
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الثالث عشر 13 ج 2 بقلم ليله عادل
القصر الساعة الثامنة مساء
الحديقة العلوية
تحولت الحديقة الشاسعة تلك الليلة إلى لوحة من البهجة، أضواء ناعمة تتدلى من الأشجار كأنها نجوم صغيرة، وزهور تفوح بعطرها فتملأ المكان حياة ونقاء، انتشرت الطاولات بين الممرات الأنيقة، والضيوف يتحركون في هدوء وأناقة مع الإستماع لموسيقى، بدا المكان فخما، لكن دون أي مظهر للخمر.
في المنتصف، تزينت كوشة بيضاء بالزهور الوردية، جلس عليها رشدي ومي، يده فوق يدها وعيناه لا تفارقانها، كأن بينهما عهدا صامتا.
ترتدي مي فستانا سكري اللون، حجابها ينسدل برقة على كتفيها، ووجهها يضيء بوداعة تشي بأن السعادة أخيرا وجدت طريقها إليها، أما رشدي فكان وسيما في بدلته السوداء، يفيض وقارا وجاذبية.
تفرقت عائلة الراوي على الطاولات؛ جلس عماد وصافيناز في ركن جانبي يحاولان إخفاء ضيقهما بإبتسامات خفيفة، عزت وفايزة يراقبان بصمت، وطه ومنى وفريدة يتحادثان مع الأقارب.
أما طاولة ياسين، فكانت الأكثر حيوية؛ الضحكات تتعالى، ولوجين في كامل أناقتها والإبتسامة لا تفارقها، بجورها والدتها وشقيقتها وغابت هبة عن الحضور برغم حديث ياسين معها!؟
وفي قلب ذلك الوهج، دخل سليم وهو ممسكا بيد ماسة، يسيران بخطوات بطيئة واثقة، فتلتفت الأنظار نحوهما في لحظة واحدة، كأن الزمن توقف ليمرا هما فقط.
كانت على شفتي ماسة ابتسامة صغيرة بريئة، لا تشبه من حملت يوما كل تلك الندوب، تتعلق بذراع سليم في ثبات كأنها لا ترى في هذا العالم سواه.
ساد صمت ثقيل في المكان، كأن الموسيقى نفسها خفضت احتراما لذلك المشهد المهيب.
وما إن وقعت عينا صافيناز عليهما حتى شهقت، جسدها انتفض في الكرسي، ووضعت أناملها على فمها، وملامحها تموج بين الخوف والصدمة، حتى تجمدت الكلمات في حلقها، وبقيت تحدق بهما كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة.
أما فايزة، فكانت المفاجأة كفيلة بأن تفلت الكأس من بين أصابعها، وهي تحدق فيهما بعينين متسعتين لا تصدق ما ترى، وقد تجمد وجهها بين الذهول والإنكار.
بينما تجمد عزت في مكانه، كأن الزمن أعاده إلى لحظة الذنب القديمة التي حاول نسيانها، فقال بصوت خافت، تغمره الصدمة: سليم لقي ماسة؟!
أما عماد، فجلس في مكانه ينظر إليهما بثبات ظاهري يخفي خلفه ارتباكا لا يقل عمقا عن ارتباك الآخرين، فهو كان يعلم مسبقا أن سليم قد وجدها، لكنه لم يتخيل أن يعيدها هكذا، في ليلة كهذه، وسط القصر، كأنها عودة علنية أمام الجميع، وإعلان واضح بأن ماسة عادت، وأن سليم انتصر.
شد على كفه أسفل المائدة، بينما تتنقل عيناه بين رشدي وسليم بتوتر خفي، بمزيج من الصدمة والخوف مما قد يحدث بعد هذه الليلة.
أما رشدي، فكان آخر من انتبه، ألتفت بخفة أثر نظرات الجميع، وحين رفع رأسه ورآها، تجمد في مكانه، وانسحب الدم من وجهه، فـماضيه كله وقف أمامه في هيئة تلك الفتاة التي تبتسم ببراءة، ولا تذكر شيئا.
كأن شبحا ذنوبه، عاد ليطالبه بالحساب، اتسعت عيناه، وشحب لونه، وبدت عليه رعشة صغيرة، تمتم بصوت خافت يكاد لا يسمع: مم مـماسة..؟ مستحيل...
رفرفت نظرات مي بينه وبين ماسة، لم تفهم شيئا بعد، لكن ارتباك رشدي كان كافيا لتشعر بأن شىء غير مفهوم يحدث.
أما ماسة، فمازالت تبتسم بعفوية، لا تدرك شيئا مما يدور حولها، نظرت حولها باستغراب وقالت بخفوت لسليم: هما بيبصوا علينا ليه كده؟
ابتسم سليم، وشد على يدها بحنان،قال بنبرة دافئة:
سيبيهم يا ماستي الحلوة، سيبيهم يتفرجوا على القمر إللي رجع ينور القصر.
أما مي، فمازالت نظراتها حائرة؛ ألتفتت أولا إلى رشدي، تلمح التوتر في ملامحه وهو يحدق نحو ماسة، فنظرت محل نظراته بعدم فهم، ثم عادت تنظر إليه مرة أخرى، وسألت بصوت خافت متعجبا: رشدي... مالك؟
ظل رشدي في حالة صدمة؛ قلبه يخفق بسرعة، وعرقه يبلل جبينه بتوتر، فعودة ماسة في هذا اليوم، وفي هذا الوقت بالتحديد بالنسبة له كارثة حقيقية، فلو نطقت، سيخسر مي للأبد، وسيكون هلاكه محققا، لم يخطر بباله أن سليم كان صادقا تلك المرة.
لم يعرف إن كان يجب أن يهرع ليهددها إذا نطقت سيدفعها الثمن غاليا؟!، أم يكتفي بالصمت ويتعامل مع الموقف بحذر؟ فهي تعرف الكثير.
كانت الأفكار تقذف في عقله، كأمواج عاتية لا تعرف استقرارا، يشعر بألم يعصف به في منتصف رأسه، كأن أحدا يدق بمطرقة داخل جمجمته بلا هوادة، بينما قلبه يخفق بجنون هائج، وأنفاسه تتسابق في صمت مرعب.
سؤال وحيد يتردد في عقله: ماذا يفعل؟
كل خيار يبدو محفوفا بالمخاطر، وكل حركة قد تغير مجرى الأحداث إلى الأبد.
أما باقي العائلة، فكانوا يتشاركون شعورا مشابها، فقد كان اللقاء خارج كل التوقعات، فإذا نطقت ماسة، سيكون الإعصار محققا٠
تنهدت مي بضجر من عدم فهمها لصمته وتوتره، فمدت يدها وضعتها على كتفه، وقالت بصوت هادئ لكنه مليء بالتعجب: أنت يا بني، مالك بتبص كده ليه على سليم؟
ابتلع رشدي غصته، محاولا الحفاظ على هدوءه رغم الفوضى التي تملأ قلبه: أصل... أصل سليم جه معاه مراته، ومن سنة ونصف تقريبا، مدخلهاش القصر فمستغرب.
ابتسمت مي ونظرت نحو ماسة: والله، بس ما شاء الله عليها، جميلة.
ابتسم رشدي ورد بابتسامة هادئة وحنونة يحاول إخفاء توترة: بس أنتِ أحلى.
ابتسمت مي برقة وخجل، بينما ظل رشدي غارقا في اضطرابه، غير قادر على الثبات، ثم قال فجأة بلهجة خفيفة: بقولك إيه؟! هروح الحمام.
هزت رأسها بإيجاب، وتحرك هو سريعا، فيما تقدم ماسة وسليم بخطوات هادئة وسط الحديقة، ومازالت العائلة تتابعهما بنظرات متوجسة، كأن شبح الماضي قد بعث حيا أمام أعينهم.
كل ذلك لم يستغرق سوى ثواني معدودة، مرت كدهر ثقيل، لكنها كفيلة بأن تسقط في القلوب رجفتة، وتزلزل ماتبقى من ثباتهم.
نهض ياسين، ووجهه يحمل مزيجا من الذهول والفرح حتى توقف أمامها، وقال بصوت يحمل فرحا ممزوجا بالدهشة: أخيرا ظهرتي يا ماسة،كنتي فين يا بنتي؟ وحشتينا.
رفعت ماسة رأسها نحوه بعينيها الواسعتين، نظرت له لثواني، ثم قالت بصوت هادئ يشبه الآله:تمام،الحمد لله.
ابتسم ياسين وقال بصوت لا يخلو من دهشة: مصدقتش بجد إنك هتجيبها المرة دي!
ابتسم سليم وقال مازحا: أنا علطول غير متوقع.
في تلك اللحظة اقتربت فريدة بخطى سريعة وابتسامة عريضة، وقالت بحيوية: ماسة! أخبارك إيه؟ وحشتيني!
ردت ماسة بلهجة مرتبكة تحاول أن تخفي توترها بإبتسامة صغيرة، ونفس ذات النبرة الأليه: الحمد لله، إزيك؟
سألت فريدة بإبتسامة حنونة: تمام، كنتي مختفية فين بقى؟!
نظرت ماسة إلى سليم، فلم تستطع أن ترد وهي ترمش بعينيها
بادر سليم بالرد علي فريدة، وهو يحاط باحد ذراعيه حول خصر ماسة كإيماءة حماية، محاولا إخراجها من هذا الموقف المحرج: موجودة، بس الأفضل تبعد عن القصر شوية، صح يا عشقي؟
ماسه بتأيد ابله: أممم صح.
فريدة بنبرة مرحة: بس مفيش اختفاء تاني بقى.
ماسة بصوت آلي: إن شاء الله.
ياسين بحماس: لازم نتقابل ونتغدى كلنا سوا، هتيجي يا ماسة؟
أجابت ماسة بصوت آلي: تمام، إن شاء الله.
ياسين بمرح: وتعمليلنا أكل من إيدك عشان وحشني.
ماسة على نفس ذات الوتيرة الآليه: إن شاء الله.
ياسين بمزاح: هو أنتِ مش حافظة غير جملتين.
ماسة بابتسامة: لا، أنا تمام.
كتم سليم ضحكته على طريقتها الميكانيكية كأنها روبوت، ثم غير الموضوع بدهاء؛ حتى لا يضع ماسة في مأزق، فتساءل وهو ينظر حوله متفحصا: هي هبة فين؟ مش شايفها؟!
أجاب ياسين موضحا: جاية في الطريق، أصلها عند مامتها.
هز سليم رأسه بنقد ممزوج بالأسف: برضه عملت إللي في دماغك.
ابتسمت فريدة وهي تهم بالابتعاد يبدو رأت شخصا وقالت بخفة: طب عن إذنكم.
تبادل ياسين وسليم النظرات، فقال ياسين بثبات: صدقني ده الصح، حاولنا ومعرفناش، وأنا قررت أطلقها، وفاتحتها في الموضوع وهي رحبت، فواضح إنه قرار مشترك.
