رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الرابع عشر 14 ج 2 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الرابع عشر 14 ج 2 
بقلم ليله عادل



رفعت عائشة رأسها من الهاتف وقالت بثقة وهي تشير إلى الشاشة: على فكرة يا مصطفى، لو متهددة، اعتقد مكانتش هتحضر الفرح، ولا هتتصور بالابتسامة دي، بص ليها كذا صورة، وكلهم بتضحك فيهم.

أخذ مصطفى الهاتف، ونظر إلى الصور مرة أخيرة، ثم قال بنبرة أكثر هدوءا: يبقي ماما عندها حق، ربنا يسعدهم.

أضاف إيهاب مبتسما بتوتر: وأنا كمان شايف كده، أهم حاجة إنها بخير، يلا بقى نركز إحنا في حياتنا.

أومأ مصطفى برأسه موافقا، واتجه نحو البلكونة، وقف هناك للحظة، يضع يديه في جيبيه، ينظر إلى البحر الممتد أمامه في صمت كأنه يحاول أن يصدق أن ماسة بخير فعلا.

فيلا ماسةوسليم، الخامسة مساء

دخل سليم الفيلا بابتسامة مريحة نوعا ما، كأن شيئا من الهدوء عاد إلى ملامحه بعد ليل طويل من التوتر، فهو لم يعد إلي المنزل منذ أن غادره في منتصف الليل.

استقبلته سحر عند المدخل وهي تأخذ منه معطفه قائلة بود: حمد لله على السلامة يا سليم بيه.

ابتسم لها بتهذب: الله يسلمك يا سحر، ماسة فين؟

أجابته بنبرة حزينة: مخرجتش من أوضتها من الصبح، ولا أكلت ولا شربت، وشكلها زعلانة.

تساءل وهو ينظر اليها بإستغراب امتزج بالقلق: ليه؟ إيه إللي حصل؟

رفعت كتفيها بعدم معرفة: معرفش يا بيه، الصبح لما استعوقتها، طلعتلها لقيتها قاعدة على السرير، وقالتلي لا عايزة آكل ولا أشرب.

أشار لها، وهو يغادر: طب حضري الغدا، أنا هطلعلها.

صعد الدرج بخطوات متعجلة، فتح باب الغرفة بهدوء، فوجدها كما وصفتها سحر، جالسة  في منتصف الفراش، قدماها مطويتان نحو صدرها، رأسها مائل إلى الأمام، عيناها غارقتان في شرود حزين.

وقف للحظة يراقبها بصمت، ثم تقدم وجلس أمامها، صوته خرج خافتا، فيه مزيج من الدفء والقلق: مالك يا ماسة؟ سحر قالتلي إنك منزلتيش ولا أكلتي حاجة.

لم تجبه، فقط رفعت رأسها ببطء، ونظرت إليه نظرة قصيرة، ثم أشاحت وجهها للجانب الآخر كأنها تخفي وجعا.

مد يده برفق تحت ذقنها، ليجعلها تنظر إليه، وقال بنغمة حنونة قلقة: بصيلي يا حبيبتي، في إيه؟ زعلانة مني؟

لم تحتمل نبرته، ارتعشت شفتاها وقالت بصوت مبحوح من البكاء المكتوم: إمبارح منمتش جنبي، وشخط فيا، كنت فاكراك زعلان مني.

ظل ينظر إليها، عينيه تميلان بين الحنان والندم، ثم زفر بخفة ومسح على شعرها بيده: لا يا روحي، مكنتش زعلان منك، بس كان عندى مشكلة وكنت متضايق شوية، ومحتاج أهدى وأنتِ كنت مصممة تقعدي معايا.

ماسة ببراءة حزينة: يعني مش زعلان علشان مسمعتش كلامك في الحفلة؟

مد يده ليمسح على شعرها بحنان، وهو يبتسم بخفة: لا يا روحي، أنا مقدرش أزعل منك.

رفعت حاجبها فجأة بنغمة طفولية حادة: يعني شخطت فيا وقلبت وشك عليا؟ علشان عندك مشكلة بس؟

هز رأسه بأسف: أممم، آسف يا ماستي الحلوة حقك عليا.

نزعت يدها من يده بعنف، وقالت وهي تعبس بتزمر طفولي: آني زعلانة منك ومش هكلمك 3 أيام!

ابتسم بلطف يحمل استسلاما: لااا، مقدرش أستحمل 3 أيام كدة.

ألتفتت وأعطته ظهرها بعناد طفولي، والدموع بدأت تلمع في عينيها: لا هتقدر، زي ماقدرت تزعقلي وتسيبني أعيط طول الليل! وأنام لوحدي 

ابتسم بمكر ناعم، ثم أمسك جانبه فجأة متظاهرا بالألم: آه يا جنبي، وجعني أوي.

استدارت نحوه بسرعة، تتساءل بلهفه وقلق: مالك يا سليم؟! إيه إللي وجعك؟

ضحك بخفة، وفاجأها حين جذبها نحوه وضمها بشدة حتى ألتصق صدريهما.

ضربته بخفة على صدره: أوعى! أنت بتكدب عليا يا سليم! معتدش هنصدقك تاني أوعى

ضحك وهو يهمس ويتشبث بها: ما أنا لازم أصالحك يا عشقي، مش هينفع نتخاصم كده.

قلبت وجهها بدلال يحبه وقالت بعناد: لا، هينفع!

نظر لها، وقال بنبرة مازحة فيها وعيد: لو مصالحتنيش، أنتِ عارفة عقابك.

رفعت أحد حاجبيها بتعجب: هتعمل إيه يعني؟

لم يجب، بل اكتفى بابتسامة خفيفة وهو يحرك يده بخفة، ثم خطفها فجأة وألقاها على السرير برفق مداعبا، وبدأ يدغدغها بأصابعه ضاحكا وهي تصرخ من بين الضحكات: أوعى! بلاش كدة يا سليم!

ضحك وهو يواصل مداعبته: قولي صالحتيني وهسيبك!

قالت بعناد طفولي وهي تحاول الإفلات من قبضته:
لا زعلانة! أوعى.

زاد من دغدغتها وهو يضحك: خلاص، يبقى مش هسيبك.

تضاعفت ضحكاتها وهي تحاول التملص، حتى استسلمت أخيرا وهي تقول بنبرة لاهثة ودافئة: خلاص خلاص، صالحتك! بس أوعى تزعلني تاني.

سكن فجأة، ونظر إليها بعينين تملؤهما العاطفة، اقترب منها ببطء وقال بصوت منخفض محمل بالشوق: مستحيل أزعلك، أنا بحبك.

همست بخجل وهي تلمس وجنتيه بيدها: وأنا كمان بحبك أوي يا سليم.

تبادل النظرات في صمت طويل، ظل صوتهما مختنقا بين أنفاس متلاحقة ونظرات لم تعرف طريقها إلى الكلام، نظرت له ماسة بشوق عميق، فيه شيء مختلف، لم يكن شوق الحنين فحسب، بل شوق الروح إلى الجسد، وارتجاف القلب لدفء تعرفه وتخشاه في آن واحد، مدت يدها تمرر أصابعها على لحيته برفق، وابتسمت بنظرة تحمل شوقا ليس عاديا، بل شوق امرأة لزوجها.

همست بصوت متردد لكنه دافئ: وحشتني يا سليم.

لم يحتاج إلى كلمات أكثر، فقد قرأ في عينيها ما عجز لسانها عن قوله، فهي لا تستطيع أن تطلبه، لكن كل نظراتها كانت ترجوه.

ابتسم بخفة عاشقة، وهمس وهو يمرر أصابعه على وجنتها مرورا بشعرها: وأنتِ كمان، وحشتيني يا ماسة.

رفعها نحوه وضمها بقوة، كأنه يخشى أن تفلت من بين ذراعيه، ظلا متعانقين للحظات، هي أيضا ردت العناق بذات اللهفة، أصابعها تغرز في ظهره كأنها تتشبث بطمأنينة غابت عنها طويلا.

ابعدها قليلا، وهو يتأمل ملامحها بعينين تلمعان بالعشق، وأنفاس متلاحقة بنبض الشوق، ثم أحاط وجهها بكفيه برفق محموم، وطبع قبلة طويلة عاشقة على شفتيها.

تجاوبت معه برقة خالصة، وكأنها تذوب في حضنه شيئا فشيئا، تلاشت المسافات بينهما، وذابت الحدود، حتى لم يبقَ سوى دفء العاطفة وموجات الشوق التي غمرتهما

وفي خلال تلك الفترة.

سافر ياسين إلى الجونة ليهدئ أعصابه، أخذ اليخت وأبحر بعيدا عن كل شيء، ليحاول أن يتخذ قراره بعد ما بدأ يقتنع بأن سليم ولوجين ربما يكونان على حق.

فلوجين كانت دائما إلى جانبه، تمنحه اهتماما ومحبة واحتراما، وملأت فراغا كبيرا في داخله رغم أن علاقتهما لم تتجاوز الحدود، لكنها منحته ما افتقده مع هبة، ولهذا لم يستطع التفكير بعقل صافي؛ ربما ظلم هبة، وربما سيظلم لوجين إن استمر هكذا.

الغريب أنه طوال فترة وجوده هناك لم يفكر في هبة إطلاقا، بل لم تفارق لوجين ذهنه لحظة، كان يشتاق إليها بشدة، يمسك هاتفه مرارا ليتصل بها، ثم يتراجع في اللحظة الأخيرة كمن يخاف شيئا لا يعرفه، تمنى لو كانت معه الآن

اما هبة فلم تخطر بباله لحظة واحدة، رغم أنه حاول بكل طاقته أن يفكر بها، حاول أن يستحضر ذكرياته الجميلة معها، لكن صور لوجين كانت تطغى دائما على تفكيره دون إرادة منه، لقد اشتاق اليها بشدة، اشتاق إلي صوتها، ضحكتها، طريقتها، اشتاق إلي كل شيء فيها.

ورغم شوقه، كان قلقا عليها، يريد فقط أن يطمئن أنها بخير قبل أن يطمئن قلبه هو، فراحته الحقيقية كانت مرتبطة بها، وحينها أدرك الحقيقة بوضوح: أنه يحب لوجين حقا، لا بدافع الحاجة، بل حبا صادقا خالصا.

أما عند لوجين.

فالأمر لم يختلف عندها كثيرا، فقد انعزلت تماما، تمكث في غرفتها، بالكاد تأكل لتبقى على قيد الحياة، تغلق الأنوار لتختبئ في الظلام، بعيدا عن نفسها وعن كل ما كانت تشتاق إليه، كانت تتوق لسماع صوته، لرؤيته بخير، لكنها تمنع نفسها، تدرك أنها يجب أن تبتعد وتحافظ على المسافة، حتى لا تكون سببا في ضرر جديد.

