في شيء تحدث المعتصم وهو يشير للرجال ليبدأوا في تقديم الضيافة للجميع .
لتتسع بسمة إيفان بقوة وهو ينظر صوب سالار بخبث ليدرك سالار ما يفكر به إيفان، فإن كان هناك من يعلم ما يفعل أرسلان في هذه اللحظة فهو المعتصم بلا شك ...
والمعتصم كان يقابل الجميع ببسمة يرشدهم مع الجنود صوب قاعات الطعام والاحتفال، قبل أن يشعر فجأة بيد تهبط على كتفه ولم يكد يستدير ليبصر صاحبها يد أخرى على كتفه الثاني .
فجأة أبصر إيفان وسالار يتحركان أمامه يبتسمان بسمة صغيرة وقد باشره إيفان بالتحدث بهدوء :
_ إذن يا المعتصم أخبرتنا ما الذي يخطط له ملكك ؟
نظر لهم المعتصم بصدمة ولم يكد يتحدث بكلمة حتى مال عليه سالار ببسمة واسعة :
_ المعتصم تذكر يا بني من معلمك الاول، وتذكر أيضًا أنني لم اعلمك يومًا الكذب، لذا كن حريصًا ألا تفعل الآن وتخيب أمل معلمك .
_ وابن خالتك .
شعر المعتصم أنه محاصر في هذه اللحظة بلا فكاك، أخذ ينظر حوله يبحث عمن ينقذه متسائلًا أين يكون تيم أو زيان حينما يحتاج لهم ؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ إذن هذه الحلوى من صنعك ؟! حقًا زيان ؟! هل تعتقدني حمقاء لهذه الدرجة ؟؟
التوى ثغر زيان وهو يسحب يده التي كانت تحمل الحلوى وقد بدا أنه غير رأيه في الأمر:
_ حسنًا لا أعتقد أنكِ تستحقينها بعد كل كلماتك السامة هذه، لقد قضيت ساعات طويلة لصنع حلوى العنب المفضلة لكِ و....هذا ما القاه منكِ ؟؟
وقبل التحرك مبتعدًا يدعي الحزن أمسكت نازين بيده بسرعة مبتسمة بسمة واسعة :
_ لا لا تتوقف أنا آسفة لم اقصد اقسم لك، الأمر فقط أنك لم ....لم تكن تفقه شيء في الطبخ أو الحلوى وبالأمس كنت ....
صمتت وهي تردد بحنان وحب :
_ صدقني اتناوله ولو كان سمًا يكفي أنك كنت تفكر في وأنت تصنعه لأجلي .
صمتت وهي تبتسم له بسمة صغيرة ليزفر زيان بضيق وهو يعترف على مضض :
_ ساعدني في ذلك المعتصم .
رفعت حاجبها بعدم تصديق ليكمل هو بضيق أكثر :
_ وساعدته زوجته في الأمر.
ضحكت فجأة بصوت عالي وهي تقترب منه تلتقط طبق الحلوى بسعادة كبيرة تدعي أن شيئًا لم يكن بعدما تأكدت أنها لن تموت مسمومة بإحدى محاولات زوجها في صنع حلوى لها :
- أوه زيان ... أنت أكثر الرجال لطفًا صدقًا .
ابتسم زيان ويبدو أن نسي أو تناسى ما قالت منذ ثواني وادعى داخله أنها تمدحه من أعماق قلبها، يمنحها الحلوى وهو يجالسها في إحدى الحدائق يراقبها ببسمة صغيرة يتخيل كيف كانت حياته دونها وكيف أصبحت معها، يا الله كان شاردًا تائهًا ويقسم باغلظ الايمان أنه لو مرت قرون رزقه الله العيش بها ما دق قلبه يومًا لأحد كما يدق لها الآن، حبه الاول والأخير.
ابتسم وهو يراها تتلذذ مما تتذوق وبسمته تتسع بقوة أكبر كلما أبصر منها انبهارًا بالطعم .
_ تبدين ....جميلة وأنتِ سعيدة نازين .
رفعت نازين عيونها له بفم ممتلئ وهي تحاول التحدث، لكن توقفت الكلمات كلها داخلها وهي تراه يمسك كفها بين خاصته يضمه بحنان لصدره يراقب عيونها مستمتعًا بنظراتها وهي فقط تشعر أن الطعام توقف في منتصف حلقها .