اتسعت عيني سليم بدهشة: أنت بتتكلم جد؟!
هز ياسين رأسه بإيجاب قال بتوضيح: هفهمك...
وأخذ يروي له ما حدث...
في الجهة الأخرى، عند صافيناز وعماد
كان قلب صافيناز يخفق برعب، وهي مازالت تنظر إلى ماسة بقلق ثم ألتفتت إلى عماد تتساءل بصوت مرتعش: هنعمل إيه يا عماد في الكارثه دى؟
حاول عماد أن يتمالك أنفاسه لكن صوته خرج متوترا، فحتى وإن كان يعلم بعودتها لكن وجودها أمامه يرعبه: أصبري، مش هنقدر نعمل حاجة دلوقتي خلينا نفكر، أنا هتجنن.
تنهدت صافيناز تنهيدة مريرة، وامتلأت عيونها بالهلع وهي تتساءل بنبرة متوترة: دي نهايتنا؟ إزاي لاقاها؟ وإمتى؟ إزاي معرفتش؟ مش أنت مراقبها؟!
أجابها عماد بخبث مصطنع: محدش بلغني من ولاد الك*لب اللى مكلفهم بمراقبتها، بس أنا هعرف اظبطهم واخليهم يشوفوا شغلهم كويس، بس واضح إنها محكتش حاجه، لأن لو كانت حكت، كان سليم حرق.نا فورا، سليم بينتقم على طول، مش بيستنى.
عضت صافيناز أصابعها من شدة الخوف، وبدأت يدها ترتعش وهي تهمس: أنا خايفه تتكلم يا عماد.
أمسك عماد يدها المرتجفه بحنان زائف، وأخرج من جيبه حبوبا أعطاها إياها وقال بحنان مصطنع: مال ايدك بتترعش ومتوترة كده ليه يا صافي، خدي دي حباية تهديكي شوية، علشان مينفعش الناس تشوف صافيناز الراوي بالشكل دي، وبعدين أنتِ خايفه من ايه ما لو كانت هتحكي كانت حكت في السنه اللى قعدتها معاه قبل ما تهرب.
صافيناز بتنهيده، وهي تأخذ منه الحبوب: عندك حق بس برضه منقدرش نراهن على ده، ماسة اللي إحنا قعدنا نخوفها كانت بنت جبانه وكنا ماسكينها من رقابتها بأهلها، لكن اللى تهرب 6شهور وتبعت واحد علشان يسأل ويجيب لها الاخبار دى مش ماسة اللي نعرفها ولازم يتعملها ألف حساب، متنساش كمان نظرة عنيها ليا في الحفله اللي كانت قبل هروبها، ده يمكن من حظى إنها الليله دي أداها علقه وهربت، الله أعلم لو مكانش دي حصل كانت ممكن تعمل ايه؟!
ثم وضعت رأسها بين كفيها وهي تنظر لأسفل، وقالت بنبره مليئه بالتوتر الممزوج بالخوف: أنا بجد خايفه يا عماد وحاسه المره دى غير كل مره، قلبي مش مطمن.
ربت عماد على يدها بحنان مصطنع وهو يقول بخبث ويناولها كوب من الماء: عندك حق، بس ابلعي الحبايه يلا علشان تهدى شويه، وبعدين هنفكر سوا وهنلاقي حل إن شاء الله، لأن مش هنكر إني كمان خايف ومتوتر ومش هفضل تحت رحمة إنها تحكى أو متحكيش كتير.
تناولت صافيناز الحبة دون تردد، وابتلعت جرعة الماء، بينما عماد يراقبها بابتسامة ماكرة، كأن سعادته تولدت من انتقام بطيء يتلذذ به.
على إتجاه آخر عند عزت وفايزة.
كانت أعين عزت وفايزة لا تفارق ماسة وهي واقفة أمامهما.
مسح عزت ذقنه بعصبية وهو يتساءل بحدة: مش أنتم كنتوا بتراقبوها، أومال لقاها ازاى وأنتم متعرفوش؟!
تحدثت فايزة بثقة مصطنعة: المفروض عماد ورشدي حطوا حد يرصدها.
عزت باستخفاف غاضب: هو عماد ورشدى يعتمد عليهم برضه يا فايزه!؟
ثم تابع بنبرة صارمة يختلط فيها الغضب بالخوف: مكانش ينفع ماسة ترجع دلوقتي، ماسة مينفعش تتكلم يا فايزة.
فايزة محاولة أن تخفي اضطرابها: والحل إيه يا باشا؟
وضع عزت إصبعه على شفتيه كأنه يحسب الخيارات، ثم ألتقط أنفاسه ببطء، وقال بصوت منخفض محسوب يحمل شيطانية خافيه: لازم نوصلها إنها لسة تحت إيدنا، المرة دي تهديد ماسة لحمايتنا، حادثة بسيطة لحد من أهلها، وبعدها نبعت رسالة محتواها: لو فتحتي بوقك هتندمي.
ابتسمت فايزة ابتسامة باردة، وضيقت عيناها من الشر قبل أن ترد بهدوء قاسي: هعمل كده فعلا، بعد الحفلة هجتمع مع الأولاد ونشوف هنعمل إيه.
رفع عزت نظره نحو ماسة بتوتر شديد، وعيناه صارت حادة كأنها بركانا مكبوتا يكاد ينفجر، ثم قال بنبرة قاطعة كحكم محض: البنت دي بقت خطر علينا، ولو حسينا بأي تهديد منها، لازم نخلص عليها وسرنا يموت معاها، إحنا مش قد سليم.
توقف لحظة، وتبدلت ملامحه كمن خرج لتوه من قاع مظلم، كأنه اتخذ قراره الأخير في أعماق صدره، ثم همس بصوت قاتل يحمل نذر الشر: ولا أقولك!! الكلام والمماطلة مبقوش ينفعوا، مش هينفع نستنى ونلف في نفس الدائرة، هننفذ علطول، ماسة لازم تموت.
ارتسمت على شفتي فايزة ابتسامة رضا خبيثة؛ فهذا ما تريده منذ أن تزوج سليم، فقالت ببرود قاتل لا يتحمل نقاشا: فعلا، لازم نتخلص منها، ماسة تعرف حاجات مينفعش حد يعرفها.
في تلك اللحظة خرج رشدي من المرحاض وهو يحاول أن يبدو هادئا، لكن ملامحه تخفي خوفا واضحا.
على اتجاه اخر
بينما كان سليم منشغلا بالحديث مع ياسين، مر رشدي أمام عينا ماسة، فتسارع قلبها بلا سبب واضح، كأن مغناطيسا خفيا يجذبها نحوه، ودون وعي منها، تحركت بخطوات بطيئة نحوه، خطوة بعد أخرى، وجسدها يستجيب لرغبة غامضة لا تفهمها، كأن سحرا خفيا يجرها إليه رغما عنها.
لم ينتبه رشدي إلى نظرات ماسة، ولا إلى خطواتها التي تتبعه، لايزال يحاول الهرب من تلك المشاعر التي بدأت تتلاعب بعقله منذ اللحظة التي رآها فيها تدخل الحفل برفقة سليم، لم يدرك بعد أنها خلفه، تقترب منه، خطوة بعد أخرى.
توقفت ماسة خلفه مباشرة، تترددت لحظة، ثم قالت بصوت واضح يحمل براءة غريبة وسط الزحام:
رشدي...
عرف رشدي ذلك الصوت فورا؛ تجمد في مكانه، يعرف تلك العيون، ويعرف ذلك القلب الذي ينبض على بعد خطوات خلفه.
بدأ قلبه يقرع بعنف، كأن عاصفة داخلية انفجرت في صدره، أغلق عينيه لحظة، قبض على يديه بشدة كأنه يحاول كبح شيء عنيف يصرخ بداخله، وهمس في سكون نفسه، بلهجة مقطوعة بواعيد "لو فكرت تتكلم، هعرف أسكتها إزاي".
أخذ رشدي نفسا عميقا، ثم ألتفت نحوها ببطء،
لم ينطق، فقط ظل يحدق، كأنه يحاول أن يقرأ ملامحها، ويفهم مايدور خلف تلك العيون التي يعرفها جيدا.
اقتربت ماسة خطوة، لا تدري لماذا تريد أن تتحدث إليه، أو ما الذي يدفعها نحوه؛ فهي في ذلك العمر كانت تخافه وتكرهه، لكنها الآن لا تفهم لماذا تفعل ذلك!! كأن شيئا خفيا يجبرها على ذلك.
أما رشدي، فكان متوجسا، يتابعها بنظرات حذرة، يظن أنها ربما جاءت لتهدده أو لتفتح ما طواه الزمن.
كل ذلك حدث في ثواني
وفجأة، كسرت ماسة الصمت بإبتسامة بريئة، ومدت يديها نحوه بصدق برئ، وقالت بصوت خافت صافي: مبروك يا رشدي.
نظر رشدي إليها بدهشة، وضيق عينيه محاولا أن يفهمها، ويقرأ نواياها من وراء تلك البراءة الظاهرة،
بدت له تلك التهنئة كأنها فخ، وإعلان صامت عن بداية حرب جديدة بينهما.
ألقى نظرة على يدها الممدودة نحوه، ثم رفع عينيه إلى ملامحها لحظة صامتة، قبل أن يعود ببصره إلى يدها من جديد. فجأة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية، خبيثة الملامح، كأنها تخفي نوايا لا تقال، ولمعت عيناه بالمكر، فمد يده ببطء نحو ماسة، وحرك جسده بخطوات محسوبة تجمع بين الحذر والحسم، كان يفكر في نفسه ببرود ثاقب "مجرد ما اقرب منها هاهددها علشان أثبت لها إنها مجرد لعبه بين ايديا"
وما أن؛ لمس كفها بكفه، بعين لا تخفي التحدي، خطا خطوة أخرى قاطعة، كان على وشك الاقتراب عاقد العزم على فرض سيطرته وإظهار سلطانه عليها.
فجأة، شعرت ماسة بشيء يهزها كزلزال يضرب أعماقها، ارتجف جسدها، وتبعثر عقلها، إذ انفجرت في رأسها صور متسارعة، تتلاحق بلا نظام ولا معنى، سحبت يدها من كفه بسرعة، كأن لمسه أحرقها، ثم وضعت كلتا يديها على رأسها من الاتجاهين، وأغمضت عينيها بشدة، تحاول أن تتمالك نفسها، دقات قلبها تتسارع بجنون، وأنفاسها تتلاحق في اضطراب مؤلم، اشتد الألم في رأسها حتى شعرت كأن مطرقة تهوي عليها من الداخل.
وقف رشدي مذهولا، يمرر عينيه عليها ببطء متعجبا، يحاول أن يفهم مايحدث، بينما قلبه يتأرجح بين الفضول والتحفظ، بين رغبة في الاقتراب وخوف من أن ينكشف ما في داخله.