وأشد ما كان يؤلمها أن حبها له جعله يقترب منها ويبتعد عن زوجته، والفكرة كانت تخنقها، تشعرها بالذنب، حتى وإن قال إنه يحبها، حتي لو كان قلبه معاها، كانت تعرف في أعماقها أنها لا يمكن أن تكون المرأة التي أخذت رجلا من زوجته.

كانت تبكي في صمت، يزداد وجعها مع كل ذكرى وكل كلمة تذكرها به، الصراع في داخلها كان يمزقها بين حبها وذنبها، بين رغبتها في الاقتراب وحاجتها إلى الابتعاد.

حتى أن كل لحظة تفكر فيها به كانت كالسيف على قلبها، لأنها تدرك أن هذا الحب، مهما كان صادقا، لن يجلب لها سوى الألم، لم تستطع أن تنسى ياسين أو تغفر لنفسها حبها له، فهي تعلم جيدا أنها لن تكون يوما المرأة التي تسرق رجلا من زوجته.

منزل لوجين السابعة مساء 

غرفة لوجين

كانت تجلس على الفراش في عتمة غرفتها، تبكي بصمت، وقلبها تعصف به مرارة الألم والحسرة، لأنها قلبها حين خفق، خفق للشخص الخطأ.

انفتح الباب، وأضاءت والدتها الغرفة فجأة، فاغمضت عينيها، ومسحت على وجهها بيديها، محاولة التكيف مع الضوء.

جلست والدتها أمامها وقالت بعتاب متهكم: هتفضلي على الحال دى كتير؟! فين لوجين القوية الجامدة؟ إللي الزعل بالنسبة لها كان 3 ثواني، والحكمة إللي ماشية بيها في حياتها "مفيش حاجة تستاهل الزعل، الإنسان بيعيش مرة واحدة هنقضيها في الزعل والحزن مفيش حاجه تستاهل".

رفعت عينيها ببطء وقالت بنبرة مكتومة: حبيته.

تنهدت والدتها بحزن: حبيتي الشخص الغلط يا بنتي.

هزت رأسها بإيجاب ومرارة: وأديني أهو صححت الغلط

والدتها بحزم وحنان: لازم تنسي، وتعيشي حياتك، هتفضلي كدة لحد إمتى؟ 4 أيام عدت، وأنتِ قافلة على نفسك، قولت سبيها براحتها يمكن بكرة تنسى، بس لقيت يوم بيشد وراه يوم، لحد ما بقوا 4 أيام وأنتِ لسة مطفية، مينفعش يا لوجين! إيه الضعف ده؟ لازم تحاولي تنسي.

لوجين بنبرة مبحوحة بقهر: حاولت، حاولت ومعرفتش أنسى.

تابعت والدتها بصوت هادئ لكنه صارم: لازم تعرفي، أنتِ وياسين مفيش أمل بينكم، حتى لو كان عنده مشاعر ليكي، بنسبة كبيرة المشاعر دي ممكن تكون مجرد وهم، احتياج لأنه راجل ومراته مكانتش بتديله احتياجاته، وأنتِ كنتي بتديها ببساطة من غير ما يتعب.

ردت بسرعة وكأنها تزيل اتهاما عن نفسها: أنا عمري ما تجاوزت معاه، والله كنت بتعامل معاه زيه زي أي حد، يمكن هو زيادة شوية بحكم قربنا لبعض، لكن عمرى ما تعديت خطوطي الحمرا معاه.

ابتسمت والدتها وقالت بحكمة: السلام والطمأنينة والاهتمام، كل الحاجات البسيطة دي هي إللي بتخلي الراجل يحس إن له قيمة في حياة الست، الرجالة يا بنتي مش زي الستات، مش بينبهروا بالحاجات الكبيرة، ممكن تشدهم شوية، لكن يوم مايحب بجد، بيحب الست إللي اهتمت، إللي حسسته إنه راجل، وإنه مهم في حياتها، وإنها مشغولة بيه، وده إللي الراجل محتاجه فعلا.

تنهدت تحاول أن تفهمها بحكمة، فأضافت بنبرة حنونة:
يعني لما تقولي له "أجيبلك فطار؟ خدت الدوا؟ لا متشربش قهوة على الريق، خد الجاكيتك قبل ما تنزل، طب تعالى معايا مش عايزة أروح لوحدي" كل التفاصيل الصغيرة دي هي إللي خلت قلبه يتعلق بيكي، الرجالة مش معقدين يا بنتي، حاجات بسيطة بتفرحهم، والله العظيم لو كل ست فهمت إن الراجل مش محتاج معجزات، كانت الدنيا هتبقى أسهل من كده بكتير.

ادمعت عينيها، واهتز صوتها: صدقيني يا ماما، كله حصل فجأة وبسرعة.

تنهدت والدتها وقالت برفق: إللي حصل حصل، فوقي لنفسك بقى يا بنتي، ومتفضليش قافلة على نفسك كده، طبيعي تاخديلك يومين تلاتة، بس لازم تساعدي نفسك، أخرجي واشتغلي وشوفي الناس، لأن طول ما أنتِ قافلة على نفسك كده، مش هتعرفي تنسي وممكن تضعفي، وأنا محبش أبدا إن بنتي تبقى الست إللي خطفت راجل من مراته وأظنك أنتِ كمان متحبيش ده، ولا ايه؟

قالت بصوت مبحوح، يخرج من بين دموعها: استحالة أعمل كده، حتى لو بحبه وهو بيحبني، أنا أكتر حاجة وجعاني، إني ممكن أكون السبب أللي خلى أخر فرصة بينهم تتدمر، يمكن لو مكنتش دخلت حياته، كانوا رجعوا لبعض.

نظرت إليها والدتها بحنان، وقالت وهي تلمس شعرها برفق: متشيليش نفسك ذنب مش ذنبك، إللي فات خلاص، ركزي في إللي جاي، وأنا متأكدة إن بنتي قوية وهتعرف تتغلب على وجعها وحزنها.

نظرت إلى والدتها بعينين دامعتين، ثم ارتمت في أحضانها وضمتها بقوة، فأخذت الأم تربت على شعرها بحنان، وهمست بدعاء خافت: يا رب، هون عليها وجعها، وأهدي قلبها.

فيلا سليم و ماسة، الرابعة مساء 

غرفة المعيشة.

كانت ماسة جالسة على الأريكة، تشاهد التلفاز، تقضم شرائح الشيبسي بين حين وآخر، وضحكتها كانت تتناثر في الغرفة كأشعة ضوء.

أما سليم، فكان في مكتبه، ينظر أمامه في شرود، ضجيج كثيف كان يعصف في عقله؛ فالقادم أصعب مما مضى، فقد مرت خمس عشر يوما على فقدان ماسة للذاكرة، ويبدو أن ما سيقوله اليوم قد يكون مفتاح تذكرها بالرغم من صعوبته.

أخذ نفسا عميقا، مسح جبينه بيده، ثم نهض ببطء، تحرك نحو غرفة المعيشة، ثم وقف يتأملها بابتسامة عاشقه لا تفارق عينيه.

ألتفتت إليه ماسة مبتسمة، أشارت بيدها: كراميل، تعالى! واقف ليه؟

أجابها بابتسامة عاشقه: بحب أتفرج عليكي وأنتِ كده.

نهضت واقتربت منه، ووضعت قبله على خده: تعالى أتفرج معايا.

سحبته من يده، فجلس بجانبها، مائلا قليلا نحوها، عيناه لا تفارقان وجهها، يلمس أصابعها بخفة.

رمشت بعينيها، ورفعت وجهها بابتسامة خجولة: متبصليش كده بقى، آني بتكسف.

مال تجاهها، يربت على يدها: طيب، بقولك إيه، أنا عايز أحكيلك بقية القصة، ولا مش عايزة؟!

ألتفتت له بحماس وعدلت جلستها: أكيد عايزة أعرف، بس أنت قولتلي أصبري.

هز رأسه، يتنهد، يمرر يده على شعره: لا، دلوقتي هحكيلِك.

أمسكت يده بحماس: يلا.

جلسا متقابلين، وبدأ يحكي بنبرة حزينة: أحنا وصلنا لحد مافوقت من الغيبوبة، وقتها جالي خوف، وكنت مرعوب أخرجك، وأخدت قرار إنك متخرجيش من القصر، وده إللي حصل.

ضيقت عينيها، وتساءلت بتعجب: مش فاهمة، يعني إيه؟

هز رأسه بتفهم: هقولك...

بدأ يسرد لها كل ما حدث منذ احتجازها في القصر، وحتى بعد ذهابها للجامعة، وأثناء سرده كان يمسح شعرها بحنان أحيانا، وأحيانا أخري يمسك يدها برفق، حتي وصل إلى هروبها الأول، بينما ماسة كانت تسمتع له بزهول وعينين متسعتين.

هنا قاطعته، لمست صدرها، عينها تتسع، صوتها خرج مرتجفا: إيه إللي أنت بتقوله ده، وآني ليه أعمل كده؟

مد وجه بعدم معرفة، وهو يسمك يدها برفق: معرفش، لما سألتك وقتها قولتي إنك محتاجة تبعدي شوية، كنتي زعلانة ومضغوطة، ولإني كنت رافض عملتي ده.

هزت راسها بصدمة وزهول تام: ده آني اتغيرت خالص، حاسة إنك بتحكي عن واحدة تانية مش آني.

هز رأسه بإيجاب، وهو يميل بشفتيه قليلا: فعلا بعد الحادثة اتغيرتي كتير، وأنا كمان اتغيرت، إللي مرينا بيه كان صعب علينا أحنا الأتنين، متحمليش نفسك الذنب لوحدك.

هزت رأسها، وهي تمسح طرف عينها من الدموع: طب وبعد ما لاقيتني؟ أنت موت الراجل اللى حاول يغتصبني دى؟

أغلق عينيه للحظة، تنهد، رفع رأسه ببطء: لا رشدي إللي موته.

ثم نظر إلى الأرض، ضغط كفوفه معا، نظر لها: المهم، وديتك عند والدتك زي ما طلبتي، ومخدتش رد فعل بس بعد كده رجعتي، والدتك رجعتك..

أخذ يسرد لها ما حدث، ومازالت الصدمة تخفي ملامحها بعينين تلمعان بالدموع، لكنه توقف عندما وصل لهروبها الثاني عندما جاء إسماعيل بها.

تنهدت وهي تمسك كتفه برفق: كمل، سكت ليه؟ وبعد ما لاقيتني، حصل إيه؟

صمت للحظات وهو يرمش بعينه لا يعرف ماذا يقول؛  فالقادم هو الذي دمر حياتهم، وهو غير مستعد نفسيا للحديث عنه الآن.

أمسكت يده تحثه على المواصله: سليم كمل.

رمش بعينيه، وانخفض صوته: بعدين يا ماسة، مش قادر أقول دلوقتي، يومين وهقولك.

رفعت حاجبها، وقالت بإبتسامة: ليه؟ شكلك ضربتني؟

ابتسم بحزن، ومسح وجهه: لا، مضربتكيش.

رفعت يديها على خديه، تقرب وجهها منه: أومال عملت إيه؟ قول متخافش هسامحك.

تنهد بتعب: عملت حاجة زعلتك أوي، ومش قادر أتكلم عنها دلوقتي.

اتسعت عينيها بدهشة: حاجة أكبر من الضرب؟

هز سليم رأسه: ممكن تقولي كده...

تساءلت ماسة بدهشة: طيب، هو آني أصلا هربت ليه؟ مش إحنا اتفقنا إن إحنا نتصالح ونبقى كويسين؟

هز كتفيه بخفة، يلتفت بعيدا للحظة ثم يعود بنظره إليها قائلا بنبرة موجوعة: أنا معرفش يا ماسة، أنتِ إللي عارفة.

ضغطت على شفتيها بخفة كأنها تجمع خيوط: أنت بتقولي إن قعدنا مع بعض سنه ونص، يعني محكيتلكش خالص أسبابي في السنة ونص دول!؟

زم سليم شفتيه بحزن: لا، محكيتيش، كنتي معاندة بسبب إللي عملته، وأنا في الأول كنت رخم ومعاند زيك، فإحنا الأتنين عاندنا في بعض ومحكتيش.

ابتسمت ماسة ببراءة، وقالت بخفة: شكلي كنت زعلانة منك خالص، آني عارفة نفسي لما بزعل جامد؛ قلبي بيوجعني وصعب انسى بالذات لو بحبك ببقي وحشه أوى.

وضع يده على كتفها برفق، ينظر إلى عينيها بإبتسامة حنونة: لا مش وحشة، إحنا الأثنين غلطنا.

ابتسمت بخجل: بس آني متأكدة إن عندي سبب، طب أنت قولتلي أنك عملت العملية، وآني مكنتش موجودة ! يعني آني مشيت تاني؟

هز سليم رأسه بحزن: أيوه، مشيتي ست شهور بعيد عني.

ماسة بصدمة: يا نهار أبيض! ست شهور وآني لوحدي؟

ضم كتفيها بيديه، وهو ينظر داخل عينيها وقال كأنه يتحدث مع طفلته: اتفقنا نبقي نكمل بعدين، أنا مش قادر اتكلم في الفترة دى دلوقتي، اصبري عليا يومين وهحكيلك.

ابتسمت ببراءة: طيب، أنت زعلتني تاني علشان كده مشيت، أقصد تالت مرة؟

هز سليم رأسه بقلة حيلة: أنا عارف إنك فضولية وهتفضلي تسالي ألف سؤال، ومفيش سمع الكلام ومفيش حاضر.

ماسة بابتسامة: لا، سؤال واحد وبعدها حاضر، ممكن؟

ابتسم سليم: اسألي.

مالت للأمام، تلمس أصابعها معا وكأنها تجمع خيوط لعبة معقدة، ثم تنظر إلى سليم بعينين مليئتين بالتركيز: آني دلوقتي إللي فهمته، إني هربت منك تاني مرة، وأنت رجعتني وقعدت معاك سنه وأنت عملت حاجه زعلتني، وهي دي الفترة إللى أنت مش عايز تحكيهالي.

اوما براسة بإيجاب، ثم أضافت بنبرة أكثر ذكاء: وبعدين زعلتني، تالت مرة فمشيت، المرة الأخيرة ست شهور بعيد عنك، وبعدها لقيتني، وحصل بينا كلام وساعتها فهمت إنك عملت العملية، وزعلت، وجيت أمشى وقعت على رأسي ونسيت كل حاجة، صح كده؟

انحني سليم نحوها قليلا، وضع يده على يدها برفق، وهو يبتسم بخفة: بالضبط، صح كده.

ارتسمت على وجهها ابتسامة واسعة مشرقة وهي تقول بحماس: آني مسمحاك.

ضحك متعجبا: مسمحاني على إيه؟

ضحكت ببراءة: مسامحاك على أي حاجة عملتها فيا، خلاص، معدتش زعلانة منك؛ علشان أنت طيب خالص، ووعد لما أفتكر، هفضل مسمحاك.

مسح سليم على وجهها وهو يركز النظر في ملامحها بحب: متوعديش بحاجة مش هتقدري عليها يا ماسة.

هزت ماسة رأسها برفض، واقتربت وضمته بشدة: لا، هعملها، مهما كنت مزعلني، علشان أنت طيب وحنين، وتستاهل ألف فرصة..ومسامحه 

ابتعدت قليلا، وتساءلت: مش أنت قولت هتحكيلي إللي عملته فيا وزعلني؟

هز رأسه بابتسامة، موضحا: لو مفتكرتيش، الفترة الجاية هحكيلك، بس مش اليومين دول علشان أكون مستعد.

ماسة بطيبة، وهي تضمه مجددا: ماشي، هسامحك بردو ، علشان آني بحبك أوي يا سليم..

بدأت أن تهبط الدموع من عينيها، وهي تقول بنبرة موجوعة: وزعلانة خالص علشان كل إللي حصلنا، آني مش عارفة ليه حصلنا كل ده.

أبعدها ررفق، ونظر داخل عينيها بحب، وهو يمسح دموعها بحنان: بلاش دموع، وبلاش نفكر في إللي فات، خلينا في إللي جاي وبس.

هزت رأسها إيجابا، وارتسمت على وجهها ابتسامة رقيقة، وتبادلا نظرات طويلة يغمرها الحب والحنين، كأن أعينهم تحكي ما تعجز الكلمات عن قوله.

مدت يدها تلامس خده برفق، فاقترب منها ببطء، واقتربت قلوبهما أكثر، خفق قلبها سريعا، فتنفست شهيقا خفيفا، قبل أن تطبع على شفتيه قبلة خفيفة، وأخذا يتبادلان القبل بشوق دافئ، ويداه تتلمسانها برقة، ونظراته تحتضنها كأنها حكاية عمر كامل.

حملها بين ذراعيه وصعد بها إلي الغرفه، وأعينهم تلمع بالشغف والاندفاع، وكل ابتسامة صغيرة بينهما تروي قصة لا تنتهي، وضعها على الفراش برقه كأنها قطعه الماس يخاف أن تنكسر، وأخذا يتبادلان القبل من جديد بشوق وتمهل كأنهما يستمتعان بكل لحظة دون استعجال.

استسلما للحظة بصمت عميق، كأن العالم من حولهما تلاشى، ولم يبقَ سوى دفء الحب الذي جمع بينهم، ويديه تتشابك برقة مع أصابعها، وكأن كل لمسة تقول "أنا هنا، لن أتركك"

منزل سارة السادسة مساء 

استلقى عماد على بطنه فوق الفراش، ظهره عاري، وملامحه مرهقة، جلست سارة على ركبتيها على الفراش، تدلك كتفيه بإيقاع بطيء متقن؛ ترتدي، قميص نوم طويل ينساب على جسدها.

همست وهي تضع يديها على كتفيه، وإيماءاتها رقيقة تعبر عن حنان وقلق معا: شكلك تعبان ومرهق خالص.

زفر ثم قلب وجهه نحوها، وعيناه تحملان تعبا: طبيعي، بقيت ماسك شغل صافيناز مع شغل بابا، وبحاول أجيب توكيلات علشان نفتح خطوت انتاج جديدة، وعايز أدخل كام مشروع خاص لينا، بعد ما اتطردنا من المجموعة لازم نأمن مستقبلنا بحاجة خاصة لينا.

ذمت شفتيها بضيق وهي تقول بندم: ياريتك كنت عملت ده من زمان، كان زماننا دلوقتي في مكان تاني.

ثم توقفت للحظة، ونظرت إليه بفضول: وأخبار صافيناز إيه؟ وصلت لفين؟

هز رأسه بصوت محمل بتوتر: لسه.

رفعت حاجبها بتهكم: هو إيه اللي لسه يا عماد؟ صافيناز لازم في أقرب وقت تكون مبتستغناش عن الحباية.

تنهد، التفت اليها وجلس امامها: إحنا مينفعش نعمل كده بسرعة عشان متشكش فيا.

اجابته باستهجان: وتشك فيك إزاي وأنت أغلب الوقت بتحطها في الحاجات اللي هي بتشربها؟ 
ثم أضافت بحسم: عماد أخلص، ولا أنت حنيت ومش عايز تنتقم؟

نظرة لها بحده، وهو يضغط على كلماته: أنا قولتلك عايز أخلص عليها، بس كان عندك حق، لو اتصرفنا بقوة هينتقموا، فلازم نخلص منها بحرفنة.

مسحت يديها على كتفيه، وهي تتساءل: طب المهم إيه الجديد؟ وصلتم لإيه بعد ماعرفوا برجوع ماسة في الحفلة؟

أجاب ببرود: الباشا قرر يخلص عليها بنفسه، ورفض أي تدخل من أي حد.

ارتسمت ابتسامة شيطانية على وجهها، وانحنت قليلا إلى الأمام، وهي تقول بخبث: حلو أوى الكلام ده خليك أنت بعيد عن الصورة، واهو الباشا سلمنا رقبته بايده، بس لازم نستغل الاجتماعات دى وحاول تسجلهم علشان يبقي في ايدينا حاجه ماسكينها عليهم نعرف نخلص نفسنا بيها لو حاولوا يعملوا لنا حاجه. 

أومأ براسه: من غير ما تقولي، هعمل كده...
ثم أضاف بحيرة: بس في حاجة غريبة، رشدي بقاله فترة مركز في الشغل وعايز يثبت نفسه، دى حتي مكانش موافق إن ماسة تتقتل.

رفعت حاجبها وتساءلت ببرود: وصافيناز رأيها إيه؟

عماد موضحا: بتقولي ضميره فايق الفترة دي عشان مي، لكن لو حس إن ماسة هتبقى خطر علي علاقته بيها هيقتلها بنفسه، بس أنا حاسس إنه لا، اصله بيحب ماسة، وكان هدفه الأساسي يخلص من سليم عشان الجو يفضي له معاها، حتى البنت اللي خطبها دي تحسيها شبه ماسة بطبعها واخلاقها

قهقت سارة بضحكة قصيرة: علي العموم رشدى أمره سهل، لو ضميره بدأ يصحى، نخلص عليه، رشدي ده أسهل ما يمكن.

تجمد لثانية، ثم رد بصوت منخفض: إزاي يعني؟! أنتِ عايزانا نقتله؟!

أجابته بلا تردد، ببرودة محسوبة: أه لو بقى خطر علينا، نخلص عليه بطريقة تضمن إن محدش يشك، وهو مسهلها علينا دى عيل شمام لو خد جرعه زياده خلصت.

عاد عماد يريح رأسه على الوسادة، وهمس: خلينا مستنين نشوف الباشا هيعمل إيه، هي كده كده مختفية، ومبتخرجش من الفيلا.

ساره بنبرة لازعه: ويا ترى ناوى تقعد معايا ولا زى كل مرة بتيجي سرقة؟ 

عماد بابتسامه: هقعد معاكي متقلقيش، صافي مسافره بتخلص شغل، وانا قولتلها اني مسافر أخلص شغل لبابا. 

نظرت له بابتسامه: ماشي هروح احضرلك الغدا
💞____________بقلمي_ليلةعادل 

فيلا سليم وماسة، الحادية عشر مساء

الحديقة

كانت الحديقة غارقة في صمت خفيف، والفسقية تهمس بماء يتحرك ببطء تحت ضوء القمر.

جلست ماسة قربها، وجهها نصفه في النور ونصفه في العتمة، وعيناها شاردتان بعيدا، دموعها لم تسقط بعد، فقط تتمهل على حافة وجع ثقيل، فـ قسوة ما عرفته كانت أشد من كل ما خافت أن تعرفه، فتمنت لو أن الجهل ظل يحميها.

استيقظ سليم فلم يجدها بجواره، بحث عنها في الغرفة ولم يجدها، فهبط يبحث عنها، حتى وقعت عيناه عليها تجلس في العتمة، كأنها جزء من الليل نفسه، تقدم بخطوات بطيئة حتى بلغ الباب الزجاجي المطل على الحديقة، ووقف يتأملها لحظة؛ كل ما فيها كان يوجعه ملامحها المنكسرة، وكتفاها المرتجفان، وصمتها الذي يصرخ دون صوت.

اقترب بخطوات بطيئة، ومد يده المرتجفة ليلمس كتفها برفق، وصوته خرج مبحوحا: مالك يا ماسة، قاعدة لوحدك في الضلمة ليه؟

رفعت رأسها بنظرة متعبة في عينيها، واجابته بصوت واهن: ولا حاجة، كنت بفكر.

جلس بجوارها، وقال بإبتسامة خفيفة: بتفكري في إيه؟ إنك اتسرعتي؟ ولا إنك وعدتيني إنك هتسامحيني؟

ابتسمت برقة، تهز رأسها نفيا: أبدا والله، آني قد وعدي، متستصغرنيشي.

ابتسم وهو يمسك كفها ويضع قبله عليه بإبتسامة، ونظر إليها طويلا، ثم تساءل بصوت دافئ: طب كنتي بتفكري في إيه؟

حركت خصلات شعرها خلف أذنها، والدمع بدأ يلمع في عينيها: كنت بفكر أنهون أحسن؟ أفتكر ولا أفضل ناسية؟! أنت حكيتلي حكاوي ياما، وآني مش فاكرة منها أيتوها حاجة، بس قلبي وجعني أوي، أمال لو افتكرت كل إللي حصل؟ أكيد هيوجعني أكتر،  ده إحنا حصل لنا حاجات وحشة أوي يا سليم، حاجات توجع.

مد يده أمسك يديها بين راحتيه، وقال بنغمة هادئة بهاحكمة: بس برضو، كان فيه حاجات حلوة، يمكن السواد غطى الصورة شوية، بس إللي بينا عمره ما راح، إحنا مع بعض، وهنقدر نداوي بعض، والدكتور قال العلاج والجلسات هتساعدنا كمان، واحدة واحدة هنعدي، بس مش هينفع نبتدي دلوقتي، لازم نستني لما تفتكري عشان في حاجات أنتِ بس إللي عارفاها. 

أطرقت رأسها قليلا وقالت بنبرة حزينة: أمي كانت دايما تقولي مفيش وجع بيتنسي، فاكرة يوم ما ستي ماتت؟ كنت بعيط لحد ما صوتي راح، وسألتها ياما آني هفضل أعيط وقلبي وجعني كده طول عمري؟قالتلي لأ يا ماسة، هتبطلي تعيطي، وقلبك هيخف، بس مش هتنسى.

ابتسم سليم بخفة، وضغط على يدها: أكيد إحنا مش هننسى إللي بنحبهم، بس ربنا كريم خلق حاجة اسمها نعمة النسيان والتعايش، علشان نكمل حتى لو فقدنا حور، وحصلت بينا مشاكل، بس إحنا لسة سوا، وده أهم حاجة، حتى لو غلطنا ووجعنا بعض كتير، بس لسة بنحب بعض، وبنختار بعض كل مرة.

رفعت ماسة رأسها نحوه، بعينين تلمعان كأنهما تغتسلان من وجع قديم: أنت صح، بس آني مش عايزة أفتكر، خايفة أتوجع تاني..

ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة وأضافت بحب وشوق: وفي نفس الوقت نفسي أفتكر، عشان أفتكرك أنت وبس، علشان آني بحبك أوي يا سليم.

مدت يدها تمسك بيده وتضعها على صدرها حيث يخفق قلبها بسرعة، وقالت بإبتسامة خجولة ودموعها تلمع: وآني عند وعدي لما أفتكر هسامحك، علشان أنت تستاهل حاجات حلوة ياما، وبعدين آني بفرح أوي لما بشوفك، قلبي بيدق بسرعة كده، وبحس زي كهربا في بطني، وببقى زي العصفور البلبل وهو بيرقص في الغيط، آني بحبك أوي.

نظر إليها طويلا بعينين تغمرهما الدفء، وخرج صوته هامسا: وأنا قلبي عمره ما أرتاح ولا عرف طعم الراحة إلا وأنتِ جنبه.

ابتسمت، وضمت وجهه إلى صدرها، وطبعت قبلة رقيقة علي خده كأنها تمحو كل وجع مضى، أحاطها بذراعيه في صمت عميق، لا يسمعان فيه إلا خرير الماء، ونبضين عاد لهما الأمان.

المجموعة الثانية ظهرا.

مكتب رشدي.

جلس علي رأس الطاولة، أمامه مجموعة من المهندسين والمديرين، يتصفح الرسومات والخرائط بعين دقيقة، وإبتسامة واثقة ترتسم على وجهه.

رشدي بعملية: أهم حاجة نمشي على الخطة زي ما إحنا راسمينها 
تساءل بشك: متأكدين إن خلال تسعة شهور نكون خلصنا 50٪ من المشروع؟

أحد المهندسين بتأكيد: أيوه يا فندم، بس إحنا هنكتب في الجدول الزمني إنها سنة عشان ندي نفسنا 3 شهور زيادة، والباقي نكمله على مهلنا.

رفع رشدي حاجبه وصوته اتسم بالجدية: مفيش حاجة اسمها على مهلنا، فيه حاجة اسمها نخلص، أنا عايز المشروع ده يقف على رجليه خلال ثلاث سنين بالكتير.

قال أحد المهندسين وهو يشير على الخريطة: النسبة كبيرة، بس عموماً أهم حاجة أول سنة نكون فعلا سلمنا 50%، حتى لو 30% عادي يا رشدي بيه، مستحيل أي شركة هتوعد بتسليم بنسبة أكتر من كده! أنا متأكد إنهم هيقدموا مهلة تسليم من 10 لـ15، وأجدعها شركة فيهم هاتدي 25%، فأحنا بالرؤيه اللى عاملينها يا باشا، نقولهم إحنا هنخلص 35%.

رفع رشدي نظره بحدة: وهو إيه الكلام ده؟ هو احنا عمالين نتراجع في النسبه ليه؟ إحنا كده مش قد كلمتنا؟! 

رد أحد المديرين بسرعة: يا رشدي بيه، 50% دي مجازفة، بس هي إن شاء الله محلولة لو هنشتغل بأربع ورديات من غير إجازات زي ما عمالنا دراسة جدول، لكن لو قلنا 35% او حتي 40% ، فبنسبة كبيرة هنقدر نلتزم بيها، وممكن ساعتها نكمل شغل ونقول إننا سلمنا أكتر من اللى وعدنا بيه في نفس المدة.

انحني رشدي على الطاولة، وقال بصوت هادئ لكنه حازم: ما أنا خايف حد من الشركات المنافسة يقدم رقم أكتر من كده، فالعطي يرسي عليهم.

مدير آخر بثقة: استحالة، المشروع ضخم، ومحدش هيجازف كده. 

نظر رشدي لهم واحدا واحدا: يعني رأيكم إني أننا نوعد بتسليم 40% في سنة، ولو سلمنا أكتر تتحسب لنا؟

أجاب المدير بسرعة: بالظبط كده، علشان ندي لنفسنا مساحة نتحرك فيها، لو حصل أي ظروف خارجه عن خطتنا.

مال رشدي على الكرسي للخلف، ينقر بالقلم على الطاولة وقال بهدوء: تمام، سيبوني أفكر في الموضوع، كده الاجتماع خلص؟ فيه حاجة تاني؟

قال الجميع بصوت واحد: شكرا يا فندم.

جمعوا أوراقهم وغادروا واحدا تلو الآخر، وبقي رشدي وحده في المكتب، مرر يده على الطاولة ببطء، ثم زفر زفرة طويلة كأنه يفرغ من صدره ثقل المسؤولية.

بعد لحظات، عدل جلسته ونظر إلى دبلة خطوبته بابتسامة خفيفة، ثم التقط هاتفه ونهض مستندا إلى الأريكة، وضغط على الاسم المحفوظ في الشاشة: "مشمشتي".

لم تمضي ثواني حتى جاءه صوت "مي" الدافئ، مع تبادل الشاشة بينهما: رشدي!

ارتسمت على شفتيه إبتسامة واسعه: ست البنات إللي وحشاني!

ضحكت بخفة: عامل إيه؟ أنت كمان وحشتني، طمني، أخبار الشغل إيه؟

رشدي بابتسامة: زي الفل، دعواتك يا ست البنات، أومال أنتِ فين كدة؟!

مي وهى تقلب الكتاب بين يدها: أنا في المكتبة، بقرأ كتاب.

قال بنبرة فيها حنين: تعرفي إنك وحشتيني؟ نفسي أشوفك، بس بعد ربع ساعة عندي اجتماع تاني، شايل شغل ياسين وسليم، يعني تقريبا أنا بقيت الشركة كلها!

ضحكت بتشجيع: برافو يا رشدي، ركز بقى ووريهم إنك قدها.

ابتسم وقال بثقة:  أنا قدها، طول ما أنتِ جنبي.

تعالي صوت طرق الباب بخفة، ودخلت رحاب، السكرتيرة الجديدة، وهي تقول بإحترام: مستر أبرام وصل يا فندم.

رفع عينه نحوها: تمام، هو في مكتب سليم؟

هزت راسها بتوضيح: لأ، في قاعة الاجتماعات مع عزت باشا.

رشدي بهدوء: خلاص، دقيقة واحدة وهكون هناك.

خرجت السكرتيرة وأغلقت الباب خلفها.

نظر إلى الهاتف وقال بخفة: هقفل بقي، وهكلمك  تاني لما أخلص.

ابتسمت بتفهم: ماشي هستناك، باي.