_ احيانًا أشعر أنني اتخيلك من شدة يأسي لقربك نازين، كان عودتك لي حلمًا، أخشى أن أستيقظ منه .
ابتسمت له نازين وهي تبتلع ما بفمها ومن ثم اقتربت منه تهمس بصوت منخفض :
_ إذن استمر في الحلم فلن أغادر عقلك وواقعك زيان، فصدقني أنا لا اخطط لتركك قريبًا .
_ لا تفعلي رجاءً .
ابتسمت له بسمة واسعة سرعان ما تلاشت وهي تتذكر وتردد بهدوء :
_ هل سوف ...تذهب لزيارة الاطفال .
نظر لها يحاول أن يستشف مشاعرها في هذه اللحظة، ليضمها صوبه بحنان :
_ إن كان الأمر ما يزال صعبًا عليكِ سوف نؤجـ
_ لا أرجوك لا تفعل، أنا...اشتاق ...اشتاق لصغاري زيان .
كبت زيان حزنه خلف تعابير حنونة وهو يضمها له، الله اختبر صدره في اقرب الناس له، واعاد له زوجته مكافأة صبره، لكنه سبحانه وتعالى اصطفى صغاره ليسبقونهم للجنة، لذا تنهد بصوت مرتفع .
_ وهم كذلك يشتاقون لكِ حبيبتي لقد ...طلبوا مقابلتك .
_ إذن اليوم ؟؟
همهم بصوت منخفض وهو يكبت دموعه ومازال مشهد اكفانهم لا يغادر رأسه يتنفس بصوت مرتفع كي يخفف حدة غصته :
_ نعم عزيزتي اليوم سنقضي...سهرة عائلية، أنا وأنتِ وصغارنا نازين ...........
ــــــــــــــــــــــــــــــ
_ فقط اهدأ أيها الجشع، سوف اتركك لتناول ما تشاء من الطعام، ساعدني لأجد مدخلًا لها، ومن ثم انصرف حيثما تريد لا اهتم .
صمت يتأفف :
- أصبحت تزن نصف طن موزي، كتفي يأن أسفل أقدامك أيها السمين الحقير، كدت تخنق بومة ذلك الساحر العجوز ولولا رحمة الله بنا لحولني قرد أجرب مثلك .
أطلق موزي صوتًا محتجًا وهو يحاول الإفلات من قبضة خالد، لكن الأخير تمسك فيه باستماتة، يتحرك صوب منطقة الاطفال حيث تجلس هي تعتني بصغير شقيقتها .
_ اسمعني ايها الاحمق صاحب الفرو الكثيف، لقد بذلت الكثير والكثير من أموالي في سبيل الحصول لك على بذلة تشبه خاصتي مهتمًا أن تظهر في كامل أناقتك في هكذا مناسبة، متوقعًا منك عرفانًا بالجميل، لذا أنت ستأتي وترقص أمام ذلك الطفل وتفعل ما يمكن للقرد فعله حتى تضحكه .
ختم جملته وهو يتنفس بصوت مرتفع وكأنه كان في سباق، وموزي يرمقه ثواني بعدم فهم، قبل أن يتحرك به خالد صوب عابد يتحدث بلطف شديد :
_ مرحبًا عبيد .
رفع الطفل عيونه لخالد حانقًا :
_ أنه عابد .
_ اه صحيح أيًا يكن، هل يمكنك أن تأخذ هذا القرد الغبي لتلعب معه بعيدًا ريثما انتهي من التحدث مع خالتك في أمور خاصة بالكبار ؟؟
نظر له عابد لا يفهم ما يقصد، ومن ثم حرك عيونه صوب حور التي كانت تتابع بأعين متسعة وصدمة من بساطة الحديث الخاص بخالد .
وقبل التحدث بكلمة لعابد، أغرى الفتى حمل القرد واللعب به، لذا وافق ينهض وينفض يديه من الرمال، يحمله عن كتف خالد بصعوبة، يركض به بعيدًا يطلق ضحكات مرتفعة، وخالد يتابعه بعيونه مبتسمًا .
_ انتبه لبذلة هذا السمين فهي ثمينة .
تنهد وهو يعود بعيونه صوب حور يجلس أمامها بهدوء يهتف بصوت هادئ لطيف :
_ مرحبًا ..
حركت حور عيونها له بخجل ولم تكد تتحدث بكلمة واحدة حتى قاطعها هو بعد تنهيدة مرتفعة يردد بجدية :
_ أعلم أن جلوسي معكِ بهذا الشكل هنا ليس افضل ما يمكنني فعله، وصدقيني ستكون المرة الأخيرة التي أفعل بها هذا .
ازدادت ضربات قلب خوف بقلق لأول مرة تشعر بتوتر كبير لفقدان الشخص الوحيد الذي كان يهتم لأمرها وعابد بعد الملكة، ورغم أنه كان يستمر في القفز أمام وجهها كل ثانية إلا أنها ودون شعور اعتادت وجوده وصخبه، كان صخبه يغطي على صوت آهاتها الداخلية .
فجأة شعرت براحة كبيرة وهي تسمعه يكمل جملته السابقة :
_ ستكون الأخيرة وأنا لا اعني لكِ شيئًا، وأنتِ إن وافقتي سيكون لنا لقاءات أخرى أكثر، لكن وأنتِ زوجتي فما رأيكِ ؟؟
رمشت وهي تحاول أن تتحدث، لكن لسانها بدا كما لو أنه التصق بحلقها، تحاول ايجاد كلمات تنجدها من هكذا موقف .
لكن هو أدرك ما تمر به فابتسم يردد بجدية :
_ لا بأس أدرك أن الأمر كان مفاجئًا وبلا مقدمات لكنني أريد استغلال وجود أبي هنا ليحضر عقد قراننا وامنحك كامل الوقت قبل زفافنا لتعتادي وجودي، فما رأيك ؟؟
توترت حور بشدة وهو ابتسم ينظر لها بحنان يبصر موافقة في عيونها لا ينطقها فمها، لذا نهض وهو ينفض ثوبه بهدوء يردد بلطف :
_ خذي كامل وقتك واعطني ردك، سأنتظرك .
كاد يرحل لكنه توقف فجأة يستدير لها لتتسع عيونها بتفاجئ وهو ابتسم يردد بهدوء وقد فشل في كبح جماح لسانه رغم كل ما تعلمه في هذه المملكة :
_ صحيح يليق بكِ اللون الازرق، مبارك تحرركِ من الأسود حور ...
ومن بعد هذه الكلمات تلاشى طيف خالد تاركًا حور تناظر أثره ببسمة واسعة ووجه احمر من شدة الخجل وضربات قلب تعلن موافقتها على عرضه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ ماذا ؟؟ تخلى لها عن أرضه الخاصه ؟!
كانت جملة ايفان المصدومة وهو يحدق بوجه المعتصم، بينما المعتصم كان يحاول أن يشرح لهم ما يحدث، لكن حتى هو والذي كان يساعد مع بعض عمال القصر في إعداد المكان للملكة لا يعلم الكثير لأن الملك بمجرد تجهيز القليل فيه بدأ ينتهي من كل شيء بنفسه وحده .
_ نعم لقد حولها تمامًا فأصبح... أصبح... أصبح كل شيء إلا ما كان عليه سابقًا، لقد تخلص من كل شيء قديم بها وقد قام بتجديدها ليناسب الملكة .
صمت ثواني وهو ينظر لهم يفكر إن كان يمكنه قول ذلك لهما، لكنهما سيعرفان عاجلًا أو آجلًا، يضيف قائلًا .
_ كما أن الملك، هو ...لم يختصها هي فقط بالتغييرات .
_ ما الذي تعنيه بالتحديد يا المعتصم ؟؟
_ حسنًا يبدو أن الملك لم يستطع رفض طلب لها وهي سبق وطلبت منه شيء يخصه هو، ورغم رفضه في البداية إلا أنه فعلها .
تبادل سالار وايفان النظرات بعدم فهم والريبة تحوم حول رؤوسهما، كل يفكر فيما يمكن أن يكون أرسلان قد وصل له في غايته نحو إسعاد زوجته اليوم .
وكان أول من خرج من شروده هو إيفان مبادرًا بالسؤال :
_ وما الذي...فعله يا ترى ؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــــ
كانت تقف وهي تحدق في المكان أمامها بأعين متسعة وفم مفتوح بصدمة كبيرة، تراقب ما فعل أرسلان وجسدها يرتجف من الصدمة، استدارت حول نفسها تراقب ما فعل أرسلان...
المنطقة الخلفية بالكامل والتي كانت تضم ملجأه سابقًا أصبحت حديقة زهور ضخمة منظمة بشكل بديع، نصف الزهور بها هي الزهرة التي احبتها واهداها هو لها سابقًا .
سقطت دموع سلمى دون تصديق، تستدير للخلف تبصر أرسلان يقف مباشرة جوار البوابة الخشبية التي كانت ملونة بألوان الزهور تحمل اسم ( حديقة سلمى ) .
اتسعت بسمة أرسلان وهو يتلقى منها ما كان يطمح له، التماع عيونها بسعادة، لكن ما لم يتوقعه هو دموعها، تحرك لها يهتف بعدم فهم :
_ سليمى ما بكِ، لم يعجبك ما اعددت لكِ ؟!
وضعت سلمى يدها على فمها وهي تكتم بكائها تبتسم دون شعور بين دموعها، قبل أن تنزع يدها عن فمها وتضمه بهما وهي تهتف بسعادة كبيرة :
_ قلبي سيتوقف سعادة أرسلان، هذا ....هذا اعظم....هذا أروع ما قد اتلقاه طوال حياتي، لقد ....كيف ....كيف فعلت كل هذا؟!
ابتسم أرسلان بحب شديد وهو يضمها لصدره يقبل رأسها بحنان قبل أن يحملها وهو يدور بها بين الحديقة وكأنه يحقق حلمه هو وليس حلمها .
وحينما ساعدها لتستقر ارضًا نظر لها يبتسم بمشاكسه :
_ أحدهم أخبرني سابقًا أنه عليّ أن اجتهد لأعلم ما يرضي الطرف الآخر وما يحبه، وأنا اجتهدت وبذلت جهد والله لم ابذله في وضع خطط الحروب، فعلت كل شيء احببتيه، جُبت كامل الممالك في الأيام السابقة لأرى إن صادفتِ شيئًا من قبل وأعجبك .
هبطت دموع سلمى وهي تضم وجهه بين يديها تقبل عيونه بحنان :
_ هذا أكثر مما كنت انتظر والله لو أنك أحضرت لي زهرة واحدة فقط من تلك الزهور وقدمتها لي ببسمة لكانت أعظم ما حصلت عليه لأنه منك أرسلان .
_ ومقامك لديّ ليس زهرة، بل حديقة وستكون قليلة على مقامكِ.
وسلمى في هذه اللحظة كانت خرساء أمام كلماته، وكان ردها الوحيد الذي تمتلكه هو أن تترك قبلة رقيقة فوق عيونه تهمس له بصوت منخفض :
_ إذن هل فقط الزوج هو من يقدم مهرًا هنا، كيف تعبر المرأة للرجل الذي تحب عن كم تعشقه وتهيم به ؟؟
ابتسم أرسلان بسمة صغيرة وهو يميل جزئيًا يضم خصرها قبل أن يرفعها لتصبح في طوله تقريبًا بعدما كانت تقف على أطراف أصابعها طوال الوقت لتصل له :
_ لا نطلب من النساء أن يقدمن شيء، بل هن ملكات نحن من نسعى لنيل رضاهن مولاتي .
_ لكنني أصر أن امنحك شيئًا أرسلان.
_ امنحيني قلبك إذن سليمى.
_ معك كلي أرسلان.
_ إذن نلت ما أبتغي من الحياة .
ضمت سلمى رقبته بحب شديد وهي تميل على كتفه تهتف وضربات قلبها تلقي بصداها على صدر أرسلان الذي ابتسم يضمها له بقوة مخافة أن تزل من بين يديه .
_ هذا أكثر مما تمنيت يومًا أرسلان، سأحيا المتبقي من حياتي سعيدة لأجل هذه اللحظة .
_ نحن لم ننتهي بعد مولاتي .
نظرت له بعدم فهم، ليتحرك بها بهدوء في ممر ممهد بين الحديقة صوب المبنى الخاص به الذي كان يلجأ له كلما ضاقت به الحياة، يشير عليه لتحرك عيونها صوبه تحاول فهم ما يقصد، قبل أن تتسع عيونها بقوة تقرأ ما خط على البوابة بخط عربي منمق .
( الطبيبة سلمى )
حركت عيونها صوب أرسلان وهي تشعر أن ما يحدث مجرد حلم لها، وهو فقط ابتسم يراقبها بأعين ملتمعة، وقد كان غرضه الاول اسعادها والثاني ألا يشعرها لحظة أنها تخلت عن شيء لأجله، فإن لم يستطع تركها تعود لعالمها وما كانت تفعل، إذن سيحضر لها ما كانت تحبه هناك، الزهور والعيادة لتجمع بها النساء وتساعد بها من يحتاج مساعدة .
_ أرسلان هذا ...هذا ...كثير لقد ....يا ويلي أرسلان هذا .....هذا ....مكانك الخاص الذي تختلي فيه بنفسك كيف .... الآن أين سـ... يا ويلي لم يكن عليك ذلك .
كانت تشعر أنها بهذا الشكل كلفته الكثير، كلفته راحته وعزلته، لقد كان المكان يعني له الكثير، طوال الوقت يأتي ليجلس به حينما تضيق به الطرقات .
_الآن أين ستختلي بنفسك بعيدًا عن الجميع ؟؟
_ معكِ، سآتيكِ لأختلي بنفسي بعيدًا عن الجميع معكِ، وهذا افضل من مجرد جدران وحجارة لو تعلمين.
نظرت له بصدمة وهو لم يدع لها الفرصة للتحدث يتركها لتقف أمامه، ثم سحب يدها يدخلها للمنزل الذي حوله بالكامل ليصبح عيادة متكاملة لمساعدتها فيما تحب يشير هنا وهناك يعرفها على كل شيء، وهي فقط تراقبه لا تعي شيء مما يقول، فقط شاردة به وبكل همسة تخرج منه، شاردة بملامحه وهيئته .
فقط تتنفس وتراقبه ولا تفعل أكثر من ذلك .
وهو فقط يشرح لها كل شيء بحماس شديد وشغف :
_ ومن ثم هناك بوابة خارجية للعيادة بعيدًا عن الحديقة، كي اضمن الخصوصية لكِ ولزهورك، والبوابة الداخلية التي تطل على حديقتك خاصة بكِ .
كانت سلمى تتابعه ببسمة، لينظر لها بهدوء يبتسم ظنًا أنها سعيدة لأجل فكرته يترقب بحماس جوابها :
_ أعجبتك ؟؟
_ أحببته .
ولم يعي حتى أنها تتحدث عنه يكمل بشغف :
_ جيد والآن الجزء الاخير والأهم .
نظرت له بعدم فهم ليسحب كفها بهدوء وهو يشير صوب باب داخلي في العيادة جعلها تنظر له تحاول فهم ما يحدث، ليفتح أرسلان الباب الذي أظهر جواره ممر طويل في نهايته غرفة كبيرة مجهزة بكامل ما قد يحتاجه شخص لصنع الأدوية .
أشار أرسلان على باب آخر في الغرفة :
_ هذا الباب الخارجي لغرفتي الخاصة، وهذا الذي دخلنا منه سيكون الداخلي والذي لن استخدمه كثيرًا تحسبًا لوجود نساء معكِ، فقط أنتِ يمكنكِ استخدامه حينما تحتاجين لي، ووضعت ممرًا بيننا لأجل حرمة النساء .
نظرت له وهي ما تزال جاهلة بما يتحدث به، تنتظر توضيحًا .
وهو يراقبها ينتظر ردة فعل وأخيرًا تحدث حينما أدرك أنها لا تعي ما يقصد يتحدث بأعين ملتمعة وكأنه سعيد أكثر منها لأجل هذه الخطوة :
_ أولم تخبريني أنكِ ترغبين أن أعود لممارسة شغفي مجددًا ؟؟
نظرت له ثواني وكأنها لا تفهم بعد ما يرنو إليه، وفي ثواني فقط، شعرت بضربة إدراك على رأسها لتشهق بصوت مرتفع وهي تهتف بغير تصديق :
_ ســــ...ستفعل ماذا ؟!