كل ذلك لم يستغرق أكثر من دقيقة.
وفي تلك اللحظة، اقترب منها سليم بخطوات سريعة وقلقة، وأسند ذراعيه إلى ظهرها المائل إلى الأمام، وصوته خرج هادئا رغم اضطرابه: مالك يا ماسة؟
كانت ماسة غارقة في صور متزاحمة تتناوب في رأسها، جسدها يرتجف بخفة، وعيناها شاردتان كأنهما تبحثان عن شيء لا تراه.
لف سليم، يده على ظهرها، واحتواها بحذر وقلق صادق: تعالي معايا، أهدي بالراحه، كل حاجة هتكون كويسة
لكن ماسة مازالت تلهث، تتشبث برأسها بكلتا يديها، تغمض عينيها بقوّة، وملامح وجهها مشدودة بالألم، بينما الصور المتداخلة تزدحم في عقلها بلا رحمة.
فهي ترى رشدي يتهجم عليها، لكن عقلها يعجز عن تفسير ما تراه؛ الصور تتلاحق أمامها كالكوابيس مشنقة، وضرب، وركض، وطعن مشاهد متداخلة تفقد فيها القدرة على التمييز بين الوهم والحقيقة.
ارتبك سليم، ونظر حوله سريعا، ثم سحبها من خصرها برفق وهو يهمس بنبرة خافتة حازمة: تعالي معايا، متخليش حد يشوفك تعبانة كده.
بينما رشدي لا يزال واقفا، ولا يفهم ما أصابها، تساءل بفضول: هي مالها يا سليم؟
رفع سليم عينيه نحوه وهو يضمها، بدأ يتحرك بها ببطء: تعبانة شوية زي ماقولتلك، يلا يا عشقي.
قبل أن تتحرك مع سليم، فتحت ماسة عينيها ببطء، ونظرت إلى رشدي بصمت غامض، كانت عيناها مملوءتين بالدهشة والخوف، مشوشتين من صور هجومه عليها التي رأتها قبل لحظات.
توقف سليم عند إحدى الطاولات الخاصة بهم، وقال بصوت مرتفع قليلا: مكي، هات ميه بسرعة.
اقترب مكي مسرعا، يحمل زجاجة مياه، يبدو أنهم أجلبوها معهم، وضعها أمام ماسة على الطاولة، لكن ملامحها ظلت مضطربة، وأنفاسها غير منتظمة، والصور لا تزال تتساقط أمام عينيها، أمسكت جبينها بيدها، وقلبها يخفق بعنف، جسدها كله يرتجف من الداخل.
مد سليم يده، ومسح على ظهرها برفق، مال نحوها بصوت مبحوح بالقلق والحنان: أنتِ لسة شايفة الصور؟
هزت ماسة رأسها إيجابا، وخرج صوتها متقطعا من بين لهاثها: مش عايزة تروح.
مرر سليم أصابعه على شعرها برفق، وساعدها على أن تنتصب قليلا، قائلا بصوت دافئ مطمئن: أهدي يا حبيبتي، وأشربي شوية ميه.
أمسكت الزجاجة بيد مرتعشة، وبدأت تحتسي ببطء، حتى هدأ نفسها تدريجيا، لكن عيونها ظلت زائغة، كأنها ترى شيئا لا يراه أحد.
اقترب مكي بقلق صادق، وقال بنبرة مرتجفة: هي مالها يا سليم؟
نظر سليم إلى مكي موضحا بصوت خافت: شافت الصور إللي بتشوفها.
ثم ألتف نحوها فجأة، وقال بنبرة حادة تحمل قلقا مكتوما: هو مش أنا قولت متتحركيش من جنبي؟!
رفعت ماسة نظرها إليه، عيناها تلمعان بالخوف، وصوتها خرج واهنا، متقطع الأنفاس: آني مش عارفة، أول ماشوفت رشدي، حسيت بحاجة بتجرني ليه، ولما لمس إيدي، حسيت بزلازل جوة دماغي، شوفت ناس، بس شكلهم مش واضح، كان فيه ضلمة وصوت حد بيتعذب، وكان فيه دم، كمان شوفت رشدي زى ما آني شيفاك كده يا سليم، بس النوبه دى كان بيخوفني.
نظر لها مكي مذهولا، وضيق عينيه بتعجب: شوفتي رشدي؟!
هزت ماسة رأسها بإيجاب، صوتها يرتعش وهي تمسك الزجاجة وتحتسي جرعة صغيرة: آه، وكمان شوفت مشنقة ودم وعربية، وحد بيتغز بالسكينه، مش فاهمة الصور دي معناها ايه؟!
ساد الصمت لثواني ثقيلة، لم يسمع فيها سوى صوت أنفاسها المضطربة، بينما نظرات سليم تجمدت عليها، يحاول أن يخفي ارتباكه خلف ملامح جامدة، بدأت عيناه تتحركان بين مكي وماسة، يحاول أن يجمع خيوط ما تقول.
تنهد ببطء وقال بصوت تغلب عليه الحيرة: أنا مش فاهم حاجة.
نظرت له بتوتر، أنفاسها مازالت متقطعة: ولا آني.
تساءل مكي في محاول لفهم المزيد: بس يا ماسة، دي أول مرة تشوفي الملامح دي صح؟
رفعت رأسها ببطء، كأنها تفتش في ذاكرتها: آه أول نوبة.
نظر مكي إليها بعينين مطمئنتين، وقال بهدوء يشبه النصح: ده شيء كويس يا ماسة، مادام بدأتي تشوفي حتى لو الحاجات دي غريبة أو مؤلمة، يبقى ذاكرتك بدأت تشتغل، لما تقعدي هنا وتقربي من الناس أكتر، الذكريات هترجع تدريجيا.
هز سليم رأسه بإيجاب، وخرج صوته فيه مزيج من الأمل والتعجب: عندك حق، أول مرة تحصلك يا ماسة وتحددي ملامح حد، بس اشمعنا رشدي؟!
مد مكي وجهه متعجبا، وتساءل بنبرة متعجبة: وأشمعنا شوفتيه بالصورة إللي قولتي عليها دي؟!
صمت سليم للحظة، ثم نظر أمامه وكأنه يحاول حل لغز غامض، وقال بصوت متزن، ونبرة تحمل مزيجا من التحليل والقلق: يمكن أول حاجة افتكرتيها كانت التجارب السيئة، ومحاولته للتحرش بيها، أو حتى مشاهد القتل إللي حكينا عنها، يمكن لما حكيتلك عن الخطف والحادثة من يومين، الذاكرة ربطت كل ده بالحاجات إللي بتوجعك، لأن كل الألم ده مرتبط ببعضه.
صمت، ونظر إليها طويلا، ثم أكمل بصوت منخفض أقرب إلى الرجاء: بس المهم دلوقتي إنك بدأتي تفتكرى، حتى لو كانت الصور مرعبة، إلا إنها الطريق الوحيد إنك تفتكري كل حاجة.
همس مكي بجدية وقد ارتسمت على وجهه ملامح التفكير: ممكن كمان يا سليم، الدكتور يساعدنا نفهم أكتر، الصور دى معناها ايه؟!
هز سليم رأسه بإيجاب، وقال بحزم هادئ: أنا أكيد هكلمه واحكيله اللي حصل.
ثم ألتفت إلى ماسة، وصوته صار أكثر دفئا، وهو يمد يده ليمسح على ظهرها برفق: عشقي أنتِ كويسة دلوقتي؟
تنفست ماسة ببطء، وعيناها بدأت تستقر قليلا: آه آني بقيت كويسة.
قبض سليم على يديها برفق، لكن بحركة تنم عن خوف دفين، عيناه تتأرجحان بين القلق والحزم: ماسة أرجوكي، متمشيش من جنبي تاني، مش إحنا اتفقنا؟
همست ماسة بصوت متردد، لكن غضب ممزوج ببراءه: أنت بتزعقلي ليه، ما آني قولتلك آني أنجريت ليه وآني مش داريه بنفسي.
تنهد سليم بغلب، وصوته يحمل مزيجا من حب واستسلام مرهق، وهو يمسك يديها بإحكام أكبر: طب يعني أعمل إيه؟ أفضل ماسكك بإيدي زي الأطفال؟ بلاش عند بقى.
قلبت ماسة وجهها بتعب وقالت ببراءه: آني أصلا عايزة أمشي، مش حابة المكان، ومخنوقة، عايزة أسلم على العروسة وأمشي.
تنهد سليم ببطء، وصوته خرج مبحوحا بمهاودة: حاضر شوية وهنروح.
لم تكن ماسة قد استعادت ذاكرتها بعد، لكن وجودها في ذلك القصر، وسط تلك الوجوه التي تلاحقها بنظرات متوترة، كان كافيا ليوقظ في داخلها مشاعر الخوف والاختناق، شيء غامض تحرك في أعماقها، كأن ذكريات مدفونة تحاول التملص من تحت الرماد، صور وأصوات تتداخل في ذهنها بلا وضوح، لكنها كلها تحدث فيها ارتجافا غريبا لا تملك تفسيره.
لقد عاشت على أيديهم الأهوال، رأت الألم والتهديد بأم عينيها، وكان رشدي بالخصوص أكثرهم قسوة وإيلاما، هو الذي هددها، وأذلها، وأوجعها حتى وهي فاقدة للذاكرة، مجرد رؤيتها له، كافية لتعيد إليها ذلك الإحساس بالرهبة، إحساسها بالاختناق كلما اقترب منها.
كانت دائما ترى في عقلها ظل أسود دائم، شبح مخيف لا ترى ملامحه، لكنها كانت واثقة أنه ليس سليم، والأن علمنا أن هذا الظل الذي يثير الرعب في داخلها، ما هو إلا صورة مختزلة لرشدي وكل أفراد عائلة سليم، فإن عقلها الباطن، حتى في غياب الذاكرة، ظل يعرفهم ويدق أجراس الخطر في صمت، كلما اقترب أحد منهم، كأن خوفها هو ذاكرتها الأولى.
على إتجاه آخر
بينما الموسيقى تملأ المكان بنغمات خفيفة، والضحكات تتناثر بين الأرجاء، اقتربت هبة تمسك بيد نالا الصغيرة، في تلك اللحظة، كان ياسين يجلس مع لوجين، يضحك معها على شيء ما، حتى وقفت هبة بجانبه
هبة بإبتسامة متصنعة: مساء الخير.
رفع ياسين رأسه نحوها بجمود: اتأخرتي ليه؟
هبة بنبرة ذات معنى: بعدين.
ثم ألتفتت برأسها نحو لوجين: أزيك يا ...، لوجين مش كده؟
ابتسمت لوجين بلطف وهي تمد يدها: أيوه، أنا سعيدة إني اتعرفت عليكي أخيرا.