أنهى المكالمة وظل يبتسم لحظة، ثم نهض متجها إلى قاعة الاجتماعات بخطوات ثابتة، وبالفعل شارك عزت وطه وفريدة الاجتماع، وكان مختلفا هذه المرة؛ أكثر تركيزا والتزاما، يشارك بعقل ناضج وحضور واضح، وقد بدا عليه التغير فعلا.
💞____________بقلمي_ليلةعادل 

خلال الأيام التالية.

بدا واضحا أن رشدي قد تغير حقا؛ فقد انشغل بكل تفاصيل الصفقة، يسهر على الخطط والمناقصات، ويحاول تعويض غياب: ياسين؛ الذي سافر ليفكر في مصير علاقته، وسليم؛ الذي لم يعد حاضرا كما كان لانشغاله بزوجته، تحمل رشدي عبء غيابهم بصمت، وكأنه يريد أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه قادر.

ورغم انهماكه الكبير في العمل، لم يغب يوما عن مي؛ فكان دائم الاتصال بها، يبدأ يومه بصوتها قبل مغادرة المنزل، يسألها إن كانت تناولت فطورها، كأن اطمئنانه عليها طقس صباحي يمنحه طاقة لبداية اليوم، وفي خضم الاجتماعات والملفات والمكالمات، كان يتذكرها فجأة فيرسل لها رسالة قصيرة يسألها إن كانت أكلت، أو يكتفي بكلمة منها تعيد إليه توازنه، وحين يعود مساء مرهقا من ضغط العمل، لم يكن يشعر بالراحة إلا حين يسمع صوتها، صوت كان بالنسبة إليه استراحته اليومية وحنانه الوحيد الذي يخفف عنه تعب اليوم وضجيجه.

أما هي، فكانت تشعر بكل ذلك، وتدرك صدق اهتمامه، لكنها في الوقت نفسه تعرف متى تبعده برفق حين يحتاج إلى التركيز، وتذكره دائما أن أمامه طريقا يجب أن يكمله حتى النهاية، كانت ترفض لقاءه كلما طلبها، لا لأنها لا تريده، بل لأنها أرادته أن ينجح أولا، كانت تقول له دائما إن اللقاء مؤجل إلى ما بعد النجاح، وبرغم رفضها اللطيف، كانت ملامحها بعد كل مكالمة تفضح سعادتها، تشعر بالراحة لمجرد سماع صوته، وبالفخر وهي تراه يركز أخيرا في عمله ومستقبله، تتابع خطواته عن بعد، وتدعـو له في سرها أن يثبت وينجح ويحقق حلمه، مكتفية بمكالمته التي تنهي يومها بابتسامة لا تراها إلا في مرآتها.

وفي تلك الفترة، لاحظ الجميع تغيره؛ فقد ترك السهرات والضجيج، وابتعد عن زجاجات الخمر التي كانت يوما ما لا تفارقه، صار طريقه واضحا ومحددا: من العمل إلى القصر، ومن القصر إلى العمل، وإن اضطر للاحتساء بعض الخمر فكان يفعل ذلك في عشاء عمل رسمي، يكتفي فيه بكأس نبيذ يمر مرور الكرام دون أثر.

لكن الشيء الوحيد الذي لم يستطع التخلص منه كان "السم الأبيض"، حاول مرارا أن يبتعد عنه، أن يتركه ولو ليوم واحد، لكنه لم يكن يقوى؛ الصداع كان يفتك برأسه حتى يفقده القدره على التحمل، فيضطر إلى أخذ جرعة صغيرة تعيد إليه توازنه ليستكمل يومه، واعدا نفسه بأنه بعد انتهاء المناقصة سيبدأ العلاج كما نصحه الباشا، لينهي تلك الدائرة التي تقيده.

وفي خضم هذا كله، كانت تراوده رغبة ملحه في أن يصارح مي بحقيقة إدمانه، لكنه كان يخاف أن تتركه، وتنكسر صورته في عينيها، فكان يختار الصمت ويخفي الحقيقة خلف نبرات صوته الهادئة.

أما عن ماسة، فإن انشغاله بالعمل وبـمي كان كافيا لأن يبعدها عن تفكيره شيئا فشيئا، فقد ظن أن صمتها الطويل دليل على رضاها بالأمر الواقع وانتهاء كل شيء، فاطمأن لذلك، مراهنا في داخله علي أنها ستظل صامتة إلى الأبد.

في أحد شوارع حي الزمالك، السادسة مساء

كان الغروب قد بدأ يهبط بظلاله على المدينة، والمكان يعج برائحة القهوة الطازجة وأصوات المارة المتقطعة.

وقفت مي بجانب سيارة القهوة الصغيرة، تحمل كوبها الورقي بين يديها، تتنفس بخفة كأنها تحاول تهدئة نبضها، بينما كان رشدي إلى جوارها، متكئا على سيارته السوداء اللامعة، يراقبها بنظرة تحمل دفئا وشيئا من الاشتياق.

رشدي وهو ينظر من حوله بإبتسامة: المكان ده جامد، والقهوة لذيذة.

مي بإبتسامة صغيرة: لسة مكتشفاه قريب، قولت لازم أجربه مع رشروشي، بس المرة دي استثناء، مفيش خروجات تاني، قبل ما تكمل المناقصة، النهاردة بس علشان صعبت عليا، ووحشتني.

رفع رشدى حاجبيه بدهشه، وضحك ضحكة خافته: أنتِ كمان وحشتيني أوى، ولو مكنتش شوفتك النهاردة مكنتش هعرف أركز، كنت محتاج طاقة أقوى من مكالمات الفيديو، لو كنتي رفضتي كنت خطفتك.

ثم خفض صوته قليلا، وعينيه لم تترك وجهها: تعرفي؟ كل يوم بيعدي بتأكد إني بحبك أكتر.

نظرت إليه بخجل واضح، وأطرقت برأسها نحو كوبها: وأنا كمان، وحقيقي أنت اثبتلي إنك تستاهل الفرصة إللي اديتهالك.

ابتسم بخفة، وخرج صوته فيه تذمر طفولي: شوفتي؟ قولي لعمي بقى.

رفعت رأسها ببطء ونظرة فخر في عينيها: قولتله، متقلقش، مادام أنا راضية عنك خلاص.

صمتت لحظة، نظرتها صارت أهدأ، وتساءلت بصوت ناعم لكنه جاد: شربت إمبارح؟

عدل وضعه، وأشاح بعينه بعيدا عنها للحظه: لا.

راقبت ملامحه جيدا، وقالت بحكمة: مادام بتقدر تعدي أيام من غيرها، خلاص بطلها، دي حرام وكبيرة من الكبائر يا رشدى، كمان أنا نفسي تصلي وتقرب من ربنا.

ابتسم بخفة وهو ينظر لها بطرف عينه: إيه الكلام الكبير ده يا ست البنات؟

مي بنبرة أم حنونة أكثر من كونها معاتبة: والله بتاخد ذنوب علي الفاضي، طب ليه؟ علشان كوباية؟ بص، لو كنت بتقولي إنها عادة أو إنك بتصدع لو مشربتش مثلا كنت يمكن أتفهم إنه غصب عنك، بس طالما بتشربها بمزاجك فدي مصيبة أكبر، لأنك قادر توقف في أي وقت وأنت اللى مختار تكمل، هتقول لربنا إيه يوم القيامة؟؟

صمتت للحظة، ثم تساءلت بعقلانية: أنت بتشرب ليه؟!

حك مؤخرة رأسه بتوتر، ثم قال بخفوت: مش عارف، يمكن لأني بستلذ طعمها.

نظرت له بحدة فيها حنان: استلذ بحاجة تانية مفيده عنها، دى حته مضره وبتعمل سرطانات، ولعلمك دي داخل تقييم جوازنا مش هيتم غير لما توقف خالص.

ضحك وهو يشيح بيده باستسلام: عارف، بس متستهونيش باللي وصلتله.

ابتسمت مي بحب: لو مستهونة مكنتش سكت لما بتجي آخر الليل تحكيلي تفاصيل يومك، ومن ضمنهم تقولي "شربت كاس"..

رفعت عينيها نحوه، ونبرتها صارت أكثر دفئا: عارف أكتر حاجة بحبها فيك ايه؟ إنك صريح، صريح لدرجة فظيعة.

نظر إليها طويلا، ثم قال بصوت منخفض: قولتلك، هفضل أحاول لحد ما أنجح يا ست البنات.

ابتسمت وهي تميل برأسها بخفة: وأنا واثقه فيك، وهفضل مستنياك تنجح.

رشدي بثقة وهو ينظر داخل عينيها: وأنا أوعدك أني مش هخذل ثقتك دى، ثم امسك يدها ووضع قبلة عليها

أحمرت وجنتيها، سحبت يدها بسرعة، وهي تخفض رأسها بخجل واضح، بينما كان هو ينظر لها بعشق خالص.

حاولت الهرب من نظراته: قولي بقى مين رحاب دي؟

ابتسم بتفهم ثم قال وهو يرتشف قهوته ببطء: دى الاسيستنت الجديدة.

ضيقت عينيها وهي تتساءل بفضول: أممم جبت واحدة؟

رشدي، بهدوء متعمد: اها لوجين الـأسيستنت بتاعة ياسين، جابتها.

رفعت حاجبها بغيرة مبطنة: وحلوة بقي علي كده؟

ضحك بخفة وهو يحك ذقنه: عاديه يعني، وبعدين أنا مفيش أحلي منك في عيوني يا ست البنات.

ثم تساءل بخبث: بس قوليلي دى غيرة دى ولا ايه؟!

ردت وهي تضع يدها على خصرها في دلال مصطنع: آه بغير! عندك مانع؟ وبعدين أنت مينفعش تتساب كده.

ضحك بخفة، وهو ينظر لها بعينين تملؤهما البراءة: والله أنا غلبان

قهقهت وهي تومئ برأسها في دلال ساخر وقالت بمزاح: هنشوف، أنا هاجي في مرة وأعمل عليك كبسة.

رفع حاجبيه وهو يبتسم بسخرية لطيفة: مستنيكي، بس خليها فراخ؟

عقدت حاجبيها بدهشة خفيفة، تميل رأسها ببطء: هي إيه؟

ضحك بصوت مكتوم وهو يشير بيده: الكبسة.

زمت شفتيها بمزيج من المزاح والانفعال: دمك سم.
ثم مدت يدها بخفة تضربه على بطنه، تراجع خطوة للوراء ممسكا بموضع الضربة، يتصنع الألم ووجهه يتهدج بإبتسامة: براحة يا حودة! مش كده!

ضحكت بصوتٍ عالي وهي تراه يتدلل كطفل، أما هو فظل ينظر إليها مبتسما، كأن ضحكتها تلك كانت كفيلة بأن تنسيه كل تعب الأيام الماضية.

فيلا ماسة وسليم العاشرة مساء.

