
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الرابع عشر 14 بقلم ليله عادل
{"أصعب ما يواجهه الإنسان، أن يقاوم الرجوع إلى عالم قبيح، يحاول الهرب من تلوثه، لكن شيئا فيك يدفعك للعودة، رغما عنك، كأن نجاتك الوحيدة في وسط من كنت تهرب منه، فتقف في المنتصف وتتساءل: هل أنقذت نفسي؟ أم أني عدت لأغرق من جديد"}
ليلةعادل🌹✍️
الفصل الربع عشر🤫❤️
[بعنوان: محاول للمقاومة]
مدت يدها تزيح خصلة شعر علقت على خد نانا المرتجف، وهي تهمس: تعالي بقى نبدأ الجد.
تراجعت نانا، نظراتها تتنقل بين وجه فايزة والمكان من حولها، عيناها تبحثان عن معنى لما يحدث، عن مخرج لا وجود له.
تساءلت بصوت مرتعش، وشفتيها ترتجفان: فايزة هانم! هو في إيه؟
ابتسمت فايزة إبتسامة جانبية بسخرية، عيناها تشتعلان رغم هدوئها الظاهري، وقالت بنبرة متهكمه: هو لسة فيكي القوة انك تلعبي يا نانا؟ إحنا خلاص وصلنا للنهاية.
أشارت بيديها نحو تلك الحفرة وهي تنظر داخل عينيها بهدوء مرعب: بصي جنبك دي هي نهايتك، كان لازم تفكري ألف مرة قبل ماتُقدمي على الخطوة المتهورة إللي عملتيها.
ارتعشت نانا، نظرتها ضبابية، صوتها متقطع: أنا... أنا مش فاهمة، أنتِ بتتكلمي عن إيه؟
تقدمت فايزة خطوه وهي تركز النظر في ملامحها ثالت بهدوء قاتل: أوعي تكوني فاكرة يا نانا، ولا خيالك الغبي يصورلك إنك كنتي سبقاني بخطوات، أو إن خيوط اللعبة كانت في إيدك! تبقي عبيطة، أنا عارفة عن علاقتك بعزت من زمان، بعدها بأسبوع تقريبا، بس قولت إيه المشكلة؟ هو راجل ومن حقه يفصل شوية من الضغوط إللي عليه، بس الظاهر يا نانا إنك بقيتي طماعة وخيالك المريض خلاكي تصدقي إنك ممكن تاخدي مكانة أكبر من إللي كنتي واخداها.
تنهدت ببرود قاتل، وحركت رأسها بخفة كأنها تشفق عليها قالت بإستغراب: أنا لحد دلوقتي مش فاهمة كنتي بتفكري في إيه يوم مابعتيلي الرسائل! مش هنكر إني في الأول مكنتش فاهمة، بس لما عرفت؟ ضحكت وقولت "هي بتعمل كده ليه؟ أكيد في حاجة." صبرت، وقولت سيبها تلعب شوية، دمها خفيف، بس أنتِ مبطلتيش وكملتي، وبعتيلي الرسائل تاني وتالت، لحد ماخليتي اللعبة تنقلب عليكي.
عضت نانا شفتها السفلى، دموعها تلمع على خديها وهي تهمس بصوت مكسور، محاولة تصنع عدم الفهم: رسائل أيه؟ أنا مش فاهمة!
ابتسمت فايزة ابتسامة موحشة، نظرتها مليئة بسخرية: لسة مزهقتيش من اللعب؟ خلاص بقى شوفي نفسك فين دلوقتي؟ تفتكري ده وقت مراوغة؟ كنتي فاكرة إنك شاطرة؟! وإن لما تبعتيلي الرسايل دي، هعمل مشاكل وأقول لعزت " أنت خنتني! طلقني
ضحكت بسخرية: يا نانا، ده تعمله واحدة زيك، إنما أنا؟! أنا فايزة هانم رستم اغا.
رفعت ذقنها بغرور، وتابعت: أنا عندي حاجات أهم بكتير، شغل، عشرة، سنين كفاح، حياة كاملة، أهم من التفاهة دي، مفيش راجل مبيخونش، بس في راجل ذكي مبيتقفش، وفي راجل بيتقفش، للأسف أنتِ إللي كنتي الغبية.
اقتربت أكثر، أمسكت ذقن نانا بقسوة: طمعك وغبائك خلاكي تصدقي إنك ممكن تاخدي شكل تاني في حياة عزت، لا يا نانا هو ده آخر مكان ممكن توصليله مع عزت، أنا كنت سايباكي تستمتعي شويه، بس لما بدأتي تزعجيني، ضايقتيني وأنا لما بتضايق، بتبقى النهاية...
تساءلت بابتسامة باردة وهي تميل على أذنها: قوليلي ايه رأيك في قبرك؟ حلو؟
تجمدت نانا، أنفاسها تتلاحق، عيناها تتسعان كأنها ترى الموت أمامها، صوتها خرج مختنقا، أقرب للرجاء: أنتِ هتعملي إيه؟
رفعت فايزة ذقنها، نظرتها مليئة بالاحتقار، وقالت ببرود يجمد الدم في العروق: هعمل إللي كان لازم يتعمل من أول لما عرفت أنك اللي بتبعتي الرسائل، أنا غلطت لأن مكانش مفروض أسيب واحدة سخيفة زيك تعيش يوم زيادة.
صرخت نانا بخوف: عزت مش هيسكت! مش هيسيبك!
ضحكت ضحكة عالية حادة كسكين تشق بها الصمت: عزت إيه؟!
نظرت خلفها بإشارة متعالية: بصي هناك كده في العربية إللي واقفة دي، شايفة مين إللي قاعد فيها؟ عزت بنفسه.
رفعت يدها تشير في الظلام، ووجهها يلمع بنشوة إنتقام قديم لأحد الحراس: نادي الباشا.
أخذت فايزة تنظر إليها بابتسامة هادئة تحمل في طياتها مكرا شيطانيا، بينما كانت نانا تحدق فيها بعينين يملؤهما الخوف والارتباك، كأنها تستشعر خطرا قادما لا مفر منه، لم تمضي سوى لحظات حتى اقترب عزت بخطوات بطيئة وثابتة، ووجهه جامد لا يقرأ، لا غضب فيه ولا رحمة، فقط صمت ثقيل يوحي بأن شيئًا قاسياً على وشك أن يحدث.
بكت نانا بعجز، عيناها تتوسل له، وهي مربوطة ولا تقدر على الحركة: عزت الحقتي.
فايزة ببرود: ها يا باشا، تقولها ولا أقول أنا؟
وجه عزت نظراته لنانا، وصوته منخفض لكنه قاسي: ليه عملتي كده يا نانا؟ ليه زعلتيني منك؟ كنتي فاكرة إنك ممكن تاخدي شكل تاني في حياتي؟ او تعملي مشكلة مع فايزة؟!
انحني قليلا نحوها: يا نانا أنا سبق وحظرتك وقولتك، لو حصلت مشكلة، أنا مش هختارك، وكتير قولتلك لو عايزة تمشي، إمشي، بس أنتِ تمسكتي وصدقتي إنك ممكن تاخدي مكان غير اللى أنا حددتهولك، غلطتي يا نانا.
ارتجف جسد نانا، حاولت التحرك بلا جدوى، سالت دموعها، وهي تهمس بصوت مبحوح: أنا نانا، أنا حبيبتك يا عزت، سامحني مش معقول تسبها تموتني.
لكنه لم يهتم أشار بيده لأحد الحارس بقسوة وقلب ميت: يلا خلص.
صرخت نانا صرخة مدوية خرجت من سكون الليل: لااااا! عزت أرحمني و...
قبل أن تُكمل كلمتها، دوى صوت الرصاصة، اخترقت رأسها من الخلف، وسقطت في الحفرة كدمية أنقطع خيطها.
عزت بجمود وهو يلوح بيده للحراس: يلا بسرعه خلصوا.
بدأ الحراس يسقطون عليها الرمال.
ألتفتت فايزة نحو عزت والغبار يتطاير حولها، وعيناها تلمعان ببريق النصر.
اقتربت منه ببطء، وهي تقول ببرود: ياريت المرة الجاية لما تفكر تخوني، تخوني مع واحدة تكون على مستوايا، بلاش الرعايا دول.
نظرت لنانا الساقطة في الحفرة، ثم رفعت عينيها نحوه من جديد: خلي بالك يا باشا، اللعبة دي أنا إللي بكسبها دايما.
نظرت له من أعلى لأسفل، ثم استدارت بثقة، وتحركت بخطوات أنيقة نحو السيارة، وصوت كعبها يرتطم بالأرض كأنه إعلان نهاية المعركة.
حتى وصلت إلى السيارة، فتح لها أحد الحراس الباب، دخلت بهدوء.
نظرت فايزة أمامها، شاردة بعينيها في الفراغ
فلاش باااك.
حفلة خطوبة رشدي.
في ركن جانبي بعيد عن العيون، كانت فايزة تقترب من عزت بخطوات محسوبة، مالت نحوه قليلا وصوتها يحمل نغمة هادئة لكنها حادة في معناها: عزت أنا بعتهم يجيبوا نانا، علشان النهاردة هنهي المسلسل الهندي ده، بقى ماسخ أوي، وأنا مبحبش الهندي، بيطولوا.
أجابها بصوت بارد: ماشي.
رفعت حاجبها بخفة، عيناها تحدق فيه: وهتحضر معايا مراسم قتلها؟ ولا تكون حنيت وصعبانة عليك؟
ألتفت إليها بجمود، نبرته قاطعة، كأن لا مشاعر تسكن داخله: يلا علشان منتأخرش يا فايزة.
باااك
تنهدت فايزة وهي تقول كدة خلصنا من أول مهمة فاضل التانية.
عند عزت
وقف يتأمل الحفرة التي بدأت تبتلع جسد نانا شيئا فشيئا، والحراس يلقون فوقها الرمل بلا اكتراث.
أقترب منها بخطوات بطيئة، صوته خرج هادئا لكنه يقطر جمودا: غبية يا نانا، ضيعتي نفسك بإيدك، كان لازم تعرفي إني مستحيل أختارك.
ظل يحدق فيها لثواني طويلة، ثم أدار وجهه جانبا كأنه يهرب من طيفها، وهنا تسربت الذكرى إلى ذهنه فجأة.
فلاش باااك.
جناح فايزة وعزت
جلس عزت على الأريكة، أمامه أوراق ومجلدات، يمسك ورقة يقرأها بتركيز، كانت فايزة تقف في الشرفة تتطلع في الأفق؛ أثناء ذلك وصلت لها رسالة على هاتفها، نظرت إليها بنفاد صبر، ثم أغلقت الهاتف بملل
خرجت للخارج وجلست بضجر، على مقعد بجواره، ثم التفت إلي عزت ترامقه بنظرة خبيثة ثم قالت بصوت منخفض حاد: قولي يا عزت، هي نانا عاملة إيه؟
رد بنبرة عابرة وهو مازال ينظر في الأوراق: كويسة، بتسألي ليه؟
مالت على جانبها وهي تقلب الهاتف بين يديها بملل، ثم رفعت عينيها نحوه: هي هتيجي بكرة الحفلة؟
رفع عينه نحوها للحظة، ثم عاد لينظر في الأوراق مرة أخري: أه هتيجي.