هبة بإبتسامة مغلفة بغيرة خفيفة: وأنا أكتر والله.
في تلك اللحظة، تركت نالا يد هبة وركضت نحو لوجين وهي تهتف بفرحة: چوچااا!
ضحكت لوجين حملتها واحتضنتها: وحشتيني يا روحي.
نالا وهي تضمها بقوة: أنتِ كمان وحشتيني خالص.
نظرت نالا لهبة: دى يا مامي دى چوچا اللى جابتلي العروسة وأحنا في المزرعه.
رفعت هبة حاجبها، وقالت ببرود موجه حديثها لياسين: مش هتعرفنا؟
ياسين بتهذب وهو يشير بيده: نهى هانم والدت لوجين، ودي أختها نغم
هبة ببرود: تشرفنا.
ابتسمت نغم ومدت يدها بأدب: إزي حضرتك.
هبة بنبرة مقتضبة، وهي تمد يدها بتحفظ: الحمد لله.
ضحكت نالا، وهي تشد على يد لوجين: لوجين تعالي نلعب.
لوجين بإبتسامة وهي تلعب في شعرها: مش هينفع علشان الناس لما نكون لوحدنا هنبقي نلعب زى ما أنتِ عايزة.
هبة بحزم: نالا عيب كده.
نالا بطفولة: أنا عايزة ألعب.
ياسين بحزم ناعم: روحي ألعبي مع ولاد عمتو صافي، مش هينفع لوجين تلعب معاكي هنا، نسمع الكلام ونقول حاضر.
نالا بإستسلام وحزن طفولي: حاضر يا بابي.
ثم نظرت للوجين، وقالت بحزم طفولي: بس بعد ما الناس تمشي هنلعب مع بعض يا لوجين، لو مشيتي هزعل.
هزت لوجين رأسها بايجاب، وغادرت نالا للبحث عن مريم وزين للعب معهم.
لمحت هبة ماسة بين الحاضرين، فرفعت حاجبها وسألت ياسين: هي إللي هناك دي ماسة؟
ياسين باقتضاب: أيوة.
هبة وهي تهم بالتحرك: طب أنا رايحة أسلم عليها.
بينما كانت هبة تقترب، لاحظها سليم، فانحنى قليلا نحو ماسة وقال بصوت خافت: إللي جاية دي هبة، مرات ياسين كانت صحبتك زمان، بس حصل بينكم موقف مش لطيف، فبقيتوا تتعاملوا مع بعض بشكل رسمي، فخدي بالك وإنتِ بتسلمي عليها، ومتنسيش الكلمات اللي حفظتهالك.
نظرت له ماسة باستغراب حقيقي، حاجباها انعقدا في دهشة:طب ليه زعلنا سوا؟! هو آني قولتلها حاجة تضايق؟
ابتسم سليم بخفة، وهمس: مش وقت استفسارات والنبي، هبقى أفهمك بعدين، بس خدي بالك، بنتها أسمها نالا، وإنتِ إللي سميتيها.
اتسعت عينا ماسة بدهشة لا تصدق: آني؟!
ابتسم سليم مؤكدا بعجله: أيوة، دي قصة طويله هبقي احكيلك بعدين قولت، مش وقت فضول.
في تلك اللحظة، اقتربت هبة بخطوات مترددة لكنها دافئة، ابتسمت بملامح يغمرها الشوق: ماسة! إزيك؟ وحشتيني.
بادلتها ماسة ابتسامة هادئة، وردت بنبرة آليه، وهي تمد ذراعيها للمصافحة: الحمد لله، إزيك؟
ابتسمت هبة بلطف: الحمد لله.
تحدث سليم، وهو يتلفت حوله، لتغير مجري الحديث: أمال فين نالا؟
لوحت هبة بيدها: راحت تلعب مع ولاد صافي، ثانية واحدة أشوفها فين وأجيبهالك
اشارت بيدها لأحدي الخادمات وحينما اقتربت، قالت لها: نادى لنالا علشان تسلم علي عمها سليم.
ثم حولت نظراتها لماسه، وهي تتساءل: أنتِ لسه زعلانه مني يا ماسة؟!
رمشت ماسه بعينيها، لا تعرف ماذا تقول، ثم قالت بآليه: لا، أنا تمام.
زمت هبة شفتيها بأسف، وقالت: طالما بتكلميني كده يبقي لسه زعلانه.
وقبل أن ترد ماسة، جاءت نالا تركض نحوهم، ففتحت ماسة ذراعيها واحتضنتها بحنان طفولي وتحدثت معها بلهجتها القديمة، فقد نسيت العالم بمجرد أن رأت نالا فهي تحب الاطفال بشدة: ناالا، إيه الچمال ده، أنتِ چميلة خااالص! عاملة ايه؟ فاكراني؟
نالا بإبتسامة واسعة: أيوة، إنتِ طنط ماسة مرات عمو سليم!
جلست ماسة على ركبتها، وهي تقبل نالا: أيوة آني ماسة، هاتي شوية سكر يا مسكرة أنتِ.
راقبتها هبة باستغراب، وعقدت حاجبيها بتساؤل: مالك بتتكلمي بطريقتك القديمة ليه؟
تدخل سليم سريعا، في محاولة للخروج من الموقف بذكاء: هي الفترة دي بتحاول تفتكر أيام زمان وتتكلم بطريقتها القديمة، علشان الثيرابيست اللى متابعين معاه نصحها بكده، وهى تقمصت الدور أوى.
هبة بعدم اقتناع: والله!! طب كويس.
أقترب سليم من نالا بابتسامة: مش هتسلمي عليا؟
نالا بإبتسامة، وهى تتجه لنحوه لتحتضنه: إزيك يا عمو سليم؟ واحشني خالص.
حملها وقبلها بحنان أبوي: تمام يا روح عمو سليم، هاتي بوسة بقى.
فقامت نالا بوضع قبله على خده، وبادلته العناق بشدة.
ماسه بغضب طفولي: خلاص بقي مش سلمت عليك نزلها العب معاها.
سليم ضاحكا: روحي يا نالا لتاكلني، اعتقد مش هتلاقي عقليه أقرب من كده ليكي تلعبي معاها.
وهنا اقترب رشدي بخطوات محسوبة، وإلى جواره حازم شقيق مي، ومعه زوجته تقى، كانت ملامحهم جميعا تحمل ابتسامة اجتماعية، فقد أرادوا التعرف بسليم وزوجته، وياسين وزوجته، بشكل يبدو وديا رغم التوتر الذي يملأ الجو.
أشار رشدي نحو ياسين أولا كي يأتي.
ثم قال رشدي بصوت هادئ، متجنبا النظر في عيني ماسة كأنها مرآة يخشى ما تعكسه: ده سليم أخويا، وإللي جاي هناك ده ياسين أخويا الصغير ودى هبة مراته.
اقترب ياسين بخطوة للأمام، يمد يده بإبتسامة رسمية: ألف مبروك.
صافحهم سليم بلطف وتهذيب: تشرفنا.
ابتسم حازم بإحترام: الشرف لينا.
أما تقى، فقالت بلطف صادق لكن فيه فضول ظاهر:
أنا من زمان نفسي أتعرف عليكم، أنتم قصتكم كانت مالية السوشيال ميديا وقتها، حتى الحادثة بتاعتكم بس ليه مجبتوش أولاد؟ آسفة لو بتدخل، بس بلاش تخلوا الحادثه تأثر عليكم.
ابتسم سليم ابتسامة حزينه، وقال بنبرة تحمل وجع خافت، وكأن كل كلمة منها لمست جرحا قديما: إن شاء الله، كل حاجة لما بتيجي في وقتها بتكون أحسن.
ثم نظر نحو ماسة، ومد يده برفق يشير إليها مبتسما بهدوء مصطنع: دي ماسة مراتي.
كانت ماسة منغمسه باللعب مع نالا ولم تلحظ شيء من هذا الحوار، وحينما سمعت صوت سليم يرتفع باسمها، رفعت رأسها بإبتسامة هادئة، وضعت يدها على ذراع سليم الممتد اليها ليساعدها على الوقوف تشبث به كأنها تستمد منه الأمان، فوقفت بجانبه احاط سليم خصرها بذراعيه يقربها منه أكثر، وأكمل بنبرة لطيفة وهو يعرفها عليهم: مستر حازم أخو مي، ودي مدام تقى مراته.
ابتسمت ماسة بهدوء وهزت رأسها بتحية صامته.
قال رشدي بسرعة وهو يحاول الهرب من وقوفه أمامها أكثر من اللازم: طب يلا، خليني أعرفكم على الباقي.
تحرك بخطوات محسوبة مبتعدا، وكأن البقاء بقربها يثقله، تابعته ماسة بنظرة خاطفة، ثم ما لبثت أن ألتفتت إلى نالا التي كانت تضحك ببراءة، فجلست إلى جوارها مرة أخرى وواصلت اللعب معها ثانية.
انتبه ياسين لطريقة حديث ماسة؛ فقد عادت للهجتها القديمة دون أن تشعر، وما زاد دهشته أنه رآها تجلس على الأرض تلعب مع «نالا» بمرح طفولي، فقد مضى زمن طويل منذ آخر مرة فعلت فيها ذلك، كانت دئما تراعي تصرفاتها أمام الاغراب، تحرص على أن تحفظ لنفسها وقارها، كي تليق بأن تكون زوجة سليم الراوي، أما الآن فكانت ماسة التي يعرفها منذ زمن، تلك الفتاة التي تضحك بصدق، وتجلس على الأرض ببساطة، دون تكلف أو حساب.
فمال ياسين تجاه سليم وهمس وصوته بالكاد يسمع وسط الضجيج: هي ماسة كويسة؟
سليم بهدوء متماسك، لكن نبرته مشوبة بالتوتر: بعدين هبقي أقولك، بس خد مراتك وبنتك بعيد عن هنا، مش عايز حد يلاحظ حاجة.
أومأ ياسين بتفهم، نظر سريعا نحو هبة، وسحب يدها برفق، وقام بحمل نالا على كتفه وغادر بهم المكان بهدوء تام.
أقترب سليم من ماسة، وهو يهز رأسه بيأس وغلب من تصرفاتها: مش اتفقنا منقولش غير خمس كلمات؟ فين الصيام اللي اتفقنا عليه يا ماسة!؟
قلبت ماسة وجهها بتزمر طفولي، وهي تتحدث بعفوية: وآني عملت ايه، ما آني فعلا مقولتش غير الخمس كلمات من أول ماجيت! بتتظرظر عليا ليه دلوقتي !؟
سليم بشدة، وعينيه مليئة بالحرص: وطي صوتك، عيب كده أحنا وسط ناس.
ماسة بضجر: هو اني اتكلمت.
