رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الخامس عشر 15 ج 2 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الخامس عشر 15 ج 2 
بقلم ليله عادل



ابتسم بهدوء متعب: طب خلاص، إيه المشكلة؟

هزت رأسها نافية ببطء، والدموع تسيل بحرقة توجع القلب، ثم قالت بصوت خافت متألم: مشكلتنا إني لسة موجوعة، الوجع منك لسة جوايا كبير ..

تنهدت وهي تحاول الثبات: بس عموما، هنروح للدكتور ونشوف هيقول إيه؟! بس عايزاك تصبر عليا، ونرجع نتعامل تانى زى ما كنا قبل ما أفقد الذاكرة.

اتسعت عيناه، ورفع صوته قليلا وهو يقول بصدمة غير مصدق: تاني يا ماسة؟!

هزت رأسها بإيجاب، نبرتها مهتزة بين الوجع والرجاء:
أيوه يا سليم، هو أنت كنت فاكر إن يوم ما أفتكر، بعدها بساعة هسامحك؟

صاح بإعتراض غاضب، ملامحه مشدودة وصوته يعلو رغم محاولته التماسك: أنا مقولتش كده، بس برضه، دي مش حياة! أنا تعبت من الصبر، مش قادر أصبر تاني! في إيه؟! هو أنا عملت إيه لكل ده!؟

رفعت يدها بإيماءة هادئة تطلب منه أن يتوقف، وقالت بصوت خافت متعب: من فضلك متزعقش، أنا تعبانة ومصدعة ومش قادرة أكمل كلام، خلي الكلام لبعدين، من فضلك سبني دلوقتي، وروح نام في أوضة تانية زى ما كنا.

فور أن نطقت ماسة بتلك الكلمة، اتسعت عيناه مندهشا، ثم أرتفع صوته بغضب مكبوت وهو ينهض من على الفراش: وأنام في أوضة تانية كمان؟! هو إحنا هنرجع لنفس الدايرة تاني؟! ومطلوب مني أرجع أطبطب وأتحمل وأبدأ من الأول؟! لا، مش هعمل كده تاني!

تنهدت بعمق، محاولة أن تبدو ثابتة رغم أن جسدها يخونها؛ والصداع ما زال يخبط في رأسها، والتعب يثقل أنفاسها، رفعت يدها إلى صدغها، ثم نهضت ببطء من على السرير.

نظرت إليه، وقالت بصوت متهدج يخرج من بين أنفاسها المضطربة: سليم، أنا لسة موجوعة منك، وده متوقع، مش فاهمة ليه بتعمل كده؟ ليه دايما مستعجل؟

ثم وضعت كفها على قلبها، كأنها تحاول تهدئ خفقان قلب يئن أكثر مما ينبض، ثم همست بصوت خافت متعب: وبعدين أنا بقولك أصبر، لحد لما نروح للدكتور، ويقولنا نعمل ايه، ويفهمنا إزاي نقدر نعالج ونتخطي الأوجاع دي...فين المشكلة؟!

نظرت له بعينين دامعتين ومرهقتين، وقالت بوجع: يمكن يقدر يشرحلك إن إللي جوايا مش قرار، ولا عناد، ده وجع، محتاج وقت، ومحتاج صبر منك مش ضغط.

أخذت نفسا بطيئا وهي تتابع بصدق متعب وتمسح دموعها: يمكن أقدر أسامح، بس مش دلوقتي، أنا لسة مش قادرة أتنفس من الوجع إللي جوايا، فبالله عليك متزودش عليا، قولتلك أنا ناوية أسامحك بس لسة مش قادرة دلوقتي.

رد عليها بتهكم: وأنا المفروض أفضل قاعد تحت رحمتك، ومستنى ترضي عني لحد إمتي؟!

ثم تابع بصوت خرج مبحوحا، لكنه غاضب: لو فعلا ناوية تسامحيني، يبقي سيبيني أنام هنا، ومتخافيش، مش هقرب منك، وهنتعامل عادي.

نظرت له نظرة حادة، وفي عينيها دمعة تقاوم الانكسار: كويس إنك فتحت الموضوع ده، لإن ده أكتر حاجة عامله لي وجع..

ضيقت عينيها وهي تتساءل بنبرة لازعة وازدراء: أزاي تسمح لنفسك تقرب مني؟ وتستغل فقداني للذاكرة، حتى لو كان علشان تخليني أفتكر زي ما الدكتور قالك؟ إزاي تعمل كده وأنت عارف إن ده بالذات أنا مش متقبلاه!

صمتت للحظة، ثم همست وهي تكاد تبكي: لما افتكرت إللي حصل بينا، حسيت بالقهر، اتعصبت، حسيت إنك استغليتني استغليت براءتي، استغليت إن أنا مكنتش هقولك لا.

حاول أن يقاطعها: ماسة أنا...

لم تعطي له فرصة كي يتحدث صوتها علا قليلا وتابعت بشدة وإتهام: متحاولش تبرر كان ممكن متعملش كده، يا سليم، حتى لو حصلت مرة، كانت تبقى غلطة، لكن أنت استحليتها، لدرجة إني حسيت إنك عملت كده عشان كنت عارف إن لما أفتكر، والذاكرة ترجعلي، مش هخليك تلمسني.

تجمد في مكانه، واتسعت عيناه كأن الكلمات صفعت روحه قبل وجهه، والهواء بينهما صار ثقيلا يختنق به القلب.

نظر لها بصدمة، وهو يحاول أن يستوعب الحديث، فكلماتها كانت كالصفعة على وجهه، تحشرج صوته وهو يضغط على كل كلمة: غلطة!؟ واستحلتها !؟ أنتِ عارفه أنتِ بتقولي إيه؟! واعية لكلامك!!

ارتعشت شفتاها، وأهتز صوتها وهي تهمس بمرارة دامعة: أيوة واعية، لإن حتى لو بحبك، ونفسي أسامحك ونرجع زي زمان، الموضوع ده بالذات مش هقدر، ومش هسامحك فيه أبدا ليه عملت كده؟ ليه استغلتنى بالشكل ده؟

رد سليم بنبرة متهكمة تحمل خلفها وجعا مكبوتا كأنه يحاول أن يبعد عن نفسه الاتهام الذي خنقه: أنا إللي عملته ده؟ عملته برضاكي يا ماسة، مغصبتكيش على حاجة.

نظرت إليه بنظرة باردة للغاية؛ عيناها تلمعان لا بالغضب ولا بالدموع، لكن فيهما قسوة خافتة، قالت بصوت هادئ حد الجرح: لإنك، عارف ومتأكد إني مستحيل كنت هقولك لا، كنت بتختار التوقيت الصح، لما أبقى مش أنا، لما أكون تايهة، سهل وقتها تبان الأمور برضايا.

ضغط سليم على أسنانه الأمامية بضجر حاول الثبات، رغم مرارة الجرح الذي يشعر به: أنا مش هقولك تاني إن أنا معملتش كدة، غير بعد ما استاذنتك وبعد كلام الدكتور وبعد ما قعدت أفكر أكثر من مرة...

أشار بأصابعه أمام عينيها، بنظرة حادة قائلا بنبرة هادئة لكنها حاسمة: العلاقة دي لما حصلت، حصلت برغبتك وموافقتك، ولو كنت عايز استغلك زى ما بتقولى مكنتش بعدت عنك في أول مرة لما كنتي خايفة ومكسوفة وكنت كملت وأنتِ يومها طلبتى بنفسك إني أكمل ومرضتش، ولما أتكرر ده،  كان شوق منك ومني، وأوقات أصلا كنتي أنتِ إللي بترغبي فيها، مش لازم تقوليها بلسانك، بس حسيتها من نظرتك وهمساتك، أنا مش ببرر، لإني أصلا مش في موضع اتهام، أنا بس بوصف الصورة إللي غايبة عنك يا ماسة هانم.

كانت تصغي إليه، لكن ملامحها لم تحمل تصديقا، كأن كلماته تمر جوارها دون أن تلمسها، فهي لم تصدق شيئا مما قاله، سوى حقيقة واحدة تلسعها في الصدر "أنه استغلها"

نظرت إليه بثبات جارح، وقالت بنبرة باردة حادة: ده إللي أنت بتحاول تقنع بيه نفسك، بس متحاولش تقنعني أنا بيه، الحقيقة أنك استغلتني، واستغليت إني عايزة أفتكر، فلما تقولى إن ده هيفكرني هوافق.

صمتت للحظة وهي تضيق عينيها بيقين لاذع: لو كلامك صح، ومكانش في نيتك تستغلنى كنت حكتلي باقي القصة إللي متأكد إني لو كنت عرفتها حتى وأنا ماسة الصغيرة مكنتش هعمل كدة معاك تاني.

وقفت أمامه، ساكنة، لكن عينيها كانت تصرخ، والدموع على خدها تتساقط واحدة تلو الأخرى، كأنها تشهد على الجريمة بصمت لا يحتمل.

كان الصمت يملأ الغرفة كضباب كثيف، يثقل الهواء بينهما

بينما كان ينظر إليها سليم بصمت مطولا، عاجزا عن الكلام، وكأن الكلمات خانته في أكثر اللحظات احتياجا لها، شعر بوخز في قلبه، ألم يشبه السقوط في هاوية لا قرار لها، لم يتخيل يوما أن تراه بتلك الصورة، أن تراه وحشا استغلها ليشبع رغباته فقط.

هو الذي لم يقترب منها وهي في ضعفها، احتراما لخوفها وارتباكها، إلا عندما استأذنها ولم يلمسها إلا حين رحبت هي بقلب مطمئن، واليوم يدان بما لم يفعله، وكأن كل ما كان نقاء صار في عينيها خيانة.

كان يعلم في قرارة نفسه أن حديثها فيه شيء من الحقيقة؛ لكنه لم يكن يخشى سوى أن يفتح جراحا قديما، كان واثقا إن علمت باقي القصه، سيتبدد ذلك السكون وتختفي الراحة التي بتأكيد وجدها.

 تأخر؟ نعم، لكنه لم يستغلها، ولم يكن يوما يريد أن يفعل ذلك، كل ما أراده فقط هدنة، مساحة قصيرة من السكون، راحة ولو ليوم واحد فقط، يستعيد فيها أنفاسه قبل أن يواجهها بالحقيقة كاملة، كان عازما على أن يخبرها بكل شيء، لو لم تتذكر حين تري مصطفى، كان صادقا في نيته، غير أن خطواته المترددة جعلته يقف في موضع شبهة لم يستحقها.

صمت، وفي صدره وجع لا صوت له، وجمر يشتعل ببطء خلف الملامح الهادئة، حاول أن يتمسك بصمته، يبتلع وجعه، وكأن الدفاع عن نفسه صار عبثا أمام نظرتها تلك.