عضت خدها من الداخل، وبدت ملامح الضجر ترتسم على وجهها، ثم نظرت له مباشرة وقالت بنبرة حادة: طب بكرة بعد الحفلة، هنخلص عليها.
رفع عينيه إليها بتعجب، وهو يتساءل: نقتلها ليه؟
نظرت له طويلا بعين ثابتة، قبل أن ترد ببرود قاسي: علشان أنا مش هتحمل السخافات بتاعتها أكتر من كده.
ساد صمت ثقيل الغرفة، قبل أن يقطعه صوت عزت وهو يتساءل باستغراب: تقصدي إيه؟ مش فاهم.
ضحكت ضحكة عالية حادة، وعدلت جلستها في زاويته وقالت بنبرة هادئة حادة: لا، أنت فاهم كويس يا عزت، فاكر إن طول السنين دي أنا مش عارفة إن أنت ونانا مع بعض؟ ومش نانا وبس، وغيرها كمان! وسفركم، والفيلا إللي واخدهالها في "دريم لاند" -العش بتاعكم-
تجمد كأن كلماتها ضربت وجهه، قال بصدمه: أنتِ بتقولي إيه؟
ابتسمت بسخرية، ورفعت شاشة الهاتف أمامه: عشيقتك بقالها فترة، بتبعتلي رسائل سخيفة، وأنا في الأول قولت يمكن بتلعب، يمكن فراغ، اديتها كذا مبرر، لكن خلاص زهقت، كفاية.
عزت وهو مازال يتصنع عدم الفهم: خيانة إيه يا فايزة ده أكيد حد بيلعب معاكي، وأنا هوصله وهقطع رقبته.
نظرت له ببريق عينيها بصمت، ثم ردت بهدوء قاتل: عزت إحنا أكبر علي الأسلوب بتاع العيال الصغيرة ده، أنا عارفة إنك كنت بتخوني مع نانا ومع غيرها، ومش هي دي المشكلتي، المشكلة إنها بقالها فترة بتبعتلي رسائل، ولما جبت الولد إللي بيبعت الرسائل، أعترفلي بكل حاجة إنها مش بس مخلياه يبعت ليا، لا وبيبعت لها هي كمان، علشان متشكش فيها، وتبان إن هي كمان حد بيبتزها، ذكية.
صمت للحظة وقال بتعجب: يعني أنتِ طول السنين دى كنتي عارفة وساكتة!
ردت بهدوء حاسم: أومال المفروض كنت أعمل إيه؟!
وقف ونظر لها بحدة: تدافعي عن حياتك؟ عن بيتك؟ تعملي زي أي زوجه بتعمل لما تعرف إن جوزها بيخونها.
رفعت عينها له، وقالت بهدوء يخلوا من المشاعر: أنا وحياتي وبيتي في أبها صور الاستقرار، علاقتك بـ نانا وغيرها، عمرها ما كانت عاملة لي أي إزعاج، بالعكس كانت دايما مخلياك لطيف وبتاخد بالك جدا من تصرفاتك معايا، وجودها في حياتك هي وغيرها كان سبب في نجاح صورتنا الزوجية.
جز عزت على اسنانه الاماميه بضجر وهو يلوح بيده في وجهها: بس برضه واحدة غيرك لما تعرف إن جوزها بيخونها، المفروض تصرخ، تزعل، لكن إزاي تبقي عادي كده؟!
تنهدت للحظة وهي تنظر أمامها، ثم وقفت أمامه وردت عليه بهدوء ممزوج بإبتسامة واثقة: يا حبيبي الحاجات دي تعملها البنات الصغيرة، إنما أنا ست عارفة قيمتي كويس، أنا فايزة هانم رستم اغا، فاهم؟!
تحركت أمامه ببعض الخطوات وهي تضم كفيها ببعضها وهي تقول: مفيش راجل مش خاين يا عزت، لو كنت عملت اللي بتقول عليه، أزعق وأعمل مشاكل وأطلب طلاق، أكيد كنت هتحاول تصلحني وكنت هرجع وأنا حاسة بالإهانة..
ألتفتت له وهى ترمقه بنظرة عقلانية: الراجعة بعد الخيانة إهانة، وإللي بيخون مرة بيخون ألف مرة مهما وعد.
ضحكت ضحكة قصيرة، واقتربت منه وهي تنظر داخل عينه بنبرة لازعة: أنا فكرت صح، ونفذت أصح، مدورتش كتير علشان مالاقيش حاجة تزعجني، كانوا بيتصلوا بيا وكانوا بيقولوا لي كل حاجة، شافوك فين وبتعمل إيه؟! ومع مين؟! كل حاجة كانت بتيجي لحد عندي، كل المعلومات عن خيانتك، كنت أقعد أقول لنفسي "أهدي حكمي عقلك، بعيدا عن العواطف" العقل قالي "أنتِ في الأول وفي الآخر مراته قدام العالم" ولو هو بيعمل كل حاجة في السر معناها إنه خايف تعرفي، ومادام مش مقصر معاكي خلاص، كل دي أسباب خلتني معملش مشكلة، بالعكس، قعدت على الكرسي واعتبرت نفسي إللي فايزة في اللعبة دي زي اسمي.
تساءل عزت متعجبا: وبعد ما اعترفتي إنك عارفة كل السنين دى، لسه عايزة تكملي من غير مشكلة؟!
ابتسمت على شفتيها إبتسامة جانبية، ثم أكملت بهدوء بارد: خلاص بقي فات سنين، وعمري طويل يا عزت، إحنا بقي عندنا أحفاد قربوا يتجوزوا، تفتكر أنا دلوقتي ههز صورتي في نظر المجتمع؟ وأعمل زي الستات المجنونة وأطلب الطلاق؟!
مد عزت وجهه بنبرة قاطعة استمرار مصلحة !
ابتسمت وكأنها تعرف جيدا دون اهتزاز: أنت كمان محافظ على وجودي في حياتك مصلحة، وجودك معايا لحد اللحظة دي مصلحة يا عزت، لإنك متجوز فايزة رستم آغا، أوعي تفتكر إني مش فاهمة أنت ليه مكمل معايا طول السنين؟
ثم أضافت كلمات سريعة بملل حازم: المهم إحنا مش هنتكلم طول الليل في الكلام السخيف ده، البنت دي لازم تتربى ويتقطع لسانها علشان تتعلم مترفعش عينيها في اسيادها، وتفضل تبعت رسائل سخيفة كده، فاكرة إنها ممكن تضايقني!؟
أضافت بحسم: وأنا خلاص قررت هتموت بكرة.
هز رأسه قائلا بصوت منخفض فيه غصة: هو فعلا الكلام خلص، أنتِ كل مرة بتأكدي لي يا فايزة إنك مجردة من أي إحساس أو مشاعر.
ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت ببرود ساخر: أنت إللي علمتني ده يا عزت، اتجوزتني وأنا عندي ١٧سنة، وعلمتني إن المشاعر مينفعش يكون ليها مكان جوة الإنسان، لأنها بتدمره وبتوقفه عن كل حاجة، وطول ما الإنسان عنده مشاعر، طول ما هو ضعيف وسهل الوصول ليه، أنت إللي جردتني من المشاعر إللي مديتهاليش ولا عمري حسيتها منك، فمتجيش دلوقتي وتلومني.
صمتت لحظة، ونظرت له بعين جامدة، تكمل بنبرة هادئة لكنها موجعة: لو كان عندي مشاعر، كنا اتطلقنا من زمان، نسيت؟ إنك خنتني بعد شهر واحد من الجواز، مع نرجس بنت خالتك، أوعى تكون فاكر إني مكنتش عارفة، لا عرفت وسكت وكملت لان كنت حامل وقتها في طه وقولت كفاية إنه اختارك أنتِ تكوني مراته حبيبته، وكان عندي أمل في أحلام وردية سخيفة أختفت كلها لحد ما نسيتها، ولما شوفت إللي حصل لسليم وطه وصافي وياسين، اتأكدت إن أنت كنت صح، إن الإنسان لما بيحب بيبقى ضعيف، وأنا محبش أشوف أولادي ضعفاء علشان كدة أنا بعمل المستحيل علشان أحافظ عليهم.
أخذت نفسا بطيئا، ثم قالت بنبرة حاسمة كأنها تصدر حكما: عموما الكلام إنتهى لحد كده، نانا هتتقتل بكرة بعد الحفلة.
عدلت الشال، وقالت وهي تبتسم ابتسامة باردة: ليلتك سعيدة يا عزت باشا.
تحركت بخطوات هادئة نحو الباب، وتركت خلفها هواء ثقيلا وصمتا خانقا، بينما هز عزت رأسه ببطء دون كلمة، كأن العالم حوله أنكمش في تلك اللحظة.
بااااك.
هز عزت رأسه بأسف، ثم تحرك وجلس بجانب فايزة، بينما انطلقت السيارة ببطء يملأه الصمت.
💞_________________بقلمي_ليلةعادل
قصر الراوي، الثالثة صباحا
الحديقة الأمامية
وقف رشدي في متوترا إلى حد الاختناق، يدخن سيجارة تلو أخرى كأنها المنفذ الوحيد للهروب من أفكاره المضطربة، لقد جن منذ أن رأي ماسة، وصارت كل لحظة تمر عليه كأنها عقد من العذاب، وهو ينتظر عودة فايزة وعزت ليتحدثوا عن حل، ظل السؤال يطوف عقله بإلحاح: ماذا لو علم سليم الحقيقة؟ ماذا سيحدث؟
لم يكن خوفه على نفسه، بل كان خوفه الأكبر أن يخسر مي، كانت صورتها تتصاعد في ذهنه وهو يتذكرها بضحكتها الخجولة المترددة، فشد على سيجارته حتى تشوه طرفها، كأنه يحاول كبح توتره المتزايد، كان يخشى أن تعرف مي ما ارتكبه مع ماسة فتبتعد عنه إلى الأبد، كل فكرة كانت تخنقه، وكل لحظة انتظار تمزق قلبه كسيف حاد.
ظل على حاله حتى توقفت سيارة عزت وفايزة أمام الفيلا، ففتح أحد الحراس الباب ببطء، نزل الاثنان بهيبة تخطف الأنفاس، فتحرك نحوهم مهرولا، وهو يمسح جبينه بيده كمن يحاول طرد شوكة ألم.
تساءلت فايزة بتعجب: أنت لسة صاحي؟
رشدي وعيناه تلمعان بالحسم: إحنا محتاجين نتكلم، هكلم صافيناز تيجي حالا.
قطب عزت جبينه: خليها بكرة.
رفع رشدي صوته وهو يضغط هاتفه بين أصابعه: مفيش بكرة، دلوقتي.
نظرت فايزة لعزت قالت بهدوء حاسم: خلينا نخلص.
اتجهوا نحو المكتب في انتظار نزول صافيناز وعماد، وبعد قليل دفعت صافيناز الباب، بوجه ملأه السخرية وهي تقول بنبرة قوية: أخيرا افتكرتوني، وهتتعاملوا معايا كإني إنسانة؟
فايزة بنبرة حاسمة قوية: لازم تفهمي إن إحنا نادناكي بس علشان كنتي شريكة معانا في إللي حصل.
مال عزت للأمام، ثبت عينيه في عماد متسائلا: مش أنتم الاتنين كنتوا بتراقبوها؟ أومال وصلها أزاى من غير علمكم؟!
عماد بصوت هادئ موضحا: أيوه كنت مخلي رجالتي يراقبوها، ولما سليم وصلها، محدش بلغني، أنا اتفاجئت زيي زيكم النهاردة، بس كلمت الرجالة هزأتهم وعرفت إنهم نايمين على ودانهم وإنها راجعة من كام يوم.
وقف عزت متأملا، يربت بيده كمن يجمع خيوط فكرته، قطعة بعد أخرى، كما لو كان يعيد ترتيب قطع أحجية مبعثرة: موضوع التهديدات إللي كنتوا بتعملوه معاها، كان من سنتين تقريبا، وماسة ماشية من هنا بقالها سنة ونص، وبقالها ست شهور منهم بعيدة عن سليم، صح؟
أومأ عماد براسة ينفخ الهواء من أنفه ببطء ويؤكد: أيوة يا باشا، ست شهور من بعد حفلة الانتخابات.
قاطعه عزت وهو يفكر في حل لغز: وفضلت سنة مع سليم، لوحدهم، وواضح إنها متكلمتش ولا حكتله أي حاجه من إللي كانت بتتعرضلها، ليه محكتش؟!
إجابته فايزة بهدوء: طبيعي، كانت خايفة، إحنا كنا مهددينها.
رمقهم عزت جميعا بنظرة تقطع كالسكين: أنا حاسس إن سكوتها السنة دي مكانش بس خوف؟
مال رشدي بجسده إلى الأمام، ضغط على طرف سيجارته بين أصابعه، قائلا بإرتباك واضح، يتساءل بتعجب: هيكون في ايه غير الخوف اللي خلاها تسكت؟ أكيد كانت خايفة على أهلها.
رفع عزت عينه نحوه وهو يهز رأسه ببطء، فكر للحظة ثم قال بنبرة حاسمة: مش مهم نعرف السبب، المهم إنها محكتش، وده إللي إحنا محتاجينه، بس ماسة دلوقتي رجعت، وإحنا منعرفش المرة دي ممكن تعمل فينا إيه؟ إحنا مش هنجازف، ولا هنفضل تحت رحمة سكوتها.
قلب عينه بقسوة وقال بحسم: البنت دي لازم تموت والسر يندفن معاها، التهديد خلاص مش هينفع، شفتوها في الحفلة كانت عاملة ازاى؟ علاقتها بسليم تقريبا رجعت زي الأول.
مالت صافيناز برأسها مؤكدة: هو ده إللي كنت بقوله لعماد، الست شهور دول أكيد غيروها كتير.
قضم رشدي أظافره وهو يفكر بإرتباك وشك: بس أنا حاسس إن فيها حاجة، طريقتها ونظراتها، أول ماسلمت عليا كأنها اتكهربت، أنا شايف بلاش نقتلها، نهددها تاني، متنساش الوصية يا باشا.
ضحك عزت ضحكة قصيرة قائلا بعقلانية وشر يخرج من عينه: وصية إيه؟ سليم كاتب في وصيته لو اتقتل بعدها مراته تتقتل وقتها الوصية هتتنفذ، وأنا طبعا عمري ما هأذي ابني، بالعكس هكون جمب ابني بدعمه وبندور على القاتل، وبعدين يا رشدي، أنت المفروض أكتر واحد تخاف على الأقل علشان مي، تفتكر لو عرفت إللي عملته مع ماسة هتعمل إيه؟
ابتسمت فايزة بسخرية باردة، وهي تلوح بيدها: أكيد مش هتبص في وشك تاني، وهترميلك الدبلة، بنت زي دي مستحيل تسامح.
رمقمها رشدي بنظرة قصيرة ارتجفت أعصابه، فهي محقة لكن لا يريد قتل ماسة، مسح وجهه وهو لايزال يعض على أظافره، تمتم بإعتراض: أنا مش عايز أقتلها، كفاية إللي حصل قبل كدة و...
قطعت الكلمات في حلقة فجأة، وتذكر أن عزت لا يعرف شيء عن الحادثة، فتنهد وأضاف بتوتر يحاول إقناعهم: مش لدرجة القتل، كفاية اللى عملناه فيها، سليم مش هيسكت لو حصلها حاجه.
رفعت صافيناز حاجبها بسخرية لاذعة: إيه يا رشدي؟ قلبك بقي حنين كدة ليه؟ مش كل اللى حصل قبل كده كان أفكارك؟
نظرت إليه نظرة تحمل اتهاما صامتا، كأنها تذكره بأنه هو من دبر الحادث، وهو من صدم سيارة سليم في ذلك الوقت.
تبادلا النظرات لحظة قصيرة، ارتدت فيها كلماتها إلى صدره كالطعنة، فابتلع غصة مريرة تكونت في حلقه، نعم، هو من فعلها من قبل، لكنه لا يريد أن يعود إلى ذلك الطريق مرة أخرى، يريد أن يسلك درب الصواب، لكن كيف؟ كيف يفعل ذلك والماضي يطارده بأشواكه، ويدفعه لسلك تلك السبل القذرة لنجاته.
واصلت صافيناز قائلة ببرود: وبعدين إحنا بنحمي نفسنا، وأنت كمان لازم تحمي نفسك، ماسة لو نطقت، قول على حياتنا كلنا، يا رحمان يا رحيم.
نطق رشدي بصوت مشحون بالوجع، في محاولة واهيه لاقناعهم بعدم قتلها: إيه إللي يخليها تتكلم دلوقتي؟ لو كانت عايزة تتكلم كانت اتكلمت من زمان، قعدت سنة مع سليم، سنة كاملة لوحدهم ومفتحتش بوقها، وعماد قال إنها راجعه من كام يوم وبرضه متكلمتش، إيه يعني إللي هيخليها تتكلم دلوقتي؟؟
تقدم عماد خطوة حذرة، قائلا بثبات: عندك حق، بس بلاش تراهن على سكوتها؛ ماسة غابت ست شهور، وإحنا منعرفش في الست شهور دي بقت شخصيتها عاملة إزاي، والله أعلم بتفكر في ايه!؟
سمع الجميع صوت عزت الحاسم: عموما أنا قررت خلاص، مش محتاج منكم رأي، أنا بس بعرفكم إللي هيحصل.
تنهد عماد ثم أخذ نفسا عميقا: بس الموضوع مينفعش يتحل بعشوائية يا باشا، لازم خطة متقنة.
نظر له عزت بتهكم: وأنا بقي مستنيك تحطلي خطة يا عماد، كنت فلحت في مهمه تافهه زى مراقبتها.
ثم نظر لهم، وهو يقول بكلمات ثقيلة مثل المطرقة: مفيش خطط؟ أنا إللي هفكر، وأنا إللي هنفذ، لحد دلوقتي واضح إن هي لسه متكلمتش، فلازم ننفذ بسرعة، التأخير مش في مصلحتنا.
حاول رشدى الاعتراض، فقاطعته فايزة بحسم: تمام يا باشا، يلا كل واحد على أوضته.
وأثناء مغادرتهم للمكتب نظر عزت لصافيناز بنظرة حادة: أوعي تفتكري اني رضيت عليكي بقعدتك معانا دلوقتي، زي ما والدتك قالت أنتِ هنا بس لإنك مشتركة في اللى حصل، غير كدة لا، أوعي تفتكري إن أنا ممكن أنسى إنك هددتيني
صافيناز بتصنع: أنا مقدرش اهددك يا باشا، أنت فهمتني غلط.
ضحك عزت ضحكة قصيرة فيها سخرية وعدم تصديق، ثم حرك رأسه بخفة وسار نحو الخارج، تبعته فايزة، ترمق صافيناز بنظرة لاذعة سريعة قبل أن تغادر، تبادل عماد وصافيناز النظرات للحظة بصمت، ثم تحركا معا إلى الخارج.
كان رشدي يتحرك خلفهم بخطوات ثقيلة، ملامحه شاحبة، وعيناه غارقتين في دوامة أفكار لا تهدأ، توقف أمام الباب لحظة، وضع يده على المقبض، فارتعش كأن لمس المعدن البارد أعاد إليه كل ما كان يحاول نسيانه.
فتح الباب ببطء، ثم أغلقه من جديد، وأسند ظهره عليه، يمسح وجهه بكف مرتجف كمن يحاول أن يستجمع ما تبقى من إنسانيته، زفر بعمق، ونظر إلى الأرض طويلا، قبل أن يرفع رأسه، وقد بدا في عينيه وميض ندم قاتل وقرار وموجع في آن واحد.
قال في نفسه بصوت خافت يختنق بين أنفاس متقطعة "يا ريتك ما ظهرتي يا ماسة، يا ريت كل ده مكانش حصل، بس أعمل إيه؟ مش هينفع، رقبتك قصاد رقبتي، فأكيد هختار رقبتي، وأنتِ لازم تكوني الضحية، أنتِ أصلا من البداية كنتي الضحية علشان اخلص من سليم، بس دلوقتي إنتِ نجاتي، ومستحيل أسمح إنك تكوني سبب في إني أخسر مي"
تحرك نحو المكتب ثم جلس على المقعد الأمامي، شبك أصابعه فوق رأسه وأغمض عينيه، كأنه يحاول أن يحجب عن نفسه صورة وجه ماسة التي تطارده.
ظل صامتا لبرهة، يتنفس بصعوبة، ثم تمتم بمرارة تشبه البكاء المكتوم محاولا اقناع نفسه "بس أنا مش هشارك معاهم، مليش دعوة هفضل بعيد، وهم يخلصوها مع بعض"
ترك الكلمات تتساقط من فمه كأنها اعتراف متأخر، ثم مد يده المرتجفة نحو السيجارة على الطاولة، أشعلها، وأطلق أول نفس منها كمن يحاول أن يخنق ضميره بالدخان.
على إتجاه آخر في غرفة صافيناز.
كانت صافيناز تمدد على الشازلونج، وابتسامة عريضة ترتسم على شفتيها، وعيناها تلمعان بشغف لا تخفيه.
أما عماد فوقف عند طاولة صغيرة، يعطي لها ظهره، يملأ كاسين خمر بعناية فائقة، وابتسامته تغطي وجهه، لم يفوت وضع حبة صغيرة في أحد الكاسين، حركها بخفة حتى ذابت، ثم استدار بخطوات مترنحة من الفرح كأنه يسبح في نصر خاص.
مد يده بالكأس وقال بهدوء متقن: اتفضلي كاس الشراكة الجديدة ياحبي.
أخذت منه الكاس بإبتسامة، اصطدم الكاسان ببعضهما بصوت خفيف، ثم رشفت رشفة صغيرة.
تساءل عماد وهو يحتسي ما في الكأس: مبسوطة؟!
مسحت شفتيها برفق بعد الرشفة، وهي تبتسم بسعادة: طبعا، أخيرا أكتر هم ورعب هينزاح من على قلبي، أنت متعرفش يا عماد ماسة دي مسببالي أرق قد إيه؟! إللي حصل تحت ده في صالحنا، الباشا لما يأمر بقتلها ويدخل اللعبة يبقى حماية وفرصة جديدة، لازم نمسك فيها، ونصلح علاقتنا معاه.
مال عماد للأمام مؤيدا: عندك حق يا حبيبتي، الباشا ده لعيب كبير، ووجوده معانا هيخلينا في مأمن، بس رشدي أنا حاسس إنه متغير، البنت إللي اسمها مي خطر علينا.
ضحكت صافيناز ضحكة قصيرة، وهزت رأسها بثقة: مي عمرها ما هتبقى تهديد لينا، بالعكس مي خطر على رشدي نفسه، فلازم دايما يفضل حاسس بالخوف من إنها تعرف حاجه وتسيبه، وقتها هيدوس على أي حد يعترض طريقه.
ثم تابعت وهي تنظر لعماد بيقين: رشدي طول عمره بتاع مصلحته، أنا والطوفان، ايه يا حبيبي أنت ناسي لما الموضوع بتاعنا اتعرف، وسليم خد مني النسبة بتاعتي، عمل إيه؟ قالي أنا مليش دعوة، أنا مش هحاسب على مشاريب مشربتهاش.
صمتت لحظة، نظرتها غامقة كأنها ترى المشهد في خيالها، ثم تابعت بنبرةٍ أكثر برودا: حتى لو كان متردد دلوقتي، فتردده دى هيكون مؤقت، وبمجرد ما يحس إن ماسة خطر عليه، هو بإيده هيدبحها من غير مايتحرك له جفن، أنا عارفة أخويا كويس.
ابتسم عماد ابتسامة منتصرة وهو يرفع كاسه: أهم حاجة دلوقتي نحتفل، أنا سعيد إن إحنا فعلا داخلين في الخطة الجديدة مش بس عشان نخلص من ماسة، بس كمان إن الباشا بنفسه شاركنا دي حاجة كبيرة.
💞_________________بقلمي_ليلةعادل
مكتب الطبيب النفسي، الثالثة صباحا.
جلس الطبيب خلف مكتبه، ظهره مستند إلى المقعد، وعيناه تتحركان كأنه يراقب تحركات أحد أمامه، بينما يدون ملاحظاته بهدوء اعتاده منذ زمن.
أمامه كان سليم يتحرك في الغرفة ذهابا وإيابا، خطواته غير متزنة، أنفاسه متقطعة، وجهه ممتقع وكأنه يقاتل داخله طوفانا من الغضب والخوف معا.
قال بصوت مرتجف يعلوه اللوم والغضب، وملامحه مشدودة كأن كل عضلة فيه بتصرخ: فضلت تقولي هتسامحك، لو اتغيرت وشافت فيك التغيرات..
توقف ونظر للطبيب وهو يرفع يده بعصبية في الهواء، وأشار بإصبعه كأنه يعيد تمثيل كلام الطبيب بنبرة ساخرة: قولتلي دي بتحبك، مستحيل تعمل كل إللي بتعمله ده وتكون بطلت تحبك، مجرد إنها تسيبك تقرب منها، وتخاف عليك، دي لوحدها علامة حب.
ضرب بقبضته على صدره، وصوته أرتجف أكتر: وأنا صدقتك، صدقت كل كلمة!
تحرك خطوة للأمام بعصبية، وصوته تعالى كأنه ينفجر بعد كتمان طويل قائلا بيأس: كنت فاكر إنها لسة بتحبني بس زعلانة شوية، وأنت أكدتلي إحساسي ده! وكبرت الأمل جوايا! وكل شوية تقولي أصبر يا سليم، هي محتاجة وقت يا سليم، أنت ماشي صح يا سليم.
مد ذراعيه في الهواء فجأة، وكأنه يطرد أوهامه، وواصل ببحة رجولية مقهورة: لحد ما فعلا صدقتك! ومش بس كده! لااااا
ضرب بكفه على المكتب بعنف فأرتج القلم الذي كان فوقه، وهو يميل بجسده للأمام تجاه الطبيب: فضلت تقولي فترة النسيان دي لصالحك، برافو عليك لإنك بتحكيلها كل حاجة، هتحبك وتحترمك أكتر.
كان الطبيب يُصغي إليه بصمتٍ، يراقب ملامحه ويدرس حالته، تاركًا له المجال ليُفرغ شحنة وجعه وغضبه دون مقاطعة.
رمقه سليم بنظر لازعة، وواصل وهو يتحدث من بين اسنانه بغضب قاسي من الألم الذى يشعر به: وهي أفتكرت كل الناس، كل الناس، إلا أنا ! عقلها رافض يفتكرني، هي خلاص بتكرهني ومش عايزاني في حياتها.
انتصب بجسده وهو ينظر للطبيب نظرة حادة بإتهام وعتاب: أنت كنت بتضحك عليا، طول الشهور إللي فات وأنت بتبيعلي الوهم، وأنا صدقتك! ووثقت فيك..
ثم أشاره باصباعه بتهديد وصاح ببحة رجولية:
أنا مش هسمحلك تلعب بيا وبمشاعري تاني، ده آخر يوم أجيلك فيه، آخر يوم!
استدار، وتحرك مسرعا نحو الباب، قبض على مقبضه بعصبية، كاد أن يفتح لكن أوقفه صوت الطبيب: بس هي رجعت حبتك تاني يا سليم زي الأول.
تجمد للحظة، رمش بعينيه، ثم استدار ببطء، قائلا بصوت مبحوحا يائس، يخرج من صدر مثقل بالوجع، وعينيه تترقرق بالدموع: بس مفتكرتنيش.
تحرك واقترب بخطوات بطيئة حتى وصل إلى المكتب، أستند بكفيه علي سطحه، وإنحنى بجسده نحو الطبيب، نظر في عينيه نظرة مكسورة، تكاد تفيض منها الدموع: شافت رشدي، افتكرته، وأنا؟ أنا مفكرتنيش؟
ارتجف صوته بعينين ذائغة: مجرد ما لمست إيده افتكرته، وأنا بعد كل إللي حصل بينا، مفتكرتش أي حاجة، مسحتني من عقلها ومن حياتها كلها، كأني مكنتش موجود فيها أصلا.
رفع الطبيب رأسه ببطء، صوته ظل ثابتا رغم توتر الجو وكأنه ييقظ فيه أمل قد أنطفئ: أنا مش حابب أشوف، أو أسمع منك نبرة اليأس دي، مش هقولك تاني إن هي رجعت تحبك من أول وجديد حتى لو مفتكرتش.
انتصب في جلسته قليلا، وضع قلمه جانبا، وأضاف بعقلانية: أنت بنفسك قولت إنها قالتلك إنها هتسامحك، وإنها بتديك العلاقة الخاصة بحب.
حرك يده بهدوء وكأنه يحاول تهدئته: وقولتلي إنها كانت بتحاول تبادر، بس خجلها كان مانعها، ووضحت ده، بإنك عاشرتها سنين، وعارفها أكتر من أي حد، فليه ماسك في حتة إنها مفتكرتكش؟
رفع سليم رأسه بعنف، عيناه تتقدان بالدموع والغضب معًا: أنت عايزني أفرح إن مراتي نسياني؟
ابتسم الطبيب ابتسامة صغيرة، ثم قال بصوت خافت مفسرا: أنا عايزك تفرح إن مراتك وهي بتفتكر الذكريات المؤلمة، مفتكرتكش وسطهم.
مد يده إلى الأمام قليلا، كأنه يشرح لوحة: هي مبتفتكرش لحظات فرح يا سليم، بتشوف مشانق وسجون وإيد بتطعنها وحد بيخنقها…
خفض صوته أكثر: بتشوف أشباح، شافت رشدي، شافت حركة منه خوفتها لكن عقلها مش قادر يحددها..
تنهد بعقلانية وأضاف وكأنه يفتح له أبواب مغلقة: عقلها بيرجع صور مشوهة ومؤذية، بس أنت مش فيها، وبالرغم من إنك كنت جزء من وجعها، وده إن دل علي شيء، فهو يدل إنك مش السبب الأساسي في خوفها ووجعها
ارتسمت على شفتي سليم نصف إبتسامة حزينة بيأس: مايمكن أنا المشنقة! والسجن! والإيد إللي بتخنقها!
جلس وكأنه يسقط كجثة هامدة وجهه أحمر، وصدره يعلو ويهبط بعنف وهو ينظر أمامه أضاف: أنا فعلا حاولت أخنقها قبل كده، حتى لو كنت مغيب، بس حاولت!
تنهد الطبيب ونهض من مكانه بهدوء، أقترب منه وجلس أمامه، صوته ظل متزنا رغم التوتر يحاول السيطرة على أضطراب سليم.
الطبيب يحاول اقناعه: مش هي أكدت أكتر من مرة إنه مش أنت.
أغلق سليم عينيه لحظة، كأنه يقاوم دموعه، ثم فتح عينيه قائلا بإعتراض: هي متعرفش حاجة، بقولك ماسة دي عاملة زي البيبى إللي ميعرفش أي حاجة أنا غيرتها وربتلها أنياب علشان تعرف تتعامل مع المجتمع وأحميها منه، بس نسيت أحميها من نفسي.
نظر للطبيب بنظرة مليئة بالمرارة والضجر بعينين غامت بسواد: وأنت عمال تقولي حبيتك تاني و هتسامحك، بس دي ماسة دلوقتي، في السن ده، هي دي شخصيتها.
ضحك ضحكة قصيرة موجوعة: أنا عارفها زمان، مهما كنت أوجعها كانت بتسامح، كنت أعمل إللي أعمله وتزعل كام ساعه، وبعدها تبقى في حضني وهي بتقولي "أوعدني ما توجعش قلبي تاني عشان أنت مش زيهم".
ركز النظر في ملامح الطبيب بيقين: يعني أنا لو كنت عملت إللي عملته ده في سنها ده، كانت هتسامح بعد يومين ثلاثة بالكتير.
ثم خفض صوته، كأنه يتحدث إلى نفسه: أنا عارف ماسة، عارفها أكتر ما هي عارفة نفسها.
نظر له بعينين غامت بسواد حزين وهو يجز على أسنانه: أنا مش عايز المسامحة من ماسة دي، عايزها من ماسة التانية، مسامحة ماسة دي متلزمنيش مش هي دي إللي اتوجعت، مش هي دي إللي كبرت وفهمت الصح، وبقت بتعرف تقول لا.
ظل الطبيب صامتا لبرهة، وهو يركز النظر في ملامحه، شعر أن سليم مضطربا بشدة ولابد أن يجعله يهدئ، فنهض من مقعده بهدوء، ثم تحرك نحو جانب الغرفة حيث توجد خزانة خشبية ذات أدراج كثيرة، فتح أحد الأدراج وسحب منه علبة صغيرة، ثم عاد وجلس أمام سليم من جديد، أخرج حبة دواء ومد يده بها نحوه ومعها كوب ماء، قائلا بهدوء: خد دي، هتهديك شوية.
رفع سليم نظره نحوه، صوته كان خافض لكنه حاد: أنا مش عايز أهدى بالحبوب، عايز أعرف أسيطر على نفسي بنفسي.
ابتسم الطبيب بخفة ووضع العلبة بجانبه على المكتب: زي ماتحب، أهي جمبك، لو حسيت إنك محتاجها..
ثم شبك أصابعه وقال بنبرة علمية فيها دفء: بص يا سليم، إحنا اتقدمنا خطوات كتير جدا، وخطوات قوية كمان، إللي ماسة بتشوفه في الصور الذهنية دي أنا مش عايزك تاخده بسلبية، بالعكس عايزك تاخده بصورة إيجابية، إن ماسة في عز كل المخاوف إللي عقلها بيعيدها، مبتشوفكش وسطهم.
أقترب الطبيب قليلا، ونظر في عيني سليم بثبات يحاول تثبيت المعنى: يعني حتى مع كل الصور المؤذية إللي بتشوفها، أنت مش موجود فيها برغم إنك وجعتها، أنا شايف إن السجن إللي شافته ده ممكن يكون رمز لفترة الست شهور إللي كانت فيها محبوسة بين خوفها ووجعها، أما ملامح رشدي إللي ظهرت، فده طبيعي جدا لإنه فعلا اتحرش بيها قبل كده، وده كان بداية كل الألم إللي بعدها.
توقف لحظة، يتنفس ببطء وكأنه يحلل: وعلشان عقلها بيحاول يربط بين الأحداث، فالعربية إللي بتتقلب ممكن ترمز للحادثة، والدم والسكينة رموز للطعنه اللي اتعرضت لها، أما الأشباح، فمش لازم تكون انعاكس لوجوه أشخاص، ساعات بيكون الخوف نفسه، واخد شكل حد، كأنه قرر يظهر عشان يفضل يطاردها، بس ده مش معناه إن كل ده حصل بالحرف، الصور دي رمزية أكتر من إنها واقعية.
تابع وهو يسند ظهره على الكرسي ويمسك بالقلم بين أصابعه، يديره ببطء: مش لازم كل صورة ذهنية ماسة بتشوفها يبقى ليها معنى واقعي حصل فعلا، المهم يا سليم إن هي مشافتكش لحد دلوقتي في الصور دي، بالعكس، بتتجاوب معاك عادي جدا في كل حاجة تخص الذاكرة الحالية.
رفع عينيه نحوه، وصوته بقى هادئ: وبعدين، أنت بنفسك قولتلي إن ماسة في شخصيتها دي كانت هادية، وطيبة، وبتسمع الكلام، بس خد بالك، هي مكانتش فكراك أول ما فتحت عينيها، سألتك أنت مين؟، ومع ذلك، لما اتعاملت معاك حبتك تاني، وهي بنفسها قالت إنها هتسامحك.
أقترب للأمام قليلا، كأنه يحاول إقناعه بلطف: بس لما ترجع لها الذاكرة، طبيعي مش كل كلمة قالتها هتفضل ثابتة، حتى لو مسامحتش، ده مش معناه إنها رفضاك، هي بس لسة مشافتش منك إللي يخليها تسامح، وده إللي إحنا شغالين عليه.
صمت لحظة ثم أكمل وهو يبتسم بخفة: بص يا سليم، جمال فترة النسيان دي إنها فرصة، تقدر تقول فيها؛ أنا كنت قادر محكيش، بس حكيت أنا أخترت أواجه معاها الحقيقة..
صمت للحظة وتساءل: أنت وصلت معاها لفين؟!
رفع سليم يده، مسح على جبينه مرورا بشعره، وقال بصوت مكبوت: الحادثة، وبعدها هي قالتلي متحكيش حاجة دلوقتي.
نظر الطبيب بإهتمام: وأنت خلاص قررت تحكيلها على الهروب؟
هز سليم راسه بإيجاب وكأنه حسم أمره، قال بنبرة مكتومة وهو يمسح على رقبته: أيوة، هحكيلها على كل حاجة، بس الهروب الأخير وإللي عملته معاها هأجله شوية أنا مش مستعد…
صمت لوهلة وهو يزفر بإختناق وحيرة: مش عارف، يمكن لو حسيت إن عندي الشجاعة، هكمل بس عموما، حتى لو محكيتش وقتها، وهي فضلت بعدها ناسية هحكيلها.
وجه له الطيب سؤال مفاجئا، كأنه يستشف ماذا سيفعل: وتفتكر، هتسامحك؟
قال سليم بصوت مبحوح وهو يضغط بإصبعه على صدغه: ماسة بتاعت دلوقتي طبعا هتسامحني، وهتقولي أنا أستاهل علشان هربت منك، أنا بس يا دكتور، خايف تكون هي أختارت النسيان علشان كرهتني.
رفع الطبيب نظره نحوه، تنفس بهدوء وقال بصوت واثق: إزاي كرهتك وحبيتك تاني؟ لو كانت كرهتك، وعقلها أختار ينسى عشان يبعد عنك، زي ما انت بتقول؟! كانت نسيتك ورفضتك كليا، كان جسمها هياخد رد فعل تلقائي رافض كل ما تقربلها، كانت شافتك في الصور المشوهه اللى بتجيلها، كانت لحظات قربكم رجعتلها ومضات من مواقفك السيئة معاها، بس هي معملتش كده يا سليم، بالعكس قربت منك، وارتاحت ليك، وحبتك من جديد.
تنهد سليم وقال بصوت مبحوح: كلامك حلو ومنطقي، بس أنا مش عارف ليه حاسس إن قلبي واجعني أووي وخايف ويائس.
ابتسم الطبيب ابتسامة صغيرة، وهي يحاول طمئنته: إحساس طبيعي، بس في الفترة الحالية أنت محتاج تصبر وتتمسك بالأمل.
نظر له يصمت للحظة، ثم تابع وهو يلوح بيديه وكأنه يشرح شيئا: بص يا سليم، أنا بدأت أشك إن عقل ماسة أختار ينسى كوسيلة يحمي نفسه بيها من الضغط والوجع إللي شافته من بعد الحادثة، هي مخدتش مهلة، كانت بتتنقل من الألم للثاني، كل حاجة كانت ورا بعضها، فالنسيان هنا دفاع، مش كره أوهروب منك.
رفع سليم عينه متأملا حديثه، وقال بصوت منخفض: نظريا كلامك حاسس إنه صح، بس هي ليه مبتفتكرش؟
ضيق الطبيب عينيه متسائلا: هي كدة بقالها ثمن أيام، مظبوط
هز سليم راسه بإيجاب: أيوة.
الطبيب وهو يحاول أن يوضح له بشكل علمي: تمام، بص فقدان الذاكرة المؤقت ملهوش مواعيد ثابتة، ممكن تفتكر بعد أسبوع، شهر أو حتى أكتر، إحنا بنحاول نحفز ذاكرتها، ونخلق جو يساعدها تفتكر، وتستدعي الصور، بس من غير ضغط، وده مش معنى ده إنها لازم تفتكر بسرعة.
تساءل سليم وهو يحرك أصابعه بتوتر: طب أرجعها القصر؟ يمكن تفتكر هناك؟
هز الطبيب راسه بإيجاب: رجعها القصر لو هي مرتاحة هناك، يمكن المكان يساعدها تستدعي الصور إللي كانت شايفاها، أسألها وشوف هي عايزة إيه.
أومأ سليم بإيجاب وهو يقول بخفوت: ماشي، طب أجيبهالك تطمن عليها.
هز الطبيب رأسه برفض قال بنبرة ارشادية: مفيش داعي تجيبهالي دلوقتي، لو هتيجي، هتحكي نفس التفاصيل، وأنا هقول نفس الكلام، خليها تهدى، ومتديش الموضوع حجم كبير، عشان متبقاش حساسة وتزعل، حاول تشغلها شوية، أعمل حاجة تفرحها ممكن كمان تبدأ تحكيلها باقي من بكره القصة بس خليك هادي، هي محتاجة الهدوء ده.
هز سليم رأسه: حاضر، شكرا يا دكتور وبعتذر عن طريقتي.
نهض وتحرك خطوات نحو الباب يستعد للمغادرة، لكن الطبيب ناداه بهدوء وهو يبتسم قائلا بتشجيع: أنا مبسوط منك يا سليم، إنك مخدتش الحباية، واتحكمت في غضبك الخارجي لوحدك.
ألتفت سليم نحوه بعينين متعبتين وقال بنبرة مكسورة: مش مهم الغضب الخارجي، المهم ارتاح من الغضب والوجع إللي هنا (وأشار إلى قلبه)
ابتسم الطبيب، وقال بصوت دافئ ملئ بالثقة: هتوصله يا سليم، وأنا متأكد.
أومأ سليم بصمت، ثم فتح الباب وغادر، بخطوات بطيئة كأن كل خطوة منها وجع جديد يحاول السيطرة عليه، والهدوء عاد إلى الغرفة كأنها تلتقط أنفاسها بعد عاصفة طويلة.
بعد أن غادر سليم عيادة الطبيب، لم يستطع التوجه مباشرة إلى الفيلا، كان بحاجة لأن يهدأ، أن يخفف الضجيج الذي كان يطرق رأسه بعنف، كأن نيرانا تلتهم داخله من كل جانب.
توجه نحو هضبة المقطم، كانت الساعة الخامسة فجرا.
وقف سليم ساكنا، محاطا بصمت يوازي صخب أفكاره، أخذ نفسا عميقا من هواء الفجر البارد، محاولا تهدئة أنفاسه المتقطعة وقلبه الذي يدق بعنف، كانت حركة الهواء حوله، ورائحة الفجر المنعشة، تمنحه بعض الهدوء المؤقت وسط العاصفة التي تعصف بداخله.
حاول أن يجد نقطة استقرار في فوضى مشاعره، أن يلمس شيئا من السلام الذي غاب عنه لوقت طويل، حاول أن يتريث قليلا، وأخذ يستعيد في ذهنه كلمات الطبيب، يحاول أن يقتنع بها قدر مايستطيع، حتى وإن لم ينجح تماما، إذ لم يكن بوسعه سوى الصبر.
ومع مرور الوقت، بدأت خيوط الشمس تنساب على وجهه بهدوء، فشعر بشيء من السكينة يتسلل إلى داخله، نعم، لم يقتنع بعد اقتناعا كاملا، لكنه استطاع على الأقل أن يسيطر على نيران قلبه، جمع شتات نفسه، واستقام في وقفته، ثم اتجه نحو المجموعة ليستأنف ما عليه من مهام.
💞_________________بقلمي_ليلةعادل
قصر الراوي.
غرفة فريدة السادسة صباحاً
كان إبراهيم واقفا عند النافذة المطلة على الحديقة، يستنشق نسيم الصباح النقي، بينما يمسك سيجارته في يد وفنجان القهوة في اليد الأخرى، مرت الدقائق بهدوء، ثم بدأت فريدة تتململ على الفراش، فتحت عينيها ببطء لتعتاد على ضوء الغرفة، ثم نهضت وهي تتثاءب، فلمحت إبراهيم يقف عند النافذة، حدقت فيه باستغراب، قبل أن تلتفت إلى الساعة الموضوعة على الكومود لتجدها السادسة صباحا.
نهضت من مكانها، وقالت بنعاس خفيف: بنجور سِفديم؟
التفت اليها بابتسامة صغيرة: صباح الخير.
اقتربت منه وهي تمسح على شعرها بإهمال: بتشرب قهوة وسجاير كده على الريق ليه؟ أنا خمس دقايق وهجهز عشان ننزل نفطر.
أمسك يدها برفق: استني يا فريدة، تعالي نفطر بره النهارده، بقالنا كتير مفطرناش سوا.
نظرت له باستغراب لطيف: خلاص ماشي، بس إنت شكلك فيك حاجة.
زفر أنفاسه ببطء وهو ينظر أمامه بشرود: لا، مفيش، بس يعني امبارح في الحفلة، ماخدتيش بالك الجو اتوتر أزاى أول ما سليم دخل بماسة؟
هزت رأسها بهدوء: عادي يعني، كلنا استغربنا، دى بقالها أكتر من 6 شهور مختفية، ومحدش يعرف عنها حاجة من يوم حفلة الانتخابات.
هز رأسه نافيا وهو يشعر بشيء غريب يتسلل داخله معترضا: مش عارف، أنا حاسس إنهم بيدبروا لحاجة، امبارح شوفتهم متجمعين في مكتب عزت باشا، معرفتش بيقولوا إيه بالظبط، بس أنا حاسس إن فيه حاجه غريبه بتحصل، بقولك إيه يا فريدة، أنا عايز أمشي من القصر، حاسس إن في حاجات جاية مش هتبقى كويسة خالص، والبنات بيكبروا، وبدأوا يفهموا، خلينا نبعد أحسن.
نظرت له بدهشة حذرة: في إيه يا إبراهيم؟ أول مرة أسمعك بتتكلم كده، سمعت إيه يعني؟
أزدادت نبرته حده لكن بقيت هادئه: قولتلك مسمعتش حاجة، بس اللي شوفته كفاية إنه يخليني أقلق، وبعدين إيه المشكلة لما نمشي؟ إحنا قاعدين هنا عشان الشكل الاجتماعي اللي فايزة هانم حابة تبينه للناس، لكن في الحقيقة، كله تمثيل.
ركز النظر في ملامحها وكأنه يحاول اقناعها: فكري في البنات بس يا فريدة، ده اللي يهم.
نظرت إليه طويلا، ثم تنهدت وهي تقول بهدوء متردد: خلاص يومين كده، وهفاتح الباشا والهانم في الموضوع.
مجموعة الراوى، التاسعة صباحا
مكتب ياسين
كان يجلس خلف مكتبه، رأسه مائل قليلا، يقرأ ملفا بنصف تركيز، عيناه تتحركان بين السطور، لكن فكره كان بعيد، امسك بهاتفه وقال بالاتصال على لوجين، لكن كانت الإجابة كسابقها " انتهاء الاتصال دون رد"
زفر بحدة ضجرة، تمتم لنفسه بصوت منخفض: راحت فين دى، ومبتردش ليه؟!
أغلق الهاتف بعصبية، زفر بقوة، وأعاد نظره للملف يحاول إرغام نفسه على التركيز فيه، وبعد دقائق، سمع طرق الباب، رفع رأسه بسرعة، وقال بنبرة حادة: اتفضل
دخلت لوجين بخطوات هادئة مترددة، تحمل ابتسامة زائفة تحاول أن تخفي بها انتفاخ عينيها واحمرارها
كانت نظراتها شاردة، كمن يدخل معركة وهو يعرف نهايتها.
رفع ياسين عينيه نحوها، ثم ألقى الملف على المكتب بتكاسل، لم يلحظ احمرار عينيها، فقال بنبرة مازحة متسائلا: اتأخرتي كدة ليه؟ خدتي على الدلع ولا إيه؟
حاولت الابتسام، لكن شفهاها ارتعشت، قالت بصوت خافت فيه ارتباك: أنا آسفة يا ياسين بيه.
مال برأسه، وهو يضيق عينيه، صوته بدأ يقل فيه المزاح ويزيد فيه القلق: مالك؟
هزت رأسها بسرعة وهي تتهرب من نظرته: مفيش، أنا تمام.
نظر لها بتعجب، وعقد حاجبيه بتصميم: لا فيه.
أشاحت بوجهها وهي تحاول الثبات: قولتلك مفيش.
دقق ياسين النظر في ملامحها مستغربا، حاجباه انعقدا وهو يقول بنصف مزاح: أنتِ مالك غلسة كدة ليه النهاردة؟
ركز النظر فيها، وبدأ المزاح يتلاشى من صوته، فأخيرا انتبه لبهتان ملامحها، فتساءل بنبرة قلقة: مالك يا لوجين؟ وشك وعينك عاملين كدة ليه؟ أنتِ معيطة؟
ابتعلت غصتها، ونظرت له وهي مازالت تحاول التمسك ببقايا قوة كاذبة، مدت يدها المرتعشه بورقة: أتفضل.
مد ياسين يده وأخذها منها وهو ينظر لوجهها بتعجب، فتح الورقة يقرأ ما فيها، وسرعاه ما تجمدت ملامحه، وارتفع حاجبيه بدهشه متسائلا: إيه دي؟
لوجين بهدوء ظاهري وصوت مهزوز: استقالتي.
وقف متعجبا بشدة، وتساءل وهو يتك على الكلمة: استقالتك؟! ليه يا بنتي؟!
لوجين بجدية: مفيش أسباب محددة، بس أنا قررت مكملش.
تحرك من مكانه ووقف أمامها يحدق فيها كأنه يحاول فهم ما حدث معها: في إيه إللي حصل؟
قالت بنبرة مهتزة وهي تحاول ألا تنظر له: ولا حاجة، أنا مش حابة أكمل في الشغل.
رفعت عينيها نحوه، وحاولت اخفاء ارتباكها بإبتسامة صغيرة، وقالت بخفة مصطنعة: هفتح بيزنس خاص بيا.
رفع حاجبه، وصوته فيه مزيج من الدهشة بعدم تصدق: فجأة كدة؟
ضحكت ضحكة قصيرة مكسورة: آه، أنت عارفني مجنونة، وأي فكرة بتيجي في دماغي بنفذها علطول.
ابتسم بسخرية، وقال معارضا بيقين: لأ، إللي أنا عارفه كويس، إنك بتفكري كويس وبتستشيري قبل ماتعملي حاجه كبيرة زى دى، في إيه يا لوجين مالك؟!
رفعت نظرها له بثبات مصطنع، ثم قالت بحدة خافتة: مش لازم أبررلك، أنا حرة.
رد بسرعة وهو يلوح بيده: لأ، مش حرة.
رفعت عينها بعيدا: لأ، حرة!
قاطعها ببحة وحسم: لأ، مش حرة!
أدارت وجهها بعيدا عنه، عضت على شفتها الأمامية لتكتم انفعالها، ثم إلتفتت إليه بعينين لامعتين وقالت بحدة: أنت عارف كويس أنا ليه عايزة أمشي، متستعبطش...
صمتت لحظة وكأنها تحاول أن تجمع ما تريد أن تقوله، ارتجفت شفتيها، وخانتها ملامحها كما خانتها دموعها ونبرة صوتها: أنا كنت بتعامل معاك عادي، من غير أي نوايا سيئة، زي أي صديق يمكن كنت بقول عليك مختلف بحكم قربنا لبعض،وإن إحنا متفاهمين فكريا، وحتى الحاجات إللي مش بنتفق فيها بنعرف نتكلم مع بعض فيها، لينا لغة حوار وفيه بينا تفاهم واحترام وحاجات كثير حلوة بنتشارك فيها..
صمتت للحظة اهتز صوتها، وقالت بأنين، وغضب من نفسها: بس امبارح لما شوفتك بتتصور مع مراتك، وأنت واخدها في حضنك، ولما رقصتوا سوا حسيت بوجع هنا..
وضعت يديها على قلبها وواصلت: وجع وضيق غريب، مش من حقي احسه، وقتها فهمت، فهمت إن في مشاعر أنا مينفعش أحس بيها...
اقترب منها خطوة، أمسك يدها وهو ينظر داخل عينيها، نبرة صوته لانت فجأة، قائلا بإبتسامة: ليه مينفعش؟ أنا كمان حاسس بيها، أنا كمان في مشاعر جوايا.
هزت لوجين رأسها بسرعة ورفض: لا..
شهقت بخفوت، وسحبت يديها بعنف من بين يديه، عينيها تتسع كأنها اتلسعت: لأ، يا ياسين!
نظر لها باستغراب: لا ليه؟!
اجابته بصوت خرج مبحوح ومختنق بالبكاء: لان الاحساس محرم علينا، ولو استمريت فيه، أبقى ست خاينة مش كويسة! وأنا مستحيل أقبل ده على نفسي!
رفع صوته بإنفعال وهو يلوح بيديه: خيانة إيه؟!
أنا وهبة خلاص بنتطلق! وأنتِ عارفة ده من أول يوم اتعرفنا فيه، وجودها إمبارح كان شكلي بس، احترمتها قدام بنتي، مش أكتر! لما رقصت معاها، وتصورت كنت مضطر، وبعدين هي بنفسها إمبارح قالتلي إمتى هنتطلق؟ قولتلها أصبري تخلص الخطوبة ويومين كدة ونتطلق.
هزت رأسها بضجر وصرخت فيه وهي تدمع: تطلقها أو لأ، ده مش موضوعي المهم تبقى بعيد عني، أنا مش هكون سبب خراب بيت.!
حاول تهدئتها: خراب إيه بس؟ أنا وهي خلاص، كنا بنحاول، بس فشلنا...
ثم تنهد قالا بهدوء: لوجين أسمعيني بس...
هزت راسها بعند وقالت بحسم وهي تلوح في وجه:
لأ، اسمعني أنت.
واصلت بنبرة قوية رغم رعشة صوتها، وعيناها تلمع بالوجع والشعور بالذنب: أنا بوظت حياتك من غير قصد! شوشت دماغك، خليتك مش عارف تاخد قرارك! لأن حتى وأنت واخد أجازة تفكر، علشان ترجع علاقتك بيها، أنا كنت موجودة! كنت السبب إنك متشوفش الحقيقة ومتعرفش تاخد القرار الصح.
ضيق عينه وهو ينظر لها متعجبا: إيه إللي بتقوليه ده؟!
نظرت له بحسم بعين حادة: بقول الحقيقة.
هز رأسه رافضا، وقال ببحة رجولية حاسمة: لا مش هي دي الحقيقة، الحقيقة إن أنا بح...
اتسعت عينيها مدت كفها بسرعة ووضعته على شفتيه وهي تبكي: أوعى تقولها، الكلمة دي مش من حقك ولا من حقي...
نظرت داخل عينيه بثبات موجوع: أنت راجل متجوز، دبلتك لسة في إيدك، يبقى اسمها خيانة أوعى تقولها.
اتسعت عينه وهو يقول بعناد: لأ، هقولها!
صاحت به بغضب موجوعه: لا مش هتقولها.
أنفجر بها فجأة، بصوت مبحوح ومليء بالبأس: أنا بحبك يا لوجين! بحبك.
صرخت بوجع ودموع تنهمر من عينيها: أنت محبتنيش يا ياسين! أنت حبيت إللي أنا بديهولك، حبيت الاهتمام إللي كنت مفتقده، حبيت الحنية والونس، حبيت الإحساس إللي كان ناقصك! محبتنيش أنا، ده مش حب، ده هروب!
وقفت مستقيمة، مسحت دموعها بسرعة وهي تحاول السيطرة على نفسها: من فضلك، خلينا نوقف هنا، كان ممكن مجيش النهاردة، بس جيت عشان أقولك وجها لوجه، أنا خلصت كلامي وقراري نهائي، سواء قبلت الاستقالة أو رفضتها
ياسين بألم بعينين تلمع بدموع: ليه بتصعبيها كده؟ ليه؟
نظرت للفراغ، بوجع يعصف بقلبها وهي تقول بنبرة مليئة بالحسرة: علشان الحب ده غلط! حب حرام، وعيب، ومش من حقنا.
نظرت داخل عينيه وهي تقول بنبرة مليئة بالأنين لكنها عقلانية: الحب ممكن ييجي من غير اختيار، بس الاستمرارنا فيه اختيار، وأنا أخترت أبعد، أنا مش هبقى السبب إنك تسيب مراتك ولا بنتك، سواء هتكمل معاها أو هتطلقها، ده مش موضوعي، إللي حصل غلط، وأنا بصححه.
قالت جملتها الأخيرة وابتعدت بسرعة، تحاول أن تخفي دموعها، خرج ياسين خلفها بخطوات متسارعة، صوته يلاحقها: لوجين! استني!
في الممر.
كانت تركض لوجين والدموع تملأ وجهها، شعرها متطاير، وأنفاسها متقطعه، وياسين يهرول خلفها لكن قبل أن يصل، أوقفه سليم الذى كان يتحرك في الممر بملامح مستغربة لما يحدث أمامه.
وقف أمامه، ومد يده وأمسك بذراع ياسين بعنف: في إيه يا ياسين؟ بتجري وراها ليه؟! البنت بتعيط!
نظر له بعيون متوترة، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، دون رد، ظل ينظران بعضهما بصمت لثواني، حتي تنهد سليم بصوت مبحوح وهو يشير ناحية المكتب: تعالى معايا جوه.
وبالفعل تحرك ياسين مع سليم ودخل المكتب، وأنغلق الباب خلفهما.
مكتب سليم.
جلس ياسين في زاوية المقعد، جسده مائل للأمام، مرفقيه على ركبتيه، ينظر إلى الأرض في صمت ثقيل، بينما اتكأ سليم إلى الخلف، يراقبه بعينين فاحصتين، يقرأ ملامحه قبل أن ينطق.
سليم بهدوء متزن: في إيه بقى؟ مالها لوجين؟
ياسين بصوت مبحوح، دون أن يرفع نظره: استقالت.
ضيق سليم عينيه قليلا، قائلا بنبرة واثقة هادئة: مش هي دي الإجابة إللي أنا منتظرها منك.
ظل ياسين صامتا للحظات، ثم رفع نظره نحوه بتردد: حبيتها يا سليم، وهي كمان، إزاي وليه وإمتى؟ معرفش.
ارتسمت على شفتيه إبتسامة صغيرة أضاف: بس كل إللي أنا عارفه إني كنت سعيد معاها، سعادة غابت عني بقالها سنين.
عدل سليم جلسته بانتباه، وصوته بقى جاد: وبعدين؟
ذم ياسين شفتيه وارتسمت ابتسامة جانبية مكسورة: قالتلي مش هينفع، وإن إحنا كده خاينين، وإن المشاعر دي مينفعش نحسها وإنتهى الموضوع في لحظة، امبارح فهمت، والنهاردة جات تنهي الحكاية كلها...
تنهد بتعب مضيفا: ولما قولتلها إني كمان بحبها رفضت، شايفة إني محبتهاش، وإني بس حبيت الإحساس إللي بتدهولي لإني كنت مفتقده.
صمت سليم لحظة، ثم تمتم بعقلانية: عندها حق.
رفع ياسين نظره له، صوته خرج حاد: هو إيه إللي عندها يا سليم؟ هو أنا عيل صغير مش عارف أحدد مشاعري؟!
نظر له سليم طويلا، قبل أن يتنهد ويقول بنبرة هادئة لكنها حازمة، فيها دفء الصديق وصدق الأخ الكبير: بص يا ياسين، أنت وهبة كنتوا بتحبوا بعض، والحب إللي بينكم كان كبير، يمكن ضاع شوية في الزحمة، وتاه وسط الوجع، بس أنا متأكد إنه لسة جواك، بس علشان تلاقيه، لازم تدور عليه صح، وأنت مش هتدور صح، إلا لما تبطل تملى الفراغ إللي جواك بشخص تاني.
نظر له ياسين معترضا بحدة: بس مش ده إللي حصل.
أخذ سليم نفسا عميقا، وشبك أصابعه أمامه، ثم قال بصوت هادئ يحمل ثقل المتأمل الذي يرى الصورة من أعلى: لوجين دخلت حياتك في وقت كنت محتاج فيه الاهتمام، والهدوء، إللي كان ناقصك، يمكن إللي حسيته ناحيتها مش حب، يمكن كان احتياج، مشاعر مش حقيقية بالكامل، وده مش لإنك كداب، لكن لإنك كنت محتاجها، مشاعر طيبة أخدتها منها من غير ما تاخد بالك، كانت مشاعر مريحة بس مش حقيقية، هي أدتك حاجات كنت بتدور عليها، بس مش حب جديد.
أدار ياسين وجهه بعيدا، قائلا بإصرار: لأ يا سليم، أنا بحبها، أنا أول مرة أفهم يعني إيه إحساس حقيقي،
يمكن أنا محبتش هبة أصلا.
رفع سليم حاجبيه بدهشة: بتقول إيه يا ياسين؟!
نظر له ياسين داخل عينه بتوضيح مؤلم: بقول الحقيقة، أنا كنت صغير لما اتجوزت هبة، كان عندي 22، وكنت في قمة تهوري، ساعتها كنت فاكر نفسي عرفت الحب، بس مكنتش فاهم، دلوقتي فاهم، وبعدين هي كمان موافقة، هي كمان عايزة تسيب.
سليم بعقلانية: بس ده ميمنعش إنك تحاول تاني.
هز ياسين رأسه بيأس، وصوته ارتفع قليلا: حاولت يا سليم! والله حاولت هي إللي مش بتحاول، أنا كنت بحافظ على بيتنا، وهي كانت بتهده، ليه أتمسك بعلاقة الطرف التاني مش متمسك بيها؟ إمبارح في الخطوبة قالتلي خلص، دي كلمة ست بايعة، ولو ده كبرياء، يبقى برضه العلاقة فاشلة، لإن مفيش كبرياء بين زوج وزوجة! أنا مبقتش سعيد ولا مرتاح معاها.
صمت سليم قليلا، وعيناه تحدقان في وجه شقيقه الذي بدا كمن يغلي وجعا من الداخل، تنهد بعمق، ثم مال نحوه وقال بصوت رقيق يحمل مزيجا من الحنان والحكمة: يا ياسين، الحب مش دايما بيخلص لما بنفتكر إنه خلص، ساعات بيتخنق، بيتدفن تحت طبقات الزعل والخذلان والسكوت، بس لما حد فينا يفتح باب الحقيقة، بيرجع يطل تاني، حتى لو إحنا مش مستعدين نشوفه، يمكن إللي بينك وبين هبة مماتش، هو بس محتاج نفس، محتاج فرصة حقيقية من غير تشويش، بعيد عن أي مؤثرات، فكر تاني يا ياسين، هبة تستاهل محاولة، ومتقوليش إنك اكتشفت إنك محبتهاش، الحب مش بيتقاس كده.
عدل جلسته نظر داخل عينيه وأضاف بنبرة أكثر حكمة كأنه يحاول اقناعه: بص يا ياسين، أنا فهمت إن تغيرات هبة، بسبب إنها مش متقبلة شغلنا القديم، وده من حقها، حاول تطمنها إنك بعدت عن الشغل ده وإن إحنا بطلناه فعلا، وقتها تعرفوا تفكروا صح، لإن هي دي مشكلتها..
هز ياسين رأسه بياس وهو يضحك بغلب: أنت طيب والله يا سليم، بس حاضر هعمل كدة، علشان أوريك إنك غلطان...
ثم نظر له وتساءل بحيرة: طب أعمل إيه دلوقتي؟
رد سليم بهدوء وعقلانية: أعمل الصح، تبعد عن أي ضغوط أو دوشة، تاخد بعضك وتسافر يومين تلاتة، تفكر في علاقتك بيها من غير تشويش، ولو حسيت إنك فعلا مش قادر تكمل، يبقى خلاص، بس لو اشتقتلها وحسيت إنك ضايع من غيرها، أرجعلها من غير تردد.
تساءل ياسين بضجر: طب ولو صممت على الطلاق.
ابتسم سليم: جرب مرة وأتنين وتلاتة.
رفع ياسين حاجبه وتساءل بصوت خافت: طب ولوجين؟
تنهد سليم، وقال بحسم: لوجين إيه؟ دلوقتي تفكر في هبة في الشخص إللي المفروض كان تفكيرك يكون فيه من البداية، أنت كنت غرقان في المشاعر الجميلة إللي لوجين بتدهالك، لكن اليومين الجايين هيفرقوا معاك وساعتها فعلا هتعرف تاخد قرارك.
هز ياسين رأسه بإيجاب، وقال بصوت هادي ومستسلم: هعمل كدة، يمكن يكون عندك حق.
ثم رفع عينيه فجأة وتساءل بإبتسامة باهتة: بس مقولتليش ماسة كان مالها إمبارح؟ شكلها كانت تعبانة.
حك سليم شعره، وقال وهو يحاول تغير الموضوع: آه، تعبانة شوية.
نظر له ياسين بشك: بتخبي عليا أنا كمان؟
ضحك سليم بخفة، وهو يربت على ركبة ياسين: يا سيدي مش بخبي، بس فعلا هي تعبانة شوية، قوم بقى خدلك أجازة يومين تلاتة، أبعد شوية وهدي دماغك.
نظر له ياسين نظرة إمتنان صامتة،ثم وقف ببطء وقال بهدوء: ماشي يا سليم.
هز سليم رأسه مؤكدا، بإبتسامة أخوية دافئة: يلا يا ابني، قوم أنت اجازه من اللحظه دي.
ابتسم ياسين ابتسامة خافتة، كأنها مزيج من وجع وامتنان، ثم نهض من مكانه ببطء، وتحرك نحو الباب بخطوات متثاقلة، وكأن كل خطوة تحمل ماتبقى من حيرته، وقف لحظة عند العتبة، ألقى نظرة سريعة على سليم، كأنه يود أن يقول شيئا، لكنه أكتفى بالصمت.
خرج من المكتب، وأغلق الباب خلفه بهدوء، فيما ظل الصمت معلقا في الجو، صمت يعرف أن ما حدث لم يكن نهاية القصة، بل بدايتها الحقيقية.
💞_________________بقلمي_ليلةعادل
الكافيه الرابعة مساء
جلس رشدي على الطاولة القريبة من الزجاج، يحرك فنجان القهوة بإصبعه بملل ظاهر، ويقلب في هاتفه بلا اهتمام، ثم أطلق تنهيدة طويلة امتزجت بالضجر، مرت بجانبه مجموعة من الفتيات، فرفع رأسه بابتسامة خفيفة فيها شيء من المغازلة، ألقى عليهن نظرة سريعة، ثم عاد لهاتفه وكأنه لم يفعل شيئا.
بعد لحظات، دخلت مي الكافيه بخطوات واثقة، ترتدي فستانا بسيطا بلون هادئ، تحمل في عينيها تلك الطمأنينة التي تضيء المكان، وبمجرد أن رآها رشدي، نهض فورا وفتح ذراعيه بإبتسامة واسعة: خطيبتي الحلوة! شوفي وشك نور وبقيتي حلوة إزاي بعد ما اتخطبنا؟
ضحكت مي وهي تقترب منه: نرجسي أوي.
رشدي وهو يغمز لها: حقي.
جلسا معا، وتساءل بنغمة مرحة: عاملة إيه بقى؟ وإيه إحساسك كده بعد خطوبتنا؟
اومأت مي بهدوء: الحمد لله.
رفع حاجبه بتململ ساخر وهو يتكئ على الكرسي: مش هي دي الإجابة إللي أنا عايزها؟ ما أنا عارف إنك الحمد لله، أنا عايز أعرف إحساسك بقى، قلبك بيقول إيه؟
ضحكت بخفة وهي تعود بظهرها للخلف: مش عارفة، عادي يعني.
فتح فمه بدهشة مصطنعة، ثم مال ناحيتها مازحا: عادي؟! يا مشمش مبنقولش كده! أكذبي عليا حتى، قولي مبسوطة، طايرة، عايزة تتدلعي!
ضحكت بخفة: أكذب عليك ليه؟ أكيد شعور حلو يعني.
رن هاتفها، فاعتدلت في جلستها: استنى، هرد على بابا.
أومأ رشدي وهو يبتسم بمودة: ماشي، هطلبلك آيس كريم، على ما تخلصي.
هزت رأسها بالموافقة وابتسمت قبل أن تضع الهاتف على أذنها: أيوه يا بابا.
رفع رشدي يده للنادل، فاتي اليه وطلب لها أيس كريم وهو يتابعها بعينيه، لم تستطع مي سماع صوت والدها جيدا يبدو أن الشبكه سيئه في المكان فاتجهت للخارج، وبينما كانت مي منشغله بالحديث مع والدها، مرت بجانبه فتاة فاتنة الجمال، عطرها سبقها بخطوة، وجسدها الأنثوي شد عينيه دون وعي، فمال برأسه قليلا يتابعها بنظرة خاطفة، لكنها طالت أكثر مما ينبغي.
لمحت مي نظراته بعينهيا الحادة، فرفعت حاجبها ببطء، وعيناها تلاحقان نظراته، ظل رشدي غارقا للحظة حتى اختفت الفتاة عن الأنظار، عندها أنهت مي مكالمتها بهدوء، وذهبت إليها بخطوات غاضبه، وجاءت من خلفه وهي تقول بصوت منخفض حاد فيه غضب مكبوت: إيه يا حبيبي؟ عاجباك؟ أجيبلك رقمها؟ ولا أسيبك تتفاهم معاها بنفسك؟
انتفض رشدي في مكانه، نظر حوله كمن ضبط متلبسا: هي مين دي؟
رفعت حاجبها وقالت بحدة: أنت هتستعبط؟
رفع يديه مستسلما، وابتسامة ألتوت على وجهه: لا يا مشمش، متظلمينيش، دي نظرة أخوية بريئه والله!
نظرت له بسخرية وهر تجلس: آه طبعا، نظرة أخوكية في الله!
ضحك بخفة وهو يحك مؤخرة رأسه: خلاص، اعتبريها نظرة غباوة لحظية.
نظرت له بضجر محاولة كتم ضحكتها، لكنها فشلت فضحكت بخفة: ماشي يا رشدى هعديها المرة دى، بس المرة الجاية لما تيجي تبص، خليك أذكى شوية على الأقل.
ضحك بصوت عالي، وأشار لها بإصبعه: حاضر يا ست الذكاء كله، بس أوعديني إنك المرة الجاية تبصي معايا، ونعمل لجنة تحكيم ونقيم سوا.
ضحكت وهي تهز رأسها بيأس لطيف: والله إنك عيل يا رشدي.
أجابها بابتسامة وغزل: وأنا عاجبني إني ابقي عيل طول ما ضحكتك دي معايا.
ابتسمت بخجل، واحضر النادل الآيس كريم، ووضعه أمامهما، فاستغل رشدي اللحظة ليغير دفة الحديث، فمال للأمام قليلا ويقول بنبرة جادة: صحيح المناقصة إللي أنا شغال عليها ميعادها آخر الشهر، فأنا يعني مش هعرف أبقى معاكي الفترة الجاية لأسف، عشان محتاجه تركيز وشغل كتير.
رفعت نظرها نحوه بتشجيع: ولا يهمك أهم حاجة تكسبها، أنا واثقة فيك.
نظرة لها بعيون تلمع بامتنان صامت على دعمها المتواصل له.
منزل مصطفى الرابعة مساء
جلست نبيلة إلى جوار مصطفى وإيهاب يتناولون الطعام في صمت روتيني، بينما تجلس عائشة على الأريكة المقابلة، منشغلة بهاتفها، وعيناها تتنقلان بين شاشة التلفاز وصور متتابعة على الفيسبوك.
وفجأة ارتفع صوتها بدهشة: ألحقوا يا جماعة ده رشدي خطب!
رفع مصطفى رأسه متسائلا، وهو يضع الملعقة في الطبق: رشدي مين؟
عائشة وهي لا تزال تنظر في الهاتف: رشدي يا مصطفى رشدي!
ضحك إيهاب وهو يشير لها بيده: وأنتِ المفروض لما تقوليلنا كدة نعرفه؟
عائشة وهي تقلب وجهها بملل: رشدي الراوي.
تبادلت العائلة النظرات في لحظة قصيرة، قبل أن تقول نبيلة بهدوء وهي ترفع كوب الماء: طب وإحنا مالنا؟
عائشة، دون أن ترفع نظرها: عادي يعني، الصور منتشرة في كل حتة، دي عروسته حلوة أوي…
صمتت لحظة، ثم عقدت حاجبيها فجأة وهي تقرب الهاتف من وجهها: استنوا كده دي ماسة! كمان حضرت، وجنب سليم!
رفعت نبيلة حاجبها بدهشة: طبيعي تحضر، مش أخو جوزها؟
عائشة بفضول: بس شكلها مبسوطة، وبتضحك كده من قلبها.
مد إيهاب يده من على الطاولة: وريني كده.
أعطته الهاتف، فبدأ يقلب في الصور بتركيز صامت،
كانت هناك أكثر من صورة لـماسة بجانب سليم في أوضاع مختلفة، تضحك في واحدة، تلتفت نحوه في أخرى، ووجهها مليء بالحياة.
تجمدت نظراته قليلا شعر بوخزة غيرة خفيفة في صدره، لكنه حاول أن يخفيها.
اقترب مصطفى ومد يده يأخذ الهاتف منه، نظر إلى الشاشة بتمعن وقال بنبرة مستغربة: إيه الصور الغريبة دي؟
نهضت نبيلة من مكانها وهي تبتلع آخر لقمة: غريبة ليه مالها الصور؟ وريني كدة.
أمسكت الهاتف من يده، قلبت فيه لحظة، ثم ابتسمت بخفة تحمل شيئا من التهكم: والله ما عارفة أنتم مستغربين ليه؟ يعني واحدة فرحانه وجوزها جمبها ايه الغريب في كده !! مش كنتوا خايفين عليها؟ أهي واقفة جنب جوزها وبتضحك وكويسه أهي، ياريت تهدوا وتشيلوها من دماغكم بقي.
نظر إليها مصطفى وهو يضغط فكه بتوتر خفيف: مش عارف ليه، حاسس إن في حاجة !؟
نبيلة وهي تلوح بيدها: لا حاجه ولا محتاجه، البنت كويسة، واتصالحت مع جوزها وخلاص، سيبوا الناس في حالها، ملكوش دعوة، أطلعوا منها.
مصطفي بهدوء وكأنه يقنع نفسه قبلهم: تمام ده إللي أنا عايزه، إنها تبقى كويسة، وتخرج من إللي كانت فيه، بس يا رب تكون فعلا كويسة، مش عاملة كده علشان متهددة.