في تلك اللحظة، رفع الـDJ صوته في الميكروفون:
نحب نبدأ دلوقتي بأول رقصة للعروسين، جاهزين؟
صفق الجميع، ومد رشدي يده إليها، قال بحماس، وهو يغمز بعينه: يلا بينا يا ست البنات، أول رقصة لينا.
ترددت مي لحظة، ثم وضعت يدها في يده بخجل واضح، واتجهوا الي ساحت الرقص، وقفا متقابلين، تتجنب مي النظر إليه خجلا، بينما كانت عينا رشدي تتشبثان بها بنظرة يغمرها العشق،اقترب منها ببطء، وأحاط خصرها بذراعه في حنو، فوضعت كفها على كتفه بخجل واضح، قبل أن تتشابك أيديهما في صمت يفيض دفئا، ومع أوتار الموسيقى التي انساب لحنها في الأرجاء، بدأا يتمايلان بخفة، كأن الزمن توقف احتراما لرقصتهما الأولى.
كانت مي تضحك بخفة على رد فعل رشدى كلما أخطأت في الإيقاع وضغطت على قدمه بكعب حذائها.
رشدى مازحا، وهو يغمض عينيه بنبرة متألمه: أبوس إيدك ارحمي رجلى كفايه، رجلي ورمت.
مي بخجل وبساطه: سورى يا رشدى، متوترة شويه.
رشدى بسخريه: هو أنتِ علشان متوترة بتنتقمي من رجلي أنا؟!
مي باستهجان: خلاص نوقف الرقصه لحد هنا.
رشدى مازحا: خد هنا يا محمود خلاص كسر وأنا أجبس ولا يهمك.
فابتسمت مي بخجل وواصلت الرقص معه.
فقربها رشدي اليه أكثر، وهمس قرب أذنها: بس قوليلي مبسوطة؟
ردت بإبتسامة صغيرة خجله: أكيد.
سألها بخفة وهو ينظر لعينيها: رقصتي قبل كده مع حد؟
ضحكت بخجل: أيوة مع بابا وأخواتي وخطيبي، بس هتصدقني لو قولتلك إن الإحساس معاك مختلف؟
ابتسم رشدي وهو يضم كفها أكثر: هصدقك، لإنه نفس شعوري.
ثم تابع بنبرة مازحه: بس قوليلي بتورمي رجليهم زى برضو ولا دى وصايه ليا أنا بس.
مي بغلاسه: أه يا رخم وإن كان عاجبك.
رشدى مازحا: أنا أي حاجه بتعجبني منك يا محمود، أرقص يا حودة وكسر براحتك.
ظلا يرقصان حتى خمدت النغمة، وتعالت الزغاريد والتصفيق من حولهما، فانحنى رشدي يقبل يدها وسط ابتسامات الجميع.
رفع الـDJ صوته مجددا: دلوقتي ياريت الكابلز، الموجودين في الحفله يشاركوا العروسين في الرقصة التانية.
تبادل الحاضرين النظرات، وبدأت بعض الأزواج تتقدم بخفة.
ألتفت سليم إلى ماسة وهو يبتسم بعينين تلمعان: تيجي نرقص؟
ماسة بنبرة مترددة وهي تزيح خصلات شعرها: ما آني نسيت الرقص كمان.
اقترب منها خطوة، صوته خافت ودافئ: نفتكروا سوا ياقطعة السكر.
ضحكت بخجل وهي تهز رأسها: بس متتمهزأش بيا لو لخبطت، هخاصمك ٣أيام.
نظر لها بابتسامة صغيرة دون رد، ثم شبك كفه في كفها وتحركا ببطء حتى وصلا إلى ساحة الرقص، وضع ذراعيه حول خصرها، بينما أحاطت هي عنقه برفق، وبدأا يتمايلان على أنغام الموسيقى، في البداية كانت ماسة تتحرك بتردد واضح، لا تعرف كيف تتابع خطواته، قدماها تتعثران أحيانا، لكنه كان يقودها برفق حتى انسابت معه في الإيقاع شيئا فشيئا، صارت تتمايل بخفة ونعومة، كأنها نسيت كل شيء إلا وجوده.
كانت نظراتهما تقول ماعجزت الكلمات عن قوله، كل شيء يقال بين العيون فقط، كانا هائمين ببعضهما بشدة، كأن العالم من حولهما اختفى، ولم يبقَ سواهما، يتنفسان بإيقاع واحد، ويذوب كل منهما في حضور الآخر كشمعة تذوب في ضوء من تحب.
على الطاولة.
كانت هبة تتابع ياسين بنظرة دقيقة، لاحظت نظراته العابرة نحو لوجين، لكنها التزمت الصمت،ثم فجأة أمسكت يده وقالت بخفة يسمعها الجميع: ياسين، تعالي نرقص!
نظر لها بإستغراب وهي تسحبه نحو ساحة الرقص،
وحين وقف أمامها قالت بإبتسامة سريعة وهي تلف ذراعها حول رقبته: رقصة الوداع الأخير.
نظر لها بصمت وهو يرفع حاجبيه بتعجب، لم يعتد منها على تلك الطريقة، لكنه لم يهتم، واكتفى بابتسامة صغيرة مرت على شفتيه قبل أن تتلاشى في ملامحه الهادئة.
بدأت الرقصة تجمع الأزواج في دوائر متداخلة،
تتشابك فيها الأيدي وتتمازج الخطوات على إيقاع ناعم يملأ المكان
وعلى الطاولة، جلست لوجين تبتسم برقة، يتأمل الراقصين أمامها وهم يتمايلون بخفة وتناغم، غير أن تلك الابتسامة ما لبثت أن انطفأت شيئا فشيئا، حين وقع بصرها على ياسين ينحني ليهمس في أذن هبة بكلمة أطلقت ضحكتها عاليا، تجمدت ملامحها، وتراجعت ابتسامتها، وشردت نظراتها في الفراغ، لم تفهم ما بها، كل ماشعرت به كان وخزة غامضة في صدرها، ووجعا تسلل إلى روحها دون استئذان، كأن نغمة نشاز اخترقت لحن الموسيقى لتوقظ ماحاولت نسيانه.
اقتربت والدتها وهمست بكلمات ذات مغذى: شكلهم حلو أوي، مش كده؟
أكتفت لوجين بهز رأسها بابتسامة واهنة، تخفي وراءها غصة لم تفهمها بعد.
أنتهت الأغنية، وخفتت الموسيقى، وتصاعد التصفيق من جديد.
ابتسمت ماسة بخجل وهي تهمس: كنت فاكرة إني مش هعرف أرقص.
ضحك سليم بخفة: أنتِ شطورة، كنت عارف إنك هتنجحي قبل حتى ما تمسكي إيدي.
نظرت له للحظة، بإبتسامة حب تخرج من قلبها قبل عينيها، تأملها سليم للحظات بعشق ثم سحبها ببطء قائلا: لسه تعبانه؟ نروح؟
ردت بهدوء: لا، آني بقيت كويسة، خلينا نقعد شوية لما يلبسها الدهب...
ثم أضافت ببراءة: كراميل آني عايزة أشرب حاجة ساقعة.
أومأ برأسه بايجاب، تحركا نحو طاولتهما، وطلب سليم من مكي أن يجلب زجاجه مياه غازية لماسة من خارج القصر، وبعد قليل، أحضرها مكي بنفسه، فبدأت ماسة ترتشف منها بهدوء، حينها انتبهت فريدة التي كانت تقف عند طاولة قريبة منهما.
اقتربت فريدة معلقة: إيه، مش عايزها تشرب حاجة من هنا؟ للدرجة دي؟
سليم بجمود: حقي.
فريدة بإعتراض: مش للدرجه دى يا سليم، وبعدين أنت ليه مخلتش صافيناز تعتذرلها.
نظر لها بثبات: فريدة بعدين.
رفعت حاجبيها بدهشة: هي متعرفش بالحباية؟
تمتم بحدة وهو ينظر بعيدا: قولتلك بعدين، روحي أقفي مع جوزك.
هزت رأسها بإستسلام: طيب زي ما تحب.
ثم ألتفت إلى ماسة قائلا برقة: لو عايزة حاجة تانية قوليلي.
أومأت بإبتسامة صغيرة: ماشي يا كراميل.
على الجانب الآخر
كانت فايزة تتحدث مع عزت وصافيناز بنبرة خافتة، لكن أعينهم كانت تتجه نحو ماسة بين الحين والآخر.
حتى رشدي، الذي كان يجلس مع مي، كان كلما ألتقت عيناه بوجه ماسة، يحاول أن يتصنع الهدوء، لكن ملامحه تفضح شيئا من القلق أو عدم الراحة.
همست منى لطه وهي تراقب المشهد: سليم مش مخلي ماسة تتحرك من جنبه، ولا حتى سايبها تحط لقمة في بوقها.
طه بإبتسامة جانبية: حقه خايف عليها.
هز رأسها: عندك حق، ده كلهم هيكلوها بعنيهم، حاسة فيه حاجة مش مفهومة.
طه بحسم منخفض: مش قولنا نخلينا في حالنا وملناش دعوة.
منى بتراجع: أوكيه زي ما تحب.
في تلك اللحظة، عاد الDJ يعلن من جديد بصوته الحماسي عن فقرة الشبكة.
صفق الجميع بحماس، وتقدمت فايزة بخطوات ارستقراطيه، تحمل علبة مربعة صغيرة، يلمع بداخلها خاتم وسوار من الماس، قدمتها إلى رشدي بإبتسامة وقورة، وقالت بخفة وهي تنظر إلى رشدي: يلا يا رشدي لبس الشبكة للأميرة الجديدة لعائلة الراوي.
ابتسمت مي بخجل، بينما عدل رشدي جسده في زاوية مي، وعيونه لا تفارق وجهها، مد يده بخفة وهو يخرج الخاتم، ثم البسها اياه بنظرة دافئة وطويلة كأنها تعهد صامت.
كانت مي تشعر بالخجل الشديد، وأطراف أصابعها ترتجف قليلا، نظرت للأرض للحظة تابع الأسوارة ثن العقد، ثم رفعت عينيها إليه بخجل صافي كأنها تحمل الدنيا في تلك النظرة، ثم، أمسكت يده وألبسته الدبلة برقة تشبهها.
إنحنى رشدي بعدها يقبل يدها برفق، فتفجر التصفيق والتصفير من كل جانب، وسط خجلها الذي زادها جمالا وبريقا.
صمت للحظة وهو يتأمل ابتسامتها وملامحها بعشق، قلبه يخفق من السعادة والخوف معا أقترب منها وهو يقول بنبرة حب: أنا مبسوط أوى، إننا بقينا مع بعض، كنت مستني اللحظة دي من زمان، وأكتر لحظة مستنيها هي اللحظة إللي هنبقى فيها متجوزين.
ابتسمت مي بخجل دون رد، تامل رشدي ابتسامتها التي خطفت قلبه، وقال بهمس وهو يركز النظر في ملامحها: بحبك.
أحمرت وجنتيها بشكل أكبر وهبطت برأسها إلى الأسفل.
ابتسم بخفه، واقترب منها وامسك يدها: مش ناويه تقولي لي، أنا كمان بحبك؟
رفعت عينيها ببطء وخجل، ثم همست بصوت صادق:
أنا كمان بحبك يا رشدى.
صمتت للحظة ثم تنهدت وأضافت بنبرة حب صادقة: بحبك بجد، مش عارفة ليه؟! وإزاي؟! وامتي!؟ بس بحبك، يمكن عشان أنت الوحيد إللي حاولت وعافرت علشان توصلي، واتغيرت علشاني، وبتحاول علشاني، أنا عمري ماحد حاول علشاني.
أهتز صوتها قليلا، بعينين تترقرق بالدموع: أنت عارف يعني إيه إنسان يحاول يتغير علشانك، يعمل أي حاجة علشان يقرب منك، إحساس جميل، محدش هيفهمه، غير إللي عاشه وحاسه، فيه مقولة بتقول: إيهما أجمل إنك تحب ولا تتحب؟! أنا كنت بقول الأثنين، ولسة زي ما أنا مقتنعه بكدة، بس احساس إنك تتحب إحساس جميل أوي بيهز القلب، وده إللي أنا حسيته لما أنت حبتني وحاربت علشان توصلي، حسيت بمشاعر عمرى ماحسيت بيها قبل كده، مشاعر حلوة أوي.
نظر رشدي إليها بصمت، لا يعرف ماذا يقول أمام صدق كلماتها، لكنه لمس يدها ووضع قبلة خفيفة عليها، وابتسم لها بصمت
رشدى بخفه: إيه يا عم الكلام الجامد دى، ما أنتِ طلعتي بتعرفي تقولى أهو، أومال أيه شكرا دى.
مي بمرح: أنت ديما متسرع يا رشدى، اتقل تاخد حاجه حلوه.
حاول أن يبتسم، لكن قلبه كان مثقلا بالخوف؛ كان يظن أنه سيكون سعيدا، لكن من وقت ما رأى ماسة، والخوف استبد به وجعل ذلك اليوم الذي كان ينتظره لا يستطيع أن ينعم به.
وأثناء ذلك، اقتربت نانا ترتدي فستان مثير وهي تبتسم بحيوية، وتصافح فايزة: مساء الخير! ألف مبروك يا هانم، عقبال الفرح!
فايزة بإبتسامة: الله يبارك فيكي، وعقبالك يا نانا! عايزين نفرح بيكي بقى.
ثم وجهت نظراتها الي عزت، وأضافت بسخرية: إيه يا عزت، مش هنشوف لها عريس، نانا دي عشرة؟
ابتسمت نانا، ورفعت كتفها بخجل مصطنع: لا، أنا مبفكرش في الجواز خالص يافندم، بعد إذنكم، هروح أبارك للعروسين.
تحركت نانا، وأخذت فايزة تتابع تحركها بصمت، وإذا بها تلمح هاتفها يرن، وتصلها رسالة، فتحت الصورة المرفقة؛ بالطبع صورة تجمع بين نانا وعزت.
رفع عزت عينيه نحو نانا، ثم نظر إلى فايزة وتنهد بصمت
في تلك اللحظة، بدأت العائلة تتجمع، مستعدة لألتقاط الصور مع العروسين، والفرحة تملأ المكان، نظرت ماسة لهم بابتسامة واسعة، والضحكات تتردد في الجو، فتشعر بدفء المكان وسط أجواء الأسرة.
ألتفتت نحو سليم بعينين فيهما لمعة طفولية وقالت وهي تشد على يده: سليم، عايزة أتصور معاهم.
رفع حاجبه وهو ينظر إليها بنصف ابتسامة متعبة: أبوس إيدك، الطفلة إللي جواكي أقتليها النهاردة.
اتسعت عيناها بدهشة طفولية، ثم أدارت وجهها بعيدا وهي تضم ذراعيها إلى صدرها وقالت بنبرة مستاءه: طيب.
تأملها سليم لحظة، لم يستطع منع نفسه من الابتسام، ثم أقترب منها وقال بحنان:تعالي يا طفلة، يلا نتصور.
ضحكت بخفة، وهي تسحبه من يده وتجره خلفها: يلا بسرعة!
صعدا معا نحو العائلة، ووقفت ماسة بجواره بخجل خفيف ممزوج بحماس، وهي ترفع كتفيها وتبتسم للكاميرا.
وقف الجميع في صف واحد أمام عدسة المصور، يبتسمون كما لو أن الحياة تسير على ما يرام.
اقترب المصور أكثر، وقال وهو يرفع الكاميرا: تمام كده، واحد، اتنين، تلاتة!
وفي لحظة الوميض، ارتسمت الابتسامات على الوجوه، إلا أن العيون ظلت متوترة، فمازال وجود ماسه مربك بالنسبه لهم.
كانت هبة تقف بجوار ياسين، الذى يحمل نالا ويدابعها بخفه، فتضحك بمرح بريء وهي تلوح بيديها أمام عدسة المصور، ضحك ياسين، ونظرت له هبة بإبتسامة واسعة، فبدت الصورة وكأنهم عائلة مثالية، حتى لو كان المشهد بأكمله تمثيلا مؤقتا.
قال المصور بحماس بعد أن التقطت صورة لياسين وهبه ونالا: برافو! الصورة دي هتطلع تجنن.
كانت لوجين تجلس على الطاولة، تراقب الصور وهي تضحك بخفة، لكن سرعان ما خفتت الضحكة، حين رأت صورة ياسين وهو يضحك بصدق إلى زوجته، تجمد وجهها للحظة، كأن شيئا انكسر بداخلها مرة أخري.
مالت نهي نحوها قليلا، وقالت بنبرة ذات معني: شايفة شكلهم عامل إزاي في الصورة؟ حلوين أوى.
نظرت لوجين إليها بتوتر: قصدك إيه يا ماما؟
مدت نهى وجهها باشارة لياسين وزوجته، وهي تقول بنبرة لاذعه: قصدي إن مهما كانت مشاكلهم، شوفي هي واقفة فين؟! وأنتِ فين؟! أعرفي مكانك كويس يا بنتي.
لوجين بإرتباك وعدم فهم صادق: يعني إيه؟ أنا مش فاهمة تقصدى إيه بالظبط.
ابتسمت نهى بخبث وهي تلوي شفتيها: مقصدش حاجة، بس أوقات الصورة الواحدة بتفضح أكتر من ألف كلمة.
صمت لوجين لحظة، تحدق فيهم من بعيد، كان ياسين يبتسم وهو يحمل طفلته، وزوجته تقف إلى جواره، تضع يديها على خصره وتنظر اليه نظرة رضا ودفء، تنفست لوجين ببطء، محاولة أن تبتلع الغصة العالقة في صدرها، لكنها لم تستطع، كان المشهد جميلا ومؤلما في آن واحد، وفجأة، انزلقت دمعة دافئة من عينها، ارتطمت بخدها بصمت، كأنها إعلان متأخر عن شعور حاولت طويلا أن تنكره، ويبدو أنها أخيرًا فهمت.
وبعد انتهاء الصوره تفرقت العائله، وبدأوا يتبادلون التهاني والضحكات مع المدعويين.
أقترب ياسين من الطاولة التي تجلس عليها لوجين بخطوات هادئة، وقال بحماس: چوچا ما تيجي ناخد صورة سوا؟
نظرت إليه بصمت لوهله، ثم قالت وهي تحاول الابتسام: لا، أنا أصلا همشي، علشان ماما تعبت، صح يا ماما؟
نهى بنبرة مصطنعة: آه، معلش يا ياسين.
ابتسم ياسين بخفة: لا لا، ألف سلامة على حضرتك، طب ثانية واحدة، هاجي أوصلكم.
لكن نهى ردت بسرعة، بنرة قاطعة: توصلنا فين؟ خليك مع أخوك، يلا يا لوجين بجد مش قادرة.
حاولت لوجين غصب ابتسامه على وجهها وهي تودعه قائله: بعد أذنك يا ياسين، وألف مبروك.
قالت كلمتها تلك وأخذت والدتها وأختها وغادرت بسرعة، بينما ظل ياسين يراقبهم للحظة بصمت ودهشه، كان يشعر أن هناك شيئا غير طبيعي، لكنه لم يستطع تحديده.
اقتربت هبة وهي تساءل بخبث: مشيت بدري كده ليه؟
ياسين بهدوء: مامتها تعبانة.
نظرت إليه بتهكم: لا ألف سلامه، طب هتعمل إيه في موضوع الطلاق
تنفس ياسين بعمق وقال بصوت منخفض لكنه واضح: شكلك مستعجلة أووي.
رفعت هبة حاجبيها، ونظرت إليه نظرة ثابتة وقالت بكبرياء: طبعا ده إللي كان لازم يحصل من زمان.
هز رأسه ببطء وقال بهدوء: تمام بكرة هفتح معاهم الموضوع.
هبة ببرود: ياريت بسرعة.
ثم تركته وذهبت إلي الطاولة التي تجلس عليها والدتها.
مالت والدتها نحوها وهي تتساءل: كنتي بتتكلمي مع ياسين في ايه؟
هبة ببرود: في طلاقنا.
عقدت ساميه حاجبيها باستغراب: أومال الرقص والصور دى كانت ليه؟؟ دى أنا قولت إن ربنا هداكي ورجعتي لعقلك.
هزت هبة رأسها بنفي، وهي تقول بسخرية وخبث: كنت بوصل رسالة لحد معين ووصلت.
تنهدت ساميه بيأس: ربنا يهديكي يا بنتي.
على الجانب الآخر.
اقترب سليم من ماسة هامسا بإبتسامة خفيفة: ماستي الحلوة، يلا نمشي بقي؟
زفرت ماسة بضجر لطيف: أنت مستعجل على المشيان ليه، ما تستنى لما الفرح يخلص، دى آني حتي لسة مسلمتش على العروسة.
هز سليم رأسه بإيجاب: طيب نسلم ونمشي، علشان متتعبيش
هزت راسها نافيه بابتسامه: آني كويسه أهو ومش تعبانه.
سليم بنبرةٍ هادئة لكنها حازمة: يلا يا ماسه بقي بلاش دلع كفايه كده، هنروح نسلم على العروسه هتقوليلها "ألف مبروك يا مي"، وبس، تمام؟
هزت رأسها بايجاب على مضض: طيب.
تحركا سويا نحو العروسين حتى توقفا أمامهما،
ابتسمت ماسة قائلة بنبرة آليه مقلده لنبرة سليم: ألف مبروك يا مي.
مي بابتسامه لطيفه: الله يبارك فيكي يا ماسة.
ثم نظرت ماسة نحو رشدي وقالت بتهذب واضح: مبروك يا رشدي.
أومأ برأسه في صمت، بعينين لا تعرفان إن كانتا تشكران أم تهربان.
سليم بإبتسامة خفيفة: مبروك يا مي، لو زعلك في يوم كلميني على طول.
ضحكت مي وهي تنظر لرشدي بحب ظاهر: بس أنا متأكدة إنه مش هيزعلني أبدا.
ابتسم سليم بهدوء: أتمنى لكم حياة سعيدة من قلبي
ثم وجه نظره نحو رشدي بإبتسامة: مبروك يا رشدي.
فتح سليم ذراعيه نحو رشدي، فتردد الأخير للحظة، ثم اقترب منه وعانقه عناقا سريعا، بدا كأنه أول عناق بينهما منذ سنوات كانت عين رشدي تدور بإستغراب وهو بين احضان سليم يشعر بشيء غريب ربما تأنيب الضمير ربما ندم ربما كره لا يعرف.
سليم وهو يبتعد: بعد إذنكم.
ثم ألتفت إلى ماسة وهمس: يلا بينا.
ماسه بعفويه: سلام يا رشدى، سلام يا مي.
تحركا معا وسط الحديقة المضيئة بالأضواء والضحكات، لكن ما إن وصلا منتصف الممر حتى ظهرت أمامهما فايزة.
فايزة بإبتسامة مصطنعة وعيون تلمع بخبث: أخيرا شوفناكي يا ماسة، سليم كان مخبيكي عننا ولا إيه؟
ابتسمت ماسة بأدب، وردت بنفس ذات النبرة الآليه: إزيك؟
فايزة وهي تلمح لها بنظرة غريبة: الحمد لله.
ثم تابعت بتساؤل: هتيجوا القصر ولا لأ؟
تدخل سليم سريعا، قائلا بحسم: لا، أحنا مرتاحين في فيلتنا.
رفعت فايزة حاجبيها بتساؤل: أنت ماشي ولا ايه؟
سليم بهدوء: أيوه، سلام.
فايزة بنبرة فيها لسعة لا تخطئها الأذن: مش هتخلي صافيناز تعتذر لها زى ما قولت؟
سليم ببرود ظاهر وهو يحدق فيها بثبات: عايزة تبوظي خطوبة إبنك وتخليها فضيحة على مستوى البلد ولا ايه؟ مش وقته، سلام.
ثم أمسك يد ماسة وغادر معها ببطء ثابت، بينما ظلت فايزة تتابعهما بعينيها، وبمجرد أن غادرا، عادت الأصوات ترتفع من جديد، والضحكات تنتشر في المكان، كأن الجميع تنفس راحة بعد خروجهما، لكن تلك الراحة لم تكن إلا قشرة فوق جرح مازال ينزف.
💞________________بقلمي_ليلةعادل
سيارة سليم وماسة، الساعة الحادية عشرة مساء.
ماسة مستندة برأسها على ذراع سليم، نظر إليها سليم بطرف عينيه، وتساءل بابتسامة خفيفة: بعد الحفلة دي كلها، مش حاسة إنك افتكرتي أي حاجة؟
رفعت رأسها عن كتفه ببطء، وقالت بصوت ناعم متردد: لا خالص، هي بس الصور اللي شوفتها دي، كان شكلها غريب وخوفتني، بس سمعت كلامك ومحبيتش أركز فيها، شوفت رشدي، ودي أول مرة أشوف ملامح حد.
سليم بهدوء وهو يراقب ملامحها بعينين متفحصتين: ماهو عشان كده بسأل رشدي بس؟ متأكدة؟!
هزت رأسها إيجابا: أيوه يا سليم، رشدي بس، أول ما سلمت عليه، ولمس إيدي حسيت إن في صفارة جوه وداني، وصوت صريخ وحاجات تخوف، وشوفته وهو بيتهجم عليا.
ارتسمت على وجهه ملامح قلق خافتة، وتساءل وهو يحدق فيها بنظرة مترددة: وأنا؟ مشوفتيش أي حاجة تخصني؟ ولا حتى وأنا بخوفك؟
نظرت له باستغراب، ثم ابتسمت بخفة مالت نحوه وتضغط على كفه بدفء: لا يا كراميل، وبعدين أنت هتخوفني ليه؟ ده أنت طيب خالص...
وضعت قبلة صغيرة على خده، ونظرت له بابتسامة مطمئنة: وبعدين أني خلاص قلبي حاسس إني هفتكر قريب مادام شوفت رشدي، مش أنت قولت إن قصتنا بدايتها كانت معاه؟
ابتسم بتعب وهز رأسه موافقا، رغم أن الضيق كان واضحا في عينيه، سرعان ما انطفأت ابتسامته، واشتد ضيق صدره، كأن كلماتها طعنته دون قصد، ظل صامتا ينظر أمامه، ويده مازالت بين يديها، فيما يتردد في ذهنه صداها الموجع: "بتفتكر الكل، إلا أنا!"
تسلل الغضب إلى صدره يحاول كبته، لكن عينيه فضحتا وجعه، أدار وجهه نحو النافذة، وبقي صامتا طوال الطريق، والغضب يمتزج بالحزن والخذلان، بينما كانت ماسة تبتسم بهدوء، تظنه متعبا، غير مدركة أن قلبه كان يصرخ وجعا.
منزل لوجين، الحادية عشرة مساء
دخلت لوجين بخطوات متعبة، تتبعها والدتها وشقيقتها، كان الحزن واضحا على ملامحها، رغم محاولتها إخفاءه بكل ما أوتيت من قوة.
لوجين بنبرة مكتومه: أنا هدخل أنام.
انتبهت نغم لها وقالت بدهشة: مالك يا بنتي؟ من أول ماخرجنا من الحفلة وأنتِ عاملة كده، كأنك شايلة الدنيا فوق دماغك!
لوجين بصوت خافت متعب: مفيش حاجة، أنا كويسة، بس محتاجة أنام.
اقتربت منها نغم، باهتمام وقلق: مالك يا جيجي؟!
نهى بهدوء فيه شيء من الحزن: سيبي أختك يا نغم،
ثم وجهت نظرتها نحو لوجين: روحي ارتاحي يا بنتي، وأنا متأكدة إنك هتعرفي تختاري الصح.
نظرت لوجين لولدتها لحظة، ثم هزت رأسها بصمت واتجهت إلى غرفتها، تبعتها والدتها وشقيقتها بنظرة قلقة.
نغم متسائله: هو في إيه يا ماما؟
نهى بتنهده: مفيش يا نغم، بس أختك ماشية في طريق آخره وجع، وأنا خايفة عليها.
غرفة لوجين
دخلت بخطوات بطيئة، وألقت حقيبتها على الفراش جلست عليه متساقطة كأوراق الشجر في فصل الخريف.
مررت يديها على وجهها بتعب، وغرقت في صمت ثقيل، كلمات والدتها تتردد في رأسها كصدى بعيد، تنهدت تنهيدة طويلة خرجت من أعماقها، ثم غطت وجهها بكفيها، بدأت الدموع تهبط من عينيها، حتى تتسللت من بين أصابعها وقلبها يخفق بعنف خلف صدرها، وأنفاسها تتسارع، وضعت يدها على صدرها كأنها تحاول الإمساك بوجع لا يحتمل.
عادت إليها صور الحفلة؛ ياسين وهو يضحك مع هبة، يرقص معها، يحمل ابنتهما الصغيرة.
شعرت بغصة تخنقها، كأن الألم يمزق أحشاءها، وجع الحب الممزوج بالغيرة، أخيرا بدأت تدرك الحقيقة التي كانت تهرب منها: لقد وقعت في حب ياسين، وقعت في حب مستحيل.
ارتجفت، ثم أجهشت بالبكاء، التقطت وسادتها، دفنت وجهها فيها لتخنق صراخها المكتوم، رفعت رأسها بعدها قليلا، ضمت الوسادة إلى صدرها وهمست لنفسها بصوت مبحوح: أنا عملت إيه؟ إحنا إزاي وصلنا لكده؟ ياسين مكانش أول راجل يبقى قريب، أنا عندي أصحاب كتير! يمكن قربنا من بعض شوية، بس إزاي حبيته؟ وإمتى؟أنا إزاي أعمل كده؟ إزاي حصل كده؟إزاي أحب واحد متجوز؟! أنا اللي كنت دايما بكره النوع ده من العلاقات، أنا اللي كنت بلوم الناس اللي تقع في الحفرة دي، وأنا دلوقتي وقعت فيه!!
ثم أغلقت عينيها بشدة، كأنها تريد أن تطفئ ما اشتعل في داخلها، لكن الحريق ازداد اشتغالات.
ضربت كفها على الفراش بحدة، ودموعها تنهمر أكثر،
همست لنفسها بتعجب: أنا إزاي مخدتش بالي؟ إمتى حصل ده؟ كان مجرد اهتمام، وكلام عادي! مجرد اخوه وصداقه بريئه، وأنا كنت فاكرة إني عاقلة! إزاي قلبي خانني بالشكل ده؟
نهضت من مكانها تتحرك في الغرفة كأن الأرض غير ثابتة تحتها، كان قلبها يخفق داخل صدرها كأنه يصرخ، تارة تنظر في المرآة، فتشاهد وجهها وتزداد كرها لنفسها.
شهقت وبكت بحرقه: أنا إزاي حبيت راجل ليه بيت؟ ليه زوجه؟ وليه بنت؟ أنا كنت فين؟ كنت عامية؟!
رن هاتفها فجأة نظرت إلى الشاشة كان ياسين، تجمدت في مكانها، مدت يدها بتردد، ثم سحبتها سريعا كأنها لمست جمرة نار، تنهدت بحرقة، ضغطت على الزر الأحمر وأغلقت المكالمة، ثم أغلقت الهاتف تماما وألقته بعيدا عنها، كأنها تهرب من شيء لم تتوقع ان سيحدث.
سارت في الغرفة بارتباك، تمسك رأسها بكلتي يديها، تهمس لنفسها بين شهقة وأخر: أنا مش قادرة أعيش بالإحساس ده! يا ريتني ماعرفتك، ياريتني ما شوفتك!
اقتربت من الحائط لحظة، وضربت جبينها عليه بخفة، تحاول تطفئ وجعا داخليا لا يطفأ، ثم انزلقت ببطء إلى الأرض، وجلست تبكي بحرقة، كتفيها تهتزان، وصوتها يختنق بين النحيب والأنين.
مرت لحظات طويلة وهي على هذا حالها، كأن الوقت تجمد حولها، ثم فجأة، رفعت رأسها وعيناها تلمعان بدموع مختلطة وتصميم غامض، همست بصوت مبحوح بالكاد يسمع: مفيش غير حاجة واحدة، هي اللي لازم تتعمل، وهعملها.
ثم انحنت، أسندت رأسها على ركبتيها، وظلت تبكي بصمت موجع حتى غلبها التعب.
فيلا سليم وماسة، الواحدة مساء
غرفة النوم
وقف سليم في الشرفة، سيجارة بين أصابعه تشتعل ببطء، والدخان يتصاعد أمام وجهه كغلالة تخفي اضطرابه، ملامحه متوترة، حاجباه معقودان، وصدره يعلو ويهبط بثقل واضح.
كان الضيق ينهش داخله، فما حدث في الحفلة مازال عالق في ذهنه كطعنة خفية، يثقل صدره بالضجر؛ إذ لم يستوعب، لماذا لم تتذكره؟ لم تتذكره ولو للحظة واحدة، رغم كل الصور التي تراها، رغم كل ما عاشته معه، بل تذكرت رشدي من مجرد لمسة يد!! ومن رشدي حتى تتذكره؟ وهو زوجها، حبيبها، كيف استطاعت ذاكرتها أن تحذف كل ما بينهما وتبقي سواه؟
أيا تري عقلها يعجز عن استحضاره إلى هذا الحد؟ أم أنها أرادت أن تنساه؟ هل بلغ بها الكره أن تقصيه من ذاكرتها تماما؟
لقد مرت عشرة أيام دون أي تقدم، حتى بعد أن جمعتهما علاقة زوجية لأكثر من مرة، ظلت تنظر إليه كما لو أنه رجل جديد في حياتها.
نعم، هي أحبته من جديد، وهو يدرك ذلك ويشعر بيه في كل ابتسامة خجولة، في كل لمسة مترددة
لكن هذا ليس ما يريده.
إنه لا يريد حبا يولد من البداية، بل يريدها أن تتذكره، وهذا بالضبط ما كان يقتله ببطء، أن تحبه ولا تتذكره، أن يراها تبتسم له بنفس الملامح، لكن بدون ذاكرة، سحب نفسا آخر من سيجارته، وعيناه تلمعان بوجع صامت.
وأثناء ذلك خرجت ماسة من الحمام وهي ترتدي قميصا قصيرا يعلوه روب حريري، بدا عليها غاية في الجمال، وقد تركت شعرها منسدلا خلف ظهرها.
ولما أبصرت سليم واقفا في الشرفة، ابتسمت بخفوت، ثم أسرعت نحو التسريحة، وضعت قليلا من العطر الذي يفضله على عنقها ومعصميها، ثم لونت شفتيها بحمرة ناعمة، قبل أن تتجه نحوه بخطوات هادئة.
اقتربت منه، وأحاطت خصره بذراعيها، وأسندت رأسها على ظهره بإبتسامة دافئة، ارتسمت على شفتي سليم ابتسامة خفيفة، كأن شيئًا من الراحة قد عاد إليه، فوضع يديه فوق يديها في هدوء.
تساءلت بصوت منخفض وهي ترفع رأسها قليلا: بتعمل إيه يا كراميل؟
حاول أن يخفي اضطرابه: لسة صاحية؟ افتكرتك نمتي.
ضحكت بخفة، ثم عادت لتضمه برفق وتضع رأسها على صدره: مقدرش أنام وأنت صاحي، تعالى ننام سوا.
رفعت رأسها لتنظر إليه بعينين حانيتين: وبعدين، مينفعش تشرب سجاير، دي غلط ومضرة لصحتك، إزاي سبتك تشربها؟ آني المفروض كنت أخليك تبطلها زي ما بطلت الخمرة.
تنهد بعمق وهو يشيح بوجهه عنها، صوته خرج متعبا: ماسة، معلش أنا عايز أبقى لوحدي شوية، روحي نامي.
اقتربت أكثر وهمست بدلال طفولي: وآني مش عايزة أنام، عايزة أقعد معاك.
حاول ضبط صوته: روحي شوفي فيلم، سيبيني لوحدي، محتاج أهدى شوية.
نظرت إليه بعينين مملوءتين قلقا: مالك يا سليم؟ أنت زعلان مني؟ من إللي عملته في الحفلة؟ آني أسفة.
زفر أنفاس متقطعة، وقال بنبرة مبحوحة تخنقها الغصة: ياستي مش زعلان، أسمعي الكلام بقى، عايز أكون لوحدي.
اقتربت منه أكثر، مدت يديها تلفها حول عنقه وهمست بدلال: طب تعال، أعملك فشار ونشوف فيلم سوا؟
رفع عينيه نحوها بغضب مكبوت: هو أنتِ مبتسمعيش الكلام ليه؟ قولتلك عايز أقعد لوحدي! روحي نامي أو شوفي هتعملي إيه.
تجمدت للحظة، هبطت يدها ببطئ وهمست بصوت خافت مكسور: إني آسفة، خلاص على راحتك، آني هروح أنام.
ابتعدت بخطوات بطيئة وملامحها تذوب بين الخجل والحزن، جلست على طرف الفراش، عيناها زائغتان نحو الشرفة حيث يقف سليم، لكنه لم يلتفت إليها.
كان الصمت يملأ الغرفة، لا يسمع فيها سوى أنفاسها المتقطعة من الحزن، فهي ظنت أنه غاضب منها، وأنها السبب فيما يشعر به، فازدادت حزنا، وجلست تبكي بصوت مكتوم، تمددت على الفراش وعيناها تدمعان حتى غلبها النوم من شدة التعب والبكاء.
في الخارج، ظل سليم واقفا في مكانه، لم يخطر بباله لحظة أنها تبكي، أو أن كلماته جرحتها، كان مايزال غارقا في اضطرابه، أفكاره متشابكة، قلبه مثقل بالضيق، يشعر بأن شيئا بداخله ينهار كلما تذكر ماحدث.
أشتعل غضبه فجأة، فمد يده إلى الهاتف وأتصل بطبيبه النفسي بصوت مرتجف من العصبية: أنا لازم أجيلك دلوقتي!
حاول الطبيب تهدئته: يا سليم الساعه 3الفجر، تعالى بكرة.
لكنه صرخ بعناد وغضب: قولت هاجي يعني هاجي! عشان متجبرنيش أجي أكسر العيادة على دماغك، أنا سليم الراوي! متنساش نفسك.
صمت الطبيب لحظة، وقد أدرك من نبرة صوته أن سليم خرج تماما عن نطاق السيطرة، فقال بتوتر: خلاص يا سليم، تعالى.
أما ماسة، فقد كانت قد استسلمت للنوم، دموعها مازالت تبلل وسادتها، لا تدري أنه في تلك اللحظة، لم يكن يفكر بها أصلا، بل كان يحارب عاصفة بداخله لا تهدأ.
خرج سليم من الشرفة بعد لحظاتٍ من الصمت، نظر نحو السرير نظرة عابرة، رآها نائمة بهدوء، ظن أنها استسلمت للنوم منذ وقت طويل، لم يقترب منها، ولم يلحظ التعب على ملامحها ولا الإحمرار في عينيها من البكاء، فقط شعر بثقل غامض في صدره، كأن بينهما مسافة لا ترى ولا تختصر.
مد يده إلى المفاتيح الموضوعة على الكومود، ألتقطها بصمت، ثم ألقى نظرة أخيرة عليها دون أن يطيل، وخرج من الغرفة بخطوات بطيئه مضطربة، يغلق الباب خلفه برفق، وكأنه يخشى أن يوقظها، أو يوقظ في نفسه ما يحاول الهروب منه.
سيارة نانا، الثانية عشر بعد منتصف الليل.
كانت تقود سيارتها عائدة إلى المنزل بعد انتهاء خطوبة رشدي، وهي تغني بمرح، والسعادة ترتسم على وجهها، أصابعها تضرب المقود بإيقاع الأغنية.
وفجأة، ظهرت سيارتان جيب سوداوان من العدم، تقتربان بسرعة، كأنهما خرجتا من بطن الليل أمامها.
ضغطت على الكلاكس مرات متتالية، ثم تمتمت بصوت مرتعش: إيه ده؟ هما ماشيين ورايا ليه؟
بدأت السيارتان في التضييق عليها، واحدة من اليمين، والأخرى من اليسار، ارتبكت يدها على المقود، وصوت أنفاسها أرتفع، وقطرات العرق تسيل على جبينها رغم برودة المكيف.
صرخت وهي تحاول الإنحراف بالسيارة: أبعدواااا!
لكنهم لم يتراجعوا، حاولت زيادة السرعة، العجلات تصرخ على الأسفلت، والهواء يصطدم بزجاج السيارة كصفعة، كانت تحاول النجاة، وملامح الهلع ترتسم على وجهها، لكنهم اصطدموا بها من الخلف بقوة، فاهتز جسدها وارتطم رأسها بالمقود، لم تفقد وعيها، لكن كان هناك خدش بسيط نزف عند صدغها.
توقفت السيارة بعنف، وقبل أن تستعيد توازنها، سحب الباب فجأة، وامتدت يد غليظة جذبتها بعنف إلى الخارج، كانت تقاوم، تلوح بيديها في الهواء، تصرخ بصوت ممزق: إنتو مين؟! وعايزين مني إيه؟!
لم يجبها أحد، كمم أحدهم فمها، ووضع عصابة سوداء على عينيها، أنفاسها تتسارع، وصوت دقات قلبها يملأ الصمت داخل السيارة التي تحركت من جديد، مسرعة نحو المجهول.
مرت الدقائق كأنها ساعات، شعرت بالسيارة تتوقف، تحركت معهم وهي تقاوم، أزال أحدهم العصابة عن عينيها، فانكشفت أمامها صحراء واسعة تمتد بلا نهاية، تتخللها حفرة عميقة تبدو كفم مفتوح ينتظر فريسته.
صرخت بصوت يتردد في الفراغ: أنا فين؟! إنتو مين؟!
لم يجبها أحد، بعد لحظات، توقفت سيارة أخرى على بعد أمتار، مرسيدس لامعة، خرجت منها أمرأة بخطوات بطيئة واثقة، يسبقها ظلها الطويل تحت ضوء المصابيح الخافت.
كانت نانا تنظر إليها، جسدها يرتجف، وشفتيها ترتعشان وهي تحاول التعرف على الملامح القادمة نحوها، وحين اقتربت المرأة بما يكفي، خيل إليها أن الأرض تميد من تحت قدميها.
همست بصوت مبحوح، بالكاد يخرج من حلقها الجاف: فايزة هانم؟
وقفت فايزة أمامها مباشرة، نظرتها جامدة لا تقرأ، مالت قليلا للأمام، وصوتها خرج هادئا، باردا كأن لا شيء يهزه:إزيك يا نانا، لعبنا كتير، وضحكنا أكتر...
ثم رفعت يدها ببطء، أزاحت خصلة شعر علقت على وجه نانا المرتجف، وابتسمت ابتسامة قصيرة قبل أن تهمس: تعالي بقى، نبدأ الجد.