غرفة النوم

تمددت ماسة بين ذراعي سليم، وقد بدا عليهما الإرهاق والسكينة معا، كأنهما انتهيا للتو من ليلة حب صادقة جمعت بين جسديهما كما جمعت بين أرواحهما بعد اشتياق طويل.

كانت رأسها تستند إلى صدره العاري، وصدره يحتضنها في دفء حنون، بينما تمر أصابعه بخفة على شعرها، كأنه يطمئن أن وجودها مازال حقيقيا بين يديه.

سليم بصوت خافت دافئ: شكلي كنت واحشك أوى؟!

ابتسمت بخجل، وهمست بصوت ناعم مبحوح بخجل: آني أصلا بحب الإحساس ده معاك أوي.

صمتت لحظه، ثم قالت بخفة مرتبكة تخفي وراءها فضولا حقيقيا: سليم في سؤال هموت وأسألهولك، بس مكسوفة.

ابتسم بخفوت: لا متتكسفيش اسألي.

مدت يدها ببطء، وضعتها على صدره في الموضع الذي يعلوه الوشم، المحفور بخطوط حادة، وهمست بدهشة: هو إيه ده؟

سليم موضحا: ده اسمك.

تطلعت إليه ببراءة مترددة: بس شكله صعب، مش زي اللي جنبه، ولا زي اللي عندي.

خرج صوته عميقا، يمتزج فيه الحنين بالوجع: لما زعلتي مني، وهربتي آخر مرة حفرته بكسر مرايه.

رفعت رأسها وعيناها تتسعان بدهشة: ليه؟

قال بهدوء موجع: عشان أحتفظ باسمك على جلدي حتى وأنتِ بعيد، لازم اسمك يفضل هنا، جنب قلبي.

صمتت للحظة، تتأمل الحروف المنقوشة على جلده كأنها تراها للمرة الأولى، مررت أناملها فوقها بخفة حنونة، ثم همست بصوت مبحوح: هو بيوجعك؟

هز رأسه نفيا بابتسامة وهو يضع يده فوق أناملها: لا.

مالت نحوه ووضعت قبلة صغيرة على الوشم، ثم رفعت وجهها إليه، بعينين دامعتين، وخرج صوتها خافت راجي: متعملش في نفسك كده تاني..

هز رأسه بإيجاب، ثم مد يده برفق يضمها إليه، وهو يتساءل برقة: طب سيبك من الوشم وقوليلي، مفتكرتيش أي حاجة خالص؟ حتي لو حاجه بسيطة: ريحة، لمسة، إحساس من إللي كان بينا زمان؟

هزت رأسها نافية بحزن: خالص يا سليم، آني آسفة.

مرر أصابعه على ظهرها العاري بحنان: بلاش تتأسفي يا روحي، أنا مش بسألك عشان ألومك....
ثم زم شفتيه بضيق وحزن: أنا بس كان عندى أمل تفتكري، أحنا جربنا كل حاجة، ومفيش فايدة، فات أكتر من شهر ونص ومفتكرتيش أي حاجة.

رفعت رأسها إليه وقالت بخفوت متردد: طب يمكن لو حكيتلي عن الجزء إللي كان مزعلني أفتكر، مش الدكتور قال إني نسيت عشان كنت تعبانة نفسيا، وعقلي أختار ينسى عشان يرتاح؟!.

ابتسم ابتسامة حزينة: تقصدي الفترة إللي كانت السبب في زعلنا، صح؟

أومأت برأسها وقالت ببراءة: لو مش مستعد لسة عادي نصبر حبة كمان.

رمش بعينه وهو ينظر لها، لكنه ظل صامتا، كأنه يقاوم شيئا في داخله، ثم تنهد وقال بصوت منخفض: أنا فعلا مش مستعد أحكي دلوقتي، بس هجرب حاجة أخيرة، ولو منفعتش، هقولك كل حاجة.

رفعت جسدها قليلا، ومدت يدها تلامس خده برفق، وهمست بعشق صادق: آني مش عايزاك تكون متضايق كده...

ابتسمت برقة تحاول أن تخفف عنه وتعطيه دعم: عارف؟ آنى يمكن كنت متوترة ومش فاهمة نفسي، بس دلوقتي مش فارق معايا أفتكر ولا لأ، كفاية إنك جنبي..

زادت نظراتها بعشق يخرج من قلبها قبل عينيها بعينين تترقرق بدموع: آني بحبك أوي، وحاسة إنك زعلان عليا، متزعلش بقى وحياتي...
نظر إليها بعينين تلمعان بدموع محبوسة بصمت، فابتسمت بخفة وهي تقول بدلال طفولي: اضحك بقى يا كراميل مش بحب أشوفك كدة.

ثم طبعت قبلة على خده بخفة، فابتسم لها بحب، وفجأة سحبها نحوه وضمها إليه بصمت طويل، صمت مليء بالوجع والخوف، كأنه وعد صامت: أنا بحبك أوي يا ماسة.

بادلته العناق، وهي تهمس: وآني بموت فيك.

ابتعدت عنه قليلا، تحدق في وجهه، لاحظت أن عينيه لاتزال تترقرقان بالدموع، فابتسمت بخفوت وقالت بنغمة مرحة: يعني هتفضل كده؟ طب آني هعرف إزاي أضحكك يا كراميل؟

ابتسم، ورفع حاجبيه متعجبا: إزاي بقي؟!

همست بخفة وعينيها تلتمعان بمكر طفولي: كده..

ثم مدت يديها فجأة تدغدغه في جنبه وبطنه، فظل ثابتا ينظر لها بإبتسامة غامضة، بينما هي تضحك بخفة: إيه ده؟!؟

جربت مرة أخري، وهو ما زال هادئا تماما، فازدادت دهشتها: لا بجد إيه ده؟ مبتغيرش!

هز رأسه بإيجاب صامت، وهو يخبئ ضحكة صغيرة،
رفعت حاجبها بتعجب: إزاي يعني؟ في حد مبيغيرش؟!

ضحك بخفة، يمد يده ليبعد خصلة من شعرها لامست وجهها وقال: أه في بني آدمين مبيغيروش، عندهم ثبات إنفعالي كدة رباني.

قالت وهي تضع يديها على خصرها بنغمة طفولية مع انفعال مصطنع: يعني إيه؟ يعني مبتغيرش خالص؟

أقترب منها بخفة، نظر في عينيها نظرة طويلة قبل أن يهمس: لا بغير من حتة معينة.

مالت نحوه بمكر واضح، وهي تمط الكلمة: طب فيييييين؟

قال وهو يبتسم بخبث، صوته منخفض ومغري: تدفعي كام وأقولك؟

وضعت يدها على صدره بنبرة ترجي طفولية: هعملك بسبوسة، قول بقى.

ضحك بصوتٍ عالي: بغير من رقبتي.

بمجرد ما أنهى كلمته، شهقت بخفة وانقضت عليه تدغدغه في رقبته، فضحك بعنف وهو يحاول رفع كتفه ليغطيها: بس خلاص بقى يا مجنونة!

ضحكت وهي تلاحقه بيديها: لا مش هسيبها غير لما تضحك وأخد حقي منك!

رمقها  بوعيد قال بجدية مصطنعة: لا، كده مش ضحك، كدة إنتقام! تعالي بقى!

وفجأة أمسكها من جانبيها بحركة سريعة، أدارها على ظهرها، وصار هو من يدغدغها.

تعالت ضحكاتها وهي تصرخ وتضربه بخفة على كتفه: بس يا سليم! خلاص خلاص!

ثم ألتقطت أنفاسها وسط ضحكاتها، وقالت بأنفاس متقطعة: شوفت؟ عرفت أضحكك!

ضحك معها بحرارة، ثم توقف قليلا وهو يحدق في وجهها المشرق المبتسم، مد يده يلمس خدها بأنامله بخفة، كأنه يحفظ ملامحها في ذاكرته.

اقترب منها أكثر وهمس بصوت مبحوح وهو يضمها إلى صدره بقوة: أيوة، أنا مبعرفش أضحك غير معاكي، أنتِ إللي قادرة تضحكيني، وأنتِ اللى قادرة تبكيني، أنتِ بدايتي ونهايتي.

وفجأة سحبها عليه وأغمض عينيه وهو يضمها أكثر، وضحكهما ذاب في صمت دافئ لا يشبه إلا الحب.

وخلال تلك الفترة

لم تستعد ماسة ذاكرتها رغم ما رواه لها سليم، فبقيت كما هي، بينما ظل هو عاجزا عن إخبارها بما جرى بعد هروبها الثاني، وعن سبب هروبها الآخير، رغم رغبته الشديدة في ذلك، لكنه لم يمتلك الشجاعة بعد ليسرد لها ما بدر منه.
أما ماسة، فلم تسأله عن شيء، واكتفت بسعادتها بما يفعله من أجلها، ومازالت الصور المبهمة تمر في ذهنها دون وضوح.

ورشدي مازال منشغلا بالمناقصة، لم يلتقِ بمي إلا مرات قليلة، وهي كانت متفهمة وتشجعه دائما.

أما ياسين، فلم يعد إلى القاهرة، بل بقي في الجونة يحاول التفكير بهدوء واتخاذ قراراته دون أن يظلم أحد، حاول بكل ما أوتي من قوة أن يركز تفكيره على هبة وذكرياتهما الجميلة معا، وأن يبعد لوجين عن تفكيره، لكنه لم يستطع، حتى تأكد من حقيقة مشاعره.

وبعد عودته من الجونة، حسم قراره أخيرا بتطليق هبة، بعدما أدرك أن ما بينهما قد انتهى بالفعل، ومنذ تلك اللحظة، لم يفكر إلا في لوجين، حاول الاتصال بها مرارا، لكنها لم تكن تجيب.

أما لوجين، فقد خرجت من عزلتها أخيرا، تحاول التأقلم مع الحياة قدر ما تستطيع، تضحك قليلا وتعيش كأنها بخير، لكن في داخلها مازال يسكن حزن عميق وجرح لم يلتئم بعد.

كانت كلما رأت اسم ياسين على هاتفها، تغلق الشاشة بهدوء، كأنها تغلق بابا لا تريد العودة إليه.

أما هو، فظل يبحث عنها في الأماكن التي جمعتهما، ينتظرها بلا موعد لكنها لم تأتي

في أحد المقاهي، الرابعة مساء.

كانت لوجين تجلس على إحدى الطاولات مع اثنين من أصدقائها، أمامها كوب قهوة بدأ يبرد منذ وقت طويل، بخاره تلاشى مثل دفء وجهها، كانت تضحك معهم بين الحين والآخر، لكن ضحكتها باهتة، خالية من الحياة، كأنها تحاول أن تقنع نفسها قبلهم أنها بخير.

انفتح باب المقهى، ودخل ياسين بخطوات مترددة، عيناه تبحثان وسط الزحام عنها حتى وقعت عينيه عليها أخيرا، تجمد في مكانه للحظة، تنفس بعمق كأنه يحاول تثبيت قراره، ثم تقدم نحوها ببطء محسوب.

انتبهت أحدي صديقاتها إليه، فتبادلت النظرات مع الآخري قبل أن ينهضا بخفة، وكأنهما استشعرا أن الموقف خاص.

نظرت لوجين إليهما باستغراب، وتمتمت: في إيه؟

لكن قبل أن تكمل، كان ياسين قد جلس أمامها مباشرة، رفعت حاجبيها بحدة: ياسين؟!

قال بابتسامة متوترة وهو يزفر: عمال أكلمك بقالي كام يوم، وأنتِ ولا هنا.

ردت ببرود وهي تمسك كوبها دون أن تشرب: لا، أنا هنا أهو بس أرد ليه؟
ثم أضافت بنبرة حازمة، وهي تضع الكوب بقوة على الطاولة: ياسين، من فضلك، قوم.

هز رأسه رافضا بثبات، وانحنى قليلا للأمام، صوته خرج واهنا لكنه مصر: لا مش هقوم، وهنتكلم، أنا سافرت وفكرت، وطول ما أنا مسافر، مكنتش بفكر غير فيكي كن..

قاطعته بنبرة حادة وهي تنهض من مكانها: ياسين، لو سمحت، بلاش الكلام ده.

أمسكت حقيبتها بسرعة بيد مرتجفة، وغادرت بخطوات متوترة، أما هو، فألقى بعض الأموال على الطاولة بسرعة، واندفع خلفها.

في الخارج، كانت تفتح باب سيارتها حين جاء من خلفها، أغلق الباب بيده ووقف أمامها بعناد واضح، وقال بصوت متوتر، تملؤه الرجفة والإصرار: مش هتمشي غير لما نتكلم!

رفعت رأسها نحوه، عيناها تلمعان بتعب وملامحها منطفئة: مفيش بينا كلام يا ياسين.

اقترب منها خطوة، وصوته ارتفع قليلا بانفعال مكتوم، وملامحه ترتجف: لا، في بينا كلام! أنتِ لازم تسمعيني، أنا لما سافرت قعدت أفكر، حاولت اخد قرار صح، علشان مظلمش هبة ولا أظلمك، بس ملقتش نفسي بفكر غير فيكي أنتِ، أنتِ اللي كنتي وحشاني، إنتِ اللي شاغلة تفكيري، أنتِ ال..

رفعت عينيها نحوه برجاء موجوع، وقاطعته وهي تهمس بصوت مرتجف: ده غلط يا ياسين، صدقني ده غلط، أبوس إيدك ارحمني.

مد يده نحوها كأنه يرجوها: إيه الغلط في إني بحبك؟ هبة هي اللي خرجت نفسها من قلبي، مش أنتِ، وبعدين، لما كنت معاكي، عرفت إني أصلا محبيتهاش.

ضحكت لوجين بخفوت مرير، ودمعة انزلقت من عينها وهي تهز رأسها بيأس: لا والله؟

ثم اضافت بنبرة حاسمة، وكل كلمة تخرج منها كطعنة هادئة: طب يا ياسين، حبيتها محبتهاش مش فارق معايا، اللي فارق إن إحنا الاتنين مع بعض استحالة.

قال بسرعة، كأنه يتشبث بأمله الأخير: بس أنا هطلقها، يا لوجين أنا اصلا واخد القرار من زمان وأنتِ اللي كنتي بتقولي اصبر، بس خلاص مش هينفع، أنا لو رجعت لهبه هبقى فعلا بظلمها، فطلاقنا كده كده هيتم.

نظرت له بوجع عميق، صوتها اختنق وهي تقول: برضو تطلقها متطلقهاش أنا مليش دعوة، أنا مش هكون الست اللي خربت بيت راجل متجوز، واخدته من مراته وبنته، عمري ما هحط نفسي في الموقف ده، ولا هقبله علي نفسي..

ثم اضافت وهي تنظر له بعينيها الحزينة برجاء، وقالت بنبرة مبحوحة: ارجع لمراتك يا ياسين، ارجع لبيتك ولبنتك، اقنع نفسك إنك بتحبها، حتى لو بالكدب، بس صدقني، أنا بالنسبالك كنت شوية اهتمام، لا أكتر ولا أقل.

قال بانفعال جريح، وعينيه تلمعان بالتمرد: هو أنتِ فاكرة إني بحبك عشان شوية الحاجات اللي كنتي بتعمليهالي؟! أنتِ للدرجة دى شيفاني عيل صغير قدامك ومش عارف احدد مشاعري؟!

ردت ببرود موجع، تمسح دمعتها وهي تفتح باب السيارة من جديد: أنا مقولتش كده، بس صدقني أنت موهوم، وحتى لو مش موهوم، حبك مرفوض، وتأكد إن لوجين وياسين مش هيتجمعوا أبدا.

ثم أضافت وهي تنظر له نظرة أخيرة، وعيناها تلمعان بالألم، وقالت بنبرة مهتزه: متتصلش بيا تاني، ولا تيجي في مكان أنا فيه لو سمحت، ارجوك ياسين متخلنيش اعمل حاجة مش أخلاقي.

دفعت يده عن الباب، صعدت السيارة بعزم، وأغلقت الباب بقوة وانطلقت، بينما ظل ياسين واقفا يتابعها بنظرات موجوعة حتى ابتعدت، زفر بتعب وحزن، ثم تحرك ببطء نحو سيارته، جلس خلف المقود صامتا، وأسند رأسه إلى المقعد قبل أن يدير المحرك ويرحل.

فيلا سليم وماسة، الثالثة عصرا

دخل مصطفى برفقة عشري إلى الفيلا بخطوات مترددة، لا يدري ما الذي جاء به إلى هنا، ولا ما الذي يريده سليم منه بالضبط.

كان سليم في انتظاره عند الباب، يقف بهدوء، يرتدى ملابس كاجوال، والنظارة الشمسية تخفي نصف ملامحه.

خلع سليم نظارته ببطء، وهبط الدرجتين بخطوات واثقة حتى وقف أمامه قائلا بصوت متماسك: مش بترد عليا ليه يا دكتور؟ بقالي أسبوع بكلمك!

أجاب مصطفى وهو يخلع نظارته بدوره، مستخدما نفس نبرة وكلمات سليم: هو أنا المفروض أبررلك؟

أرتفع حاجبا سليم، وقال بنفاد صبر: إيه شغل الأطفال ده؟

ضحك مصطفى بسخرية خفيفة: شغل أطفال!؟ ما أنا كمان فضلت أكلمك كتير وأنت مكنتش بترد، ولما سألتك قولتلي نفس الجملة..

نظر سليم مستنكرا وهو يقول بنبرة ساخرة: تفتكر أنا ممكن أكلمك أكتر من مرة ليه؟؟ أكيد في حاجة كبيرة حصلت، مش بكلمك أحب فيك يعني، أنا مش خطيبتك علشان متردش عليا؟!

نظر له مصطفى بإستنكار: إيه إللي ممكن يكون حصل يعني؟ ماشاء الله شايفكم اتصالحتوا وصوركم في الحفلة كانت جميلة؟!

رمقه سليم من أعلى لأسفل وهو يضيق عينه قليلا قال له بنبرة ذات معنى: أنا هحاول مصدقش الأفكار إللي في دماغي وأقول إنك غيران، وهمشيها مقموص ..

مرر أنامله على ذقنه، وهو يركز النظر فيه قائلا بنبرة لازعة: متهيألي ده احسنلك، يا دكتور، بس خد بالك أنا مش هصبر عليك كتير. 

قلب مصطفى عينه بملل، وهو يقول بحزم: أنت عايز إيه مني يا سليم؟!

نظر له سليم للحظة قبل أن يقول بهدوء: تعالى معايا وهتفهم.

تحرك سليم أولا، يتبعه عشري في صمت بينما مصطفى توقف مكانه ينظر له بإستغراب..

رفع مصطفى صوته قليلا، قائلا بحسم وهو مازال واقفا في مكانه: تعالى هنا، أنا مش واحد من رجالتك علشان تمشيني وراك كده من غير ما أفهم.

ألتفت له سليم قائلا بحسم: هتفهم جوة.

تحرك سليم بخطوات واثقة، ارتدي نظارته الشمسية بحركة حاسمة، تنبع منها قوة الحضور وهيبة السيطرة فلم يلق بالا لما قاله مصطفى، وكأنه وحده محور المكان.

توقف مصطفى لحظة، ينظر إليه بإستغراب ممزوج بالضيق، يحاول أن يسيطر على انفعاله الذي كاد أن يفضحه، تنفس بعمق، وزفر تنهيدة طويلة، ثم تحرك خلفه في صمت، خطواته مترددة، لكن فضوله وغليان الأسئلة في صدره كانا يدفعانه للحاق به؛ كي يعرف ماذا يريد سليم، سار الثلاثة حتى وصلوا إلى الحديقة الخلفية.

الحديقة الخلفية.

كانت ماسة تجلس هناك، على المقعد الخشبي تحت الشجرة، تستمع إلى الأغاني في سماعات، بينما تقلب في صورها مع سليم على هاتفها، تبدو هادئة، غريبة عن كل هذا التوتر.

توقف مصطفى في مكانه، وعيناه اتسعت قليلا حين رآها، فنظر إلى سليم نظرة متعجبة كأنها تعني"عايز إيه بالضبط؟"

لكن سليم لم يتأثر بنظرته، اكتفى بأن أشار برأسه نحو ماسة وهو يقول بنبرة هادئة تخفي توترا خفيا: روح سلم عليها، مش أنت كنت عايز تطمن وتشوف ماسة عاملة إيه؟ اتفضل.

ظل مصطفى ينظر إليه لحظة، بعين يملؤها الاستغراب، كأنه يحاول أن يفسر ما وراء كلماته، شعر أن هناك شيئا غريبا، شيء غير مريح في نبرة سليم وهدوئه المفاجئ، لكنه تجاهل إحساسه في النهاية، فكل ما أراده حقا في تلك اللحظة أن يطمئن على ماسة.

تقدم بخطوات بطيئة حتى وقف أمامها، بينما بقي سليم واقفا بجانب مكي وعشري، يتابع المشهد في صمت.

همس مكي: تفتكر هتفتكر حاجه؟

سليم بنبرة غامضة وعينه مثبته عليهم: إدينا بنجرب.

رفع مصطفى صوته قليلا وهو ينظر إليها: انبسطت لما شوفت الصور، وشوفتك سعيدة فيها، بس ياريت تفهموني بقى، أنتم جايبني هنا ليه؟

رفعت ماسة رأسها ببطئ، عيناها تحملان نظرة فارغة من المعرفة، نزعت السماعات من اذنيها، وتساءلت ببراءة: حضرتك بتكلمني آني؟

ابتسم مصطفى في ذهول فهو لم يفهم بعد ولم ينتبه للهجتها: حضرتي؟! أيوة حضرتي، بكلمك أنتِ يا ماسة.

اتسعت عينيها بدهشه عند ذكره لاسمها، فتوقفت ثم نظرت نحو سليم قائلة بنبرة حائرة: هو أنت تعرفني؟ سليم، مين ده، هو آني أعرفه؟

تقدم سليم خطوة للأمام، وصوته خرج خافتا: أنتِ مش عارفاه يا ماسة؟ ركزي كده يمكن تفتكريه.

نظرت ماسة لمصطفى للحظة طويلة وهي تدقق النظر به، ثم هزت رأسها ببطء، وقالت بهدوء قاتل: لأ مش فاكرة، آني منعرفوش ولا عمري شوفته قبل كده!؟

تجمدت ملامح مصطفى، التقطت اذنبه لهجتها المختلفه، والقلق بدأ يتسرب إلى صوته المرتجف: هو إيه إللي بيحصل بالظبط؟! ماسة مالك؟

أرتفع صوته ونظر لسليم، يهتز غضبا وذعرا: أنت عملت فيها إيه؟!

وبتلقائية، دون وعي، مد يده وأمسك كتف ماسة بقوة، يهتف بجنون: أنتِ مش عارفاني؟ بصيلي! بصيلي في وشي يا ماسة! بجد مش عارفاني؟! أنا مصطفي.

ارتجف جسد ماسة، وبدت ملامح الخوف على وجهها وهي تهز رأسها سريعا: لأ، آني منعرفكش!

في تلك اللحظة، اندفع سليم نحوه، نزع يده من عليها قائلا ببحة رجولية حادة: نزل إيدك متلمسهاش!

لكن مصطفى ألتفت له بعينين تشتعلان غضبا، وأمسكه من ياقه قميصه، وهو يهتف بعنف: أنت عملت فيها إيه، انطق؟!

حاول سليم ابعاده، وهي يقول بغضب وبحة رجولية: نزل إيدك، أنا معملتش حاجة! هي وقعت وفقدت الذاكرة، مفيش حاجة تانية!

مصطفى بغضب: وأنا المفروض أصدق العبط ده؟!

صرخت ماسة بخوف، ووقفت أمام سليم وكأنها تدافع عنه، وهي تقول بصوت مرتعش: أنت مين! متتكلمش مع سليم كدة بتزعقله ليه؟
ثم ألتفتت برأسها لسليم تساءل ببراءة: مين ده يا سليم؟!

كاد أن يجيبها، لكن مصطفى كان كأنه فقد السيطرة على نفسه، أقترب منها وهو يلهث، ودموع الغضب في عينيه، أمسكها من كتفها مرة أخري وهو يهزها: بصيلي يا ماسة! أنا مصطفى، مصطفى إللي أنقذك، افتكريني! نبيلة، إسكندرية، عائشة، إيهاب!"

بدأت دموعها تهبط من عينيها بخوف، تهز رأسها بسرعة وهي تبكي: مش فاكرة! والله مش فاكرة!

صرخ سليم بغضب، وهو يزيح يد مصطفى عنها بعنف: قولتلك متلمسهاش! 

لكن مصطفى أنفجر فيه فجأة، صوته بدأ يعلو، وهو يدفعه بغضب: انت عملت فيها إيه يا مجرم؟!

وفجأة وجه له لكمة قوية أصابت وجه سليم، فتراجع للخلف قليلا، والدم هبط من شفته.
صرخت ماسة بذعر، وبكت بحرقة وهي تتجه نحو سليم: أنت بتضربه ليه يا حيوان..

تقدمت بخوف، لكن الحراس تدخلوا فورا، صاح سليم بصوت جاف ومتوتر: محدش يدخل!

ثم ألتفت نحوها، يشير بيده: أبعدي أنتِ يا ماسة!

سحبتها راوية (الحارسة الشخصيه) من كتفها بعيدا، لكن ماسة كانت تقاوم بعنف وهي تصرخ باسم سليم، وتركل الأرض بعشوائية.

سليم محاولا السيطرة على غضبه: مصطفى أعقل، أنا استحملتك كتير، وإللي بتعمله ده مينفعش!

لكن مصطفى لم يكن يستمع اليه، فهو فقد السيطرة كليا، الغضب قد أعمى بصيرته، فأندفع نحوه قائلا: أنت فاكر نفسك ايه؟ محدش قدك؟ أنا مش هسمحلك تأذيها أكتر من كده!

رفع يده مجددًا محاولًا أن يلكم سليم، لكنّ سليم هذه المرة فقد أعصابه، فتفادى الضربة بسرعة ورد بلكمة قوية جعلت الآخر يتراجع خطوة إلى الوراء وهو يصرخ بغضب مكتوم اندلع العراك، وتبادلا اللكمات.

بينما كانت ماسة تصرخ بهستيريا، تحاول الإفلات من يد راوية التي تمسكها بقوة: سليم! سليم! مكي! إلحقوه! أوعى أنتِ بقي.

كل ذلك حدث في ثواني، تدخل مكي وعشري بسرعة، يحاولان تفريقهما.

صرخ مكي وهو يدفع مصطفى للخلف: يا دكتور مصطفى! كفاية بقى، إللي بتعمله ده ميصحش! 

لكن مصطفى لم يكن يدرك ما يفعل؛ وجهه متشنج، عروقه نافرة عند صدغيه، وعيناه تقدحان شررا كأن النار اشتعلت فيهما فجأة، امتدت يده في حركة غاضبة غير محسوبة، سحب مسدس مكي من خصره بعنف، وصوبه نحو سليم، واصابعه ترتجف على الزناد، بينما أنفاسه تتلاحق، وصدره يعلو ويهبط بسرعة مخيفة من شدة الانفعال.

اتعست عيني مكي، ورفع يديه محاولا تهدئته: أهدى يا دكتور، إللي بتعمله غلط، فوق....

أما سليم، كان الدم يسيل من فمه، فقال بصوت مبحوح مختنق: مصطفى أهدى، أنا معملتش حاجة.

صرخ مصطفى في وجهه، والدم يسيل من فمه وحاجبه، وصوته يرتجف بالغضب: قول لرجالتك يرجعوا ورا !

فجأة رفع مصطفى المسدس لأعلى ضغط على الزناد فدوى صوت الرصاص في الهواء يخترق السكون كالصاعقة في تهديد صريح.

ارتجفت ماسة في مكانها، وضعت يديها على أذنيها بعفوية، وأغمضت عينيها بقوة، كأنها تحاول أن تحتمي من الصوت أو من شيء أعمق منه، ودموعها تسيل بشدة من عينيها.

بدأ جسدها يهتز، وأنفاسها تتسارع، وملامحها تتغير، كأن شيئا ما اهتز في داخلها فجأة، صور مشوشة بدأت تومض في ذهنها، مازلت غير واضحة، لكن المشهد الذي كانت تراه أمامها سليم في مواجهة مصطفى كان أقوى من أن يسمح لتلك الصور بالسيطرة الكاملة، فبقيت مترددة بين الحاضر والذاكرة، بين الرصاصة التي دوت للتو، والذكريات التي تحاول أن تعود.

صرخ مصطفى مرة أخرى، بصوت مبحوح ومليء بالانفعال: خليهم يبعدوا قولت ! كلكم تبعدوا !

كانت كلماته كأنها طعنة أخرى في الجو المشحون،
فكل من حوله تجمد، لا أحد يجرؤ على الاقتراب،
بينما عيون ماسة مازالت ترتجف في اضطراب غريب، كأنها ترى شيئا لا يراه سواها.

أشار سليم بيده بثبات، وصوته خرج حادا قويا: محدش يقرب، كله يبعد.

تبادل الرجال نظرات حائرة، ثم بدأوا يتراجعون ببطء، إلا مكي الذي ظل واقفا في مكانه، بين سليم ومصطفى، عيونه تتحرك بينهما، كأنه غير مصدق ما يحدث.

رفع سليم نظره نحوه، وقال بنبرة قاطعة غليظة: مكي قولت أبعد.

لكن مكي لم يتحرك، وكأنه يتحداه بعينيه حادتين، خطا سليم نحوه خطوة واحدة، وصوته هذه المرة كان أشد حزما: قولت أوعى

تراجع مكي في صمت مضطرب، يداه مرفوعتان، وملامحه يملؤها التردد والخوف.

تقدم سليم بعدها بثبات نحو مصطفى، يقف أمامه دون أن تهتز نظرته، وخرج صوته بهدوء أخطر من أي صراخ: أهدى يا دكتور مصطفى، ونزل المسدس، دي مش أخلاقك ولا طباعك، متخليش غضبك يغلطك، أنا فاهم خوفك على ماسة، بس صدقني، أنا لا يمكن أذيها.

صرخ مصطفى، وعيناه تلمعان بالغضب: عايز تفهمني إنها فقدت الذاكرة كده لوحدها؟! ولا أنت إللي قاصد تعمل كدة علشان تجبرها تعيش معاك.

تقدم سليم بخطوات بطيئة، يده مرفوعة بتحذير، صوته واهن لكنه ثابت: نزل المسدس يا مصطفى، وأسمعني، لو أنا السبب كنت هجيبك هنا ليه؟! أنا جبتك عشان تساعدها تفتكر، أعقل كلامك وأهدى ونزل المسدس؟

لكن مصطفى لم يكن يسمع سوى صوت الغضب في رأسه، ارتجاف يده لم يكن من الخوف، بل من فيض المشاعر التي انفجرت داخله، فصرخ بشدة: أنت كداب.

أنكسر صوت ماسة وهي تبكي بحرقة، صوتها يختلط بالهلع والارتباك: سليم، أبعد يا سليم من قصاد المسدس، أنت عايز منا إيه؟! آني معرفكش!

ألتفت مصطفى نحوها بعينين متسعتين، وصوته يرتجف بالغضب والخذلان: ماسة، ركزي في إللي بقولك عليه! ده سليم؛ سليم إللي ضربك، وهددك بأهلك، إللي ضرب عمار بالنار، وخرجك في الشارع بقميص النوم!

كانت ماسة تزداد اضطرابا، عيناها تائهتان بينهما، الدموع تغرق وجهها

ماسة بنبرة مهتزة انت بتقول ايه؟!

في الخلف، كان أحد الحراس يتحرك ببطء، يحاول أن يقترب من مصطفى دون أن يلفت انتباهه، خطواته حذرة، يده تمتد ببطء نحو المسدس، لكن اللحظة كانت أسرع من أن تدرك، فما إن لامست يد الحارس ذراع مصطفى حتى انتفض جسده بعنف، وضغط على الزناد دون وعي أو قصد، فانفلتت منه الرصاصة، شقت الهواء بصوت مدوي، كصاعقة تمزق  الصمت، فـتناثر رذاذ من الدماء على وجه سليم.

وارتفعت صرخة ماسة الحادة، تزلزل المكان كله: سليــــــــم!


تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة