
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الخامس عشر 15 بقلم ليله عادل
{"ليس كل ما يقال يكون عن قصد، ربما هو وجع عالق في القلب فخرج بلا وعي، وليس كل ما لا يقال يجهل معناه، فأحيانًا الصمت هو أكثر ما يوجع، وأحيانا القلب يمل، لا لأنه ضعف، أو لأن الحب قل، بل لأنه لم يعد يقوى على الصبر وفي النهاية، هو وجع كبير."}
ليلةعادل🌹✍️
الفصل الخامس عشر❤️🤫
[بعنوان: وجع لا يُسمع ]
انفلتت رصاصة، شقت الهواء بصوت مدوي، كصاعقة تمزق الصمت، فتناثر رذاذ من الدماء على وجه سليم، الذي ترنح للخلف بصدمة، عيناه متسعتان، لكنه ظل واقفا مكانه.
ارتفعت صرخة ماسة الحادة، وهي تدفع راوية بعيدا عنها بقوتها: سليــــم!
هرولت إليه في الحال، تتحسسه بجنون ودموع هيستيرية تهبط من عينيها وهي تحرك أناملها على وجهه وجسده كأنها تبحث عن موضع الرصاصة وهي تقول بهلع: سليم أنت كويس ها؟
ارتجف صوتها وهي تهمس في بكاء هستيري: سليم رد عليا، بالله عليك رد!
رفع عينه نحوها وهو يرمش بعينيه وقال بسرعة متقطعة: مش أنا! مش أنا.
بمجرد مانطقها، ألتفت بعفوية ناحية مكي الذي سقط أرضا والد"ماء تسيل من كتفه، فصاح بصوت مرتجف: مكي!
كان مكي ملقى على الأرض، ينزف من أحد كتفيه، بينما وقف عشري وبعض الحراس إلى جواره، والتوتر بادي على ملامحهم.
اندفع نحوه بخوف، جالسا بجانبه وهو يضع يده على الجرح النازف، قائلا بنبرة مهتزة: مكي، أنت كويس؟
رفع مكي نظره إليه، ووضع يده فوق يد سليم، قائلا بصوت متعب متهدج: متقلقش، جت في كتفي.
صرخ سليم بفزع: عشري! دكتور بسرعة!
أخرج عشري هاتفه على الفور: حالا يا ملك!
ثم ألتفت إلى مكي وهو يضغط على الجرح بقوة: متتكلمش كتير، شد إيدك على الجرح بس!
صرخ مرة أخرى ببحة رجولية جهورة: صبحي فين؟!
ركض أحد الحراس إليه وأجابه بأنفاس متلاحقة: هجيبه حالا يا باشا!
ابتسم مكي بخفوت وهو يلهث: أنا كويس يا سليم، بسيطة أهدى.
صرخ سليم بعصبية يائسة: بسيطة إيه بس؟! بسيطة إيه؟!
وفي الخلفية، كان مصطفى واقفا كتمثال، عيناه متسعتان، والمسدس يتدلى من يده المرتجفة، لم يستوعب بعد ماحدث، لم يقصد أن يطلق النار، كل شيء كان أسرع من أن يُفهم، ذلك الحارس الذي جذب ذراعه من الخلف السبب، كان وجهه شاحبا، كأنه يرى للمرة الأولى أنه يقتل، أو كاد يقتل، إنسانا.
بينما ماسة كانت تقف في صدمة، تحاول أن تستوعب ما يحدث، وصداع غامض يضرب رأسها، تتداخل معه صور مشوشة، كأنها أشباح من الماضي؟ دموعها تنساب كطفلة تائهة، وفي عينيها رعب لم تعرف مصدره، نظرت إلى يديها المرتجفتين، وبعض قطرات الدماء مازالت عالقة عليهما، تلك التي مسحتها منذ لحظات عن وجه سليم.
جز سليم على أسنانه بغضب حتى كاد أن يفتك بهم، وتلاحقت أنفاسه كوحش محاصر، ثم نهض فجأة، واستدار نحو مصطفى، وهوي بقبضته عليه كالصاعقة، وهو يصيح ببحة رجولية جهورة: أنا بقالي كتير مستحمل جنانك، وبحاول اتحكم في غضبي، وشايلك إنك وقفت جمب ماسة، بس توصل إنك ترفع سلاح وتضرب نار في بيتي، فلاء، أنت كده اتعديت كل الخطوط الحمرا، ولو عايز تشوف وشي التانى اوريهولك.
تراجع مصطفى للخلف بعنف كأن الأرض زلزلت تحت قدميه، وأنفلت المسدس من بين أصابعه، كأن قوته قد تبخرت مع أول ضربة، أخذت الضربات تتوالى عليه وصوت ارتطامها يملأ المكان، وهو لا يقاوم فمازال تحت تأثير الصدمة، وفي تلك اللحظه أجتمع الحراس حولهم محاولين ابعاد سليم عنه، لكنهم لم يستطيعوا.
تراجعت ماسة إلى الخلف، بعينان متسعتان وهي تنظر بذهول إلى سليم وهو ينهال ضربا على مصطفى، وضعت يديها على فمها، ودموعها بدأت تنهمر في صمت يملؤه الخوف والارتباك.
اشتد عليها الصداع وبدأت تظهر أمامها صور غريبة، مثل تلك التي كانت تراها من قبل، لكن هذه المرة كان سليم واضحا فيها، يضرب أحدهم بعنف، ليس مصطفى، بل شخصا آخر ! وجهه غامض لا تراه بوضوح، لكن الصوت، والغضب، والدم، كل شيء كان حقيقيا جدا.
فجأة ثقلت أنفاسها، عينيها تحدقان في الدماء التي لطخت الأرض، ثم رفعت بصرها إلى سليم، الذي يحاصر مصطفي وينهال عليه ضربا بعنف، ثم الى مكي الذي أصيب بالرصاص والدماء تلطخ قميصه..
حاول الحراس جاهدين إبعاد سليم عن مصطفى، لكن سليم كان كالثور الهائج، لا يبتعد، ولا يسمع، وكأن الغضب قد أعمى بصيرته تماما.
وهنا دفعه مصطفى بعنف، وكأن ألم الضربات أعاده إلى وعيه، ثم باغته بضربة مفاجئة، فتحول المشهد إلى فوضى عارمة.
استطاع الحراس الفصل بينهم أخيرا، فتراجع سليم بأنفاس متلاحقة وعروق تكاد تنفجر، وفي لحظة خاطفة، انتزع مسدسا من خصر أحد الحراس، وأطلق رصاصة في الهواء، فدوى الصوت في الحديقة كالصاعقة، وجمد الجميع في أماكنهم.
صرخ سليم بصوت جهور مشتعل: محدش يقرب!
كانت عيناه تلمعان بوهج خطر، وصدره يعلو ويهبط بعنف، ويده مازالت مرفوعة بالمسدس، فجأة صوبها نحو مصطفى.
فصرخت ماسة بتوسل: سليم لااا لاااااا.
وفجأة، انفتحت بوابة في عقلها، صورة مألوفة تشق طريقها بقسوة، وجه عمار، الطلقة، الدم، سليم وهو واقف امامها يقوم بتهديدها، ضرب سليم لها، ركضها في الشارع بقميص النوم، وجه مصطفى وهو ينقذها في السيارة.
أغمضت عينيها بقوة، وضعت كفيها على أذنيها كمن يحاول منع صوت الذاكرة من الانفجار في رأسها، تسارعت أنفاسها، واشتد وجع رأسها، والنبض في قلبها يخفق كالمطرقة، وضعت يديها على رأسها، أطبقت جفنيها، تائهة بين الوعي واللاوعي.
وفي داخل عقلها، تدفقت الصور كالسيل، كل ذكرى نسيتها كانت تعود دفعة واحدة، بعنف لا يحتمل، فتحت عينيها في ذهول، حاولت أن تتنفس، لكن الهواء لم يدخل صدرها، ثم صرخت، صرخة اخترقت السكون، كأنها تمزق جدار النسيان نفسه.
وفجأة فقدت توازنها، وسقطت أرضا، عيناها نصف مفتوحتين، ووجهها غارق في الدموع، فعم صمت ثقيل المكان.
تجمد سليم في مكانه حين استمع لصراخها، اتسعت عيناه بخوف، فاستدار نحوها وحين وقعت عيناه عليها وهي ملاقاه أرضا، انفلت المسدس من بين يديه، وهرع إليها بوجه شاحب، ويداه ترتجفان وهو يربت على وجنتيها برعب.
صوته خرج متقطعا من شدة القلق: ماسة! مالك، سامعاني؟ ماسة، ردي عليا يا حبيبتي! إيه إللي حصل.
لكنها كانت في عالم آخر في تلك الصور التي تراها!
كان عشري بجوار مكي، يضغط على الجرح بكلتا يديه، فقال مكي بصوت متهدج وهو يضغط على الجرح: أنا كويس انا كويس المهم سليم شوف سليم وماسة.
في الجهة الأخرى.
كان الحراس يمسكون بمصطفى الملقى على الأرض، وجهه متورم من ضرب سليم، يحاول أن ينهض لكن قبضاتهم اتشدت عليه، كل ذلك حدث في دقيقة ليس اكثر لكنها مرت كالدهر.
مازال سليم يحاول إفاقة ماسة، لم يلتفت لأي شيء، كأن كل ما حوله ضبابا، إلا هي.
حملها بذراعيه بسرعة، صوته يعلو بغضب وذعر مكتوم: أبعدوا من وشي!
أنطلق بها إلى الأريكة ووضعها عليها، أسرع احد الحراس إليه مد له زجاجة ماء: سليم بيه، مية!
أخذها بسرعة ورش القليل على وجهها، سقطت قطرات الماء على وجنتيها وشفتيها، تحركت عيناها ببطء، تتلمس الوعي من بعيد.
مدت راوية له زجاجة عطر، فأخذها ورش على كفه، وقربه من أنفها، ثم همس وهو يمرر أصابعه على وجهها بحنان عارم: يلا يا ماسة، فوقي يا حبيبتي، سامعاني؟
فتحت عينيها قليلا، شفتاها بالكاد تتحركان: آااه، سليم، سليم.
مسح على خدها بحنان: أنا هنا أهو، متخافيش، بصيلي، متبصيش هناك.
سحبها اليه، يحتضن رأسها بين كفيه، يمرر أنامله على شعرها ووجهها بلطف متوتر، وصوته يتهدج بالعطف والوجع: أنتِ كويسة؟ ها؟ قوليلي يا ماسة، إيه إللي حصل؟
رمشت بعينيها، وراحت تتلفت حولها، تنظر إلى مصطفى الملقى أرضا، ثم إلى مكي المصاب، ثم إلى الوجوه المذعورة من حولها، وأخيرا إلى سليم، كانت تتأرجح بين الوعي واللاوعي، لا تستوعب تماما ما يحدث.
أحاط وجهها بكفيه يجعلها تنظر إليه وهو يتساءل بقلق: أنتِ كويسه يا عشقي؟
هزت رأسها إيجابا بصمت متعب.
حاول مكي النهوض فتأوه بألم، انتبه له سليم، فأبتعد عنها قليلا، نظر نحو مكي بقلق، وصوته خرج مبحوحا: مكي! أنت كويس؟
ثم صاح بنبرة رجولية جهورة: الدكتور لسة مجاش ليه؟ عشري!
عشري بسرعة: جاي حالا يا ملك!
صاح سليم ببحة رجولية جهورة: هيفضل جاي ساعة؟! هنستنى لما مكي يتصفي؟! متتصرف هي أول مرة؟! الزفت صبحي فين! خليه يطلعها بسرعة لحد ما الدكتور يوصل ويعمل اللازم!
كان مكي يحاول أن يبدو متماسكا رغم الألم، وقال بصوت متقطع: سليم إهدى الرصاصة مدخلتش في دراعي دي شظية بس، أنا كويس المهم شوفها هي.
نظر سليم إلى جرحه للحظة، ثم إلى ماسة التي تتأرجح بين الوعي واللاوعي، لا يدري ماذا يفعل أولا، وعيناه تتنقل بين صديق عمره وبين زوجته وحب حياته.
حاول مصطفي الإفلات من الحارس الممسك به ليذهب للاطمئنان على ماسة، فصاح بضجر: أوعي أنت وهو، شوية همج صحيح زى إللى مشغلكم.
اشتد غضب سليم منه مرة اخرة، وكاد أن يندفع نحوه من جديد، لكن صوت ماسة الضعيف أوقفه وهي تمسك كفه: سليم ملكش دعوة بمصطفي، أنت وعدتني! وسليم مبيرجعش في وعوده.
تجمد في مكانه لحظة، ألتفت لها بذهول، عيناه اتسعتا كأنه سمع المستحيل.
عدلت من جلستها ببطء متعب، وهمست بصوت واهن متوسل: علشان خاطري، متقربش منه، كفاية إللي عملته، أنا خلاص افتكرت، افتكرت كل حاجة.
ارتسمت على شفتي سليم ابتسامة واسعة، امتلأ وجهه بفرح غامر، كأن الحياة عادت إلى صدره فجأة، وهرول اليها يضمها بقوة، كأنه يخاف أن تضيع منه ثانية، اخذ يضع قبلات متعددة على مختلف وجهها ويديها وعيناه تلمعان بدموع حارة: الحمد لله، الحمد لله يا ماسة!
أبعدها قليلا، وضم وجهها بين كفيه، يركز النظر في ملامحها، وابتسامة السعادة تملأ ملامحه، وعيناه تلمعان بدموع الفرح، همس بصوت متهدج: الحمد لله يا عشقي، حمدالله على سلامتك..
ثم جذبها إلى صدره من جديد، وضمها بقوة كأنه يخاف أن تفلت منه مرة أخرى.
كانت ماسة تحاول أن تفتح عينيها بصعوبة، لكن الصداع كان يضرب رأسها بعنف، تشعر بثقل غريب، وكأن صخرة انغرست فوق رأسها، كل شيء حولها بدا ضبابيا، لا تميز الأصوات، فقط دفء يديه وارتجاف قلبها الذي يحاول استعادة إيقاعه.
شعر سليم بثقل رأسها على صدره، إذ بدت كأنها تفقد وعيها للمرة الثانية، ارتجف قلبه، وانحنى نحوها هامسا بذعر: ماسة! ماسة!...
لكنها لم تجُيب؛ كانت أنفاسها واهنة، وجسدها مستسلم تماما، احتواها بين ذراعيه وحملها مسرعا، والخوف ينهش ملامحه، وهو يصيح بصوت مبحوح مرتجف: عشري أتصل بالدكتور ياسر خليه ييجي حالا!
ثم نظر إلى مكي وهو يلهث: مكي، روح مع عشري، خليه يخلصلك الجرح عند صبحي لحد ما الدكتور يوصل، يلا بسرعة.
تحرك بها مسرعا لداخل الفيلا صعد بها الدرج،
ثم توجهه بها نحو غرفتها.
غرفة النوم
دخل سليم الغرفة وهو يحملها، كانت ماسة فاقد للوعي قليلاً، وضعها على الفراش برفق، ثم ركض إلى التسريحة، تناول زجاجة العطر، وعاد إليها على عجل، وضع قليلا منه على يده، وبدأ يمسح وجهها بنعومة: حبيبتي، فوقي يا ماسة.
رمشت بعينين ثقيلتين دون أن تتكلم.
سليم برجاء: خليكي مفتحة عنيكي، خليكي معايا يا ماسة، سامعاني؟ الدكتور هيكون هنا بسرعة.
جلس بجوارها، ثم جذبها إليه بخوف ممزوج بالحنان، احتواها بذراعيه، وأسند رأسها إلى صدره، يحيط ظهرها بحنان ليحميها من كل شيء، حتى من انهياره هو.
💞________________بقلمي_ليلةعادل
في أحد المطاعم الفاخرة الخامسة مساء
جلست هبة مع إحدى صديقاتها، تضحك كأن لا شيء يشغل بالها في تلك الفترة، وأثناء ذلك، دخلت فايزة المكان برفقة أثنين من أصدقائها، واستقبلت المكان بفخامتها المعتادة، كل خطوة لها صدى، وكأن المكان ملكها وحدها.
لاحظت هبة وجودها، لكنها لم تتحرك، عينها تتبع كل حركة لها.
همست لها صديقتها: حماتك…
ردت بلا اكتراث وهي تلتهم قطعة من الكيكة: خلاص بقى، كلها كم يوم والموضوع ده ينتهي.
تنهدت صديقتها: أنا مش عارفة إزاي تفرطي في ياسين بالسهولة دي !!
عبرت هبة عن انزعاجها بهدوء وهي تبعث بالشوكة في الكيك: يوم ما اتجوزت ياسين، للأسف اتجوزت معاه عيلته حاولت أفصله عنهم بس هو للأسف ماسك فيهم معرفش ليه وعيلته دي أصلا ...
صمتت للحظة ابتلعت الكلمة حاولت الهدوء: عموما معنديش مشكلة مع ياسين في معظم الأمور، لكن باقي الحاجات مشكلتي مع أهله.
صديقتها بعقلانية: أنا من رأي إنك غلطانة في حاجات كتير.
هبة بضجر وكأنها لا تريد أن تستمع للحقيقة: متعمليش زي ريتال.
على الطرف الآخر من المطعم،
كانت فايزة قد جلست في مكانها الفخم المعتاد، وعيون الحاضرين تلاحقها كأنها نجمة في مشهد افتتاح، وبالطبع، لاحظت وجود هبة.
رفعت يدها بإشارة هادئة للجرسون، قالت له شيئا قصيرا بصوت منخفض، فهز رأسه بإحترام، وأتجه بخطوات سريعة نحو طاولة هبة.
انحنى قليلا وقال بأدب: مدام هبة، فايزة هانم بتقولك إنها مستنياكي على طاولتها.
رفعت هبة نظرها نحوه، كادت تقول "لا" بحدة،
لكن صديقتها همست بخفوت وهي تلمس يدها: روحي، عيب دي لسة حماتك.
تمتمت هبة بضيق: مؤقتا بس بكرة طلاقي.
صديقتها بعقلانية: برضو يفضل تروحي، أسمعي الكلام.
زفرت ببطء وقالت بنبرة متحدية: أنا عارفة إن هي عايزة تهيني، بس والله لأرد عليها.
أخذت نفسا عميقا، شدت كتفيها كأنها تستعد لمعركة، ونهضت من مكانها بخطوات ثابتة، كل خطوة فيها مزيج من الكبرياء والغضب، حتى وصلت إلى طاولة فايزة.
رفعت فايزة عينيها نحوها ببرود واستعلاء: اتفضلي أقعدي، عاملة إيه؟
جلست هبة، حاولت تهدئ نفسها: بخير…
ابتسمت فايزة ابتسامة شماتة: أنا عرفت إللي ناويين تعملوه أنتِ وياسين، وده اللي كان لازم يحصل من فترة كبيرة.
ابتسمت هبة ابتسامة باردة: طبعا أكيد مبسوطة إنك انتصرتي.
ضيقت فايزة عينيها، باستغراب، ثم بدأت حديثها بنبرة استقراطية استعلائية ممزوجة بالهيمنة: أنا عمري مادخلت معاكي في حرب علشان أفرح بإنتصار وهمي، أنتِ أصلا عمرك ماكنتي في دماغي، بس أنتِ إللي دايما حطانا في دماغك، وخسرتي مكانك بإيدك وبطريقتك.
صمتت لحظه تنظر لهبة بنظرة فاحصة من أعلى لأسفل، قبل أن تواصل بنبرة هادئة يختلط فيها التعالي بالصدق والعقلانية: عارفة يا هبة، أنتِ فيكي مني كتير، شخصية قوية، بتحبي تمشي الدنيا على مزاجك، وكل حاجة لازم تبقى تحت سيطرتك، بس المشكلة إنك حطيتي بنتك وشغلك رقم واحد، وياسين رقم اتنين.
تابعت بنبرة حادة حاسمة: وياسين مينفعش يبقى رقم اتنين.
شبكت أصابعها فوق الطاولة، ثم قالت بنغمة هادئة أقرب لدرس مغلف بالحكمة: ولادي وشغلي كانوا رقم واحد بالنسبة لي، بس من غير عزت، مكانوش هيبقوا موجودين من الأساس.
أمالت رأسها قليلا، ونظرتها ازدادت عمقا وهي تتابع:
ببساطة، أنا كنت عارفة إن قوتي تكمل بيه، مش من غيره، علشان كده فضل رقم واحد في حياتي دايما، إنما أنتِ غبية كنتي فاكرة إنك تقدري لوحدك، أو إن نجاحك بعيد عن نجاح جوزك، ده يتسمى نجاح؟
ثم أضافت بنبرة فيها فلسفة وثقة امرأة خبيرة بالحياة: لازم تعرفي إن الراجل مينفعش يكون رقم اتنين في حياة زوجته، لازم يكون رقم واحد مع شغلها، وأولادها، وحبها لنفسها، لازم يحس دايما إنه هو الأول والأخير، وده يا هبة، مش ضعف، ده ذكاء الست الحقيقية، إللي تعرف تعمل ده حتى لو مش حقيقي.
ابتسمت ابتسامة جانبية، وقالت بنغمة تجمع بين السخرية والشفقة: لكن أنتِ عملتي العكس تماما، ولحد دلوقتي، حتى شغلك إللي بتفتخري بيه، منجحش بجد، لإنه ببساطة كله مبني على ياسين، فلوس ياسين، دعم ياسين، اسم ياسين، حتى بنتك، دي بنته هو كمان، إزاي فخورة بنجاحك وهو أصلا متأسس على فشل أهم حاجة في حياتك؟ وهي حياتك الزوجية؟!
نظرت لها هبة بثبات، عينيها تلمعان بغضب مكبوت، وقالت بصوت فيه اعتراض واضح: لا بالعكس يا هانم، أنا وصلت للي أنا فيه بمجهودي، حتى لو ياسين وقف جنبي في وقت من الأوقات، هو عمل كده بإرادته، مش عشان أنا فرضت عليه، أنا عمري ما استندت على نجاح حد، ولا على ياسين، حضرتك بس عشان شايفة الدنيا من زاوية معينة، متخيلة إن كل ست لازم تعيش في الإطار إللي أنتِ رسمتيه لنفسك.
رفعت فايزة حاجبها، بنبرة باردة فيها سخرية خفيفة:
يعني أنتِ شايفة إن طبيعي الزوج يبقى بعد شغل مراته؟
ردت هبة بسرعة: مقولتش كده، بس...
رفعت كفها لتوقفها، وابتسامة جانبية مائلة ظهرت على شفتيها، وقالت بنغمة هادئة لكنها جارحة: مشكلتك يا هبة إن كبريائك هو إللي بيقودك، أنتِ مش ذكية كفاية، وده الفرق بينا، كان ممكن تكسبي ياسين وتكسبينا كلنا، بس عنادك خسرك كل حاجة، أنتِ غبية يا هبة ومش شايفة العواقب إللي جاية من ورا اختيارك، ياسين الراوي، مش هيتأثر، ولا هيحس بأي خسارة، أنتِ إللي خرجتي نفسك من قلبه، وسيبتي مكانك لذكريات سيئة.
مالت للأمام، بصوت أهدأ لكنه أكثر قسوة: ابني بكرة هيتجوز بنت حلوة تسعده وتحبه وتقدره، ومش هيستنى كتير هو فعلا لاقيها وأظن أنتِ عارفاها.
عادت بظهرها للخلف، ونظرتها امتلأت بالسخرية والاستعلاء: شوفي أنتِ خرجتي بإيه من الجوازة دي؟ ببنت، ومجلة محدش بيقرأها، وقناة يمكن عيلتك بس إللي بيتفرجوا عليها..
ضحكت بخفة، ثم أضافت ببرود قاتل: غبية، معرفتيش تنجحي علاقتك بجوزك، وإللي بعد مافشلت، تأكد فشل كل المنظومة إللي بتتفاخري بيها.
تنهدت قليلا، مسحت بطرف أصابعها على كوب القهوة، ثم عادت تنظر إلى هبة بتمعن وهي تميل بجسدها للأمام قائلة بنغمة هادئة ولكن مشحونة: ده الفرق بيني وبينك يا هبة، أنا زيك بحب السيطرة، بحب الدنيا تمشي على مزاجي، وشخصيتي عملية، وكنت زيك في شبابي مجنونة شوية، ولما كبرت عملت زيك كنت عايزة النجاح، بس عمري مانسيت إني علشان أنجح في شغلي لازم أنجح علاقتي بجوزي، فعمري ما حسست عزت إنه رقم اتنين في حياتي، وإن أولادنا لازم يكونوا بالنسبة لينا إحنا الاتنين رقم واحد ولازم علاقتنا تنجح علشانهم.
ردت هبة بغضب مكبوت، نبرتها حادة لكنها متماسكة تحاول الحفاظ على كبرياء وسط صعقات فايزة: مين قالك يا هانم إني هندم على ياسين؟ أنا سايبة ياسين بمزاجي مش هو اللى سايبني.
رفعت فايزة حاجبها بإبتسامة استعلائية، وقالت بصوت ناعم متعمد يخفي طعنة الكلمات: هعتبر ده رد كبرياء، مش قناعة علشان كرامتنا وجعتنا، مش بقولك، يا هبة، لسة بره اللعبة مش فاهمة.
ثم مالت للأمام أكثر، وخفضت صوتها بنغمة مشوبة بالشماتة: بكرة أول ما تمسكي ورقة الطلاق، وتسمعي خبر جواز ياسين من لوجين السمري، ساعتها هنعرف نتكلم تاني ونشوف بقى مين اللى سايب مين؟!.
ضحكت ضحكة صغيرة مستفزة، وقالت ببرود قاطع: يلا روحي على ترابيزتك، كلامنا أنتهى.
نظرت هبة إليها بضيق عاجزة عن الرد، جزت على أسنانها، وتحركت نحو طاولتها، أخذت حقيبتها وغادرت مسرعة.
ابتسمت فايزة ابتسامة جانبية بإنتصار، ونظرت لها بثقة، وكأنها الملكة التي تحكم المشهد
صعدت هبة سيارتها بعصبية، والهواء يشتعل حولها كأنه يشاركها غضبها، كانت ملامحها مشدودة، وعيناها تقدحان شررا، أنفاسها متلاحقة كأنها تحاول كبح إنفجار قادم، فحديث فايزة لايزال يضرب رأسها كالصاعقة.
أدارت المحرك وهي تتمتم بغضب: أنا تقل مني، ومن نجاحي؟! وجاية توصلي إني مش فارقة مع ياسين وهيتجوز؟!
كادت أن تصتدم بسيارة ظهرت أمامها فجأه، فقبضت على المقود بقوة، وانحرفت بالسيارة نحو جانب الطريق بعنف حتى صرخت العجلات على الأسفلت، ثم صاحت بغضب مكتوم وهي تضرب بيدها على عجلة القيادة: ياربي إيه القرف إللى أنا عايشة فيه ده!
صمتت لحظة، عينها تهتز بين المراية والهاتف، ثم فجأة لمعت في عينيها فكرة، فمدت يدها إلى هاتفها، فتحته بعصبية، وضغطت الرقم بسرعة.
في تلك اللحظه كان ياسين يقف عند مدخل أحد الكافيهات، عيناه معلقتان على لوجين الجالسة بالداخل، كانت تضحك مع صديقتها، وهو يراقبها بنظرة شوق صامت، حتى قاطعه تعالي رنين هاتفه، وحينما رأي اسم هبة يضيء الشاشة، مسح على وجهه، وأجاب بصوت خافت: ألو ..
جاءه صوتها الحاد الذي لا يعرف انتظارا: عايزاك تقابلني حالا.
رد بنبرة فيها حذر وملل: خير؟ عايزة إيه؟
أجابته بحدة مختصرة: لما أشوفك هقولك.
ابتسم بسخرية باهتة: إيه مستعجلة؟ وعايزة نكمل إجراءات الطلاق دلوقتي؟
ردت بسرعة: لما أشوفك هقولك يا ياسين! أنت فين؟
تنهد بجمود وعينه على لوجين: أنتِ إللي فين؟
أجابته بهدوء: هبعتلك اللوكيشن، متتأخرش.
أنهت المكالمة قبل أن يجيب، وقف ياسين مكانه لحظة، زم شفتيه بضيق، ثم نظر نحو لوجين وزفر بعمق، وتحرك إلى الخارج بخطوات تجمع بين الغضب، والحنين، والارتباك الذي لا يعرف سببه
على اتجاه آخر في أحد الكافيهات الخامسة مساء.
جلست مي مع صديقتها على طاولة، أمامها كوب الشاي وقطعة كيك بالشوكولاتة، تقلب فيها وهي تتحدث في الهاتف بصوت منخفض ومليء بالدلال، وبعد لحظات، أغلقت المكالمة بإبتسامة صغيرة ووضعت الهاتف جانبا.
نظرت إليها لمياء، وهي تميل برأسها باستنكار وتقول بنبرة ساخرة: أنا بصراحة مش فاهمة، إيه إللي عاجبك في رشدي؟
رفعت مي حاجبها وهي تمسك بالكوب: والله أنا إللي مش فاهمة، إيه مشكلتك أنتِ مع رشدي؟ أنتِ متعرفهوش أصلا.
لوحت لمياء بيدها بإستنكار: مش لازم أعرفه، سمعته سبقاه، واحد بيشرب وبتاع بنات، وكلام كتير عليه مش شبهنا ولا قريب مننا حتى.
ابتسمت مي بهدوء، ووضعت الكوب على الطاولة، قالت بنبرة دافئة وفيها يقين طفولي: عندك حق بس أنا مؤمنة بيه، ومتأكدة إنه هيتغير، وهو فعلا اتغير علشاني في حاجات كتير، والأهم من كل دى إن أنا وهو بنحب بعض.
قطبت لمياء حاجبيها وقالت بنبرة جادة متسائلة: اتغير علشانك في إيه؟ أنا مش شايفة إنه عمل حاجة تثبت حبه ليكي لحد دلوقتي.
ابتسمت مي بخفة، وسرحت بنظراتها للحظة: لا عمل حاجات كتير علشاني ومش لازم تكون باينه لك، وبعيدا عن أي حاجه أنا مش مستنية منه حاجة عشان يثبت، حبه كفاية أنا حساه.
ركزت النظر في عينيها وأضافت بصوت خافت صادق: الحب مش مشروط يا لمياء، أنا حبيت الشخص ده، ومعرفش ليه، وإزاي، وإمتى، بس متأكدة إنه بيحبنى وبيتغير عشاني، وده لوحده بالنسبالي حاجة كبيرة أوي.
ثم مالت للأمام وقالت بنبرة طفولية مازحة: وبعدين، غيري الموضوع بقى، قبل ما أزعلك، متتكلميش عليه كده تاني، ده مهما كان خطيبي وهيبقى جوزي.
ضحكت لمياء وهزت رأسها مستسلمة: ماشي يا سيندريلا، بس والله أنا خايفة عليكي تتجرحي، خدي بالك من نفسك وفكري كويس قبل ما تاخدي أي خطوة تانية مفيهاش رجوع، أنتِ لسه علي البر متخليش عواطفك تسيطر عليكى علشان متندميش بعدين.
ضحكت مي بثقة وهي ترفع كوب الشاي: أنتم اللي بكرة تندموا على كل الكلام إللي بتقولوه عن رشدي، وساعتها أنا إللي هضحك عليكم.
ضحكت لمياء وهزت رأسها بيأس لطيف: يا ريت يا مي، يا ريت.
💞_______________بقلمي_ليلةعادلʘ‿ʘ
فيلا ماسة وسليم الخامسة مساء
غرفة النوم
كان سليم لايزال يحتضن ماسة بين ذراعيه، يمرر أنامله برفق على شعرها، كأنه يحاول أن طمئنتها أو إيقاظ دفء الحياة في ملامحها من جديد، فيما كانت تسند رأسها إلى صدره بعينين مغمضتين من ثقل الصداع، كان الصمت يسود الغرفة حتي قطعه صوت طرق الباب، يليه دخول سحر وهي تردد بصوت خافت: الدكتور وصل.
هز رأسه وهو يضع رأس ماسة برفق على الوسادة ثم نهض: خليه يتفضل.
الطبيب ياسر بهدوء: السلام عليكم اتمنى مكونش اتأخرت
سليم بتهذب: وعليكم السلام.
تساءل الطبيب مستفسرا: إيه بقي إللى حصل؟
أجابه سليم بسرعه وقلق: هى أغمي عليها وبعدين قامت فاكرة كل حاجة ومن وقتها وهي تعبانة أوى.
اقترب الطبيب من ماسة بإبتسامة مطمئنة: عاملة إيه دلوقتي يا ماسة؟ حاسة بإيه؟
أجابت وهي تعتدل في جلستها بمساعدة سليم، في تعب وإرهاق: حاسة بصداع فظيع، كأن فيه صخرة فوق دماغي.
ابتسم الطبيب مطمئنا: كل ده طبيعي متخافيش، أنا هكتبلك على دوا يخلى الصداع ده يهدى شوية، بس أحكيلي إيه إللى حصل قبل ماتفقدي الوعي.
فبدأت تروى له ما حدث منذ مجيء مصطفي....
على إتجاه آخر في الحديقة.
خرج مكي من الجيست هاوس وهو يلف ضمادة على ذراعه، خطواته كانت بطيئة، وفور أن رأه عشري اتجه نحوه يتساءل بلهفة وقلق: عامل إيه دلوقتي؟ وإيه إللى قومك من مكانك؟
أجاب مكي بتهوين: أنا كويس، دي شظية بسيطة، ومش مستاهلة، متأفورش زي سليم.
لمح مصطفى وهو جالس، يضع كيسا من الثلج على عينه، وعلى حاجبه ضمادة صغيرة دلت على أن الطبيب عالجه هو الآخر.
نظر الي عشري وتساءل: ماسة عاملة إيه.
مد عشري وجهه: الدكتور عندها فوق،
أخفض صوته أضاف: شكلها افتكرت.
فتساءل مرة أخري وهو يمد وجه نحو مصطفي: هو سليم حاجزه هنا ولا إيه؟
نظر عشري لمصطفي لحظه، ثم أعاد نظره إلي مكي: لا ابدا الملك منزلش أصلا من ساعة ما طلع، والدكتور بعد ماخلص معاك عالجه، ومن ساعتها وهو قاعد.
هز مكي رأسه بإيجاب ثم تحرك نحو مصطفي بهدوء، وقف أمامه وقال بصوت منخفض: ليه عملت كده؟
رفع مصطفى حاجبه باستغراب، فأضاف مكي وهو يجلس مقابله ويمرر عينه عليه بعقلانية: أنت شكلك محترم، وملكش في المشاكل، ليه بتعمل كل ده؟
تنهد مصطفى بهدوء: علشان أنقذها من الحفرة إللي هي رامية نفسها فيها.
مكي مصححا له: سليم مش حفرة يا دكتور، أنت فاهم الحكاية غلط.
نظر له مصطفى بطرف عينه وهو يزفر ببطء، وقال معترضا: لا أنا شوفت بعيني وفاهم صح أوى.
تنهد مكي، وشرح له بصوت هادئ ولكنه حازم: لا أنت مش فاهم حاجة، لإن الليلة إللى قابلتها فيها، سليم كان محطوطله مخدر ومكانش في وعيه، علشان كده حصل منه إللي حصل يوم ما أنقذتها، وحاليا ماسة فاقدة الذاكرة لأنها وقعت من على السلم، في لحظة غضب منها، سليم ملوش أي يد في إللى حصلها، ولا يمكن يكون سبب في أذاها، لأنه بيعشقها، أنا عارف إنك واخد فكرة غلط عن سليم، بس صدقني سليم مظلوم ومش بالصورة البشعة إللى أنت متخيلها دى.
صمت مصطفى للحظة وكأنه يتأمل الحديث، ثم رفع حاجبه بعدم تصديق، قائلا بتهكم ساخر: هى دى بقي المسرحية إللى اقنعتوها بيها، ومطلوب مني إني أصدقها؟!
ضيق مكي عينيه قليلا، وتساءل بنبرة غليظة: تقصد إيه؟
مصطفي بتهكم لاذع: أقصد إنك واحد من رجالته فطبيعي هتحاميله، وتلم وراه، لو كلامك صح إيه دليلك؟
مكي بإستهجان: معنديش دليل ومش مطلوب مني أديك دليل، أنا قولتلك إللى عندى وأنت بقي تصدق متصدقش دي حاجة ترجعلك، وصدقني إللي أنت بتعمله دي مش من مصلحتك، متشتريش عداوة سليم أكتر من كدة، لإنه مش هيفضل صابر عليك كتير.
ابتسم مصطفي بأستخفاف: وأنا بقي المفروض أخاف؟
ابتسم مكي بيأس، وهو يتوقف بهدوء: لا تخاف ولا حاجة، أنا بس بنصحك، وأنت حر.
هم مكي بالمغادرة، فقال مصطفي بتوضيح معتذر: أنا مكانش قصدى أضربك بالرصاص، خرجت غصب عني.
هز مكي رأسه بتفهم: عارف، إنها كانت لحظة غضب ومش مقصودة.
غادر مكي المكان، وترك مصطفي ينظر في أثره بشرود وهو يفكر في كلماته، أيعقل أن يكون سليم مظلوما؟ وماحدث تلك الليلة ما هو إلا مؤامرة حيكت لهما، أم أنها مجرد خدعة لتحسين صورته أمامها وتبرير لما رأه بأم عينه!
على إتجاه أخر عند سليم وماسة.
وبعد أن انهت ماسة حديثها، ابتسم الطبيب وهو يربت على دفتر الملاحظات أمامه: تمام يا ماسة، إحنا مش عايزين أكتر من كده دلوقتي، أنا بس كنت حابب أطمن إن ذكرياتك كلها رجعتلك كاملة، وإنك فاكرة كل حاجة حصلت في ال ٦٣ يوم إللى فقدتي فيهم الذاكرة،
ثم مد يده بخفة نحو ماسة بحقنة أخرجها من حقيبته رفع كم بلوزتها وبدأ بحقنها وهو يقول: النهاردة بلاش تتكلمي كتير خليكي مرتاحة، والأبرة دي هتهدي الصداع، ومتقلقيش الصور المتزاحمة في عقلك دي هتقل تدريجيا.
هزت رأسها بإيجاب، وابتسمت ابتسامة باهتة: شكرا يا دكتور.
توقف الطبيب موجها حديثه لسليم وهو يدون بعض الأدوية في ورقة ويناوله أياها: هي بخير، والتعب ده طبيعي، النهاردة نخليها مرتاحة، ممكن بعد بكرة نعمل جلسة متابعة، جبلها الدوا ده تاخده واحدة النهاردة بالليل، وبعد كدة تاخدها عند اللزوم.
سليم وهو يأخذها منه: شكرا يا دكتور
ثم التفت نحو سحر: سحر من فضلك وصلي الدكتور.
غادر الطبيب برفقة سحر، فالتفت سليم الي ماسة، وجلس على الفراش بجانبها، امسك بيدها التى حقنها الطبيب وقام بتقبيلها بحنان وكأنه يحاول محو ألم الابرة التى غرزت فيها: سلامتك يا قطعة السكر.
نظرت إليه بعينين يثقلها الإرهاق، وصوتها خرج واهيا كأنه يسحب من بين أنفاسها: الله يسلمك، وديت مصطفى فين؟ عملت فيه إيه؟
رفع حاجبه بدهشة، وانفرجت شفتاه بابتسامة قصيرة ساخرة، ثم قال باستهجان مازح: كهربته وعلقته على الشجرة تحت؟
تنهدت بتعب، ثم قالت بجديةٍ يملؤها التعب: بلاش هزار يا سليم، أنا بتكلم بجد، أصلا مكانش ينفع تعمل اللي عملته.
صاح باستهجان: يعنى إللى عمله هو اللى كان ينفع؟!
نظرت إليه بعيون يغلبها التعب، فتنهد واقترب منها، يمسح على كتفها برفق: طب بلاش نتكلم دلوقتي أنتِ تعبانه.
لكنها لم تصغِ، ونظرت إليه تتساءل بإصرار يائس: طب هو فين؟ أوعى تكون عملت فيه حاجة تانية؟
زفر بعنف، ومرر كفه على وجهه كمن يحاول كبت ضجره: هعمل فيه إيه يعني؟ ما أنا قاعد جمبك أهو تلاقيه متلقح تحت.
انخفض صوتها حتى صار أقرب إلى الهمس: طب أنا عايزة أشوفه.
ظل سليم محدقا في الفراغ لا يجيب، فرفعت ماسة يدها ببطء تمس ذراعه، وقالت برجاء مرتجف: يا سليم، علشان خاطري، ريحني وخليني أشوفه.
التفت نحوها بنظرات مترددة، كأنه يقاوم بين عقل يأمره وقلب يضعف أمامها: تشوفيه ليه؟
ماسة موضحه بهدوء: ما هو الكلام هيبقى قدامك!
تنهد هو يمسح على شعرها بحنان: بس أنتِ تعبانه، وأكيد مش هينفع أجيبه هنا.
حاولت النهوض رغم ثقل جسدها، وضغطت على الفراش بيديها وهي تهمس بعناد مبحوح: انا هنزله تحت.
رفع صوته قليلا وهو يمد يده ليمنعها: هتنزلي تحت إزاي؟ وأنتِ تعبانه كده!
حاولت اقناعه بإصرار: أنا كويسة، عشان خاطري يا سليم، والله العظيم مش قادرة اناهد معاك.
تبادلا النظرات لحظة طويلة؛ هو بين تردد وفكر متعب، وهي تتوسل بعينيها أكثر مما تفعل كلماتها.
فتنفس بعمق، ثم قال باستسلام هادئ: طيب تعالي، وامري لله..
ثم اضاف بشدة وقال بنبرة لاذعه وهو يشير باحد اصابعه بتنبيه: بس اسمعي، لو قال أي حاجه تحت استفزتني، ميلمش إلا نفسه، عشان أنا مش طايقه.
نظرت له بابتسامة صغيرة وهي تضع كفيها إلى خده، بحنو: اهدى طيب وأوعى تنسى، إن دى مصطفى اللي أنقذني.
نظر إليها بثبات وحزم، وقال بلهجة صارمة: أنا لو نسيت، كان زمانه دلوقتي بيتحاسب عند ربنا، يلا تعالي معايا.
مد يده نحوها بحذر، أصابعه تحتضن كفها برفق شديد، وساعدها على النهوض، كأنه يحمل شيئا هشّا يخاف عليه من الكسر.
الحديقة
هبطوا إلى الحديقة، كان مصطفى مايزال جالسا في مكانه بصمت، فقط يريد أن يطمئن أنها بخير حقا، وفور أن لمحها تسير بجانب سليم، نهض بسرعة واقترب منها وهو يتساءل بلهفه واضحة: عاملة إيه دلوقتي يا ماسة؟
ابتسمت ابتسامة متعبة، وقالت: الحمد لله..
ثم دققت النظر في ملامحه، وقالت بعتاب: ليه عملت كده يا مصطفى؟
خفض نظره، وقال موضحا بتوتر: أنا مكنتش أقصد أعمل كده والله، الرصاصة خرجت غصب عني عشان الهمجي ...
ثم رفع عينه نحو سليم بنظره حاده متهكمه: اللي شغال مع رجل الاعمال المحترم مسك ايدي من ورا فخرجت الرصاصه غصب عني، لكن أنا مكنتش هضرب.
رفع سليم أحد حاجبيه باستهجان، وكاد أن يهم بالرد، فأوقفته ماسه وهي تضغط يده في محاولة للسيطرة على الصراع قبل أن يشتد.
وجهت نظراتها لمصطفي، وهي تهز رأسها بلوم وحده: أنت غلطت من البداية، لما سحبت المسدس من مكي، افرض كانت دخلت في حته تانيه في جسمه، وكان مات لا قدر الله ولا جات في سليم، ايه جنان ده؟!
تنفس مصطفى بعمق، وصوته انكسر قليلا: أنا مش عارف إزاي عملت كده؟! وأنا عارف إني غلطت، بس خوفت، خوفت يكون هو اللي أذاكي.
قلب سليم وجهه بسخرية، بينما قاطعته ماسة بحدة مكتومة: متحاولش تبرر يا مصطفي لأن مفيش مبرر للى عملته.
صمتت لحظة، وصوتها بدأ يتهدج قليلا، ثم تابعت وهي تنظر إلى الأرض: سليم مظلوم في حاجات كتير، أنا حكيتهالك قبل كده، بس أنا مش قادرة دلوقتي أتكلم فيها.
رفعت نظرها نحوه بعينين فيها رجاء وتعب: المهم انه ملوش دعوة بفقداني الذاكرة، ولا حتى يوم ما لقيتني، آه هو اللي ضربني، بس مكانش واعي كان محطوطله حبايه مخدر في العصير.
وضعت كفها على رأسها، كأنها تحاول لملمة أفكارها، ثم اضافت بصوت خافت متعب: أنا بس حبيت أوصلك الكلمتين دول، وأطمن عليك.
كان سليم يستمع الي حديثها وهو يحترق من الغيرة، ولكنه حاول التماسك قدر اسطاعته، ولكن لم يستطع السيطره على ملامحه التي فضحت ما بداخله بوضوح.
رفعت عينيها إليه مرة أخيرة، تابعت بصدق واضح: ومتقلقش، سليم مش هيعملك حاجة.
صمتت لحظه ثم اضافت بنبرة حاسمة بعتاب: بس أنت غلطت يا مصطفى، ومكانش ينفع تعمل اللي عملته ده مهما كان.
مصطفى وهو يحاول التماسك: أهم حاجة إنك بخير، واطمنت عليكي، ده أهم حاجة عندي.
التفت سليم نحوه، عيناه تشتعلان غيرة وغضبا، وقال بنبرةٍ حادة مستنكرة: أنت مين أصلا عشان تطمن عليها؟ وعلى العموم مش اطمنت؟! يلا امشي بقى، عشان أنا صبري بدأ ينفذ.
مصطفى ببرود مصطنع، وهو يشير نحو وجه: أنا مش عارف ايه البجاحة اللي أنت فيها دي، بعد اللي عملته فيا أنت ورجالتك الهمج، ولسه ليك عين تهدد، واحد همجي صحيح.
ابتسم سليم ابتسامة مشوبة بالسخرية، اقترب خطوة وقال بنبرةٍ هادئة ولكنها حادة: والله شوف مين فينا اللي بيتباجح؟
صاحت ماسه وهو تقف تحول بينهم قبل أن ينشب عراك جديد: بس انتوا الاتنين في ايه؟ هتتخانقوا تاني!!
سليم بصوت غاضب، وعيناه تلمعان بالاستياء: أنتِ مش شايفة استفزازه، أنا صبرت عليه من وقت مجه،
ووصلت إنه رفع سلاح عليا، وضرب نار في بيتي، وجت في مكي، ويقولي همجي البجح.
ثم رفع عينه نحو مصطفى بضجر قائل بتهديد: يحمد ربنا إنها جت بسيطة، لولا كده والله مكانش كفاني فيك، عيلتك كلها.
رفع مصطفي حاجبه، وقال باستهجان: بالضبط، هو ده انت يا سليم؟ هي دى حقيقتك.
نظر له سليم بحده ، وتساءل بنبرة غاضبة: تقصد إيه؟
أشار مصطفى بيده، وصوته محتدم: طريقتك في التهديد والضرب، دى حقيقتك وهتفضل طول عمرك همجي كده.
تدخلت ماسة بسرعة، ترفع يديها محاولة تهدئتهما:
بس يا مصطفي! أنت غلطت، سليم عنده حق، افرض كان مكي حصل له حاجة، ولا كانت جت في سليم ذات نفسه؟
ابتسم سليم بتفاخر، وهو ينظر لمصطفي بشماته، نظرت له ماسة وقالت بحده: وانت كمان متضحكش كده، أنت كمان ضربته ليه؟! وبتهدده بأهله ليه؟ مفيش فايدة فيك.
نظر لها سليم بضجر وتعجب: هو ايه اللي مفيش فايدة فيك؟ ده رفع سلاح وضرب مكي عارف يعني إيه، ده اخويا، كنتى عايزانى اسقفله واقوله برافو والمره الجايه ابقي خلص علينا كلنا !!
ثم وجه نظراته لمصطفى، وتحدث من بين اسنانه بعينين مشتعله بالغضب: أنا معرفش أصلا أنت واقف معانا لحد دلوقتي ليه؟ أتفضل يلا من غير مطرود؟
مصطفى ببرود: بطمن على ماسة.
سليم بعينين مشتعلة، بنبرة غاضبه ممزوجة بسخرية: وتطمن عليها ليه إن شاء الله؟ بصفتك ايه؟
رد مصطفي ببرود مستفز: أختي.
رفع سليم حاجبه باستهجان ساخر: أختك !!
مصطفي على نفس وتيرته البارده باستفزاز: آه اختي، وبطمن عليها، أنت مالك.
جز سليم على أسنانه: والله إنك مستفز وشكلك عايز تتضرب تاني؟!
خطي خطوة هجومية صوبه، فوقف مصطفى بتأهب، ليرد الهجوم، اندفعت ماسة بينهم تدفع سليم، وتصرخ: بس!
دفعت سليم من صدره برفق وهي تقول برجاء: سليم وحياتي، انا تعبانة مش قادرة.
نظر لها سليم بغضب: مش شايفه الاستفزاز.
صاح مصطفي باستهجان: سبيه يضرب يا ماسة ده أسلوبه! هيفضل همجي زى ما هو.
سليم بحدة: بطل استفزاز!
التفتت ماسة لمصطفي وهمست بتصلب والدمع في عينها: بس يا مصطفى أنت كمان
مصطفى بنبرة محتدة: جوزك اللي استقوى نفسه عليا من الأول.
صرخت ماسة: مصطفى قولت اسكت.
حاول سليم الاقتراب من مصطفى، لكن ماسة وضعت يدها على صدره توقفه، فصاح بغضب: انت اللي قليل الادب بتحط ايدك عليها ليه، وكمان بترفع مسدس على اخويا، انت اتجننت !! وعايزني اسكتلك !! احمد ربنا اني سايبك عايش لسة.
نظرت له ماسة برجاء: طب يا سليم اسكت أنت علشان خاطري بقي.
مصطفي وهو يحاول ان يهجم على سليم لكن بسبب توقف ماسة بينهم لا يعرف: لا تعال وريني هتعمل إيه يا همجي.
زفرت ماسة بضجر، وصرخت فيهم بملل وغضب: يووووه! انتم مش هتسكتوا يعني؟!
ابتعدت بتعب، وهي تقول بغضب: اعملوا اللي عايزينه، ولعوا في بعض، أنا مش قادرة، حرام عليكم، إيه ده!
وتركتهم، تتحرك بخطوات متسارعة نحو الفيلا، كتفاها يرتجفان والعالم يدور من حولها كأن الأرض تميد تحت قدميها.
صوت مصطفى جاء من خلفها، مبحوحًا قلقًا:
ـ ماسة! استني يا ماسة!
لكنها لم تلتفت، لم تنتظر حتى تكتمل كلماته.
تحرك سليم هو الآخر، صوته يحمل مزيجًا من القلق والرجاء:
ـ ماسة… اصبري شويه بس!
إلا أنها واصلت طريقها، لا ترى شيئًا أمامها سوى باب الفيلا الذي صار في عينيها ملاذًا من كل شيء، حتى دخلتها وأغلقت الباب خلفها بعنف، كأنها تغلق العالم كله خارجها.
رمق سليم مصطفى بنظرةٍ صارمةٍ كأنما حفرت فيها النية والتهديد، كلماته حادة كالسكين: قسما بالله ما مانعني عنك غيرها، بس لو حسيت إنك هتبقي سبب إن يحصل ما بينا حاجه، والله ما هتردد لحظة إني اقتلك.
ثم التفت وابتعد بخطوات سريعة خلف ماسة، فتوقف مصطفى يراقبه بعينين متقدتين، يعض على أسنانه الأمامية حائرا لا يدري ماذا عليه أن يفعل، ثم تحرك نحو الخارج.
في غرفة النوم
جلست ماسة على الفراش بتعب واضح، تسند ظهرها إلى الوسادة الثقيلة خلفها، وبعد لحظات، فتح الباب بهدوء، ودخل سليم وعلى وجهه ابتسامة خفيفة، فنظرت له بنظرة لازعة فيها قلق وخوف دفين.
تساءلت بصوت مبحوح: ايه؟ قتلته؟
اقترب منها بخطوات هادئة، وعينيه لا تفارق وجهها: والله كان نفسي، بس أعمل ايه، ليه جميله عليا، هفضل مديون له بيها طول عمري، بس ده ميمنعش إني مش طايقه.
قالت وهي ترفع حاجبيها بتعب: انت أصلا ايه اللي عملته تحت ده، أزاى تهدده بأهله؟ دى اللى هتغير؟!
زم شفتيه بخجل، وقال بضجر مبررا: ما هو اللي مستفز، انتِ مسمعتيش قال ايه؟
أغمضت عينيها وقالت بصوت واهن باعتراض: مهما قال ماينفعش بطل اسلوبك ده شوية.
نظر لها بعند وعندم اعترف بالخطئ:
انا مغلطش يا ماسة مكي اخويا افهمي.
هزت راسها بياس وتعب: أنا مش قادرة أجادلك الصراحة، أنا تعبانه.
مد يده برفق، مسح على خدها بحنان وقلق: مالك؟ حاسة بإيه؟
تنفست ببطء وقالت: مش عارفة حاسة دماغي تقيلة، ومصدعه أوى ولا كاني اخدت ابره.
ساعدها بلطف لتعتدل في نومتها وهمس بحنو: طب نامي دلوقتي وارتاحي، أنا بعت أجيبلك الدوا، هتاخدي منه واحدة بالليل وهتهدي.
هزت رأسها بإيجاب، وتساءلت:طب مصطفى فين؟ مشي؟!؟
ابتسم وقال بهدوء: أنا سبته تحت، فأكيد غار، أكيد مش هيبات معانا يعنى.
ثم اضاف بغيرة: قلقانه عليه أنتِ بزيادة.
نظرت له بهدوء: سليم، أنا قلقانة عليك أنت، خايفة من رد فعلك معاه.
رد وهو يميل نحوها، صوته منخفض لكنه حاد ممتلئ بالغيرة: انتِ بس متفضليش تعملي كده، عشان لو فضلتي كدة يبقى خافي
ردت بابتسامة وثقه: عموما، أنت وعدتني وأنا بثق فيك.
قاطعها بابتسامة صغيرة: للمرة الألف مابسخنش ... زادت ابتسامتة وقال بوعد وحنان:
بس ماشي يا ستي، وعدي لسه قائم، بس يلا ارتاحي بقى، ومتتكلميش كتير زى ما الدكتور قال علشان متتعبيش، أنا عندى كام مكالمه شغل مهمين هروح أخلصهم واجيلك.
همست وهي تغمض عينيها بنعاس: ماشي، أنا كده كده هنام، شوف شغلك.
تساءل بابتسامة مازحة: مش عايزة تكلمي ماما واهلك تفرحيهم؟
تمتمت بضعف: لا، أنا تعبانه ومصدعة دلوقتي، وماما لو عرفت هتيجي وأنت عارفها مش هتبطل كلام.
ابتسم وقال بهدوء: ماشي يا ماستى الحلوه
ثم أحكم عليها الغطاء بلطف، وانحنى ليضع قبلة دافئة على جبينها قبل أن يغلق النور، ويخرج من الغرفة.
في الطابق الاول.
هبط سليم إلى الأسفل، خطواته متثاقلة من شدة الإرهاق، فاليوم كان ثقيلا عليه بما جرى فيه من أحداث، مر بعينيه على أرجاء المكان بنظرة شاردة، قبل أن يتجه نحو المطبخ.
كانت سحر تجلس على أحد المقاعد تعد بعض الأشياء بهدوء، وما إن رأته حتى نهضت باحترام: حمد الله على سلامة ماسة هانم يا سليم بيه.
قال بنبرة متعبة: الله يسلمك سحر، من فضلك حضري الغدا لمكي ووديهوله، الجيست هاوس.
أومأت بسرعة وهي تتساءل بأهتمام: عيني يا بيه، حاضر، هو عامل إيه دلوقتي؟
تنهد بخفة وأجاب بصوت منخفض: إن شاء الله يكون كويس.
ثم غادر المطبخ بخطوات بطيئة، كأنه يجر خلفه ثقلا لا يرى، يتجه إلي الجيست هاوس لإطمئنان على مكي وعندما خرج إلي الحديقة لمحه يجلس على أحد المقاعد ممسكا بكوب من الشاي وذراعه مربوطة بشاش.
اقترب منه سريعا، وتساءل بصوت فيه قلق مكبوت: عامل إيه دلوقتي؟
رفع مكي عينه وقال وهو يتنفس بتعب: الحمد لله، سطحية بس بتوجع.
مد سليم يده وربت على كتفه الآخر: الحمد لله إنها جت على قد كده.
ثم نظر حوله بحدة، وضيق حاجبيه بتساؤل: أومال هو راح فين؟
ابتسم مكي، وقال موضحا: مشي بعد ما طلعت أنت وماسة بشوية صغيرين.
صمت لحظة، ثم قال بحيرة: أنا مش عارف ايه الجنان اللى عمله دى !
زفر سليم بشدة، وصوته خرج غليظ وهو يجلس على المقعد بجانبه: أنا كمان متعصب منه ومتغاظ أوي، ومش لاقي مبرر للى عمله..
صمت لحظة، ثم تابع ببطء: بس لو إللي في دماغي صح، يبقى الموضوع فيه كلام تاني.
عقد مكي حاجبيه وهو يتساءل بريبة: تقصد إيه؟
أجاب سليم وهو يرمق الأرض بنظرة غامضة: يعني ممكن يكون حبها.
نظر له مكي بصمت، شعر أن سليم لمس الحقيقة، لكنه لم يرد أن يؤكدها، كي لا يشعل النار أكثر مما هي مشتعلة، فقال بهدوء متحفظ: لا يا سيدي، هو خايف عليها بس، وبعدين مش مصدق إنه اتحطلك حباية، فاكر إننا بنألف علشان نوهم ماسة.
سليم بإنفعال مكتوم: وهو ماله؟ هو ماله!
شد أنفاسه بحدة وأضاف بصوت مبحوح: والله العظيم لولا جميله عليا في إللي عمله مع ماسة، ووعدي ليها، لكنت عرفت أتعامل معاه إزاي.
ضحك مكي بخفة وهو يحاول تهدئته: خلاص يا عم، هو أنت يعنى سكت له، ما أنت كمان ضربته جامد وفشيت غلك يعني.
نظر له سليم بحدة: هو أنت كنت عايزني أشوفه بيرفع مسدسه عليك وأسكت؟
ثم خفتت نبرته، وتساءل بأهتمام حقيقي: المهم، أنت بجد كويس؟
ابتسم مكي بخفة: آه والله كويس، خدت مسكن وتمام، مال قلبك بقي خفيف كده ليه.
ابتسم سليم، وربت على كتفه مرة تانية: لو مخوفتش عليك هخاف على مين، أنت أخويا يا مكي، ويلا روح نام وارتاح، علي ما سحر تحضرلك الغدا، ومش عايزك تتعب نفسك لحد ما تخف خالص، اعتبر نفسك في أجازه مفتوحه.
ضحك مكي، وقال بتهوين: يا سليم بطل أفورة أنا كويس، متقلقش.
أشار سليم له بنصف ابتسامة: بقولك إيه، أنا أصلا شايف 600 عفريت دلوقتي بينطوا قدامي، فأسمع الكلام وقوم أحسنلك.
رفع مكي يده بإستسلام: طيب طيب، متتعصبش.
صمتت لحظة، ثم تساءل بإهتمام: بس صحيح ماسة عاملة إيه دلوقتي؟
سليم بهدوء متعب: مصدعة خالص، ونامت.
أومأ مكي بهدوء: إن شاء الله على بكرة هتبقى كويسة، طب أنت هتخرج ولا إيه؟
هز سليم راسه: لا، هحاول أخلص الشغل بالتليفون، عندى كام اجتماع هحضرهم أونلاين.
أومأ مكي وقال بحنو: ماشي، وأرتاح شوية أنت كمان.
أومأ سليم برأسه، فغادر مكي ببطء، تاركا خلفه صمتا يثقل المكان، ظل سليم جالسا يحدق في الأشجار، وأفكاره تتصارع داخله في ضجيج لا يسمع، مرر كفه على وجهه بتعب، وعيناه تحملان سؤالا واحدا لا يجد له جوابا: لماذا فعل مصطفى ذلك؟
فهو يعرفه جيدا، ويعلم أنه ليس من ذلك النوع المتهور، فهل أحب ماسة حقا؟ أم كان خوفا صادقا عليها؟
زفر بضيق، ونهض متجها إلى الفيلا بخطوات ثقيلة، صعد إلى غرفتهما فوجدها نائمة بملامح وادعة وطمأنينة افتقدها هو منذ زمن.
وقف يتأملها بابتسامة هادئة، ثم اقترب بهدوء وجلس جوارها يمرر نظراته على ملامحها كما لو كان يحفظها من جديد، مال برفق وقبل خدها قبلة دافئة، ثم نهض وغادر بهدوء إلى مكتبه في الأسفل.
في المكتب، جلس وأضاء المصباح وشرع يعمل، محاولا أن يدفن نفسه بين الأوراق والأرقام هربا من قلب لا يكف عن السؤال.
💞________________بقلمي_ليلةعادل
في أحد شوارع المعادي، السادسة مساء
كانت رائحة القهوة تعبق في الهواء عند عربة المشروبات السريعة، والنسيم المسائي يلامس وجنتي ياسين وهو يقف مستندا إلى سيارته، وكوب القهوة بين يديه، ينتظر في صمت ملىء بالحيرة، نظر إلى ساعته، ثم إلى الطريق الخالي، كأن الانتظار صار عادة لا يعرف إن كان يريدها أم يهرب منها.
بعد دقائق توقفت سيارة أنيقة على مقربة منه، نزلت منها هبة بخطوات واثقة، تحاول أن تبدو هادئة لكن ملامحها مكشوفة، فيها شيء من التوتر والضجر،
وقفت أمامه يابتسامة خفيفة وهي تزيح خصلات شعرها من على وجهها: عامل إيه؟
هز رأسه وهو ينظر بعيدا: الحمد لله بخير.
اعتدلت في وقفتها، وقالت بهدوء: هنتكلم هنا؟ تعالي نروح مكان نقعد فيه.
ياسين بنبرة هادئة وفيها شيء من الحذر: ملوش داعي خلينا نتكلم هنا خير في إيه؟ البنت كويسة؟
ارتبكت هبة قليلا، أطرقت برأسها ثم رفعت عينيها نحوه: آه نالا كويسة، وبتسأل عليك دايما، كل يوم تقولي "فين بابي؟ أنا عايزة أقعد مع بابي، وبابي وحشني، ليه مش عايش معانا؟
رفع حاجبيه وهو ينظر إليها نظرة طويلة: وأنتِ مفهمتيهاش إللي هيحصل؟
زفرت أنفاسها، وهي تلوح بيديها بتوتر: مش عارفة أفهمها إزاي؟
صمت ياسين لحظة، ثم قال بنبرة أكثر هدوء: طب ممكن نأجل الطلاق لحد ما نكلم ثرابيست الأول، ونشوف رأيه، ويقولنا نعمل إيه ونشرحلها الوضع ازاى، ولا تحبي نتمم الطلاق وبعدين نساله؟! أنا في الحالتين معاكي.
مالت برأسها قليلا ونظرت إليه بثبات: طب متيجي نكنسل حوار الطلاق، تعالى ندي لبعض فرصة.
تجهم وجهه، ورفع نظره إليها باستغراب: ندي لبعض فرصة؟
ابتسمت هبة: أيوه، إيه المشكلة؟
رفعت كتفيها لأعلى وهي تزم شفتيها بتصنع الحزن: لما جيت قولتلي على موضوع الطلاق، أنا كنت برد علشان كبريائي، بس الحقيقة؟ كنت عايزة أقولك نرجع لبعض وناخد فرصة تانية، عشان اللي بينا كبير، وعشان بنتنا، لكن للأسف، فاجئتني بقرارك فرديت عليك كده.
رفع حاجبيه، وصوته صار أكثر جدية: بس أنتِ كذا مرة تطلبي الطلاق بنفسك.
رفعت صوتها بخفة: كنت بقول كده علشان كرامتي! يعني لو فعلا كنت عايزة الطلاق كنت خلصت من تاني يوم، مكنتش استنيت حفلة رشدي ولا استنيت لما ترجع من السفر، كل ده محسسكش بحاجة؟
ظل صامتا لثواني، ثم مرر يده في شعره وتنهد: ما هو يا هبة، حتى لو ادينا بعض فرصة، أنتِ مشكلتك في أهلي.
هبة وهي تلامس أطراف قميصه بأنمالها وهي تركز النظر به: هحاول أفصل وأنت خلي والدتك متتدخلش في أي حاجة تخصنا، ونروح لثيرابيست زي ما قولتلي، وأنا كمان هظبط شغلي، ونفكر في نالا يا ياسين مش معقول تفضل عايشة متعلقة بينا إحنا الاتنين.
أخرج أنفاسه ببطء وهو يفكر في نالا وما ستعانيه من انفصالهم، شعر انها محقه، ثم هز رأسه في النهاية مستسلما لمشاعره الأبوية: ماشي يا هبة، ندى لنفسنا فرصة علشان نالا.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، ثم اقتربت منه بخفة ولمست ذراعه: طيب إيه رأيك نخرج ونقضي اليوم مع بعض النهارده، وبالليل نروح فيلتنا، نعيد شوية من الأيام الحلوة.
نظر إليها بتردد للحظة، ثم أومأ برأسه.
صعدا إلى السيارة، فانطلق ياسين نحو أحد أماكنهم المفضلة، جلسا تحت أضواء المساء وضحكات المارة تملأ المكان من حولهم، حاولت هبة أن تندمج، وتلتقط الصور وهي تلتصق بذراعه، ثم تنشرها على «إنستغرام» و«فيسبوك» بعناوين مرحة، كأنها تعلن للعالم أن ما بينهما عاد كما كان.
شاهدت فايزة الصور التي نشرتها هبة، فابتسمت ابتسامة حادة، عينيها تضيقان بخبث خفيف تفكر في شيء آخر تماما، وهي تهمس بإبتسامة باردة: بدأتي الحرب معايا، طب حلو هنشوف مين هيكسب.
أما لوجين، فتوقفت أمام الشاشة طويلا، شعور غريب يتأرجح بين الألم والراحة، قالت في نفسها: كويس، يرجع لمراته، وبنته، يمكن يرتاح.
منزل مصطفى، الحادية عشر مساء
دخل مصطفى الشقة بخطوات مثقلة، وآثار الضرب واضحة على وجهه، كانت نبيلة تجلس في الصالة تطوي بعض الملابس، وما إن وقعت عينيها عليه حتى اتسعتا دهشة، وتوقفت يداها عن الحركة.
نهضت مسرعة تمد يدها ناحيته، وهي تتساءل بهلع: يلهوى، إيه إللى في وشك دى يا مصطفي، حصل ايه؟
جلس ببطء، ووضع المفاتيح على الطاولة، وقال بصوت مبحوح متعب: مفيش.
رفعت حاجبها بعدم تصديق، وجلست وهي تنظر له بحدة: مفيش أزاى ووشك عامل كده؟!
في تلك اللحظة خرج إيهاب من الغرفة، وما إن رأى مصطفى حتى تجمد مكانه، عقد حاجبيه متسائلا بدهشة: ايه ده يا مصطفى؟!
زفر مصطفى وهو يمرر يده على وجهه بضيق: مفيش يا سيدي، واحد غلس قفل عليا بالعربية اتخانقنا، وضربته.
ابتسم إيهاب بسخرية: هو أنت كده إللي ضربته؟
نبيلة بنبرة توبيخ حادة: ومن إمتى يا مصطفى بتدخل في خناقات بالشكل ده؟
مصطفى وهو يشيح بوجهه غاضبا: ده واحد قليل الأدب واتهجم عليا، أسيبه يعني؟
تنهدت نبيلة وهي تهز رأسها: لا إله إلا الله...
حاول أن يغير الموضوع، فاعتدل في جلسته وقال وهو يتجنب نظراتها: المهم فكرتوا في موضوع القاهرة؟ خلاص ندى في المستشفى، هنفضل هنا ليه؟ كمان ده أفضل لعائشة.
جلس إيهاب على طرف الكنبة، متكئا بمرفقيه على ركبتيه: أنا طلبت نقلي ومستني الرد، لو وافقوا ننزل.
أومأ مصطفى برأسه: تمام، وهنبقي نقعد في شقتي.
نهضت نبيلة، تتمتم وهي تتجه نحو المطبخ: ماشي يا ولاد، أنا هقوم احضرلكم العشاء.
نظر مصطفى من حوله متساءلا: أمال فين عائشة؟!
إيهاب: نايمة.
ساد الصمت لحظة، فنهض مصطفى متجها إلى الشرفة، يتأمل البحر أمامه، وهواء الليل يلامس وجهه، لكنه لم يخفف توتره، اتكأ على السور وضربه بعنف، كأنه يفرغ ما تبقى في صدره من ضيق، ما زال عاجزا عن تصديق أنه كان على وشك أن يصبح قاتلا، ولم يفهم كيف انقلبت الأمور بهذه السرعة، لكنه أيقن أن خوفه على ماسة أعمى بصيرته ودفعه إلى ارتكاب ما لا يغتفر.
اقترب منه إيهاب بخطوات حذرة، ووضع يده على كتفه بهدوء: قولي بقى بصراحة ايه اللى حصل؟ ومتقوليش خناقه دى كلام ده تسكت بيه أمك، مش أنا، إيه إللي عمل في وشك كده؟
نظر له مصطفى من طرف عينه بتردد لحظه، ثم قال بصوت خافت: اتخانقت مع سليم.
اعتدل إيهاب من وقفته، واتسعت عيونه بدهشة: سليم؟! ودى شوفته فين علشان تتخانق معاه؟
تنهد مصطفى طويلا، وأخذ يروي له ما حدث بصوت منخفض، ظل إيهاب صامتا يستمع، حتى أنهى مصطفى حديثه.
إيهاب بستهجان: أنت اتجننت يا مصطفى؟! لو كان مات كنت بقيت قاتل! تروحله ليه أصلا؟
مصطفى وهو يزفر بقهر: هو إللي بقاله كام يوم بيكلمني وأنا مطنشه، والنهاردة بعت رجالته ياخدوني من المستشفى.
إيهاب بقلق واضح: طب ماسة عاملة إيه دلوقتي؟
خفض مصطفى صوته: كويسة، الحمد لله رجعتلها الذاكرة خلاص.
اقترب منه إيهاب وهو يتساءل بدهشة: يعني يوم خطوبة رشدى كانت فاقدة الذاكرة؟!
أومأ مصطفى برأسه، وعيناه شاردتان في الفراغ: أيوه ومش بس كده، يوم ما لقيتها مضروبة، بيقول إنه كان ضاربها علشان حد من إخواته حطله حباية مخدر في العصير، أظن أخته.
هز إيهاب رأسه بأسف: إخواته دول شرانين أوى.
صمت للحظة وكأنه أدرك أخيرا حقيقة الأمر: عارف كلام ماما طلع صح، الخوف مش منه، الخوف من أهله.
مصطفى بمرارة أكبر، وهو يضغط على السور بيده: سليم مكانش أمان ليها، كانت في حضنه وهددوها، عملوا فيها كده، وهو نايم على ودنه، عامل فيها راجل وهيبة، وهو طلع مضروب على قفاه منهم.
صمت ايهاب لحظه، ثم تساءل بتردد: طب وأنت هتعمل إيه؟
زفر مصطفى بتعب واضح، وقال بحيرة: هعمل إيه يعني؟ عايز أتكلم معاها لوحدها وأسمع منها، أنا حاسس إنها خايفة، وبتتصرف كده قصاده علشان بس تطمنه وتخلص من أذاه
ثم أضاف بلهجة حادة غير مصدقة: وبعدين أصلا ممكن يكون كل إللي قاله ده كدب، وقال كدة عشان يوهمونا ويوهموا ماسة، أنا لازم أقابلها لوحدي.
تساءل إيهاب بتعجب: وهتعملها إزاي دي بقى؟
نظر مصطفى أمامه بشرود عميق وقال بصوت خافت: معرفش، بس هتصرف
نظر إليه إيهاب بصمت يملؤه التفكير، بينما ظل مصطفى يحدق إلى الأمام بعينين مثقلتين، كأن الصمت بينهما يحمل ما لا يقال.
قصر الراوي الحادية عشرة مساء.
غرفة رشدي
دخل الغرفة بخطوات متثاقلة، ملامحه منهكة وعيناه حمراوان من الإرهاق، الهاتف في يده، وصوته يخرج متعبا: إيه يا حبيبتي، أنا لسة داخل أهو.
زفر ببطء وهو يلقي بثقل جسده على الفراش: والله تعبان جدا، شايف الدنيا اتنين، شغل كتير، كتير أوي، كمان سليم سايب لنا نص شغله ومختفي.
تنهد وأكمل بخفوت متقطع: بصي، أنا هرتاح شوية، ولو مكلمتكيش، أعرفي إني أغمي عليا، سلام.
أنهى المكالمة وألقى الهاتف بجواره، فتح ذراعيه على الفراش بتعب عميق، وراح يحدق في السقف بعينين نصف مغمضتين، الصداع كان يفتك برأسه، ليس فقط من ثقل اليوم وضغط العمل، بل لأنه لم يأخذ أي جرعة من المخدر منذ الصباح، يحاول أن يقنع نفسه أنه قادر على العلاج وحده، وأن يقلل الجرعة تدريجيا، لكن جسده كان يخونه، وأصبح مضطربا، لا راحة فيه ولا سكينة.
نهض بتثاقل، يجر قدميه نحو الحمام وهو يهمس لنفسه: يمكن لو أخدت شاور أهدى شوية...
خلع ملابسه ووقف أسفل المياه الساخنة، تركها تنهمر على رأسه، لكن الألم لم يهدأ، خرج بعد قليل، يلف منشفة حول خصره، توقف أمام المكتبة.
ظل يحدق فيها طويلا، كأنه يصارع نفسه رفع يده بتردد، وهمس وهو يهز رأسه: لا مش هعمل كده...
لكن لحظة الضعف غلبته، والألم في رأسه كان أشد من قدرته على الاحتمال، فمد يده وسحب كتابا من الرف، وضغطت على شيء في الداخل، فصدر صوت خفيف، ثم انزلقت المكتبة إلى الجانب، كاشفة عن خزانة سرية صغيرة، داخلها أسلحة مرتبة بعناية، وعدة أكياس صغيرة من البودرة البيضاء.
تنهد وهو يمد يده إلى آخر كيس، يتمتم بإرتباك خافت: هاخد جرعة صغيرة بس، تهدي الوجع دى...
وضع الطبق أمامه، وبدأ يجهز خطا دقيقا، استنشق الجرعة الأولى، فأغمض عينيه وشعر بخدر سريع يزحف في جسده، لكن اللذة القصيرة لم تكفه، فمد يده مرة أخرى، أخذ جرعة أقل، وقال لنفسه محاولا اقناعها: آخر واحدة، خلاص.
ثم أعاد كل شيء إلى مكانه، أرجع الكتاب، فعادت المكتبة إلى وضعها الطبيعي كما لو لم يحدث شيء،
عاد إلى الفراش، تمدد على ظهره، عيناه شاخصتان للسقف، وهمس بصوت مبحوح بالكاد يسمع: شكلي مش هقدر لوحدي.
ثم أرخى جسده تماما، واستسلم لنوم ثقيل كأنه غيبوبة.
فيلا ماسة وسليم، الحادية عشر مساء
غرفة النوم.
عمّ السكون المكان، إلا من أنفاس ماسة المتقطعة وهي تقف أمام المرآة، تحدق في وجهها بعينين مثقلتين بالتعب، كأن النظر نفسه يؤلمها، مدت أناملها المرتجفة تتحسس ملامحها كمن يبحث عن وجه نسيه، لمعت الدموع على رموشها، وأغمضت عينيها بانقباضة قلبة مفاجئة، كأن ذكرى بعيدة وخزت قلبها، فسالت دمعة على خدها وتمتمت بصوت واهن: دلوقتي بس فهمت مين هما الأشباح إللي كنت بشوفها.
مرت أمامها صور ضبابية متقطعة: وجه سليم، ضحكته، قربه منها، وتلك اللحظات التي عاشتها معه أثناء فقدانها للذاكرة، ابتسمت بخفة لوهلة، قبل أن يقطعها دخول سليم، بابتسامة هادئة تعلو وجهه، وقف خلفها، ينظر إليها عبر المرآة بعينين يملؤهما الشوق.
فهو يعشق ماسة التي أمامه الآن، ويشتاق إليها بشدة، نعم، يحب الفتاة التي عاش معها ٦٣ يوما، لكنه يشتاق إلى هذه التي تقف أمامه الآن أكثر من أي شيء آخر، الغريبة المألوفة في آن واحد.
اقترب أكثر، أحاط خصرها بذراعيه، حتى التصق صدره بظهرها، أسند رأسه على كتفها بنبرة عاشقة: عاملة إيه يا عشقي؟ لسة تعبانة؟
ارتجف جسدها مع تلك اللمسة، فهزت رأسها، وهي تقول بخفوت: مش بالظبط بس لسه مصدعة.
ارتسمت على شفتيه إبتسامة مطمئنة: إن شاء الله هتبقي كويسة، أنا جبتلك الدوا، ومع جلسات الدكتور هتبقي أحسن…
تنهدت، ثم تتساءل: جيت امتى.
اومأ برأسه موضحا: مخرجتش كنت تحت، وأنتِ صحيتي متى؟؟
أجابته بتعب: من ربع ساعة تقريبا، حلمت بالحادثة صحيت مفزوعة
زم شفتيه، ومسح على كتفها بحنان: معلش يا حبيبتي.
تنهدت وهي تمد وجهها: عادي.
دقق النظر بها قائلا بنبرة عاشقة مشتاقة تخرج من عينيه قبل شفتيه: وحشتيني.
نظرت إليه في المرآة، والدموع تلمع في عينيها، وضعت يديها فوق يديه التى تحاط بها بتردد، كأنها تبحث عن طمأنينة كانت تعرفها.
وضع سليم قبلة على خدها، وهو يشد عليها حتى الالتصاق، تعالت أنفاسها للحظة، لكن فجأة ضربت رأسها صور لنظراته في تلك الليلة، صوته، محاولته العنيفة لاغتص"ابها، ارتجفت، جسدها، فابتعدت عنه خطوة للخلف، ونظرتها انكسرت بين الخوف والغضب.
تساءل متعجبا بإبتسامة: مالك؟
اجابته وهي تحاول الحفاظ على ثباتها، دون أن تنظر داخل عينيه: مفيش، أنا مصدعة وعايزة أنام.
ابتسم وهو يمد يربت على كتفها بحنان: ماشي يا عشقي، تعالي نامي وارتاحي.
تحركت بخطوات بطيئة نحو الفراش، بينما سليم أخرج هاتفه وقام بعمل مكالمة، جلست على الفراش وعيناها مازالت تراقبانه وهو يتحدث في هاتفه بصوت منخفض: لأ يا نور، مش جاي بكرة، هاخد أجازة، شوفي رشدي ولا ياسين، تمام سلام.
أنهى المكالمة، ألتفت نحوها، لمح نظراتها الطويلة نحوه، فأقترب منها وتساءل بابتسامه يشوبها القلق: مالك؟ بتبصيلي كده ليه؟
اشاحت عينيها بعيدا عنه: مافيش..
تحرك ووقف أمامها مباشرة، مد يده يداعب شعرها من أعلى برفق، وانحنى وطبع قبلة على جبينها، وهو يقول بحنان: طب يلا نامي وارتاحي.
هزت رأسها بهدوء، ورفعت قدميها عن الأرض، ثم تمددت على الفراش ببطء، اقترب منها سليم، ووضع وسادة خلف ظهرها لتستند إليها براحة، وابتسم قائلا بنعومة: تصبحي على خير يا قطعة السكر.
هزت رأسها في صمت، دون أن تنطق بكلمة، ظل يتأملها لثواني، ثم ألتفت إلى الجهة الأخرى ليتمدد بجانبها، الجو كان ساكنا، لكن صمتها كان غريبا، كأنها غارقة في مكان بعيد لا يصله.
تمدد بجانبها وهو ينظر للسقف، وضع يديه خلف رأسه وقال بصوت متعب: النهاردة كان يوم طويل ومليان مفاجأت، ومبيخلصش، أكتر حاجة مخليانى مش مصدق إللي مصطفى عمله! اتجنن رسمي ولا أنتِ رأيك إيه؟
لكن ماسة لم تجب، كانت تحدق في الفراغ بعينين شاردتين، كأنها تسمع صوته من خلف ضباب، ألتفت نحوها تساءل وهو يهمس: نمتي ولا إيه؟
انتصبت جالسة، محتفظة بمسافة بينهم، أخذت نفسا عميقا قبل أن تهمس: فعلا تصرف غريب من مصطفى..
اعتدل من نومته ببطء، ثم مال على جانبه في زاويتها، أسند كوعه إلى المرتبة، ووضع كفه أسفل خده، ونظر لها بإبتسامة: أنا لو كنت أعرف إن مصطفى ممكن يخليكي تفتكري بالسرعة دي، كنت جبته من بدري.
نظرت له بإستغراب، وانعقد حاجباها في دهشة، ثم قالت بنبرة ساخرة: يا سلام! يعني عايز تقنعني إنك ندمان إنك مجبتهوش من الأول؟ منبسطتش يعني بالفترة إللي كنت فيها فاقدة الذاكرة وعايشين فيلم "صغيرة على الحب"؟
ضحك وهو يغمض عينيه للحظة ثم فتحها: الصراحة كانت فترة حلوة أوي، حبيتها جدا، بس من حقك تفتكري...
ركز النظر في ملامحها بصدق واضح في عينيه: هتصدقيني لو قولتلك إني كنت بدعي تفتكري؟ برغم إني كنت مبسوط ونفسي الفترة دى متخلصش، بس كنت بدعي...
تساءلت بنبرة مهتزة: ومخوفتش؟ إن لما أفتكر آخد موقف منك؟ لأني هرجع أفتكر كل حاجة!؟!
تنهد وهو يمرر يده على فمه برجفه خفيفة: في الأول آه، كنت خايف بس بعدين قولت هتاخدي موقف ليه؟ أنا حكيتلك كل حاجة، وإذا كان على آخر فترة بتاعة هروبك دي، أنا كنت ناوي أحكيهالك، بس مكنتش لسة مستعد، ولما بقيت مستعد، جبت مصطفى، ولو مكنتيش افتكرتي ولا حصل إللي حصل، كنت هحكيلك.
أخفضت نظرها، وصوتها خرج متكسرا بين الحروف: أنا مفتكرتش لما شفت مصطفى، أنا افتكرت لما رفعت المسدس عليه، وخرجت الرصاصة، افتكرت عمار واللحظة إللي فيها ماتت كل حاجة بينا، ولحد دلوقتي وجعها جوايا.
اعتدلت في جلستها، وما زالت قدماها ممددتين على الفراش، انحنت قليلا للأمام، وضعت أطراف أصابعها على جبينها وهي تغمض عينيها بتعب ظاهر، صوتها خرج متقطعا من الأنين قالت بوجع: لما كنت بتحكيلي وأنا فاقدة الذاكرة، ولما الدكتور قعد معايا وقال إن لما أفتكر يمكن الوجع يكون أخف، كنت مصدقاه، خصوصا بعد كل إللي عملته عشاني، بعد كل حاجة حلوة عشناها سوا..
رفعت برأسها قليلا في زاويته وهي تمد شفتيها بحزن بعينين اغرورقت بدموع: افتكرت إن لما أرجع وأفتكر، هحس بالراحة، والوجع هيخف شوية، بس إللي حصل النهاردة؟ أنا مش بس رجعت أفتكر الذكريات يا سليم! رجعت كمان افتكر الوجع، الوجع كله رجع، زي ما هو، ويمكن أكتر.
تنهد سليم الذي كان يستمع لها بتأثر وتفهم، اعتدل في نومته، وجلس بجانبها، يمسح على كتفيها بحنان: بس إحنا مع بعض يا ماسة، هنعدي ده سوا وهنقدر نعالج وجعنا سوا..
ابتسم وهو يتساءل بإبتسامة ترتسم على شفتيه وعينيه: بصيلي كده، مش أنتِ فاكرة كل حاجة حصلت في الـ ٦٣ يوم إللي فاتوا؟
هزت رأسها إيجابا بصمت، فابتسم وتابع هو يقرب وجهه من وجهها: خلاص يبقي أكيد شايفة أنا اتغيرت قد إيه؟!
كانت نظرتها ثقيلة، وملامحها شاحبة يعلوها وجع صامت، فقالت بنبرة مبحوحة متقطعة: أيوه، اتغيرت مقدرش أنكر ده.