كان يعلم أن المسافة بينهما لم تزل، وأن ما كسر لم يرمم بعد، لكنه لم يتوقع أن جرحها مازال بهذا العمق بعد كل ما حدث بينهما.

خفض رأسه ببطء، وكأنها أطفأت في داخله شيئا ما، أخذ نفسا عميقا، حاول أن يثبت ملامحه الممزقة من الداخل، ثم استدار بخطوات بطيئة وخرج من الغرفة دون أن يلتفت لها.

رحل عنها، تاركا وراءه صدى الخطوات وريحا باردة تمر بينهما، كأنها تعلن موت شيء لم يولد بعد.

أما ماسة، فظلت مكانها، تنظر إلى الباب المغلق كأن روحها خرجت معه، انحدرت الدموع على وجهها في صمت موجع، لم تكن تبالغ الأمور، لكنها ما زالت أسيرة وجع لم يشفَى بعد؛ جرح لم تلتئم حوافه ولا تزال أنفاس تلك الليلة تسكنها.

ما زالت تعيش صدمة دفينة تتجدد كلما شعرت أن من أحبته لمس ذلك الجزء المكسور منها، هي لا تكرهه، لكنها تخافه، ولا تريده بعيدا، لكنها لا تتحمل قربه بهذا الوضع، هي تعرف في أعماقها أنها بحاجة إلى علاج قبل أن يتحول هذا الوجع إلى جدار يفصل بينهما إلى الأبد.

خرج سليم من الفيلا والغضب والحزن يعصفون به 
صعد سيارته وأنطلق في الطرقات بلا وجهة، لا يرى سوى ضباب غضبه أمامه.

فيلا ياسين وهبة، الواحدة صباحا 

بعد انتهاء اليوم ذهبا إلى فيلتهما القديمة، كانت كما هي، لكن رائحتها تغيرت، تجولت هبة في الأرجاء ببطء، تلمس الأثاث بعينين دامعتين، بينما هو يتابعها بصمت متردد، يحمل في عينيه خليطا من الحنين والشك.

اقتربت منه، ووضعت كفها على صدره بخفة، وهمست: وحشتني.

لم يرد، لكنه لم يبتعد أيضا، كان الصمت بينهما أصدق من أي كلام، حتى تحولت تلك اللحظة إلى ما هو أبعد من الكلمات.

ومع أن ياسين حاول جاهدا أن يبدو طبيعيا معها، إلا أن الأمر بدا كأنه واجب زوجي لا أكثر، كانت حركاته باردة، وصمته فاضحا، كأن جسده حاضر وقلبه غائب
حاول أن يوهم نفسه بأن ما بينهما مازال حيا، لكن الحقيقة كانت واضحة في عينيه قبل أن تراها هي "لم يعد يشعر بها كما كان"

سيارة سليم، الواحده صباحا

ظل سليم يقاد سيارته في الشوارع على غير هدى، كمن يسعى إلى الفرار من نفسه، لا من الطريق، كانت كلماتها تتردد في أذنه كالصواعق، تضربه بلا رحمة، وتحرق قلبه وما تبقى من سكونه.

صوت الطبيب ما زال يلاحقه، متهدجا باللين، يطالبه بالصبر، والتفهم، والانتظار "السماح قادم، لا محالة."

لكن تلك الجملة كانت الشرارة التي أشعلت النار في صدره؛ شعر أن الطبيب خدعه، باع له الوهم في ثوب الحكمة، وأغواه بزيف الطمأنينة.

أما ماسة، فكانت الجرح الذي لا يضمد، طعنت قلبه ثم تركته ينزف في صمت لا يحتمل.

أدار وجهه بعنف، وضغط على أسنانه حتى سمع صريرها، وكاد أن يصرخ من احتقان الألم في صدره،
اسودت الدنيا أمام عينيه.

فقبض على عجلة القيادة بعنف، ثم انحرف بالسيارة فجأة، مغيرا وجهته، وقاد بجنون كأن الريح تطارده، لم يدرِ كم مضى من الوقت، ولا كيف انتهى به الأمر أمام منزل الطبيب.

توقف بحدة، ترجل من السيارة، وأغلق الباب خلفه بعنف أفزع الصمت من حوله، كانت خطواته ثقيلة،
 كأن كل خطوة تجر خلفها خيبة عمر بأكمله، وجهه متجهم، وعيناه تقطران سوادا وغضبا، يتنفس كوحش جريح يبحث عمن أشعل نزيفه.

دخل المبنى بخطوات مثقلة، وقف أمام المصعد يقبض على كفٍ في يده كأنه يتمسّك بثباته الأخير.
دخل مصعد ثم خرج بعد قليل  توقف أمام الباب، بوجهه متصلب كصخر غاضب، ويده تضرب الجرس بلا انقطاع، كأن الزمن كله تجمد في انتظار لحظة الفتح، انفتح الباب أخيرا، وظهرت الخادمة، تنظر له بخوف واضح.

دخل بخطوات غاضبة، صوته جهوري يهدر في المكان: ياسر فين؟

 الخادمة وهي تتراجع خطوة: حضرتك مين؟

رفع رأسه ونظر إليها بعينين تشتعلان غضبا وقال من بين أسنانه: روحي قولي للدكتور ياسر، سليم الراوي هنا، يلا بسرعة.

هزت رأسها بسرعة: حاضر يا فندم، حاضر.

في اللحظة نفسها خرج الطبيب من مكتبه، ووجهه يشع استغرابا من هذا الاقتحام المفاجئ.

لكن سليم لم يمنحه وقتا ليفهم، اندفع نحوه بعنف كريح هائجة: مبتردش على التليفون ليه؟

الطبيب بنبرة هادئة يغلبها الذهول: علشان الوقت متأخر يا سليم، في إيه؟ إيه إللي جابك دلوقت؟

ضحك سليم ضحكة قصيرة مشتعلة بالسخرية والغليان: إيه إللي جابني؟

نظر من حوله، وألتقط فازة قريبة وألقاها بعنف على الأرض، صوته خرج متقطعا من العصبية: أنا أجي وقت ما أحب! أنا سليم الراوي، فاهم يعني إيه؟

أشار الطبيب الي الخادمة بهدوء: طب روحي أنتِ دلوقت.

خرجت الخادمة بخطوات متسارعة، بينما ظل الطبيب ينظر إلى سليم محاولا تهدئته، وفحص ملامحه، صوته يخرج بنعومة محسوبة كمن يمشي فوق زجاج مكسور.

اقترب خطوتين وقال بصوت منخفض: ممكن تهدى بقي وتفهمني مالك؟

صرخ سليم، وصوته يتكسر بين الغضب والخذلان:
أنا مش ههدى! ومتقوليش أهدى! أنا جاي أقولك إنك فاشل ومبتفهمش حاجة! وبياع كلام! بعتلي الوهم وأنا صدقتك، لكن من النهاردة؟ مش هصدقك تاني، أنا همشي بطريقتي، وهرجع مراتي ليا بطريقتي، مش بطريقتك.

الطبيب محاولا ضبط نبرته: طب نتكلم بالعقل، أحكيلي إللي حصل وأنا أقولك أسبابه.

هز سليم رأسه بقهر، ودمعة مريرة هطلت على طرف عينه، مسحها بسرعة وهو يقول بصوت مبحوح: علشان بعد ما أحكي طبعا هتقولي، دي أسباب طبيعية، ولازم أصبر؟ بس أنا خلاص تعبت! مش هصبر، ومش هجيلك تاني! هي خلصت كده.

أغمض عينيه لحظة كأن الكلام يجرح صدره، واستدار ليغادر، لكنه أوقفه صوت الطبيب وهو يقول بنبرة باردة:
تمام يا سليم، اتعصب وأغضب، وأرجع تاني لنقطة البداية، بس المرادي؟ الرجوع مش للبداية، لا أبعد منها، ومترجعش بقي بعد كده تدور على المسامحة، يخسارة يا سليم كنت فاكرك أقوى من كده، بس طلعت ضعيف.

تصلب سليم في مكانه، قبض على أسنانه بقوة حتى برزت عضلات وجهه، ثم ألتفت نحوه ببطء، عيناه غارقتان بالسواد، ونفسه يعلو ويهبط من شدة الغضب: أنا مش ضعيف! أنت إللي ضحكت عليا...

تحرك حتى توقف أمامه مباشرة وهو يركز النظر داخل عينه وتابع على نفس ذات الوتيرة بقوة: أنا مش هبررلك ولا هوضحلك، ولا هسمع منك، أنا بعد كده هرسم الطريق وهكمله لوحدي، وهعرف أرجعها من غيرك، من غير وصاياك! 

ثم تهدج صوته بالقهر والوجع: وحتى لو مرجعتش براحتها، أنا مش هفضل أحارب لوحدي، إللي عاجبه يفضل في حياتي، وإللي مش عاجبه مع السلامة ،حتى لو ماسة نفسها!

رفع الطبيب حاجبيه وقال بإنبهار ممزوج بعملية: جميل إنك توصل للنقطة دي، أنت كده بدأت تحبها صح، بس لازم تفهم إن إللي حصل منها أيا كان هو ايه؟! فهو شيء طبيعي ومتوقع، لإن ماسة لسة مضطربة نفسيا.

سليم بانفجار مكتوم: المطلوب مني أصبر تاني؟! وهفضل اصبر لحد إمتى؟! وليه أنا بس إللي بصبر؟!

الطبيب بعملية وهدوء وهو يحاول امتصاص غضب سليم: أنت مصبرتش كفاية، أول مرة كانت 4 أو 5 أيام، وبعدها أخدت الهدنة بفقدانها للذاكرة، طبيعي لما ترجع ترجع من نفس النقطة إللي وقفتوا عندها 

ثم تابع برجاء، ونبرة حكيمة: أسمعني يا سليم، وأرجوك أهدى، هي مش هتتغير بين يوم وليلة

هز سليم رأسه بمرارة ويأس: أنا مش حاسس بأي تغير ولو بنسبة 1%، كان عندى أمل أو يمكن كنت بحلم إنها لما تشوفني قد إيه اتغيرت في الفترة دى، تفتكر كل الحلو إللي بينا وترجع تهدى وتديني فرصة، لكن متوقعتش إنها تتهمني إني استغلتها! وهي عارفة إنها آخر حاجة ممكن أعملها!

ثم قلب عينه وهو يشير نحوه بإتهام: أنت إللي اقنعتني، وأول حاجة عملتها لما افتكرت اتهمنى إني استغليت نسيانها.

أقترب الطبيب خطوة، صوته هادئ لكن كلماته تقطع كالسيف: وده بالضبط سبب إنك لازم تسيبها تتعالج، ماسة محتاجة وقت، إحنا كنا متأكدين إن ده وارد يحصل بس أنت إللي تأملت زيادة يا سليم.

رد سليم بصوتٍ مبحوح، وقد غلبه القهر: أنا تعبت، ومش قادر خلاص، أنا مغلطتش لوحدي! بس دايما المتهم هو أنا، وأنا مش هقبل تاني أفضل متهم، ولو مبطلتش إللي هي فيه، تبقى هي إللي اختارت، أنا مش هجيلك تاني، يا دكتور...

ثم استدار مغادرا، بخطوات تئن على الأرض، وكل خطوة كأنها تقتطع قطعة من روحه، أغلق الباب خلفه بعنف، وبقي الطبيب واقفا في مكانه، في عينيه انكسار صامت، وخيبة طبيب رأى مريضه يعود إلى الظلام بعد أن كاد يخرج للنور

خرج سليم من عند الطبيب وهو يئن من الوجع والغضب معا، دخل سيارته، وأدار المحرك بعصبية ظاهرة، وأنطلق يجوب شوارع المدينة بلا وجهة، كأنه يهرب من فكرة تطارده، أو من خيبة لم يعد يحتملها، كان يأمل أن يجد ما يطفئ وجعه، لكن ما وجده لم يكن سوى سراب جديد يزيده ألما على ألمه.

أما ماسة فظلت تبكي في صمت موجع، دموعها تنهمر بلا توقف، تشعر بالحزن لا على نفسها، بل على سليم وعلى ما آل إليه حبهما النازف، فكلماتها لم تكن مقصودة، بل كانت لحظة وجع واختناق.

وحين هدأ بكاؤها، أثقلها التعب، فاليوم كان شاقا وطويلا عليها، وصداعها لم يفارقها منذ أن عادت اليها ذاكرتها، فأغلقت عينيها واستسلمت للنوم.

💞__________________بقلمي_ ليلةعادل.
في اليوم التالي

فيلا ياسين وهبة العاشرة صباحا 

غرفة النوم

توقف ياسين أمام المرآة وهو يزرر قميصه، نظراته شاردة في وجهه الذي بدا غريبا عنه، كان الصباح ساكنا، وصوت الماء في الحمام يوحي بحياة أخرى تجري خلف الباب بعد قليل.

خرجت هبة بعد لحظات، شعرها مبتل، ترتدي قميص نوم ناعم، تحمل منشفة صغيرة تمسح بها عنقها، توقفت عند عتبة الغرفة وهي تنظر إليه في المرآة.

تساءلت بتعجب: خارج ولا ايه؟

أومأ برأسه، دون أن يلتفت اليها: أيوة، عندي شغل.

اقتربت بخطوة، صوتها ناعم لكنه مائل للعتاب: لا شغل ايه، خلينا سوا.

تنهد بأسف وألتفت لها موضحا: ياريت بس ماسة تعبت تاني، وسليم معاها، ورشدي مشغول في المناقصة، مفيش غيري ولازم أكون موجود.

جلست على التسريحه تصفف شعرها وهي تقول: خلاص أنا كمان هنزل المجلة أخلص شوية شغل وأجيب نالا، وهرجع على القصر 

ارتفع حاجباه بدهشة وتساءل بتعجب: هتروحي القصر؟

ابتسمت بثقة وهي تلعب بخصلات شعرها: آه إيه المشكلة.
ثم مالت نحوه، وقبلته قبلة سريعة على خده: هنزل أجهزلك الفطار.

هز رأسه بصمت، وعيناه تتبعانها وهي تغادر، ظل واقفا أمام المرآة للحظة، تأمل انعكاسه، كأنما يرى رجلا يؤدي دورا لا يخصه، رجلا يرتدي شكله فقط.

فيلا ماسة وسليم، العاشرة صباحا.

غرفة النوم. 

استيقظت ماسة، والصداع مازال يضرب رأسها كطبول لا تهدأ، أخذت نفسا عميقا وهي تضع يدها على جبينها، ثم نهضت واتجهت إلى الحمام، فتحت الماء وبدأت تغسل وجهها مرارا، كأنها تحاول أن تمحو الصداع والذكريات معا.

لكن الصور عادت فجأة لقطات مشوشة تهاجم رأسها بعنف، وضعت كفيها على رأسها وصرخت بخفوت متألم: هو أنا مش افتكرت خلاص؟ ايه بقي 

ثم فتحت عينيها وهي تتمتم: ربنا ياخدك يا رشدي، إنت وأمك وصافيناز.

توقفت لحظة، تنظر إلى وجهها في المرآة بعينين متعبتين، ثم مسحت وجهها بالمنشفة وخرجت، ألقت المنشفة على الفراش وهبطت إلى الأسفل.

في المطبخ.

كانت سحر ترتب الأواني بعناية، دخلت ماسة بخطوات بطيئة، شعرها منسدل بإهمال على كتفيها، وملامحها متعبة.

قالت بابتسامة باهتة، وصوت خافت: صباح الخير يا ماما سحر.

رفعت سحر رأسها مبتسمة، وملامحها تشع حنانا: صباح الفل يا حبيبتي، عاملة إيه دلوقتي؟

وضعت يدها على رأسها وهي تتنهد: والله تعبانة أوي، عندى صداع فظيع، ممكن تعملي لي فطار ونسكافيه عشان آخد الدوا؟

ابتسمت سحر وهي تمسح يديها في المريلة: عيني يا حبيبتي، حاضر.

وقبل أن تتحرك سحر، سألتها ماسة بإهتمام: هو سليم فين؟ نزل راح المجموعة؟

هزت سحر رأسها نافية، وقالت بأسف: سليم بيه مرجعش أصلا من وقت ما خرج بالليل.

تجمدت ماسة، وتساءلت بدهشة وقلق: مباتش في الفيلا؟!

هزت سحر رأسها بالنفي مرة أخرى.

مررت يدها على جبينها في تعب ظاهر، وشردت عينيها بقلق للحظه، ثم تنهدت وقالت بصوت خافت: طب بعد إذنك، هاتيلي الموبايل من فوق، وجهزي الفطار بسرعة، أنا هقعد في الجنينة شوية.

في الحديقة.

خرجت ماسة إلى الحديقة بخطوات متثاقله، جلست اسفل رجولة الخشبيه، وأغمضت عينيها لتستقبل نسمة الصباح، لعلها تهدئ أنفاسها وتطفئ بعضا من صداعها.

وبعد دقائق، جاءت سحر تحمل الهاتف ووضعته بجوارها، ثم عادت إلى المطبخ لتحضر الفطور.

تناولت ماسة الهاتف، وقامت بالاتصال بسليم مرارا وتكرار، لكن كانت الاجابه في جميعهم واحده "ينتهى الرنين دون رد".

زفرت بضيق، عضت شفتها السفلية بعصبية، وفي تلك اللحظة سمعت صوت مكي خلفها: صباح الخير يا ماسة، عاملة إيه النهارده؟ أحسن شوية؟

ألتفتت نحوه، بابتسامة مرهقة على وجهها: أنا كويسة، أنت عامل إيه؟ آسفة على إللي حصل امبارح، بس والله العظيم مصطفى راجل محترم جدا...

قاطعها بصوته الهادئ، وهو يجلس أمامها: عارف مش محتاج تقولي، بس إللي حصل كان غلط كبير، غلط كان ممكن يضيع أرواح.

رفعت كتفيها بعدم فهم وضجر، وعينيها تنظر في الفراغ بحيره: أنا نفسي أفهم إزاي دى حصل، بس إللي فهمته إن ساعات الغضب والخوف على حد بتحبه بيخلوا الواحد يعمل حاجات ملهاش علاقة بالعقل.

ثم ألتفتت نحوه بنظرة متوسلة: بقولك يا مكي؟ ممكن تتصل بسليم تشوفه فين؟ علشان مبيردش عليا، وأنا قلقانة عليه.

اتسعت عينا مكي بدهشة: هو مرجعش من إمبارح؟

هزت رأسها نافية، وهي تضم شفتيها بقهر مكتوم: لأ، أنت تعرف راح فين أصلا؟

أجابها بهدوء موضحا: الرجالة قالولي إنه خرج بالعربية متأخر، ورفض إن حد منهم يروح معاه.

ثم صمت للحظة وهو يمعن النظر في ملامحها، وتساءل بقلق: اتخانقتوا ولا ايه ؟

هزت رأسها نافية، وقالت بصوت مكسور وهي تمسح وجهها: مش خناقة بالظبط، بس هو مقدرش يفهم إن إللي كانت معاه طول الفترة إللي فاتت مكنتش أنا، دلوقتي أنا رجعت بذكرياتي ووجعي إللي مخفش طلبت منه يستنى ويصبر عليا، بس مدانيش فرصة أكمل كلامي، اتعصب أوي، وسحر قالتلي إنه بات بره.

أمال مكي رأسه قليلا، ينظر إليها بثبات واهتمام صادق: هو أنتِ لسه زعلانة منه؟

تنهدت بعمق، وعينيها يلمع فيهما بريق دموع حبيسة:
مش زعلانة، ونفسي أسامحه، بس مش قادرة، في حاجة جوايا مكسورة، من حاجات حصلت في الليلة إللي مشيت فيها أنت متعرفهاش، وصعب على أي ست تتخطاها بسهولة، محتاجة دكتور يساعدني أتخطاها، ولسة موجوعة منه إنه هددني بأهلي.

هز مكي راسه بتفهم، أعاد عليها كلماتها التي بررت بها أفعال مصطفي، بنبرة ذات مغذي: أنتِ لسه قايله بنفسك "ساعات الغضب والخوف على حد بتحبه بيخلوا الواحد يعمل حاجات ملهاش علاقة بالعقل"

ثم عدل جلسته بزاويتها، ينظر إليها بتركيز: أنا مش ببرر إللى عمله، لا هو غلط، وأنا كتير قولتله إللي بيعمله ده مش صح بس إللي عمله عمله بدافع الحب، مش القسوة وأنتِ كمان عليكي غلط كبير..

ثم أضافه بنبرة عقلانية حكيمه: وبعدين مين فينا معصوم من الغلط؟! مش عيب إننا نغلط، بس العيب إننا نستمر في الغلط ومنعترفش بيه ولا نحاول نصلحه.

أخفض رأسه لحظه، ثم رفعها إليها مرة أخري: تعرفي اليوم إللي هربتي فيه، سليم كان عامل زى المجنون ورايح يكسر الفيلا على أهلك، بس وقف في نص الطريق مجرد ما سمع صوتك في ودانه بتعاتبيه، وقف ورجع وكان فرحان بنفسه أوي إنه قدر يغلب غضبه، صدقيني يا ماسة، سليم يستاهل فرصة.

ابتسم وهو يميل بجسده نحوها محاولا اقناعها بنبرة هادئة وعقلانية: عارفة لو سليم لسة زي ما هو مبيتغيرش، كنت هقولك عندك حق، بس طول ما هو بيحاول، لازم تراجعي نفسك وتديله فرصة، لأنكم بتحبوا بعض، أنا مش بقول كده عشان هو صاحبي، أنتِ كمان أختي، بس والله العظيم أنا أكتر واحد عارف قد إيه سليم اتوجع واتظلم، فخلاص بقي اغفري وعدي، فيه حاجات كتير بينكم تستاهل إنك تعدي.

أطرقت برأسها، وصوتها خرج خافتا متعبا: عارفة يا مكي، والله عارفة، وأنا كمان بحبه أوي، أنا لما غبت ال6 شهور ورجعت سحر قالتلي"ربنا قادر يغير كل حاجة في يوم وليلة"، وده إللي حصل، بس هو إللي مش قادر يصبر.

مكي بنبرة مفسرة: هو بقاله سنة ونص صابر ومستني، وقبلها علاقتكم كانت مذبذبة، فخلاص تعب، ومحتاج يرتاح.

نظرت له بعينين دامعتين، وقالت بصوت مبحوح: وأنا كمان تعبت ومحتاجه ارتاح زيه بالضبط، بس إمبارح مكنتش مستعدة أتكلم.

هز مكي رأسه متفهما: أنا فاهم، وهتكلم معاه، هو غلط فعلا لما استعجلك في نفس الليلة إللي رجعتلك فيها الذاكرة، كان لازم يستنى يومين وتتكلموا بالراحة، بس يمكن أنتِ قولتله كلام في لحظة غضب، وهو خده على صدره وزعل.

أطرقت رأسها بأسف وندم: أيوه فعلا قولت كلام زعله، بس والله ما كنت أقصد بس من زعلي قولتوا، متسألنيش هو ايه، لو هو عايز يقولك يبقى يقول.

ابتسم مكي بخفة وقال مازحا وهو ينهض من مكانه: خلاص متقلقيش أنا هكلمه، المهم دلوقتي ترتاحي، أنتِ لسة راجعة من غيبوبة.

وضعت يدها على صدرها، وصوتها خرج مبحوحا بإرهاق: آه والله أنا تعبانة خالص.

مكي باهتمام: تحبي أجيبلك الدكتور؟

هزت رأسها سريعا: لا، مش ضروري، بس بالله عليك، أتصل بيه، وطمني عليه.

اومأ برأسه، ثم جلس مرة أخرى واخرج هاتفه وضغط على اسم سليم، وبعد لحظات جاء صوته من الطرف الآخر، خافتا متعبا مبحوحا: أيوة يا مكي، عايز حاجة؟

رد بنبرة هادئة تخفي قلقه: لا يا سليم، بس بطمن عليك، أنت فين؟

مدت ماسة يدها فجأة وانتزعت الهاتف من يده بعجلة، وصوتها خرج يحمل لهفة صافية: سليم، أنت فين؟ قلقتني عليك.

جاءهل صوته البارد كحد السكين: مشغول.

زفرت بضيق وهي تتحدثه بنبرة ممتزجة بالعتاب والضجر: طب أنا بكلمك مبتردش عليا ليه؟ وترد على مكي؟!

صمت لحظة، ثم قال بجفاء خالي من الدفء: مش فاضي، في حاجة؟

أنخفض صوتها وهي تحاول إخفاء ارتباكها: لا، بس كنت عايزة أطمن عليك، مبتش في الفيلا ليه، بت فين؟!

رد مقتضبا، كأنه يريد إنهاء الحديث بأي شكل: أنا كويس، سلام.

ثم أُغلق الخط قبل أن يسمع ردها.

تجمدت ماسة لحظة، تنظر إلى الهاتف بذهول صامت، ثم عضت شفتها السفلى بعصبية وهي ترفع عينيها نحو مكي.

قالت بغيظ طفولي، وملامحها تتلون بالانفعال: بص صاحبك قماص أزاي! أهو بيعمل زي العيال، بذمتك ده ينفع؟ أنا لسة راجعة لي الذاكرة ولسة تعبانة، وهو زعلان!

ضحك بخفة، وهو يمد يده نحو شعره يحكه بتوتر ظريف: معلش متزعليش منه، أنا هكلمه.

في تلك اللحظة، اقتربت سحر، وهي تحمل صينية الفطور، وتصاعد معها بخار الشاي برائحة النعناع.

قالت وهي تبتسم: يلا يا ماسة، الفطار جاهز.

نظرت لمكي بإبتسامة مرهقة: يلا يا مكي، اقعد افطر معايا.

لوح بيده وهو ينهض ببطء: لا، مش هينفع، كلي أنتِ بألف هنا.

قالت بإصرار ناعم: مش هينفع إيه؟ أنت زى أخويا يا مكي، يلا اقعد بقى بدل ما أسيب عليك سليم وهو دلوقتي خارج نطاق التغطية.

ابتسم بصمت، فتساءلت ماسة بخفة: تحب أعملك ساندوتش؟ ولا تعرف تاكل لوحدك؟

ابتسم وقال بسخرية لطيفة: متقلقيش، أنا شمال ويمين، إيدي الاتنين شغالين.

ضحكت بخفة، وهي تقول: ألف سلامة عليك، أنا أسفة مرة تانية 

أخذ قطعة خبز، وبدأ يتناول الطعام بهدوء وتساءل وهو يمضغ لقمة صغيرة: كلمتي أهلك؟

هزت رأسها نافية وهي تبتسم بخجل بسيط: تصدق لأ؟ هاكل وأكلمهم، بس أخد الدوا الأول؛ عشان أنا عارفة ماما، أول ما تيجي هتصدعني بالكلام.

وأخذ يتناولان الإفطار معا، وبعد أنتهاء الفطور، مسحت فمها بمنديل صغير ثم تناولت دواءها.

قال مكي بنبرة متعبة وهو ينهض ببطء: أنا هدخل أرتاح شوية، علشان تعبان من المضادات الحيوية إللي باخدها للجرح.

أومأت برفق وهي تتابعه بعينيها حتى غاب عن أنظارها، ثم أعادت نظرها إلى فنجان النسكافيه أمامها، أخذت منه رشفة صغيرة، ثم أسندت ظهرها إلى المقعد، تتأمل الحديقة الصامتة وقد غمرها ضوء النهار.

مرت الدقائق ثقيلة، وسليم لم يتصل بعد، فزفرت ببطء، ومدت يدها إلى الهاتف الموضوع على الطاولة، فتحته وحاولت الاتصال به لكن وجدت هاتفه مغلق، فتمتمت في نفسها بغيظ: كدة يا سليم ماشي.

قررت أن تتصل بوالدتها، تخبرها بأن تأتي هي ووالدها، دون أن تذكر لهما السبب، وبعد أن أغلقت الهاتف، جلست في مكانها تنتظر أمامها بشرود، بين قلق يضغط على صدرها، وصمت يزداد ثقلا مع مرور الدقائق.

مجموعة الراوي 

مكتب عزت، الواحدة ظهرا

جلس رشدي بين عزت وفايزة، وجهه يرشف تعبا، وعينه تحاول أن تخفي شيء من التوتر.

عزت بصرامة ملحوظة: خير يا رشدي؟ في إيه؟

فايزة بلهجة ساخرة: إيه؟ المناقصة طلعت أكبر منك ومش عارف تشتغل عليها لوحدك؟!

نظر لها رشدي نظرة حادة، وقال بنبرة لازعة: مبلاش الكلام المستفز ده...
مسح فمه بضعف، وحيرة قائلا بنبرة مهتزة بعض الشيء: أنا مجمعكم عشان حاجة تانية، أنا بحاول أبطل ضرب؟! بش مش عارف لوحدي 

تساءلت فايزه بتعجب: يعني إيه ضرب؟

ابتسم عزت بسخرية وهو يجيبها بلهجة جافة: يقصد الـشم هم بيسموه كده، كمل يا رشدي.

حك رشدي بخده باضطراب، وقال بصوت متهدج: حاولت لوحدي ومعرفتش، بفضل طول النهار ماسك نفسي بالعافيه، بس باجي آخر الليل مبقدرش من التعب والصداع، وبضعف وباخد غصب عني، حتي حاولت أقلل الجرعة ومعرفتش برضه

مالت فايزة بجسدها، وهي تساءل: هو أنت أصلا المفروض بتاخد قد إيه؟

اوما رشدي موضحا بنبرة منخفضة، وهو يخفض رأسه بخجل: ساعات مرتين في اليوم، وساعات أكتر.

عزت بعقلانية: طبيعي مش هتقدر لوحدك، الموضوع ده لازمله دراسة وعلاج مضبوط ولازم تبقى تحت ملاحظه شديدة.

تساءل رشدي بإهتزاز: هو مش أنتم قولتوا هتجهزوا لي الجست هاوس، وتجيبوا لي حد يساعدني؟

عزت بحدة: ماحضرتك قليت أدبك وقتها وقولت مش عايز مساعده من حد، وبعدين أنت شايفنا فاضيين يا رشدي؟

نظر له بإستغراب، وهو يتساءل بوجع: هو في أهم من إنكم تساعدوني أتعالج ؟

ردت فايزة وهي تنظر له بصرامة و عقلانية: آه طبعا دلوقتي عندنا حاجات أهم، أصبر لما نخلص موضوع ماسة إللي ممكن تنطق في أي وقت، وساعتها أنت أول واحد هتدفع التمن، وكمان المناقصة بتاعتك، ايه بتفكر متكملش؟! لازم تفهم إن مجرد ما تدخل الجست هاوس، مش هتخرج تاني منها غير وأنت معافي.

مسح رشدي فمه، وقال بنوع من الضجر يخفي خلفه خذلانه من تهميشهم الدائم له حتي في أشد لحظات ضعفه: هو أنا لازم اتحبس علشان اتعالج؟! أنا بس كل اللى عايزه تبقوا معايا وتشجعوني أكمل، وبعدين أنا مش شايف إن في حاجة بتتجهز أصلا.

عزت بلهجة عملية لاذعه: أيوة طبعا لازم تتحبس، ومتقلقش كل حاجة هتتجهز في وقتها، بس خلص ملف المناقصة الأول لأن مبقاش فاضل عليها كتير، وأنا مش مستعد أغامر بيها، ومفيش وقت إن حد يشغل عليها دلوقتي غيرك لأن أنت اللى معاك كل تفاصيلها ورفضت إن حد يساعدك، فخليك قد المسؤليه لمرة واحدة في حياتك، واعتقد مفيش مشكلة يعني لو صبرت أسبوع ولا أسبوعين كمان، واهو نكون أحنا كمان خلصنا من موضوع ماسة وقفلناه.

رفع رشدى نظره اليه بتردد وتنهد قائلا: بمناسبة موضوع ماسة، ياريت تفكروا في أي حاجة تانيه غير القتل.

تساءل عزت بلهجة مستخفة: عندك أي أفكار تانية غير القتل؟ إحنا تحت رحمتها دلوقتي.

مد رشدى وجهه بتعجب وعلق: ده مكنش كلامك زمان، يا باشا، أنت كنت أكتر واحد خايف عليها وبتعمل مشاكل معانا لو عملنالها حاجه، إيه إللي جد، ليه مصر على قتلها دلوقتي؟!

نظر له عزت نظرة حادة ممليئة بالصرامة والقسوة، وأجابه بهدوء مهيب: زمان كانت ماسة مش عارفة حاجة، لكن دلوقتي أنا مضطر أسكتها بالطريقة الوحيدة إللي هتخليها تسكت، أنا بنظف ورا أخطائكم، ومعنديش استعداد أدفع التمن معاكم.

ضحك رشدي بسخرية، وقال بنبرة ساخطة: تقصد بتنظف ورا سكوتك وقبولك باللي حصل، أنت ممكن تضحك على الكل إلا رشدي..

تابع بنبرة لازعة ونظرة حادة: أنت زمان قبلت ماسة علشان مصلحتك، علشان سليم يفضل موجود على الكرسي ومتخسرش المجموعة، بس لما سليم بقى مذبذب من مشاكله معاها ومبقاش مركز في الشغل وخسرنا مشاريع، وافقت على اذيتنا ليها وسكت علشان مصلحتك برضه، وبصمت على كلام الملكة إللي عرفت تدخلك صح...

صمت للحظة ثم تابع: بس سليم ممشيش على الخطة إللي رسمتها، الصراحة فاجئني؛ آه خسر شوية مشاريع، بس شد نفسه تاني ورجع زي زمان وأقوى.

ركز رشدي النظر في داخل عينه وكأنه يكشف حقيقة عزت أمام نفسه: بس وقتها يا باشا كنت غرست معانا بسكوتك، ودلوقتي بتحاول تصحح غلطتك بقتل ماسة، عشان لو نطقت ساعتها كله هيقول الباشا كان عارف وسكت، أصل أحنا عيله بنحب روح الجماعه، ولما واحد فينا بيقع مبيحبش يقع لوحده، لازم يشد الباقي معاه.

ثم ضحك بسخرية: يا عيني عليكي يا ماسة، معرفش عملتي ايه في حياتك علشان تقعي في عيله زينا، وتبقي أنتِ اللي بتدفعي التمن كل مره.

صمت للحظة، وأخذ نفسا عميقا، ثم نهض وقال بتنهيده محاولا اقناعهم: أنا من رأيي بلاش قتل، فكروا في حل تاني، حتي من باب المصلحه يا باشا، تفتكر سليم اللى اتهز بالشكل لمجرد شوية مشاكل بينهم، هيبقي عامل أزاى لو ماتت؟!

تدخلت فايزة بصوت منخفض لكنها حازم وملئ بالقسوة: اممم طب ما تفتكر أنت يا رشدي، لو مي عرفت إللي عملته مع ماسة، هتعمل إيه؟ ورد فعلها هيكون إيه؟! تفتكر هتقبل على نفسها تعيش مع واحد هدد مرات أخوه؟! إحنا بنحمي نفسنا وبنحميك.

نظرة لها نظرة صامتة بخذي، ارتجف جسده قليلا، وأعترف في داخله أن فايزة على حق، بدا كما لو أن رغبته في الحفاظ على ما يملك ترغمه على قبول ما لا يريد، فاخفض رأسه وتحرك إلى الخارج دون أن ينطق بكلمة.

ألتفت عزت إلى فايزة متسائلا بقلق: هو رشدي إيه حكايته؟ شكل مي ليها تأثير كبير عليه؟

اقتربت منه فايزة، وهى تقول بثقه لاذعه: سيبك منه، رشدي ده أكتر واحد مصلحته تتطلب إنه يتخلص من ماسة، وزي ما قولت مي ليها تأثير كبير عليه فعلا، ودى في مصلحتنا، لأن هي اللى هترجعلنا رشدي لعقله من تانى، هو مستحيل يغامر ويخسرها وأنا هضغط عليه من هنا.

ثم تساءلت بحدة عملية: المهم عرفت هنتخلص منها أزاى من غير ما سليم يعرف يوصل لحاجه؟!

أجابها موضحا: بحاول أدور على فكرة كويسة، بس سليم يعرف أغلبية المرتزقة إللي ممكن نرتب معاهم، وهما يعرفوه، ومفيش حد يقدر يلمس حاجة تخصه.

فايزة بثقة قاتمة: الناس دي ممكن تبيع أي حد في مقابل الفلوس، بعدين أنت الملك الكبير، ومحدش يقدر يقولك لا ولا ايه؟!

هز رأسه موافقا: مظبوط، بس دى سلاح ذو حدين، لأن لو رفعوا السماعة وقالوا لسليم "عندنا خبر مهم يخص قتل مراتك"، ساعتها سليم هيدفعلهم أضعاف، وهيبعوني ويقولوا له كل حاجة.. اصبري ليها حل.

صمتا للحظة، وتبادلا النظرات، بينما جلست فايزة تفكر بتركيز، ويد عزت تعض شفتيه بتفكير.

فيلا ماسة وسليم، الثانية ظهرا

كانت ماسة واقفة في منتصف الحديقة بابتسامة مشرقة وهي تستقبل سلوى وسعدية.

تقدمت سعدية بخطوات قلقة، وهي تساءلت: إيه يا حبيبتي، في إيه؟

ماسة بابتسامة هادئة: مفيش يا ماما، بس بابا وعمار ويوسف مجوش ليه؟

أجابتها سعدية: عمار ويوسف في الشغل، وأبوكي في البلد عشان عمتك تعبانة شوية.

اقتربت منها سلوى، وامسك يدها بعفوية: في إيه يا ماسة؟ خضتينا! أنا واخدة أجازة مخصوص من الورشة عشان أجيلك.

ضحكت ماسة بخفة وهي تميل برأسها قليلا: مفيش يا سلوى، بس كنت عايزة أسألك، أنهي فيلا أحلى؟ دي ولا التانية إللي على النيل؟ بفكر أقول لسليم نرجع النهاردة.

تبادلت سعدية وسلوى النظرات، واتسعت أعينهما بدهشة مفاجئة، ثم شهقت سعدية وهي ترفع يدها إلى فمها: يانهار أبيض أفتكرتي يا حبيبتي؟

قبل أن تنطق ماسة، كانت سعدية قد سحبتها إلي حضنها بقوة، تضمها وتقبل وجهها والدموع في عينيها:
الحمد لله، الحمد لله يا بنتي إنك افتكرتي أخيرا وعقلك رجع فى راسك.

ثم ضمتها سلوى وهي تقول بسعادة: مبروك يا حبيبتي، حمدالله على سلامتك.

ضحكت ماسة وقالت بخفة: مخدتوش بالكم؟ إن بقيت بتكلم عادي كده.

سلوى بسعادة: أنا مركزتش والله، بس إيه إللي حصل؟

أشارت ماسة نحو الشلت المفروشة على النجيل: تعالوا نقعد، وأحكيلكم.

جلسن جميعا على العشب، وقالت ماسة بهدوء يخالطه الحماس: مش هتصدقوا إللي حصل.

ضحكت سلوى، وقالت بمزاح: أنتِ أصلا حكاياتك كلها شبه الأفلام.

ابتسمت ماسة، ثم بدأت تروي لهن ما حدث، بصوت منساب كأنها تحكي حلما عاد إليها بعد غياب طويل.

شهقت سلوى وقاطعتها وهي تتساءل بقلق: يا نهار أسود! ومكي حصله حاجة؟

هز ماسة رأسها وهي تلوح بيدها بتوضيح: جت في كتفه، والحمد لله بسيطة، هما بيقولوا إنها شاظيه ومدخلتش في كتفه كأنها عدت من جنبه كده، والله أنا نفسي مش فاهمة يعني إيه، بس هي حاجه بسيطة.

تساءلت سعدية بنبرة متعجبة: ومصطفى ليه يعمل كده؟

خفضت ماسة نظرها للحظة، ثم قالت بصوت واهن فيه حيرة: هو كان فاكر إن سليم هو إللي عمل فيا كده، كان خايف عليا، والله العظيم أنا لحد دلوقتي مش مصدقة إن مصطفى عمل كده! حط نفسه في موقف صعب اوي، وهو مش كدة خالص.

ربتت سعدية على ركبتها، وقالت بنبرة أمومة واضحة: المهم يا حبيبتي إن عقلك رجع في راسك، وخلاص بقى يا ماسة لا عايزين هروب ولا زعل تاني، أنسي بقى وخليكي كويسة مع جوزك، واهو الحمد لله جوزك ربنا هداه ورجع زى الأول وأحسن، فاعقلي بقي وحافظي على بيتك. 

حركت ماسة يدها بتردد: أنا اتخانقت أنا وسليم امبارح وزعل مني وخرج بالليل ومن ساعتها مرجعش ولا راضي يرد علي اتصالاتي.

نظرت لها سعديه بلوم: ليه كده بس يا بنتي؟ ده كان هيتجنن عليكي، وقايدلك صوابعه العشرة شمع، حتى إخواتك لما كانوا بيقعدوا يضايقوه بالكلام والله ما كان بيعمل حاجة وأختك مقصوفة الرقبة أهي تقولك.

سلوى: الحق يتقال مكانش بيعمل حاجة فعلا، بس ده ميمنعش إننا لسة واخدين منه موقف.

سعدية بتهكم: وتاخدي منه موقف ليه يا عين أمك؟! وبعدين أختك عملت عملة كبيرة يضيع فيها رقاب، هو عمار ده مش ابني وحتة مني، بس وأنا مسامحاه في اللى عمله معاه، وبعدين يا ماسة هو قال إن هو بيتعالج وهيبقي كويس، فخلاص بقى متبقيش مفترية، وسيبك من حوار إنه كان بيهددك بينا هو عمل كده من حبه فيكي، مكانش عارف يقعدك غير بكده. 

ردت ماسة بخفوت: إحنا مزعلناش بسبب الموضوع ده، أنا زعلت علشان يعني، الفترة إللى فاتت قرب مني.

قالت سعدية بسرعة وهي ترفع حاجبها: ما يقرب، ده جوزك يا بنتي!

أطرقت ماسة رأسها، وصوتها أنكسر قليلا: بس مش قادرة أنسى إللي عمله فيا في الليله اللى هربت فيها، وبعدين ده مكنش مرة، ده استحلاها.

تنهدت سعدية بضيق واضح: أخص عليكى يا ماسة إيه استحلاها دى!؟ أوعي تكوني قولتيله كده؟ متنسيش إن ده حقه عليكي والملايكه تلعنك لو رفضتي تديهوله، وبعدين يعني هو عمل إيه؟ ما أنتِ بنفسك قولتي إنه مكملش يومها، وحتى لو كان كمل، ما أنتِ عارفه إنه كان واخد حاجة مخلياه مش عارف هو بيعمل إيه؟

نظرت ماسة للأرض وقالت بخفوت متعب: ماشي يا ماما، أنا مقولتش حاجة، بس أنا قولتله يصبر عليا لما أروح للدكتور ويقولي أتعامل واتخطي ده إزاي.

رفعت سعدية حاجبيها وقالت بنفاد صبر: بقولك واحده واحده كده وفهميني، علشان مش فاهمة منك حاجة!

بدأت ماسة تروي لها ما حدث بينها وبين سليم بتردد، وعينا سعدية تتسعان مع كل كلمة، وحين أنهت حديثها، شهقت سعدية وصفقت بكفها على صدرها: أخص عليكي يا ماسة! إيه إللي أنتِ قولتيه ده؟ لا يا حبيبتي، غلط! أستغلك إيه؟ ده كان فرحان بيكي، وما صدق إنك رجعتي له! ده بقاله سنتين مقربلكيش! عيب إللي قولتيه ده!

قالت سلوى باعتراض: لا ماسة عندها هو فعلا إللي عمله غلط؟

ألتفتت سعدية نحوها بحدة، وهي تضربها على كتفها: أنتِ مالك يا بت أنتِ ومال الكلام ده؟ ده كلام حريم كبار! قومي من هنا، ومتدخليش نفسك في الحكاوي دي.

نهضت سلوى وهي تتمتم بغضب: هو أنا ديما كلمتي واقفه في الزور، والله ما أنا قاعده معاكوا.

ابتعدت بخطوات هادئة، تاركة سعدية تنظر إلى ماسة بنظرة فيها مزيج من العتاب والشفقة، رفعت حاجبيها وقالت باستهجان خافت، كأنها تحاول الموازنه بين الحنية واللوم: مكانش له لزوم اللى قولتيه دى يا بنتي، الراجل بيحبك ويتمني لك الرضي ترضي،  مكانش يستحق منك كلمة تكسره بالشكل ده، وحقه يزعل ويخاصمك، كان ممكن تعبري عن وجعك بأي طريقة تانية، غير الكلمتين إللي رميتيهم في وشه دول.

رفعت ماسة رأسها ببطء، وصوتها خرج متكسرا: كنت مضايقه من اللى عمله، خصوصا إنه مكانش مرة، ومش عارفة الكلمة طلعت مني إزاي، بس كنت تعبانه ومش عارفه بقول ايه.

صمتت لحظه ثم تابعت بصوت مبحوح: هو عمل كده وأنا ناسية، رغم إنه عارف إني لما أفتكر هزعل، وده وجعني أوي حسيت إني اتكسرت، عارفة يا ماما، لو كان وقف عند المرة الأولى كنت هتفهم، بس هو عاش كأنه عادي، من غير مايعمل حساب لمشاعري لما أفتكر.

ظلت سعدية صامتة لوهلة، ثم مدت يدها تمسك بيد ماسة، وهي تنظر لعينيها بنظرة أم حقيقية: حقك تتوجعي، أنا ست وعارفة يعني إيه واحدة تحس إنها اتخدت غصب عنها حتى لو من جوزها، بس برضه يا بنتي، الراجل بقاله كتير ملمسكيش وكان هيتجنن عليكي، بعادك عنه كسره، ولما رجعك مكانش عارف يدافع عن نفسه عشان عارف إنه غلط، بس ندم وإللي يندم بيتغير، وإللي بيحب بجد مش بيأذي تاني.

خفضت صوتها قليلا، ونبرة كلامها صارت أهدأ وأكثر دفئا: أنتِ محتاجة وقت فعلا، بس متبعديش عنه، خليه يحس إنك لسة شايفاه راجل ليكي مش غريب، والله يا بنتي، أنا حاسه إنه كان بيسرق شوية وقت معاكي، عشان عارف لما تفتكري هيرجع لوجع القلب تاني، كان عايز له حبه مسكن علشان يقدر يكمل، كأنه كان بيعبي بنزين علشان ميعطلش.

ربتت على قدم ماسة بهدوء وهي تضيف بحكمة ونصح: الراجل صبر عليكي كتير يا ماسة، متبقيش قاسية عليه، ولما ييجي، قوليله إنك كنتي تعبانة والكلمة طلعت منك غصب عنك، وخلاص بقي يا بنتي، كفاية بعد.

نظرت ماسة إليها بعينين دامعتين، وصوتها اختنق وهي تهمس: أنا مش عايزة أبعد، بس كل ما يقرب بتيجى في دماغي صور اللي عمله في الليله اللى هربت فيها، فبخاف وجسمي بيتشد من غير ما أقدر أتحكم في نفسي.

مدت سعدية يدها تمسح دموعها برفق، وقالت بنبرة حنونة: خديها واحدة واحدة يا بنتي، متظلميش نفسك ومتظلميهوش معاكي، سيبيه يحاول ومتبعدوش عن بعض، الوجع لو دخل بينكم، هياكل كل حاجة حلوة فاضلة، الحب يا ماسة مش بس فرحة وضحك، الحب كمان صبر ووجع واحتمال.

أومأت ماسة برأسها بخفوت، وشدتها سعدية لحضنها، وهي تهمس فوق رأسها كأنها تردد دعاء أكثر من كونه نصيحة: كفاية وجع يا بنتي، كفاية بعد.

عندما تركتهم سلوى ظلت تتحرك في الحديقة بخطى بطيئة، والقلق ينهش صدرها كلما مر خاطر مكي في بالها، لم تستطع طرد تلك الفكرة من رأسها، رغم محاولتها أن تقنع نفسها أن الأمر لا يعنيها، فاقتربت من الاستراحة الصغيرة، وترددت لحظة وهي تنظر إلى الباب الخشبي نصف المفتوح؛ أتدخل أم تعود أدراجها؟ رفعت يدها بخفة كادت تهم بالطرق، لكن الباب فتح فجأة، وخرج مكي.

تجمدا لثواني، يتبادلان النظرات في صمت مشوب بالدهشة.

 سلوى بصوت خافت متردد، وهي تبتسم ابتسامة متكلفة: أزيك يا مكي، ألف سلامة عليك، ماسة قالتلي اللي حصل، وزعلت أوي.

رد باقتضاب: الله يسلمك.

حاولت أن تبدو عادية، لكن التوتر فضحها: طب متروح وتاخد أجازة يومين ترتاح فيهم؟

قال ببرود مهذب: أنا كويس، حاجة تانيه يا مدموزيل سلوى؟

هزت رأسها بخفة: لأ، بس كنت بطمن عليك.

قال بهدوء جاف، وهو يهم بالمغادرة: متشكر.

رن هاتفها في تلك اللحظة، فألتفت مكي نحوها لا إراديا، ولمح الاسم على الشاشة "طارق"

تبدلت ملامحه، شد فكه قليلا، وكأن غيرة خفيفة مرت في داخله دون أن يعبر عنها.

قال بنبرة رسمية وهو يشيح بنظره بعيدا عنها: اتفضلي ردي.

هم أن يتحرك مبتعدا، لكنها أسرعت بإغلاق الهاتف وقالت بهدوء مصطنع: حد مش مهم.

حاولت أن تفتح حديثا آخر، فتساءلت: عرفت إن ماسة رجعتلها الذاكرة؟

أجاب باقتضاب وهو يومئ برأسه: عرفت.

رن الهاتف مرة أخرى، فنظر إليها نظرة سريعة وقال بغيرة مكبوته: ردي شكلها مكالمة مهمة.

ثم أومأ رأسه بغضي، وهو يستأذن: بعد إذنك.

اغلقت الهاتف مرة أخري، ونادت عليه قبل أن يخطو بعيدا: مكي استنى..

ألتفت دون أن يقترب، فتابعت بصوت خافت فيه شيء من الارتباك والقلق: خد بالك من نفسك.

أجابها باقتضاب مهذب وهو يغادر بخطى ثابتة: متشكر يا فندم.

غادر مكي بخطى ثابتة، فيما بقيت سلوى واقفة في مكانها، تحدق في أثره بصمت حائر لا تدرك سببه، كان في صدرها مزيج من الخوف والقلق والغضب؛ خوف وقلق عليه، وغضب لأنها لا تفهم سبب جفائه وحدته معها، وكأنها غريبة عنه !!

 زفرت بعمق، ثم تابعت سيرها نحو سعدية وماسة، وجلست معهما تحاول أن تبدو طبيعية، وتبادلن أحاديث عابرة لبعض الوقت، قبل أن تغادر هى وسعدية، تاركين ماسة وحدها في الحديقة، تتأمل الهاتف بين حين وآخر، تنتظر مكالمة لا تأتي، وسليم مازال لا يجيب عليها.

قصر الراوي الرابعة مساء.

دخلت هبة القصر بخطوات ثابتة، عيناها تبحثان عن وجه واحد لا غيره، نادت على إحدى الخادمات ووتساءلت هي تسلمها حقيبتها: أومال فايزة هانم فين؟

أجابتها الخادمة: في الجنينة العلوية، بتعمل يوجا.

هزت هبة رأسها إيجابا، وأعطتها الشنطة: طب طلعي دي فوق..

ثم تابعت سيرها بخطوات واثقه، وكتفاها مرفوعان، كأنها داخلة معركة تعرف نهايتها سلفا، لكنها لا تنوي الخروج منها مهزومة.

كانت فايزة في الأعلى، ترتدي ملابس رياضية، تتحرك بانسجام مع أنفاسها، توقفت حين رأت هبة تقترب منها، فنظرت لها نظرة فاحصة لا تخلو من السخرية.

فايزة بإبتسامة ساخرة وهي لا تزال جالسة على الأرض: متأخرتيش يعني، كنت فاكرة كرامتك هتوجعك وهتتأخري شوية.

وقفت هبة أمامها بثبات، ذراعاها متشابكتان: أصل أنا سمعت كلامك، وفكرت فيه، ولقيت فعلا إن نجاحي في حياتي هو نجاحي مع ياسين.

ضحكت فايزة وهي تمسح عرقها بمنديل، نهضت توقفت امامها وقالت بسخرية: أيوه طبعا، رجعتي علشان كلامي أقنعك، مش علشان ياسين كان هيرميكي زي أي حاجة خلصت صلاحيتها، ويروح لغيرك، صح ؟

 مال بجسدها نحوها، وقالت بصوت منخفض لكنه يحمل تحديا: تفتكري قوتك دي كفاية؟ 

هبة بتحدي: أنا قوتي مش في الكلام، قوتي في إللي جوا قلب ياسين ليا، ولو فكر في واحدة تانية، أنا أعرف كويس إزاي أنسهاله.

رفعت فايزة حاجبا بسخرية، وقالت بابتسامة باردة: طب خلينا نشوف، أنا مستنياكي يا هبة.

ثم نظرت داخل عينيها نظرة طويلة، كأنها تلقي فيها نبوءة، وقالت بنبرة هادئة لكنها حادة كحد السكين:
بس خليكي فاكرة، إللي بترجع لجوزها عشان كبرياءها وجعها، أو علشان تثبت لنفسها إنها كسبت التحدي، بتخسر في النهاية كل حاجة.

أمالت وجهها بخفة وغمزت لها: مع ذلك، أنا في الانتظار.

ثم جلست من جديد، مدت ساقيها إلى الأمام، وبدأت تكمل تمرينها كأن هبة مجرد هواء عابر لا يملك وزنا ولا أثرا.

أما هبة، فظلت واقفة في مكانها للحظة، عيناها تتبعان حركات فايزة بثبات متماسك، لكن داخلها كان يغلي، رفعت رأسها، تنفست بعمق، ثم استدارت بهدوء وتحركت مبتعدة.

على أحد أسطح الابراج الشاهقة، الخامسة مساء 

كان سليم يجلس على سور السطح، قدماه تتدليان في الهواء، يحدق أمامه في الفراغ كأنه يبحث عن معنى ضائع بين الظلال، كانت كلمات الطبيب التي لازمته طوال الأيام الماضية تتردد في ذهنه بلا هوادة؛ كلها صبر ووعود، وحديث عن بداية جديدة وعلاج سيعيد إليه توازنه، لكن الآن، وهو على هذه الحافة، شعر أنّ كل ما فعله لم يكن سوى دوران في دائرة مغلقة.

تذكر ماسة كما رآها آخر مرة؛ نفس النظرة، نفس البعد في عينيها، وكأن شيئا لم يتغير، وانتهت كل محاولاته لكي يعيدها إليه ويرمم ما انكسر بينهما بإتهام ظالم طعن قلبه أكثر مما جرح كبرياءه، فكرة أنّها تراه مستغلا كانت كفيلة بأن تخلخل كل ما تبقى بداخله من يقين.

أحنى رأسه، واستعاد مشهدها بين ذراعيه، كيف ارتجفت من لمسته وابتعدت فجأة، متحججه بالصداع والتعب، الآن فقط، أدرك أنها لم تتحمل لمساته، ومازالت  تخافه وترهبه، فأغمض عينيه بقوة، وضرب بكفه على السور، وأطلق زفرة طويلة، امتزج فيها الغضب بالوجع.

ظل على تلك الحاله حتى مالت الشمس وغمر الظلام المدينة، يفكر في كل كلمة قالتها، وكل نظرة كسرت شيئا فيه، كان هاتفه لا يتوقف عن الرنين، اسم "عشقي" يتكرر أمام عينيه، لكنه لم يرد، ولم يشأ أن يرد، متعمدا الصمت، كأن الهاتف صار جدارا يحميه من المزيد من الألم.

حل المساء، وغطى السكون المدينة، وعقارب الساعة اقتربت من الثامنة. عندها، نهض بهدوء متعب، مسح على وجهه كمن يزيح عن ملامحه ثقل يوم كامل، ونزل السلم ببطء، ثم صعد سيارته وأدار المحرك، وأنطلق عائدا إلى الفيلا، لا شوقا، بل استسلاما.
💞______________بقلمي_ليلةعادل 

قصر الراوي، الثامنة مساء

دخل ياسين القصر بخطوات هادئة، والهدوء يكسو ملامحه رغم الإرهاق الذي يطل من عينيه، وما إن تجاوز الردهة الواسعة حتى لمحته إحدى الخادمات، فبادرت بخفوت مفعم بالاحترام: ياسين بيه، حمد لله على السلامة.

أومأ برأسه بإيجاز دون أن يتوقف، فتابعت الخادمة وهي تخفض نظرها: الهانم بانتظارك في مكتب عزت باشا.

توقف لحظة، عقد حاجبيه باستغراب خفيف، ثم هز رأسه بإيجاب صامت وتابع طريقه بخطوات رصينة نحو المكتب.

مكتب عزت

كانت فايزة تجلس خلف مكتبها الكبير، تغوص في قراءة كتاب سميك.

دخل ياسين وهو يقول بأدب: مساء الخير.

رفعت رأسها نحوه، ونزعت نظارتها بهدوء، أغلقت الكتاب وتركته أمامها، ثم قالت بصوت يحمل دفئا خفيفا: حمد لله على سلامتك يا ياسين، تعال أقعد.

ابتسم بخفوت متعب: الله يسلمك يا هانم.

جلس أمامها على المقعد المقابل، بينما تحركت هي من مكانها وجلست مقابلة له، ونظراتها تتفحص ملامحه كمن يقرأ ما وراء الكلمات.

تساءلت بعملية: ليه رجعت لهبة؟

أجاب بثبات: علشان هو ده الصح.

رفعت حاجبها بسخرية: هو ده الصح؟ أنت مقتنع بالكلام ده؟ مظنش، عينك بتقول العكس.

تنهد ياسين، وطأطأ رأسه قليلا ثم قال بصوت خافت: قولتلك قبل كده يا هانم، فيه حاجات أهم من الحب، مفيش حياة كاملة، وهبة مش وحشة، عندها شوية عيوب بس هنحلها سوا، وهنروح للثيرابيست.

أومأت برأسها ببطء ثم تساءلت: طب ولوجين؟

رفع رأسه بذهول قال بنبرة مرتبكة: لوجين؟ مالها؟

ابتسمت فايزة وقالت بهدوء لاذع: أيوه لوجين، أنا عارفة كل حاجة يا ياسين.

ساد صمت قصير، قطعه ياسين بنبرة هادئة حذرة:
أنا ولوجين خلاص، موضوعنا اتقفل ومش نافع، وبعدين هبة كلمتني، وقالتلي "تعالى ناخد فرصة تانية"، وأنا...

قاطعته فايزة بحدة أمومية: أوعى تقولي اتكسفت، أصل الموضوع ده مفيهوش كسوف.

ابتسم بخفوت مر: مش كسوف، بس وافقت علشان خاطر نالا.

نظرت إليه نظرة طويلة، بمزيج من الحنان والريبة، ثم قالت بشك: وأنت كدة شايف إنك هتكون مرتاح وسعيد؟

أجابها بعد لحظة صمت، قائلا بحيرة وعقلانية: بصي يا هانم، أنا مش عارف بس أنا واخد قرار، لو حسيت إني لسة في نفس الدايرة، ساعتها هقولها إن ده مينفعش أنا لسة متكلمتش معاها كويس، ولسة فيه كلام لازم يتقال، بس المرة دي مختلفة.

أومأت برأسها في صمت ثقيل، ثم قالت بهدوء فيه نغمة أم تخفي وراءها شكا: تمام يا ياسين، أنا أهم حاجة عندي إنك تكون سعيد، بس ركز مع هبة شوية، وشوف هي راجعة لك علشان بتحبك ولا علشان هدف تاني عايزة توصله؟!

عقد حاجبيه باستغراب، متسائلا: تقصدي ايه؟!

أطلقت فايزة ضحكة قصيرة خافتة: أصل الستات يا حبيبي بحرهم واسع أوي، وهبة دي فيها كتير مني؛ عنيدة وشخصيتها قوية، ومبتحبش تخسر، وأي معركة تدخلها لازم تطلع منها الكسبانة، وتظهر قدام الناس إنها المظلومة إللي اتغدر بيها.

هز ياسين رأسه نافيا: هبة عمرها ما كانت كده.

ردت بثقة هادئة خبيثة: لما بيبقى فيه طرف تالت، كل الستات بتتحول.

تجهم وجهه قليلا، وقال بصرامة متعبة: هبة متعرفيش حاجة عن موضوعي مع لوجين.

قالت فايزة وهي تشير بيدها بهدوء: الست لما جوزها مشاعره تروح لواحدة تانية بتشمها من بعيد صدقني، اديها الفرصة، بس ركز معاها كويس وشوف هي فعلا راجعه حب ولا حاجة تانية؟!

أومأ بصمت، ثم نهض وتحرك نحو الباب، بينما ظلت فايزة تتابعه بنظرة جامدة هادئة، وحين أغلق الباب خلفه، أسندت ظهرها إلى الكرسي، ونظرت أمامها بتمعن وهي تهمس: أصل أنا كنت ناقصاكي يا ست هبة، بس أنا عارفة، مش هحتاج أكسرك، أنتِ هتكسري نفسك بنفسك، بس برضو لازم ندور وراكي، يمكن نلاقي حاجة.

غرفة هبة وياسين.

كانت هبة تجلس أمام الحاسوب، منشغلة بعمل ما، وفجأة فتح الباب ودخل ياسين بخطوات متأنية، وصوته المنهك يسبق حضوره: مساء الخير.

رفعت عينيها نحوه بابتسامة خفيفة متكلفة: مساء النور يا حبيبي، اتأخرت ليه؟

أجابها موضحا وهو يلقي بثقله على الأريكه بانهاك: غصب عني، كان عندى شغل كتير النهارده.
ثم ألقى نظرة سريعة في أرجاء الغرفة وهو يتساءل: أومال نالا فين؟!

أجابته وهي مازالت تكتب على لوحة المفاتيح: راحت مع أختي الساحل، هتقعد معاها هناك يومين.

قطب حاجبيه وقال بنبرة حازمة فيها عتاب مكتوم: من غير متعرفيني؟

رفعت رأسها نحوه بإستغراب بارد: إيه المشكلة يعني؟ هي أول مرة؟

أجابها بثبات حاد: المرات إللي فاتت كنتي بتتصلي تقول لي أو الكلام بيبقى قدامي، وكنت بوافق، لكن ده ما يحصلش تاني، من فضلك أبعتي هاتيها.

أغلقت هبة اللابتوب بهدوء، ثم وقفت أمامه وقالت بنبرةٍ متعاليةٍ بعض الشيء: متكبرش الموضوع يا ياسين، هي راجعة بعد بكرة، اتعشيت؟

تنهد وهو يفك رابط عنقه: لسة، هغير هدومي، وبعدين ننزل نتعشي معاهم

تركها ودخل غرفة الملابس ليبدل ملابسه، بينما جلست هي في صمت متوتر، تحاول أن تستعيد هدوءها، خرج ياسين بعد أن أبدل ملابسه وهبطوا معا لتناول العشاء مع باقي العيلة

بعد العشاء، خرجا إلى الحديقة، وجلسا متقابلين على الأريكة الحجرية وسط العشب الهادئ.

بدأ ياسين الحديث بصوت متزن وواضح: هبة، امبارح معرفناش نتكلم، والنهاردة لازم نحط شوية نقط على الحروف، علشان نفهم رايحين على فين.

نظرت له بهدوء مصطنع: أنا حابة أسمعك الأول.

ياسين بنبرة عقلانية: بصي، أنا بفكر نروح لثرابست، هو ممكن يساعدنا نفهم بعض أكتر، وتتكلمي معاه في إللي مضايقك، وأنا كمان عندي شوية حاجات لازم أقولها..

ثم اعتدل من جلسته ونظر في وجهها بتركيز وهو يقول: أولها إنك تهتمي بيا شوية، أنا محتاج إحساسك بيا، محتاج اهتمامك كزوجة مش بس كشريكة بيت

صمت لحظه ثم تابع بنبرة فيها حنو ممزوج بالحزن: أنا بس عايز أحس إني من أولوياتك، وإنك لسة شايفاني.

ثم أضاف بحزم وهو يشير بيديه: وبعدين لازم تبطلي تجيبي سيرة أهلي بطريقة مش كويسة، حاسبيني أنا لو غلطت في حقك، لكن أهلي ملكيش دعوة بيهم، ومتقوليش دول عمات وأعمام بنتي أو أهلك عملوا كذا، هم ليهم عيوبهم أيوة، بس عمرهم ما قللوا من قيمتهم قصاد البنت يعني دايما بياخدوا بالهم من تصرفاتهم كويس اوي قصاد البنت.

ظلت هبة صامتة لوهلة، ثم قالت بنبرة ناعمة فيها حذر: تمام يا ياسين، أنا موافقة على كل إللي قولته، وهحاول أعمل كده.

هز رأسه، ثم أضاف بنبرة فيها حزم خفيف: بس لازم تبقي عارفة إن المرحلة دي بالنسبالي اختبار، يعني لو حسينا إحنا الاتنين إننا لسة مش مرتاحين، أو مش قادرين نكمل، نبقى نرجع أصحاب أحسن، عشان البنت متتأذيش.

ابتسمت ابتسامة صغيرة، وقالت بمزيج من الهدوء وشيء خفي يلمع في عينيها: ماشي، حاضر يا ياسين.

ما كان يلمع في عينيها، لم يكن الانكسار ولا الرضا، بل نظرة أخرى... نظرة امرأة تخطط في صمت، أكثر مما تتأثر.

فيلا ماسة وسليم، الثامنة والنصف مساء 

دخل سليم الفيلا بخطوات بطيئة متثاقلة، كأن التعب قد نال من روحه أكثر من جسده، بدا على وجهه الضجر والإنهاك.

في الأعلى، كانت ماسة تنتظره في غرفتها، وتتفقد الساعة بين الحين والآخر، وأمل باهت يلمع في عينيها كلما سمعت صوت سيارة تقترب، وحين تناءي إلى سمعها أنغام تركية تصدح من غرفته عبر الجراموفون، أدركت أنه عاد، فنهضت من مكانها بسرعة، وخرجت من غرفتها، لم تتردد هذه المرة، فتحت الباب ودخلت دون أن تطرق.

كان سليم واقفا أمام الخزانة، نصف عاري، يبحث بين ثيابه في صمت ثقيل.

اقتربت منه بخطوات مترددة، وقالت بصوت خافت مشوب بقلق: حمد لله على السلامة يا سليم، مبتردش ليه على التليفون، قلقتني عليك.

أجابها بنبرة باردة دون أن ينظر إليها: مكنتش فاضي، في حاجة؟

رمشت بعينين متسعتين من الدهشة: هو إيه إللي في حاجة؟ بتكلمني كده ليه؟ أنا بس كنت عايزة أطمن عليك.

ثم تابعت بخفه محاولة تلطيف الأجواء: أنت لسه مقموص مني؟

أغلق باب الخزانة وهو يرتدي تيشيرت منزلي، وقال بفتور ساخر: وهتقمص ليه؟

رفعت حاجبها بخفة: أسأل نفسك.

لكنه لم يرد عليها، وبدأ في تبديل بنطاله لبنطال منزلي، مررت عينينها عليه بصمت، ثم ابتلعت غصتها وعادت بشعرها للخلف بتوتر وقالت بصوت متكسر: على فكرة، أنا مكنتش أقصد...و

لكنه قاطعها فجأة، ووضع إصبعه على شفتيها هامسا بحدة مكتومة: ششش، مش عايز أسمع كلام في الموضوع دى، روحي أوضتك.

رفعت يدها تبعده برفق: لو سمحت، خلينا نتكلم.

رد بجفاء أشد: قولت مش عايز أتكلم، ومن هنا ورايح، أنا إللي أحدد إمتى نتكلم وإمتى لأ، يلا على أوضتك.

نظرت إليه بحدة مكتومة: هو من إمتى بقى أصلا بتبات بره، وبتعمل إللي أنت بتعمله ده؟

زفر بعمق، ثم قال وهو يبتعد عنها: في ال6 شهور اللي غبتيهم حاجات كتير اتغيرت، وحاجات تانية لازم تتغير.

قالت بحدة متوترة: على فكرة، ده مش أسلوب نقاش.

ألتفت إليها بعصبية جلية: أنا نقاشي كده، وإن كان عاجبك، وبعدين أنا أصلا مش عايز أتكلم معاكي، ولا أشوفك حتي، روحي أوضتك قولت.

نظرت له بعيون دامعه، وصوتها خرج متعبا: طيب يا سليم براحتك، عموما أنا آسفة مكنتش أقصد.

رفع رأسه نحوها، وقال بنبرة جهورة هادئة، لكنها أرهبتها: وأنا قولتلك، متعتذريش ولا تتكلمي معايا في الموضوع دى تاني فاهمة؟ بقايا المشاعر دي أنا مش هقبلها تاني.

همست برجاء مرتبك محاولة فتح حديث آخر: طب أنا عايزة أرجع الفيلا التانية.

قال دون أن ينظر إليها: حاضر بكرة نرجع.

أضافت بخفوت: وعايزاك توديني لدكتور ياسر.

أجابها بصرامة فورية: لأ.

تساءلت بدهشة: لا ليه؟

تركها دون رد، وجلس على طرف الفراش، فتقدمت نحوه وقالت بإصرار: رد عليا أنا بكلمك؟

قال بنبرة متوترة تكاد تنفجر: أنا مش عايز أروح للدكتور ده تاني، علشان في الآخر أتضحلي إنه دكتور حمار، ومبيفهمش، هشوف دكتور تاني.

رفعت حاجبيها بدهشة صريحة: أنا إللي عايزة أروح، مش أنت! وأنا مرتاحة له.

ابتسم بمرارة: مرتاحة له؟ وأنتِ تعرفيه أصلا؟ هو إنتي شوفتيه غير مرة؟

أجابته بعناد هادئ: مشفتوش غير مرة أه، بس هو فاهم حالتك.

ضحك بمرارة مكتومة: آه فاهم حالتي، مجنون أنا؟

رفعت ذقنها متحدية: يا سيدي، أنا حرة أروح للدكتور إللي أنا عايزاه.

زفر باختناق وقال ببرود، وهو يستدير ويعطيها ظهره في إشارة لانتهاء الحديث: أعملي إللي أنتِ عايزاه.

قالت بصوت خافت، وهي تنظر إلي ظهره بعيون دامعه: ماشي، تصبح على خير.

غادرت ماسة الغرفة بخطوات بطيئة، تاركة خلفها أثرا من التردد والوجع، بينما ظل سليم يقف مكانه صامتا، أرتفع صوت الأغنية التركية مجددا من جهاز الجراموفون، يملأ المكان بنغمة حزينة كأنها تخفي أنينا خفيّا بين الأوتار.

جلس سليم علي الفراش، محدقا أمامه في الفراغ بشرود، وعيناه مثقلتان بصراع داخلي لا يهدأ، لم يعد يريد بقايا مشاعر، ولا أنصاف حب تبقيه معلقا بين الرجاء والخذلان، يريدها أن تكون معه كليا، بكامل حضورها وصدقها، لا نصف امرأةٍ تتأرجح بين القرب والابتعاد.

كان يعلم أنّه أخطأ، لكن ليس إلى هذا الحد، كل ما أراده أن يهدأ ويعيش حياته التي حلم بها دون خوف أو توتر أو انتظار لن يأتي.

فهي تتصرف معه أحيانا بحنان دافئ كزوجة مخلصة، ثم في لحظاتٍ أخرى تنكمش وتنسحب، وتبتعد دون تفسير، هذا التناقض صار ينهكه؛ لم يعد يحتمل غموضها ولا ترددها.

لكن رغم كل شيء، لم يقدر بعد على اتخاذ القرار الأخير، كأن شيئا ما مازال يشده إليها رغم الوجع،
هو الآن في مرحلة بين الفهم والاستيعاب، بين الانتهاء والبقاء، غير أنه بات متيقنا من أمر واحد "أنه لم يعد قادرا على تحمل أنصاف المشاعر بعد الآن".
💞_____________بقلمي_ليلةعادل 

مجموعة الراوي، الوحدة ظهرا

جلس رشدي خلف مكتبه، عيونه معلقة على شاشة اللابتوب والأوراق المبعثرة أمامه، كانت ملامحه مشحونة بالتركيز، وبدا مرهقا، وفجأه فتح الباب ودخلت رحاب مترددة.

رفع رشدي رأسه، وصاح بحدة: مش أنا قولت محدش يدخل عليا؟

أجابت رحاب بخفة وأسف: آسفة يا فندم، بس في واحدة برا عايزة تقابل حضرتك.

قال بغضب مكتوم: مين دي؟

رحاب متلعثمة: والله ما أعرفها، بس هي قالتلي إنها عارفة حضرتك كويس.

تنهد رشدي بعصبية: هو أي حد يقول إنه عارفني تدخليه؟ شوفي هي عايزة إيه ومشيها عندي شغل مش فاضي.

همست رحاب بصوت منخفض: قالتلي موضوع مهم جدا وضروري يخص حضرتك.

ارتعش وجه رشدي بشيء من الاختناق، ونظر إليها بحدة: طيب دخليها، بس لو طلعت بتشتغلك هزعلك.

هزت رأسها موافقة، وخرجت مسرعة، ولم تمض ثواني حتى دخلت فتاة بخطوات هادئة، وتوقفت أمام مكتبه فمال رشدي براسه قليلا ينظر اليها بإستغراب ويقول: أنتِ؟!
الحلقة جايه مش هتنزل الا لما دي توصل ٧٥٠ لايك من غير زعل على البوستين 
تفتكرو مين دي؟!



تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة