
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السادس عشر 16 بقلم ليله عادل
{صمتي لا يعني أنني ابتعدت، بل لأنني تألمت بما يكفي، اخترت الصمت، لا هروبا، بل حفاظا على ما تبقى في من سكون وهدوء، حين لم يعد للكلام معنى، صار الصمت أصدق من ألف شرح، وأحن من جدال لا يفهم فيه القلب، فبعض الصمت عقابٌ لا يعلن، ورسالة لا تقال بالكلمات.}
ليلةعادل🌹✍️
الفصل السادس عشر❤️🤫
[بعنوان: الصمت الموجوع]
دخلت فتاة بخطوات هادئة وثابتة، وقفت أمام مكتبه.
رفع رشدي رأسه باستغراب، وهو يقول باندهاش: أنتِ؟
ظهرت ملامحها بوضوح؛ كانت لمياء، صديقة مي.
ابتسمت بخجل: أنا آسفة إني جيت من غير ميعاد، بس مكانش عندي رقمك، فقولت أعدي على المقر، وبصراحة استخدمت اسم زيزي علشان أعرف أدخل المجموعة أصلا.
ابتسم وهو يشير نحو المقعد لتجلس: تيجي في أي وقت، متقوليش كده. اتفضلي أقعدي، تشربي إيه؟
لمياء بهدوء وهي تجلس: ولا حاجة، أنا بس عايزة أقولك كلمتين وأمشي.
جلس رشدي مبتسما بخفة: لا، لازم تشربي حاجة الأول.
لمياء بخجل لطيف: حقيقي مش عايزة، خليني أقول إللي جاية عشانه.
أومأ لها بصمت، فتنفست بعمق وقالت بعقلانية: بص يا رشدي، أنا أعرف مي من زمان، دي مش بس صاحبتي، دي أختي، بنت طيبة أوي، وحساسة بطريقة أنت متتخيلهاش لدرجه ممكن كلمة تجرحها، يمكن شكلها يبان جامد، بس هي جواها طفلة، وفوق كده، مرت بوجع كبير، فقدت والدتها قدام عينيها وهي صغيرة، وشافت حاجات كسرتها، مي مليانة ندوب يا رشدي، وجراح مش باينة.
نظر لها بإهتمام وقال بنبرة فيها استغراب بسيط: وبعدين؟
أكملت بهدوء عقلاني بنبرة لطيفة: بص يا رشدي، أنت مختلف عنها تماما، وبصراحة، أنا كنت مصدومة لما مي وافقت تديك فرصة، كل حاجة بينكم حصلت بسرعة الخطوبة وعلاقتكم وكل حاجة، أنا مش جاية أهاجمك، بالعكس، أنا جاية أطلب منك طلب بسيط، تاخد بالك منها..
أضافت برجاء بنبرة حالمة: أرجوك، أوعى تقسى عليها، ولا تغدر بيها، ولا تأذيها في قلبها، أو تجرحها حتى لو بالغلط.
رفع حاجبه وقال بهدوء متحفظ: هو صدر مني حاجة تخليكي تقولي كده يا لمياء؟
لمياء بإبتسامة حزينة: لأ لسة، بس ممكن يصدر بعدين.
اقترب بجسده للأمام، نبرته هذه المرة فيها فضول ممزوج بدهشة: وليه شايفة إن ممكن يحصل كده؟
أشاحت بنظرها للحظة ثم عادت تنظر له بثبات قالت بنبرة حازمة لكنها دافئة: علشان زي ما قولتلك، أنت مش شبهها، التغيير عندك بياخد وقت، وممكن في لحظة تعمل حاجة عادي بالنسبالك، بس هي تشوفها نهاية العالم؛ يعني مثلا لو كنت شارب، أو زعلان وغلطت فيها من غير قصد، هي مش هتفهم إن ده عن غير قصد، هتتوجع وبس، فخد بالك يا رشدي، مي مش زي أي بنت.
ظل صامتا للحظه، عيناه تتحركان بين ملامح وجهها وكأنه يعيد كل كلمة في ذهنه.
ثم أضافت بنبرة أصدق، وعينيها ثابتة عليه ممزوجة برجاء: خليك فاكر كويس إنها سمعت عنك حاجات كتير وعدتها، ووثقت فيك، وراهنت على ثقتها فيك قدام الدنيا كلها، فرجاء يا رشدي، بلاش تجرحها، ولا تكون سبب أذاها، لو هتعمل حاجة تجرحها، فكر قبلها ألف مرة، البنت دي حاربت علشانك، وآمنت بيك، أوعى تخذلها..
زمت شفتيها بأسف ممزوج بخجل: لأن يعني واحد زيك سوري ممكن يصدر منه أي شيء ممكن يزعلها، لأنك لسة في مرحله التغيير.
ظل رشدي صامتا للحظات، ينظر إليها بعينين لا تُقرءان، ثم قال بهدوء صادق: بصي يا لمياء، أنا مش هعارضك في كل إللي قولتيه، بس والله العظيم أنا كمان بحبها، ومستحيل أكون سبب في وجع مي، أنا فعلا بحاول أتغير، آه يمكن ببطء بس بحاول، متقلقيش عليها، هي تهمني زي ما تهمك ويمكن أكتر، أنا عمري ما أسمح لنفسي إني أكون سبب وجعها في يوم.
وقفت وعدلت حقيبتها بخفة، وقالت وهي تتنفس بعمق: أتمنى كده فعلا يا رشدي، ولو سمحت متقولهاش إننا اتقابلنا.
ابتسم بخفة وهو يومئ برأسه متوقفا: متقلقيش، رغم إني مبحبش أكذب عليها، بس طول ما هي مسألتش، مش هقول.
لمياء بإبتسامة خفيفة: هي مش هتسألك، لان مش هيجي في بالها إن أنا جيتلك، شكرا يا رشدي، وآسفة لو عطلتك.
خرجت لمياء، تاركة وراءها صمتا غريبا، كأن كلماتها لم تكن مجرد حديث عابر، بل مرآة وضعتها أمامه، فرأى فيها نفسه لأول مرة دون تبرير.
ظل جالسا في مكانه، وعيناه معلقتان في الفراغ، وصوتها لا يزال يرن في رأسه: "البنت دي حاربت عشانك وآمنت بيك، أوعى تخذلها."
مد يده بهدوء، أغلق الحاسوب، وأسند ظهره إلى المقعد، ثم زفر أنفاسه بعمق كمن يخرج ما تبقى من ضجيج في صدره، وهمس بصوت خافت أقرب إلى السؤال منه إلى الاعتراف: أأنا حقا أستحقها؟
💞_______________بقلمي_ليلة_عادل
مجموعة الراوي، الواحده ظهرا
مكتب سليم.
جلس خلف مكتبه العريض، الأوراق مبعثرة أمامه، يراجعها بعناية وتركيز شديدين بينما أحد المديرين يجلس أمامه يعرض آخر التقارير، دقائق قليلة، ثم أنهى حديثه وغادر.
ارجع ظهره على المقعد لحظه بارهاق، فمر وجه ماسة بخاطره فجأة، تجمدت نظراته وحاول أن يطرد الفكرة، فأمسك قلما وأعاد عينيه إلى الأوراق من جديد، راغبا في إغراق نفسه في العمل، ليهرب من وجع يعرف جيدا أنه لا دواء له.
وبعد قليل فتح الباب ودخلت نور بخطوات سريعة تحمل بين طياتها النظام والانضباط.
قالت وهي تقف أمامه: سليم بيه، أنا بعت الإيميل خلاص.
أجاب من دون أن يرفع عينيه عن الأوراق: تمام، ظبطي مواعيد النهارده؟
هزت رأسها بإيجاب: أيوة يا فندم، ظبطتها لحضرتك لحد الساعة أربعة تقريبا.
سليم بهدوء وهو يدون ملاحظة صغيرة على الورقة: تمام، أنا كمان هعدي على الورش وبعض المصانع النهارده، فمتاخديش مواعيد بعد كده، عملتلي إيه في موضوع البلاتينيوم؟
فتحت الملف الذي تحمله، وأخرجت ورقة وضعتها أمامه قائلة: دول يا فندم أحسن خمس مهندسين فاهمين في موضوع البلاتينيوم.
رفع الورقة بعينيه، تفحصها سريعا ثم قال بتركيز: تمام.
ابتسمت بخفة: حضرتك شكلك راجع بعد الإجازة عندك طاقة شغل كبيرة النهاردة.
رفع رأسه نحوها، وبدت على وجهه ملامح ابتسامة مقتضبة: طبعا.
ساد صمت قصير، ثم ترددت قبل أن تقول: سليم بيه، كنت عايزه اتكلم مع حضرتك في موضوع مهم؟
رفع عينيه نحوها ببرود: مش فاضي يا نور.
نور بسرعة: مش هعطلك، دي حاجة تخصني أنا.
أجاب بفتور: اتفضلي.
نور بتردد واضح: أصل نسمة "نانا" مختفية من فترة، من وقت خطوبة مستر رشدي تقريبا.
عاد للخلف ونظره للأوراق: طب وأنا مالي؟
قالت بخفوت ممزوج بتوتر: ما هو اختفائها غريب، يعني هي مش بتختفي كده إلا لو مع عزت باشا،م أقصد في شغل.
تساءل متعجبا: طب متسألي أهلها؟
هزت رأسها: ما أهلها ميعرفوش حاجة، كل علاقتهم بيها فلوس وبس، هي ملهاش غيري، وأنا خايفة أسأل الباشا عليها.
رفع نظره إليها مطولا، كان يراقب ملامحها بعناية، وشعر في نبرتها بشيء أكثر من الفضول، كأنها تعرف شيئا لا تريد أن تصرح به، فأدرك في تلك اللحظة أنها تعلم بعلاقة عزت بنانا، تلك العلاقه التي لا يليق أن تذكرها أمامه، فتنفس بعمق وقال بنبرة حاسمة: طب سيبي الموضوع ده عليا، ومتتكلميش فيه تاني.
نور بخضوع: تمام، شكرا يا فندم.
غادرت المكتب بهدوء، بينما ظل سليم جالسا مكانه، يطرق بأصابعه على سطح المكتب، غارقا في التفكير.
مكتب عزت، الرابعه عصرا
كان جالسا خلف مكتبه، يداه تميل فوق الأوراق كأنما يوقع على مصائر صغيرة، ينظر إلى بعضها ويمضي على الأخري ببطء وحزم، فيما يسود المكان سكون ثقيل لا يكسره سوى صوت الورق تحت قلمه.
انفتح الباب ودخل سليم بإبتسامة صغيرة، وقال وهو يتقدم بخطوات هادئة: مساء الخير يا باشا، قولت أعدي عليك قبل ما أروح ألف على الورش.
رفع عزت نظره، ورد بصوت منخفض لكنه حاد: نفسي ترجع تركز في الشغل، زي زمان.
ثم صمت للحظة وتساءل: مش ناوي ترجع القصر أنت وماسة؟
جلس سليم أمامه وقال ببرود متزن: توء، كدة أفضل.
أجاب عزت بلامبالاة مبطنة: ماشي، على راحتك.
ساد صمت قصير قبل أن يسأل سليم بفضول واضح: هي نانا فين يا باشا؟
عزت وهو ينظر إلى الأوراق أمامه: واخدة إجازة.
ضحك سليم ضحكة قصيرة وقال بنبرة خبيثة: يا باشا على سليم الكلام دى بردوا، دى أنت لو حورت على الدنيا كلها مش هتحور عليا، إحنا بنفهم بعض بنظرة عين.
ثم تابع وهو يغمز بعينه: قولى وديتها فين.
تصلب وجه عزت فجأة، وقال ببرود قاتل: قتلتها.
اتسعت عينا سليم بدهشة مفاجئة وهو يحدق فيه: قتلتها؟ ببساطة كده؟! طب ليه؟؟
عزت بإستهجان ساخر: هي اللى غبية، أنا قولتلها متلعبيش معايا، بس افتكرت إنها ممكن تلعب على عزت الراوي، وتجبره على حاجه مش عايزها.
سليم بنبرة هادئة: هي كانت نفسها تاخد لقب غير العشيقة؟!
ثم نظر له تابع بنبرة مقصودة: الصراحة حقها، 15 سنة في الضلمة، كتير برضه يا باشا.
صمت لحظه، ثم مال برأسه قليلا وتساءل: قتلتها إزاي؟
عزت ببساطة قاتلة: رصاصة ودفنتها.
فتساءل سليم بتعجب: اشمعني؟! ليه مخلتهاش موته طبيعيه علشان لو حد شك في غيابها وسأل عليها؟!
عزت بلا مبالاة: فايزة إللي دبرت الموضوع.
ابتسم سليم بسخرية خفيفة: ومن إمتى بقينا بنمشي ورا كلامها؟
رفع عزت نظره نحوه بنظرة متعجبة: وأنت بتسأل وشاغل نفسك ليه؟ ما أنت من بعد الحادثة بعدت نفسك وبقيت عملنا فيها الشيخ سليم.
سليم بنبرة لازعة: علشان في ناس بتسأل عنها، وعارفين كتير.
حرك عزت وجهه بلا اكتراث: تقصد نور؟ سيبهالي.
مال سليم للأمام وقال بسخرية ثقيلة: إيه، ناوي تقتلتها هي كمان؟!
عزت ببرود مخيف: لا، بس أنا هعرف أسكتها، هي عندها ابن في المدرسة، أكيد هتخاف عليه أكتر من إنها تسأل عن نانا.
همس سليم متسائلا: أمم، طب وأهلها؟
عزت ببرود تام: أهلها هيسكتوا بالفلوس.
هز سليم رأسه بيأس منه ونهض بهدوء، ثم قال وهو يتحرك نحو الباب: طب، هقوم أنا ألف على الورش، سلام يا باشا..
كاد أن يخرج، ألتفت له برجاء: كفاية قتل يا باشا علشان مش أنت إللى بتدفع الثمن، وأنا والله معنديش استعداد أدفع ثمن أخطاء عملتها تاني.
خرج من المكتب بخطوات ثابتة، لكن ملامحه كانت مضطربة، يشعر بضجر من أفعال عائلته.
بينما بقى عزت وحده، يحدق إلى الأمام بعينين تلمعان بوهج غاضب، ثم رفع هاتفه بيد رشيقة كمن يوجه أمرا ستنفذه الريح
توجه سليم إلى الورش الخاصة بالمجموعة، مر عليها واحدة واحدة، فحص آلاتها، راقب العمال، شد على بعض المديرين بعنف أحيانا وبصرامة أحيانا أخرى، كأنه يفرض وجوده فجأة بعد غياب طويل، كانت ماسة طوال اليوم تحاول الاتصال به وهو لا يجيب.
قصر الراوي
غرفة هبة وياسين، السادسة مساء
دخل ياسين الغرفة، فوجد هبة جالسة على الأرض، تمسك هاتفها وتضع ماسك على وجهها، ونالا تلعب بدميتها الصغيرة بجانبها، ابتسم وهو يراقب الطفلة، ونظر إلى هبة بإبتسامة هادئة.
ياسين بنبرة مرحة: مساء الخير.
هزت رأسها وهي ترفع عينيها: مساء النور!
اقتربت نالا من ياسين فجأة، احتضنته ووضعت رأسها على صدره: بابي وحشتني!
ضحك وهو يمسح شعرها بخفة: وأنتِ كمان وحشتيني خالص بتلعبي إيه؟!.
نظرت نالا إلى ألعابها، ورفعت دماها للأعلى بحماس: بلعب بالعروسة بتاعتي.
ابتسم، ووضع قبلة خفيفة على رأسها: ماشي يا حبيبتي، روحي ألعبي يلا.
ثم جلس بجانب هبة، ولاحظ الطين على وجهها، وأشار إليه بإصبعه: إيه اللى عملاه في وشك دى؟
أجابته بخفة، دون أن ترفع عينيها عن الهاتف: ماسك طمي أعملك!
ضحك وهو يهز كتفيه: لا.
أجابت وهي تنظر لهاتفها: اخبار يومك ايه.
تنهد بتعب، واتكأ على ظهر الأريكة: عندي شغل كتير الفترة دي، وبفكر أعمل مشروع خاص بيا، بس مش عارف اعمل ايه، عندي أكتر من فكرة.
كانت منشغله بالكتابه في أحد المحادثات ولم ترد، مما جعله يرفع صوته قليلا: هبة أنا بكلمك.
رفعت عينيها وابتسمت، وهي تحرك رأسها بخفة:أيوه، عظيم الفكرة دي، أنا معاك، شوف أنت محتاج إيه.
بدأ يشرح، وهو يحرك يده قليلا لتوضيح كلامه: بفكر أعمل حاجة ليها علاقة بالسياحة، النشاطات الترفيهية، والرحلات…
لكنها لم تكن منتبه لما يقول، وكانت عينيها مثبتة على الهاتف، فذم شفتيه وهو يتساءل: شكل في موضوع مهم شاغلك أوى كده؟!
حركت راسها بإيماءة صغيرة: صاحبتي بتكلمني عن البوي فريند بتاعها عامل معاها مشكلة.
ياسين وهو يبتسم بمحاولة جذب انتباهها: طب مقولتيش إيه رأيك؟ أنا مش متشجع اوي على الموضوع ده.
رفعت كتفها بخفة: أنا بصراحة مش بفهم في الكلام ده، بس السياحة حلوة.
تحدث بحماس مره أخري وهو يحرك يده: الفكرة التانية بقى ليها علاقة بالميديا، ممكن كمان في الإلكترونيات، محتار شوية، وحاسس إن كل الأفكار مش تمام..
لاحظ أنها مازالت منشغلة وتتجاهله، فشعر بالضجر، وقال بنبرة حازمة وهو ياخذ منها الهاتف: ركزي معايا شوية، بقولك ايه تيجي نروح سباق الأسبوع الجاي في سقارة؟
هزت راسها برفض: لا يا ياسين الحاجات دى خطر، ولو اتصابت فيها مين هياخد باله من البنت.
اومأ برأسه موافقا: عندك حق، طب تعالى معايا اتفرجي عليا وشجعيني مش لازم تشاركي.
هبة برفض: بصراحة يا ياسين أنا الكلام ده مبقاش يستهويني خالص بقيت بحس بالملل..
ضحك بخفة يحاول إقناعها: يا ستي أنا بحب الكلام ده، وعايزك معايا فيه.
أجابته بملل: روح لوحدك، ولو في أي حاجة تانية هبقى معاك.
زفر بإختناق ثم أنتقل الحديث إلى العشاء: طب اتعشيتي ولا لسة؟
هزت رأسها ورفعت يدها بخفة: لا مستنياك، أستنى خمس دقايق أغسل وشي وننزل نتعشي.
ياسين وهو يتوقف: لا أنا هطلب العشا هنا.
هزت رأسها بالموافقة، وأعادت الهاتف لمحادثتها.
توجه إلى غرفة الملابس يغير ملابسه، وفجأة تذكر حديث لوجين وهي تقول: “عارف أنا بشوف الجواز مش نهاية السعادة لاتنين اهتمامتهم مختلفه، بالعكس بيكملوا بعض، لان طبيعي نختلف في اهتماماتنا ومش كل حاجة هنعرف نتشارك فيها، بس ده ميمنعش إن أكون جنبك وأنت بتعمل إللي بتحبه"
ابتسم للحظات وهو يتذكر كلمات لوجين، وسرعان ما هز رأسه وكأنه يطرد الأفكار عن ذهنه، وعاد بسرعة إلى نالا وهبة قائلا بمزاح، وهو ينحني تجاه هبة: أنتِ لسه ماسكة الفون زي ما أنتِ، تعالي هنا بقى.
بدأ دغدغتها بخفة، محاولا الهروب من التفكير في لوجين.
هبة ضاحكة: ياسين بس الماسك!
ياسين وهو يضحك: مسك إيه بس! نالا تعالي نزغزغ هبة
ضحكت نالا، ومدت يديها: يلا!
بدأ ياسين ونالا يدغدغان هبة، وضحكوا معا، ثم أخذوا يركضون ويلعبون في أجواء عائلية لطيفة ودافئة، مليئة بالحب والمرح.
في هذه اللحظات، حاول ياسين أن يمنح نفسه فرصة كاملة لعلاقته مع هبة، ويعيش اللحظة العائلية بكل دفئها، محاولا أن ينسى كل ما يخص لوجين
فيلا ماسة وسليم، التاسعه مساء
توقف السائق بالسيارة أمام الفيلا، هبط عشري أولا، ثم فتح السائق الباب الخلفي لسليم بإحترام.
فور هبوطه من السيارة، اقترب منه مكي متسائلا بقلق: إيه يا سليم؟ فينك طول اليوم؟
رفع عينيه نحوه قائلا بنبرة لاذعة: عايز تفهمني إنهم مقالولكش خط سيري؟
تساءل مكى بقلق: بس أنت من الصبح مختفي، وكلمتك كذا مرة ومرديتش.
حاول سليم تغير الحديث فتساءل وهو ينظر له بإهتمام: دراعك عامل ايه؟
هز كتفه بلا مبالاة، وقال بصوت واهن: الحمد لله، أحسن.
ثم رفع نظره نحو عشري وقال بنبرة هادئة: بقولك يا عشري، سيبني مع سليم شوية.
ضحك عشري بخفة وقال بمزاح: ليه يا عم، في سر عليا ولا إيه؟
قاطعة مكي بحدة: خلص بقى يا عشري، روح شوف شغلك.
رفع عشري حاجبيه وقال وهو يتراجع: ماشي، هروح أعمللي حجر كده وأروق دماغي، أعمل حسابك؟
هز مكي راسه بإيجاب: ماشي.
تحرك عشري مبتعدا بخطوات بطيئة، حتى أختفت صورته تماما، ظل مكي صامتا للحظه، يراقب سليم من طرف عينه، وسليم ينتظر أن يبدأ مكي حديثه
نظر له مكي نظرة عميقة، تحمل شيئا بين الضجر والاستهجان، قائلا بنبرة نصيحة حنونة: على فكرة إللي بتعمله ده مينفعش، حتى لو هي قالتلك كلام يزعلك.
نظر له سليم بنظرة حادة: أنا مش عايز أتكلم في الموضوع ده.
أصر مكي بنبرة حاسمة: يا سليم أسمعني؟!
اتسعت عين سليم ببحة رجولية حاسمة: قولتلك مش عايز أتكلم، روح نام ولا شوف هتعمل إيه.
تحرك سليم إلى الداخل، وظل مكي ينظر إليه بضجر وخيبة.
في الداخل
استقبلته سحر بإبتسامة: حمد لله على سلامتك يا سليم بيه.
رد مقتضبا: الله يسلمك يا سحر، من فضلك أعمليلي قهوة.
سألته بدهشة: حضرتك مش هتاكل؟
أجاب وهو يلوذ بالصمت: أكلت برة.
حينها ظهرت ماسة خارجة من الـ«ليفينج روم»، كانت تمسك كوب عصير بيدها، وما إن رأت سليم يدخل حتى وضعت الكوب على الطاولة المجاورة بسرعة، ونظرت إليه نظرة تجمع بين القلق والاهتمام.
ماسة بصوت يحمل عتابا رقيقا: حمد لله على السلامة، ايه يا سليم، طول اليوم برة أتصلت بيك كتير؟مش بترد ليه؟! قلقت عليك؟!
لكنه لم يرد عليها، ولم ينظر حتى في اتجاهها، كأنها ليست موجودة.
وتابع بهدوء جاف موجها كلامه لسحر: هاتيلي القهوة في المكتب يا سحر.
كاد أن يتحرك لكن وقفت ماسة أمامه وتساءلت بإهتمام: هو أنت مش هتتعشى؟
لم يرد وواصل سيره نحو المكتب
فلحقت به وامسكت ذراعه، ورفعت صوتها قليلا: سليم، أنا بكلمك!
تجاهلها بشكل مقصود ونظر إلى سحر قائلا بنبرة حادة: يلا يا سحر، لسة واقفة ليه؟
هزت سحر رأسها بسرعة وقالت بخفوت: حاضر يا بيه، حالا.
ثم تحركت نحو المطبخ، بينما سليم أزال يد ماسة ببرود وتحرك مبتعدا نحو غرفة المكتب، متجاوزا إياها دون أن يمنحها نظرة واحدة.
ظلت واقفة في مكانها، تتابعه بعينيها في ذهول، شعرت بوخزة في صدرها، لا تعرف ماذا عليها أن تفعل، كانت تعلم أنه غاضب منذ تلك الليلة، لكنها لم تتوقع أن يصل التجاهل إلى هذا الحد.
مكتب سليم
دخلت خلفه بخطوات مترددة، فرأته يجلس أمام الابتوب بملامح جامدة.
قالت بصوت منخفض يحمل عتاب: هو أنت مبتردش عليا ليه؟ دى مش أسلوب يا سليم، وبعدين هو من إمتى أصلا وأنت بتعاملنى بالطريقة دي؟! دى أنت حتى عملت معايا كدة قدام سحر، هي حصلت؟!
مررت عينيها عليه تنتظر منه أي أجابة أو حتى التفاته لما تقول، لكنه اصطنع التركيز فيما يفعله دون رد، فتنهدت وتابعت بضجر: سليم بطل بقي الأسلوب دى، أنا بكلمك رد عليا، أيه شغل العيال الصغيره دي؟!
رفع نظره نحوها وقال ببرود قاطع: أنا مش عايز أتكلم معاكي، أنا حر.
عضت خدها من الداخل بإنزعاج من طريقته، ثم أقتربت خطوة وقالت بأهتمام: طب أكلت؟
لم يرد، وظل يكتب على اللابتوب، وكأنها مجرد هواء يمر بجانبه.
تابعت محاولتها، وهي تمد يدها لتلمس طرف كمه بحذر، لكنه سحب ذراعه بحدة، دون كلمة واحدة.
نظرت له، وعينيها تلمع بخيبة صامتة، وقالت بهدوء: طب غير هدومك الأول، أنت طول النهار بره بالشكل ده؟ وكمان القهوة إللي أنت عمال تشربها كتير دى، مينفعش على صحتك.
لكنه لم يرد، وواصل الكتابة بصمت، فشعرت بقسوة صمته تثقل صدرها، وكأنها لا وجود لها أمامه.
وفجاه توقف وأمسك هاتفه بيده وأعطاها ظهره، وتظاهر بإجراء مكالمة: آه تمام، الإيميل هيكون عندك بعد خمس دقايق.
صمتت لحظة، تدرك أنه يتصنع الحديث ليجعلها تغادر، فعضت خدها من الداخل بحزن، وهبطت دمعة من عينها، مسحتها بسرعة.
ثم وقفت خلفه، ومدت يديها وسحبت الهاتف من أذنه برفق، ألتفت ينظر لها بعينه بصمت، قالت بنبرة موجوعة والدموع تلمع في عينيها: أنت أكبر من إنك تعمل حركة زي دي ياسليم، أنا آسفة لو كنت بزعجك.
ثم أضافت بصوت مجروح باكي لكنه متماسك: بس غير هدومك، وبعدين كمل شغلك ولوسمحت كل عشان علاجك والعملية على الأقل.
قالت كلماتها تلك وخرجت بهدوء من المكتب، وأغلقت الباب خلفها وهي تبتلع وجعها بصمت، ودموعها تنهمر من عينيها، كما لو كانت تريد أن تخفي أثر ألمها عن العالم.
جلس سليم وحيدا، يختنق بألم شديد يحاول تجاهله، يحاول أن يرتب أنفاسه كي لا يضعف، فهو مازال منزعجا ومجروحا من قسوة حديثها، كانت كلماتها قصيرة لكنها أثقلت قلبه بما لم يتخيل أن يسمعه منها، لهذا أختار الصمت، صمتا يقيه من فتح جروح أعمق، يدرك أن أي كلمة قد تؤذيه، وقد تؤذيها أيضا، ففضل أن يتحمل وحده ثقل هذا الليل، كي لا يزيد الألم بينهما.
توجهت ماسة نحو المطبخ، تحاول الحفاظ على ثباتها، رغم ارتجاف خطواتها، فوجدت سحر هناك، تضع الصينية على الرخامة.
ماسة بصوت هادئ متعب: أعمليله لبن يا ماما سحر، بلاش قهوة.
رفعت سحر نظراتها إليها بإستغراب: لبن! بس يا هانم؟
أومأت ماسة بإيجاز: آه لبن دافئ، وحطي عليه شوية عسل، وأعملي له سندويتشات وفاكهة.
هزت سحر رأسها موافقة، بينما تحركت ماسة بخطوات بطيئة نحو غرفتها، وجلست في الشرفه بصمت تفكر ماذا عليها أن تفعل، وهي تشعر في داخلها بدوامة تعصف بها، كأنها تبحث عن خيط واحد تنجو به من ثقل ما بينهما.
بعد دقائق، دخلت سحر المكتب من جديد، وضعت الكوب أمام سليم وقالت بخفوت: ماسة هانم إللي أمرت، يا بيه.
نظر سليم إلى الكوب لحظة، ثم اومأ لها وأخذ القلم من على المكتب، وواصل الكتابة، يحاول التغلب علي مشاعره.
قصر الراوى، التاسعه والنصف مساء
غرفة صافيناز
جلست قرب النافذة على المقعد الخشبي، ظهرها مائل، وسيجارتها تحترق ببطء بين أصابعها، خيوط الدخان ترتفع كسحابة رمادية تتلاشى بكسل فوق رأسها.
على الطاولة بجوارها كوب قهوة لايزال ساخنا، لكنها تكتفي برشفات صغيرة متقطعة، وكأن مذاقه يثقل عليها بدل أن ينعشها، كل بضع ثواني ترفع يدها إلى جبينها، تضغط عليه كأنها تحاول كتم الألم الذي يسكن رأسها منذ أيام.
بعد لحظات، انفتح باب الحمام، وخرج عماد بشعر مبلل تلتصق خصلاته بجبينه، يجفف شعره في المنشفة ببطء وثقة، دون أي استعجال.
تساءل وهو يمر بجانبها: ايه دى القهوة جت.
هزت رأسها بصمت دون أن تنظر إليه، فتوقف أمامها، وانحنى قليلا محاولا التقاط ملامح وجهها المحني.
عماد بقلق مصتنع: مالك يا صافي؟
صافيناز بصوت مبحوح وتعب: مفيش صداع، بس صداع فظيع، والأقراص اللي باخده مبقتش تعمل حاجة، أنا لازم أكشف يا عماد.
نفخ بضيق وهو يترك المنشفة على الكرسي: مش محتاجة دكتور، متكبريش الموضوع يا صافي، ده من كتر الاسترس اللي أنتِ حاطاه على نفسك فيه.
قالن بعينين زائغتين: معرفش بس أنا مش مظبوطة، وتعبانة، تعبانة اوي.
وقف أمامها مستقيما، وقال بنبرة حاسمة كأنه يغلق باب النقاش: طب خلاص، هكلم الدكتور ييجي دلوقتي، علشان تطمني.
ثم توجه نحو الشرفة، وأغلق الباب خلفه، وأخذ يتحدث بهاتفه بصوت منخفض ومقتضب
في أحد المستشفيات الحكومية، العاشرة مساء
كان مصطفى مستلقيا على الأريكة، يبدو التعب واضحا على وجهه، وعيناه شاخصتان في الفراغ، مازال يفكر فيما حدث، في تلك اللحظة التي رفع فيها المسدس، وكان على وشك أن يقتل أحدهم، أغلق عينيه للحظة، متنهدا، حتى قطع صمته تعالي طرق سريع على الباب، ودخول فتاة ترتدي زى التمريض وتقول بأنفاس متقطعه: دكتور مصطفي، فيه حالة في الاستقبال وعايزين حضرتك تشوفها حالا.
اعتدل في جلسته وهو يضيق عينيه متسائلا باستغراب: أنتِ تعين جديد ولا ايه؟
أجابته بخجل: لا، أنا طالبه وشغاله هنا بعقد مش متعينه.
هز رأسه بتفهم، ونهض من جلسته، أرتدى معطفه الأبيض بخطوات متعجلة، وأمسك سماعته الطبية، ثم خرج معها إلى الممر الطويل.
كانت تتحرك بجانبه بخطوات سريعه تحاول مجاراة سرعته، وهى تشرح له ما فعلته مع الحالة محاولة أثبات كفائتها في العمل: هى ست عندها 56 سنه، جت بتشتكي من دوار شديد وقيء، طبعا قيستلها العلامات الحيويه لقيتها مظبوطه، ولما لقيتها عرقانه وعرفت إنها مريضة سكر، شكيت أن ممكن يكون سكرها واطى وداخله على غيبوبه سكر فسألت إمتى آخر مره اكلت قالوا من ساعتين ولما قيسته لقيته 150 يعنى مظبوط، فقولت اعملها اختبار أعصاب اشوف المشكله مخ واعصاب ولا لا ولقيت استجابتها طبيعيه جدا، فعلى الأرجح هى يا بتعاني من مشكله في الأذن الوسطى بما إنها المسؤوله عن الاتزان في الجسم، أو ممكن يكون عندها قسور في الدورة الدموية بحكم تقدم السن.
توقف وهو يرمقها من أعلي لأسفل بنظرة فاحصة، ثم قال بسخرية: ولما أنتِ عملتى كل دى مناديالى أعمل ايه ؟!
ابتسمت بخجل، تلملم أطراف طرحتها بتوتر: علشان حضرتك تشخص الحالة وتشوف اللازم يتعمل.
ضحك بخفوت، وقال بمزاح: ما أنتِ شخصتيها خلاص.
أجابته بعفوية: لا يا دكتور، أنا توقعت بس.
رفع حاجبه مبتسما: طيب يلا، نشوف توقعات صح ولا لا، يا ...
أجابته بابتسامه خجولة: آلاء.
هز رأسه مبتسما: ماشي يا آلاء يلا بينا.
آلاء فتاه بملامح مصرية أصيلة ذات اثنين وعشرين ربيعا
تنتمى للطبقه الفقيرة تعيش بمنطقة المرج مع والدتها وأخيها تدرس في كلية تمريض عين شمس في السنة الثانية
تعمل لتساعد نفسها وعائلتها.
دخلا معا غرفة الاستقبال، ألقى نظرة سريعة على المريضة، ثم بدأ بفحصها بدقة، وبعد دقائق قليلة، قال بإطمئنان للفتاة المرافقه للمريضه: تمام، الحالة بسيطة بإذن الله، هى غالبا بتعاني من مشكله في الأذن الوسطى ومحتاجه تتعرض على دكتور أنف وأذن، وأنا هكتبلها دلوقتي على أنبول منشط للدورة الدموية تاخده على محلول ملح علشان الدوخه تروح لحد ما تتابع مع دكتور، وألف سلامة عليها.
ثم وجه نظره الى آلاء، وحرك رأسه كي تتحرك معه، فتوقفت على جنب، تنتظر توجيهاته.
مصطفى بإنبهار، وتشجيع: برافو عليكي، فعلا تشخيصك صح.
شعرت بسعادة وحماس: شكرا يا دكتور.
فتساءل بفضول: أنتِ بتدرسي ماستر ولا دكتوراه؟
أجابته بضحكه خفيفه: لا يا دكتور أنا لسة طالبة في تانية جامعه.
اتسعت عيناه بذهول: ماشاء الله في سنه تانية ومعلوماتك الطبيه كده؟! لا بجد برافو استمري.
هزت رأسها بابتسامه رقيقه من إثناؤه على شطارتها، بينما مد هو يده مشيرا نحو الممر: طب تعالي معايا نلف لفة كده في القسم نطمن على باقي المرضي.
أومأت برأسها وتبعته، ليبدأوا جولتهم في تفقد أحوال المرضي
قصر الراوى، العاشرة والنصف مساء
غرفة صافيناز
دخل الطبيب بخطوات هادئة، يحمل حقيبته الصغيرة، واتجه مباشرة نحو صافيناز، وبدأ يفحصها بعناية وهو يطرح بعض الأسئلة، وهي تجيب بنبرة خافتة وكأنها تسحب من بعيد.
وحينما انتهي من فحصه وأخذ يجمع أشياؤه، سأله عماد بقلق مصطنع: خير يا دكتور؟ طمني صافي مالها؟
الطبيب: ولا أي حاجه الهانم بس شكلها بتدلع عليك علشان تشوف غلاوتها عندك، أنا كتبتلها على شوية تحاليل، وغيرتلها الدوا لنوع تانى تاخده عند اللزوم، ويفضل لو تبعد خالص عن أي ضغط، وسلامتها ألف سلامة.
ثم أخرج حقنة، وقام بغرسها في ذراعها وهو يقول: الابرة دى هتهدي الصداع شوية، ألف سلامة يا هانم.
ما إن حقنها حتي شعرت بالارتياح والنشوة تتغلغل في سائر جسدها، فأغمضت عينيها بارتياح شديد، بينما رافق عماد الطبيب إلي الخارج.
خارج الغرفه.
أعطي عماد الطبيب نقوده وهو يتساءل بنبرة خبيثه ذات معني: غيرتلها الدوا لنوع أقوى؟
هز الرجل رأسه بخبث: اه يا باشا، وكل فتره لازم تعلي الجرعه.
عماد بصوت منخفض وحاد: وايه والتحاليل اللي قولت عليها، أنت بتجود؟
ابتسم الرجل بخفة وسخرية: تمويه يا باشا، علشان متشكش، هنعملها في العيادة وهنطلعها كلها تمام.
هز عماد رأسه ايجابا بصمت، ثم عاد إلي الغرفه بخطوات هادئة، وابتسامة لا تمتد إلى عينيه، اقتربها، ومد يده يمسح على شعرها بحنان مصطنع: شوفتي؟ قولتلك مفيش حاجة، كله من موضوع ماسة والشغل، والدوشة اللي حواليكي.
جاهدت لفتح عينيها، وهي تقول بخفوت: الحقنة هدتني شوية، بس أنا مش عايزة أعود نفسي على المسكنات والمهدئات يا عماد.
ثم أغمضت عينيها ببطء، وارتخت ملامحها للمرة الأولى منذ أيام، وهي تستسلم للغشاوة الثقيلة التي صنعتها الإبرة
بينما وقف عماد يراقبها بصمت، لا يمكن تحديد إن كان قلقا حقيقيا أم شيئا أعمق، وأكثر غموضا.
فيلا سليم وماسة، الحادية عشر مساءا
غرفة نوم ماسة
كانت جالسة في الشرفه، تنظر في الفراغ الممتد أمامها بشرود، تفكر فيما آلت إليه حياتها، وكيف يمكنها أن تنتشل سليم من جدار الصمت الذى يحيط به نفسه، وترمم ما تهشم بينهما عن غير قصد.
بعد لحظات، فتح الباب ودخلت سحر تحمل كوبا من الكاكاو الدافئ بين يديها، ووضعته على الطاولة أمامها.
فنظرت اليها: شكرا يا ماما سحر، هو سليم طلع أوضته ولا لسه تحت؟
هزت رأسها نافيه: لأ لسه في المكتب بيشتغل.
امتلئت عيناها بالدموع من قسوة الصمت الذى طال بينهم، ثم زفرت بضجر كأنها طفله غاضبه من والدها ولكنها غير قادرة على العيش دون أحضانه.
اقتربت منها سحر، وربت على كتفها بحنان ومواساه: ربنا يصلح ما بينكم يا بنتي، معلش دى شيطان ودخل بينكم
هزت رأسها، وصمتت تفكر للحظه، وفجأه لمعت عينيها بوميض غامض وكأن فكرة ذهبية طرقت رأسها فجأه، فالتفت لسحر وهى تقول بحماس طفولى: بقولك إيه يا ماما سحر كنت عايزه منك خدمه.
ردت بحنان: اؤمري
همست وكأنها تشرح خطة مصيرية محكمه: عايزاكى تكدبي معايا كدبه بيضا، وانزلى قولى لسليم إن ماسة تعبانة خالص وبطنها بتوجعها وبترجع وداخت وأغمي عليها!
ضحكت بصوت عالى: دى كده مبقتش كدبه بيضا، كده بقي فيلم هندي كامل الدسم.
نهضت ماسة واقفة بسرعة: اسمعي بس اللى بقولك عليه، وشيلي الكاكاو دى وهاتي ينسون، وأنا هعمل نفسي عيانة، بس اظبط الدور أزاى؟
أجابتها ضاحكه: بسيطة حمري وشك، وادعكي عينك شوية، ولو عندك قطرة حطي نقطتين.
فقالت بحماس طفولى: يا بنت الايه يا ماما سحر!
ثم وقفت بسرعه أمام المرآه، وأخذت تدعك خديها وعينيها بقوة.
ثم نظرت لسحر وتساءلت: ايه رأيك احط المج بتاع الكاكاو على وشي عشان يديني سخونيه؟!
لم تنتظر ردها واخذته من على الطاولة ووضعته على خدها وهي تكرمش عينيها من شدة سخونته، وحينما شعرت بارتفاع سخونة خدها الأيمن واحمراره، نقلته إلي الخد الأيسر.
فنظرت لها سحر بقلق: خلاص يا بنتي كفايه لاحسن خدك يتحرق.
تنفست بعمق قبل أن تلتفت لها: كده تمام ولا فيه حاجه تانيه اعملها؟!
أجابتها ضاحكه: لا كده كويس أوى شكلك بتموتي بجد، يلا نامي بقي وغطى نفسك وارتعشي شوية.
اومأت برأسها، وتمددت وسحبت الغطاء حتى كتفيها، وبدأت تصطنع الارتعاش، وهو تؤكد عليها: انزلى بقي قوليله ومثلي عليه كويس، خليه يصدق، أوعى تخليه يشك فيكى.
أومأت ضاحكه وهى تغادر الغرفه: متقلقيش
في مكتب سليم
جلس أمام أوراقه منغمس في العمل يجبر نفسه على التركيز، حتى قاطعه ارتفاع طرق الباب تبعه دخول سحر بخفة، وهي تقول بتوتر مصطنع: مساء الخير يا سليم بيه.
رفع رأسه، وتساءل بتعجب: مساء النور، في حاجة يا سحر؟
ردت بتمثيل محكم: بصراحة أه، الست ماسة تعبانه أوي وبطنها وجعاها وعماله ترجع، مش عارفه ايه اللى حصلها فجأة.
انتفض من كرسيه بفزع، وهو يصيح بضجر: من أمتي الكلام دى مهي كانت كويسه من شوية؟
رفعت كتفيها وهى تحاول اتقان الدور: مش عارفه، أنا دخلت عليها دلوقتي، لقيتها بتترعش وسخنة وبطنها وجعها جامد وعمالة ترجع
اتجه نحو الباب بخطوات سريعة: طب كلمي الدكتور خليه يجي بسرعة وأنا طالع لها.
غرفة ماسة
كانت تراقب الباب بتوجس وهي تحبس أنفاسها، منتظرة لحظه دخوله، وفجأة فتح الباب بعنف، دخل سليم وجلس إلى جوارها، يضمها لصدره دون تفكير، وهو يتساءل بلهفه وقلق: مالك يا ماسة؟ حاسة بإيه؟
فتحت عينيها التى اغمضتها بتمثيل لحظه دخوله، وهى تقول بنبرة متكسره محاولة تمثيل التعب: س.. سليم، أنا تعبانة أوى يا سليم.
رفع يده يتحسس خدها المحمر، وقال بقلق: وشك سخن قوي، مالك ايه اللى حصل؟
همست بنبرة متعبة أكثر من اللازم: كل حاجة بتوجعني.
ثم وضعت يدها على بطنها: وبطني بتوجعني أوي.
نهض وهو يقول بلهفه: طب ارتاحي وانا هكلم الدكتور يجي حالا.
أمسكت يده بقوة على عكس هزلها التى كانت تصطنعه منذ قليل، وهزت رأسها بسرعة أثارت شكه: لا لا، دكتور ايه مش مستاهله، سحر هتجيبلي ينسون، وخليك بس قاعد معايا، وهبقى كويسة.
نظر إلي يدها الممسكه بيده بشك وهو يضيق عينيه، فحاولت تشتيت انتباهه لفعلتها وهى تضع يدها على رأسها متصنعة الصداع: آه يا راسي، دماغي مصدعه خالص يا سليم.
نظر اليها مطولا من أعلى لأسفل، وهو يقول بسخرية: راسك ولا بطنك!؟ ارسيلك على حل ؟
قالت متصنعه التعب: الاتنين واجعني، أنا تعبانه خالص يا سليم شكلى هموت ولا ايه..
ثم وضعت يدها على رقبتها متصنعه الاختناق، وهي تهمس بصوت متهدج: حاسه نفسي بيروح ومش قادرة اتنفس، خليك جنبي أنا خايفه، احضني خلينى اموت جوه حضنك.
كان ينظر إليها بشك وهو يضيق عينيه، ظن أنها تعطي الأمور أكثر من حجمها لكن لم يستطيع تركها وهى مريضه على أي حال، فذهب للحمام واحضر وعاء به القليل من الماء وفوطه، واقترب منها ووضع الفوطه على جبهتها وجلس بجوارها.
فنظرت إليه بتعب مصطنع، وهي تقول بعتاب ولوم: كان لازم اتعب يعني علشان تحن عليا وتكلمني وتبطل وضع الصامت اللى أنت فيه دى!؟
نظر إليها بطرف عينه قائلا: مين قالك إني بطلبته، دى انسانيه مني مش أكتر.
قلبت وجهها بطفوله، فاخذ الفوطه من على جبينها ليغمرها في الماء ولكنه لاحظ برودة الفوطه!!
فنظر إليها بشك ثم أخذ يتحسس جبينها ورقبتها فوجد حرارتهم طبيعيه، فعاد بيده إلي خدها مره أخري فشعر بحرارة موضعيه غير طبيعية، فتساءل بتعجب: إيه دى؟!
نظرت إليه بتوتر: في ايه؟!
تساءل بشك وهو يضيق عينيه: خدك بس هو اللي سخن، وبقية جسمك عادي!!
ارتبكت ووضعت يدها على خدها بسرعة: طبيعي، علميا السخونية بتبتدي من هنا وبعدين تنتشر.
رفع حاجبه بسخرية، بعد أن فهم لعبتها: علميا!؟ لا اذا كان كده هدخل احضرلك ابره قبل ما تنتشر بقي.
ردت عليه بسرعه وهلع: لا ابرة ايه استني، كمل بس الكمادات، وهبقي كويسه.
رد عليها بسخرية: لا اسمعي مني الأبرة بتجيب من الأخر.
فصاحت بضجر متناسيه ادعائها المرض: يووووه ما قولتلك كمل كمادات وهبقي كويسه.
فرقع حاجبه وهو ينظر إليها نظره ذات معنى، فتوترت ورفعت يديها تحاول تداركت الموقف: متبصليش كده استنى بس هفهمك، أنا تعبانه خالص أهو.
ثم ألقت بنفسها على الفراش باستماته، قلب عينه بحده، ثم قال بنبرة صارمه: من امتي يا ماسة الكدب والتحوير دى، متعمليش كده تانى، قولتلك اصبري لحد ما أهدى واحترمي قراري، ومتلعبيش بعواطفي كده تانى
ثم خرج وصفع الباب بحده، فجلست على الفراش تنظر إلي الباب بعينان تمتلئان بالدموع، فهي لم تقصد اللعب بمشاعره كما قال ولكنه أرادت فقط اذابة جليد صمته الذي بات يثقل قلبها.
أما سليم، فما إن أغلق الباب حتى وجد سحر أمامه، فصاح بغضب: بتسمعي كلامها وتمثلي عليا يا سحر، أول وآخر مره تعملى كده.
فنظرت إليه بخجل تحاول التبرير: أنا كان غرضي أصلح بينكم.
فنظر إليها نظره حاده: أنا مش هعيد كلامي تانى، اتفضلي.
وما إن غادرت حتى ضرب الحائط بيده بقوة اهتز لها الممر، كان يحاول كبح ضيقه وغضبه، وخيبته من قلبه الذى مازال يضعف أمامها، كلما حاول التماسك، ورسم حدودا تحمي ما تبقى من كبريائه.
يكره ضعفه أمامها، ويكره أكثر أنه لا يستطيع النجاة منه، فكلمة واحدة منها تكسره، ونظرة واحدة منها تعيده إليها رغما عنه.
ظل ينظر أمامه بغضب وملامحه تقول كل شيء؛ فهو موجوع، بقدر ما هي موجوعة.
💞__________________بقلمي_ليلةعادل
مجموعة الراوي، الثانية عشر ظهرا
غرفة الاجتماعات
جلست العائلة بأكملها حول الطاولة، يخيم عليهم جو من الترقب والقلق، العيون تتبادل النظرات، والسكون يطول كأن الأنفاس نفسها تنتظر، منذ شهرين ونصف وهم ينتظرون الخبر الذي وعدهم رشدي بإحضاره، وها هو اليوم المنتظر قد حضر أخيرا.
جلس الجميع في أماكنهم يترقبون لحظة دخوله، بينما كان سليم بينهم حاضرا بجسده فقط، وعقله وقلبه غائبان في مكان آخر.
طه بنبرة لازعة وهو يحرك كرسيه: طب يا باشا إحنا قاعدين مستنيين كده ليه؟ منتصل ونعرف الخبر من أي حد من حبايبنا هناك.
عزت بشدة: لا، أنا لو كنت عايز أعرف كنت عرفت وقتها أنا قافل السوشيال ميديا وقافل كل حاجة علشان مش عايز الخبر يوصل، عايز أسمع من رشدي.
فجأة دخل رشدي وملامحه تفيض ثقة ورضى، حدق فيه عزت بتوجس، ونظرات فايزة ملأها الفضول.
عزت بصوت متوتر: خير عملت إيه؟
رشدي بتفاخر وهو يرفع ذقنه: أخدنا المناقصة.
صفق عزت بضربة قوية على الطاولة: برافو يا رشدي! حقيقي برافو، حاجة مكناش متوقعينها منك، عشان كده مدورتش على الخبر بطرق تانية واستنيت اسمعه منك.
أقترب رشدي وجلس أمامه، وهو يضع قدم فوق قدم بثقة: طول عمرك يا باشا معندكش ثقة فيا؟ بس اعتقد جه الوقت إن كلكم تحطوا ثقتكم فيا وتدوني مشاريع كبيرة.
فايزة بإبتسامة متفاجئة: حقيقي أنت أختلفت كتير يارشدي الفترة الأخيرة، وفعلا لازم نبصلك بنظرة تانية.
فريدة بجدية: والمشاريع إللي قولت عليها كويسة جدا، صحيح هتضغط على المجموعة شوية، بس فعلا هتفتح لنا مجال في العمل مع الدولة بشكل مختلف.
وجه عزت نظره لرشدي بصرامة: أسمع يا رشدي كل المهندسين هيبقوا تحت أمرك، التسليم لازم يكون في الميعاد إللي اتحدد، المشروع دى مهم ومينفعش في أي دلع أو استهتار.
ثم وجه حديثه لسليم بنبرة أمرة: سليم، أقعد مع رشدي وأفهم منه ايه الخطة اللى حاططها وهيمشي إزاي..
وأضاف بنبرة ساخرة قليلا: معلش، إحنا عارفين إنك الفترة دي مشغول مع مراتك، بس محتاجين من وقتك ساعتين.
قلب رشدى وجهه بازدراء دون رد، بينما أجاب سليم بهدوء مقتضب: الفترة الجاية هبقى مركز.
مالت فايزة واقترحت عليه مصطنعه الاهتمام: طب متعرضها على أخصائي كويس مادام كل شوية تتعب كدة؟ أنا أعرف دكاترة كويسة.
رفع حاجبه بإستنكار: مين قال إن ماسة تعبانة؟ ماسة كويسة؟!
تساءل عزت بنبرة لاذعة: أومال بتختفي كتير وسايب شغلك ليه؟!
رد سليم بنبرة لازعة: مش مجبر أبررلكم، بس عموما
أنا بعلم اخواتي يتحملوا المسئولية، أنا مش هفضل طول عمري أنا إللي شايل الشغل لوحدي، لازم يشاركوا.
نظر اليه عزت بصمت ثم صوب نظره إلى رشدي: رشدي تقعد مع سليم النهاردة، مش عايز أقولك تاني لازم التسليم يكون في الميعاد، إحنا داخلين مع الدولة.
رشدي بنبرة متهكمه: متقلقش يا باشا كله تحت السيطرة، أنا عامل دراسه كويسه وممكن اسلم نسبة أكبر كمان من النسبة المتحدده بس حبيت اسيب لنفسي مساحه وقت تحسبا لأي ظروف.
طه بتدقيق ونبرة ذات معنى: بس الأفكار الرائعة إللي قولتها دي يا رشدي فكرت فيها لوحدك ولا بمساعدة حد؟
نظر رشدي إلى سليم مترقبا أن يقول إنه صاحب الفكرة، لكن سليم ظل صامتا، فأجابه رشدى بنبرة لاذعة: هتفرق معاك في ايه يا طه؟ المهم إننا خدنا الصفقه وبس.
فريدة بابتسامة: عندك حق.
وجهه سليم نظراته نحو رشدي وقال وهو يقف ليهم بالمغادرة: مبروك يا رشدي، هستناك في المكتب علشان نتكلم في التفاصيل.
غادر سليم المكان، واستأذن ياسين وغادر خلفه، وتبقي أفراد العائلة يتبادلوا أحاديث جانبية.
كان سليم يتحرك في الممر بجانب ياسين، نظر سليم نحوه وقال بنبرة هادئة لكن تحمل معنى واضح: كويس إللي أنت عملته مع مراتك.
أجابه ياسين بعد لحظة صمت، وهو يزفر بخفة: رغم إني كنت حاسم قراري وكنت عايز أكون مع لوجين، بس هي رفضت وقالت لى أنت موهوم، وبعدها بيومين لقيت هبة بتقولي تعالى ناخد فرصة علشان نالا ماتعش مشتته بينا...
ثم تابع بصوت مبحوح: بس أنا مش موهوم يا سليم، أنا بحبها، وطول ما أنا مسافر مكنتش بفكر غير فيها.
توقف سليم لثواني، نظر إليه مطولا، كأنه يحاول قرأة ملامحه قبل أن يتكلم: أسمع مني يا ياسين، أدي لمراتك فرصة أخيرة علشان هو ده الصح صدقني، أنا مش عايزك تندم بعدين ولا تظلم هبة ولا تظلم نفسك ولا تظلم لوجين، صدقني أنا يهمني سعادتك.
ابتسم ياسين ابتسامة قصيرة: وأديني أهو بديها فرصة، وبفكر اعملها مفاجأه النهارده.
ابتسم سليم وهو يربت على كتف ياسين بخفة: ربنا يسعدكم.
ركز ياسين نظره في ملامح سليم الباهتة، فتساءل بقلق صادق: هو أنت كويس؟
أومأ سليم برأسه بإيجاب، وابتسم ابتسامة صغيرة محاولا اخفاء ارهاقه بها: آه، أنا تمام، ويلا بقي روح خلص شغلك، علشان تلحق تحضر المفاجأة لمراتك.
اومأ ياسين برأسه، وقال بابتسامه: ماشي يا سليم.
ثم تحرك بخطوات هادئة نحو مكتبه، وقف سليم يراقب ابتعاده بصمت لبرهة، قبل أن يكمل طريقه هو الآخر نحو مكتبه، فبالرغم من أن كلاهما يحمل في صدره حكاية مختلفة إلي أن التعب كان يجمع بينهما، وإن اختلفت أسبابه.
بعد قليل، مكتب سليم.
كان سليم منشغل بمراجعة الأوراق أمامه بكل تركيز، حتى قاطع تركيزه تعالى طرق الباب تبعه دخول رشدى بخطوات هادئه.
جلس رشدى أمامه بصمت للحظه ينظر إليه بترقب، ثم بدأ الكلام وهو يتساءل باستغراب وشك: ليه مقولتش إنك صاحب الفكرة؟ ولا عملت كدة عشان يبقى ليك جمايل عليا؟!
سليم بهدوء عملي: ملهوش لازمة الكلام ده يا رشدي، أنا فتحتلك الأبواب وأنت بشطارتك عرفت تشتغل مع المهندسين وتوظف الفكرة صح بطريقه تخدم مشروعك، أنت لو مش شاطر مكنتش كسبت المناقصة.
صمت رشدى للحظة، يتأمل حديثه وهو يضيق عينيه بشك، ثم قال وهو ينظر أمامه: أنا هقولهم إنها فكرتك، عشان متقولش إني بسرق أفكارك.
تنهد سليم بملل ثم قال بعملية وهو يميل إلى الأمام:
طب سيبك من الكلام ده وركز معايا، قولي ايه الخطه اللى حاططها في التنفيذ، أنا طبعا مش هبقى معاك طول الوقت، أنت هتبقى لوحدك، ففهمني علشان لو في مشكله نحلها مع بعض من دلوقتي.
رشدي بعمليه: أنا بلغت المهندسين اننا هنجتمع بيهم كمان عشر دقايق.
هز سليم رأسه ايجابا بصمت، وأعاد نظره للأوراق أمامه.
أخذ رشدي يرمقه من أعلى لأسفل، يطيل النظر إليه، والأفكار تتلاطم في رأسه بقلب مثقل، كان يتساءل داخله: لماذا يفعل سليم كل هذا معه؟ لماذا ساعده؟ ولماذا لم يتفاخر أمامهم بمساعدته له؟ وحتى بينهم يمتدح مجهوده ويثني عليه؟ هل لأنه فعلا بذلك النبل؟
أم لأنه يدبر لشيء آخر لا يعلمه حتى الآن؟!
كان قلبه مغمور بألف علامة استفهام، لكن يقينا واحدا بدأ يترسخ بداخله: أنه عاش حياته كلها سجينا لعدو من نسج خياله، وأن سليم لم يكن يستحق يوما ما فعله به.
قاطع سيل أفكاره طرق الباب ودخول المهندسين، فبدأوا في الاجتماع بتركيز شديد.
في الجامعة الأمريكية، الثانية ظهرا.
كانت سيارة رشدى تتوقف أمام البوابه، مربوط على سطحها مجموعة كبيرة من البالونات الحمراء المملوءة بالهيليوم، جلس رشدي على الكبوت المربع، ممسكا بوكيه ورد، والأغاني الناجحة تتعالى من السيارة بصوت عالي وكأنها تعلن للعالم كله فرحته.
أتصل بمي: أنتِ فين يا ميوشتي؟
أجابته بهدوء: قاعدة في الكافيتيريا مع صحابي.
رد عليها بحماس: طب أطلعيلي عايزك في حاجة مهمة، أنا برة.
استأذنت مي من أصدقائها وخرجت، وعندما وصلت للبوابة، صدمت بالمنظر الذي أمامها، اتسعت عيناها، ورفعت يديها على فمها من الدهشة.
مي بتعجب: إيه ده؟!
اقترب منها، قائلا بإبتسامة عريضة: قوليلي مبروك يا أحلى رشدي في الكون، عشان كسبت المناقصة يا مااااااي!
اتسعت عينيها بدهشه، وقالت وهي تنظر اليه فرحه: بجد!! مبروك يا رشدي!
رشدي بتفاخر ممزوج بالتهكم: إيه مبروك يا رشدي دي؟! هو أنا نجحت في عمل صينية المسقعة باللحمة المفرومة؟!
ابتسمت بصدق وقرصته من خده بدلال: والله العظيم أنا فرحانة جدا عشانك، مبروك يا رشدي!
ثم رفعت عينيها نحو البالونات: بس إيه البالونات الحلوة دي؟ تحفة! دي ليا أنا؟
ابتسم وهو يقدم لها الورد: أكيد طبعا جايبها ليكي؟ واتفضلي الورد كمان يا أحلى وردة.
أخذتها منه وهي تشم رائحته وتضمه بابتسامه واسعه، ثم علقت بمزاح: بس إيه حنة شيماء، إللي أنت عاملها دي يا رشدي؟ يخرب عقلك!
رفع يده كأنه يعلن خبرا مهما: لازم أعمل فرح طبعا، بقولك كسبت المناقصة! عارفة يعني إيه كسبت المناقصة؟ يعني مش هنفرش في العتبة، مش هنخسر فلوسنا، يعني هنسافر المالديف في شهر العسل مش جمصة!
ضحكت بشدة: والله العظيم أنا بجد فرحانة ليك أوي أوي! نفسي دايما أشوفك كدة مبسوط وسعيد وناجح.
رشدي بإبتسامة فخر: خلاص، النجاح عرف طريقه فين ومش هسيبه تاني طول ما أنتِ معايا!
ثم أضاف وهو يفتح لها باب السيارة: يلا بينا نروح نحتفل، أنتِ النهاردة ملك إيدي ومن غير اعتراض؟ لازم نعوض الفتره اللى فاتت، ونصيع براحتنا؟ أتصلي بالحج وقوليله إنك معايا باقي اليوم!
اومأت برأسها بابتسامه محبه: حقك يارشروش
وبالفعل قاد رشدي سيارته، واتجها معا إلى أحد المطاعم لتناول الغداء.
في المطعم
جلس رشدي ومي على أحد الطاولات يتبادلون الحديث وهما يتناولون الطعام.
ارتسم على وجه رشدي ابتسامة مشرقة بالحماس، وهو يتحدث بانطلاق ويحرك يديه بحيوية، كأن الكلمات وحدها لا تكفيه ليعبر عن فرحته، حكى لها كيف حصل على تلك المناقصة، وكيف أن عائلته قدرت جهده لأول مرة بهذا الشكل، حتى المشاريع الجديدة التي كانت فكرة سليم ذكرها بفخر واضح.
كانت تستمع إليه وهي تميل برأسها أحيانا وتضحك بخفة احيانا اخري، وتطالعه بابتسامه محبه لامعه فقط لأنها تراه سعيدا بهذه الطريقة.
قالت وهي تضع كفها على الطاولة: أنا فخورة بيك بجد يا رشدي، الفترة الجاية لازم تركز عشان تسلم كل حاجة في مواعيدها.
عاد بظهره على الكرسي بارتياح، وقال بابتسامة خبيثة: أكيد، بس خلاص بقى فضلتك يا مشمش، ومفيش اعتراض على الخروجات تانى، بقولك إيه متيجي نتجوز؟
ضحكت وهي تهز رأسها بابتسامه: نتجوز؟! أنت الفرحه جننتك ولا ايه؟
وضع كفه على صدره بصدمة: اتجننت علشان عايز أتجوزك !
ضحكت بتعجب: إحنا لسة مكملناش شهرين على خطوبتنا.
مال للأمام، وقال بصوت أكثر هدوءا: مش مهم الوقت، المهم إننا نكون سوا، ولا أنتِ لسه شايفاني مستحقش أكون جوزك؟
أطرقت بنظرها لأسفل للحظة، ثم رفعت عينيها نحوه: مش دي القصة، بس مش كل حاجه تطق في دماغك يبقي لازم تحصل، التسرع مش حلو في كل حاجه.
زفر ببطء، ثم أطلق ضحكة صغيرة ومسح على الطاولة بيده وكأنه يطرد التوتر: طب سيبك، مش هضيع علينا اليوم في النكد، خلينا نكمل أكلنا علشان عاملك مفاجأة.
هزت رأسها بحماس وهو تعاود تناول طعامها: ماشي يا سيدي، خلينا نخلص علشان نشوف أخرتها معاك أنت ومفاجأتك.
على اتجاه آخر.
في أحد المطاعم الفاخرة المطلة على النيل، الخامسة مساء.
كانت الأضواء الذهبية تنعكس على صفحة الماء الهادئة، فيما يملأ المكان عبير الزهور الموزعة على الطاولات، المطعم شبه خالي، لا يسمع في سوى صوت العازفين الذين يجهزون آلاتهم على الجانب، وفي الركن المخصص، كان بعض العمال يربطون بالونات حمراء ويهيئون الطاولة بعناية خاصة.
جلس ياسين يراقب كل شيء بنفسه، ويوجه العاملين للتفاصيل الدقيقة، ثم جلس بعدها للحظة، وأخذ وردة وصنع منها خاتما صغيرا بخفة يده.
(يبدو أن هذه العائلة كلها تمتلك موهبة غريبة في تشكيل الأشياء، من سليم إلى رشدي، لكنهم فقط لم ينتبهوا لها يوما.)
وبينما كان يتأمل الورد بين أصابعه، أخرج هاتفه وأتصل بـ هبة.
كانت هبة في مقهى صغير مع صديقتها، يضحكن ويمزحن بصوت عالي.
هبة: ألو؟
ياسين بنبرة لطيفة: حبيبتي، عاملة إيه؟ فينك؟
هبه بابتسامة: تمام، قاعده في الكافيه قاعدة مع أصحابي.
نهض من مكانه وهو يتأمل المكان، قال بنبرة رومانسية: طب مطولة ولا إيه؟ أصل عاملك مفاجأة حلوة، عشا خاص لينا إحنا الأتنين، في مطعم سيتي لايت.
مدت وجهها بذهول، وقالت بابتسامه: طب خلاص، هخلص معاهم، وعلي الساعة سبعة هتلاقيني عندك.
أجابها بحماس: متتأخريش بقى، بااي
أغلق الهاتف بابتسامه، ثم عاد لينهي التحضيرات، وبعد دقائق، جاءه أحد العاملين يحمل مجموعة صناديق قطيفة، فتحها أمامه؛ كانت تحتوي على خواتم وأساور وعقود من الألماس.
الرجل بإحترام: مستر ياسين، اتفضل أختار إللي يناسب حضرتك.
تفحص ياسين القطع بعناية، حرك عينيه بينها حتى استقرت على إسورة أنيقة، أخذها، أغلق العلبة ووضعها في جيبه، تحرك العامل، ثم كتب بخط هادئ على بطاقة صغيرة "أتمنى لينا فرصة تانية من السعادة."
كان يشعر أن كل شيء أصبح جاهزا، جاءت إحدى العاملات وقالت بإبتسامة: البدلة جاهزة يا فندم.
هز رأسه بإيجاب، ثم دخل المرحاض الخاص بالمطعم، وأبدل ملابسه، كان المكان مهيبا، تحيط به المرايا والإضاءة الدافئة، وضع عطره المفضل وعدل ياقة القميص أمام المرآة، بدا أنيقا للغاية.
كانت الساعة تقترب من السادسة والنصف، اتصل بـهبة، لكن لم تجب، فجلس على الطاولة ينتظرها بصبر.
على اتجاه اخر، سيارة رشدي.
قاد رشدي السيارة مبتعدا عن المدينة، في طريق متسع وفارغ يشبه الصحراء، تحيط به رمال صامتة تمتد بلا نهاية، كانت مي تلتصق بالمقعد وتنظر من النافذة بقلق متزايد، تعبث بأصابعها في حقيبتها دون وعي.
توقف بالسيارة في منتصف الطريق، فاتسعت عينيها، وقالت بحذر: وقفت ليه؟ إحنا فين يا رشدي؟
أجابها بمزاح: مالك كاشه في نفسك زى الكتكوت المبلول كده ليه، أكيد مش خاطفك يعنى، أنا جايبك هنا لسببين.
مدت وجهها بتساؤل: وايه هما السببين اللى في مكان زى دى؟!
لوح بيده أمام الأفق: أول سبب إني ناوي أعمل هنا مشروع مدارس دولية، وجزء منها هيكون خيري لأطفال الملجئ.
فتحت الزجاج بدهشة صادقة، وصوتها خرج متقطعا من الفرحة: بجد يا رشدي؟ دي فكرة جميلة أوى.
أومأ بثقة وتابع وهو يضغط على المقود: أنتِ أول واحده اقولها الفكره، لسة محدش يعرف هفاتح العيلة في قريب.
ابتسمت برقة ونظرت له بإعجاب: حلو أوي بجد، ربنا يوفقك يا رشدي، لأنك فكرت في الغلابة.
ضحك بخفة، ثم رفع يده بحماس: من اليوم اللى ودتينى هناك وأنا حبيتهم أوى وحسيت إن نفسي أعملهم حاجه، هما يستحقوا يبقي لهم فرصه في مستقبل كويسه، على الأقل بعد ما يسيبوا الملجئ.
نظرت له بصمت طويل، وعيناها تلمعان بخليط من الدهشة والفخر، فيما ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، للحظة شعرت أن رشدي الذي أمامها ليس هو نفسه الرجل المتهور القديم، بل شخص جديد بدأ يرى الدنيا بشكل أوسع من نفسه.
تابع رشدى بابتسامة واثقة وهو يرمقها من طرف عينيه: ده أول خبر !
ألتفتت إليه باستغراب، وتساءلت بدهشه: أول خبر!؟
اومأ برأسه وهو يبتسم بخفة ويضغط على المقود بيده: تاني خبر، إني نويت أعلمك السواقة، وهنبدأ نتحدى خوفك سوا.
ضحكت وهي تلوح بيدها : لااا إنسى، متشكرة جدا.
ضحك وهو ينظر اليها باصرار: هتسوقي يعني هتسوقي، مفيش اعتراض.
نظرت له بخوف حقيقي: والله يا رشدي بخاف، بجد بخاف.
قال وهو يرمقها بإبتسامة دافئه: ما أنا معاكى أهو، لازم نتحدى الخوف وتتعلمي السواقة
ردت وهي تمسك في يده بخوف: ما هو يا أذكى أخواتك، أنا معنديش مشكله في السواقة أنا عندي مشكلة في السرعة؟!
نظر لها بطرف عينه: تصدقي صح؟! أنا هاتحدى خوفك الأول، في السرعة.
ثم أدار المحرك وانطلق بالسيارة يشق الطريق بسرعة متوسطة.
وضعت يديها على صدرها، وصوتها ارتفع برجاء باكي: أقسم بالله يا رشدي هزعل منك!
ضحك وضغط أكثر على البنزين، فاندفعت السيارة تشق الطريق بسرعة عالية، صرخت مي بفزع وهي تمسك بذراع المقعد: رشدي! متهزرش! والله العظيم هموت!
ألتفت نحوها وهو مازال مبتسما: موتي؟! ده إحنا بنحارب الخوف يا بنتي، مفيش حاجة هتحصل.
صرخت ببكاء، وهي تضربه على ذراعه: طب وقف! وقف يا بارد! وحياتي يا رشدي! علشان خاطري هدى السرعة بقي.
خفض السرعة قليلا وهو يضحك: عايزانى أوقف يبقي توافقي تتعلمي السواقة؟
قالت بإنفعال وهي تضربه في ذراعه: طيب ماشي موافقة أتعلم! بس وقف بقي!
توقف ببطء، ونظر إليها رافعا حاجبه بإبتسامة جانبية ساخرة: أهو كده ستات متجيش غير بالعين الحمرا.
نظرت له بغضب وقالت بحدة: أنت حيوان على فكرة!
ابتسم بثقة وهو يمد يده يفك حزام الأمان: شكرا.
قالت وهي تضحك رغم توترها: وبارد! وتنح!
ضحك بخفة وهو يشير لها تقترب: يااه، قديمة أوي الكلمة دي، يلا تعالي أقعدي مكاني، علشان نبدأ درس السواقة الرسمي.
هبطت من السيارة في هدوء مائل للارتباك، وهي تمسك طرف الفستان حتى لا تتعثر.
وقف رشدي بجانب الباب المفتوح يراقبها بإبتسامة فخورة: يلا يا بطلة، أقعدي.
جلست على المقعد بتوجس، تلمس المقود كأنه غريب عنها، ثم نظرت إليه بتردد: رشدي أنا خايفة.
ضحك بخفة، إنحنى بجانبها، وأشار إلى المقود: أجمدي بقي إحنا لسه معملناش حاجة.
حاولت أن تضحك لكنها كانت مضطربة، أصابعها ترتجف وهي تمسك بالمقود.
تحرك رشدي بخفة للإتجاه الآخر وجلس على المقعد بجانبها، أقترب منها أكثر صوته إنخفض وهو يشرح:
بصي، ده البنزين، ودي الفرامل، وده الدبرياج، متقلقيش أنا جنبك، ومش هسيبك لحظة.
نظرت له بعينين واسعتين كطفلة في أول يوم مدرسة:طب لو العربية جريت مني؟
رفع حاجبه بثقة، يده على المقود بجانب يدها قال بمزاح: هنجري وراها
ضحكت رغما عنها: رخم
تابع وهو يتحدث بتركيز : المهم دلوقتي دوسي دبرياج، وشيلي رجلك بالراحة، واديها سنة بنزين وبعدين شيلي رجلك من على الدبرياج واحده واحده، ايوه كده، شاطرة.
تحركت السيارة ببطء شديد، فخفق قلبها بفزع: يلهوي، اتحركت فعلا!
هز رأسه بتشجيع: أهو، شوفتي؟ مش صعبة كملي.
لكن السيارة اهتزت فجأة، فشهقت مي بقوة: يا نهار أبيض، وقفت!
ضحك بصوت عالي، ثم حاول كتم ضحكته وهو يقول: لأ كده تمام وقفنا، أهو ده أول درس، إنك متقلبيش العربية.
ابتسمت رغما عنها، وقالت وهى تقلب وجهها بسخرية: دمك تقيل على فكرة.
أجابها بثقة وهو يشير إلى الطريق أمامها: ودمي التقيل ده إللي هيخليكي تسوقي بعد أسبوع، وترمي الخوف وراكي، لإني واثق في ميوشي إنها قوية ومش هتسلم لخوفها.
تبادلا النظرات للحظة، ثم استقامت على المقعد وقالت بإصرار طفولي: طب خلينا نجرب تاني، وأنا مش هخاف المرة دي.
ابتسم بفخر حقيقي هذه المرة، ونظر إليها بحنان صادق وهو يقول بهدوء هامس: أهو ده إللي كنت عايزه من الأول، تشوفي إنك تقدري.
نظرت اليه للحظه، ثم أدارت المحرك ببطىء، وتحركت السيارة بثبات أكبر هذه المرة، فقال رشدي مبتسما وهو ينظر إليها: شطوره يا ميوشي.
ضحكت بخجل، وقالت بمزاح: بس كده؟ يا خسارة الرعب إللي كنت فيه، كنت فاكراها صعبة.
ابتسم لها بهدوء، وعيناه تلمعان بصدق ناعم: الرعب هو أول طريق الشجاعة يا ميوشي.
غمز لها، ثم بدأ يشرح لها بعض التفاصيل داخل السيارة، وصوته يحمل نبرة صبر غير معتادة منه.
كانت مي تحاول أن تلتقط أنفاسها بين كل محاولة وأخرى، تتشبث بالمقود كأنه حبل نجاة كلما اهتزت السيارة قليلا وهى تطلق ضحكة متوترة، أما هو فكان يراقبها بعيون يملؤها الحنان، وهو يقول بهدوء: بالراحة يا مي، أنا جنبك.
مر الوقت، حتى بدأ توترها يهدأ قليلا، وصارت أكثر اتزانا، لم تصل إلى الشجاعة التامة، لكنها على الأقل لم تعد الفتاة نفسها التي بدأت قبل ساعة.
وحين انتهيا، أوقفت السيارة بإرتياح، وألتفتت نحوه بإبتسامة صغيرة وقالت بنغمة فخورة: أنا لو قولتلهم إنك علمتني السواقة وأني سوقت، مش هيصدقوني! المرة الجاية لازم تصورني!
ضحك بخفة وهو يفك حزام الأمان: بس كده؟ عنيا ليكي يا ميوشي، المرة الجاية هنعمل خمسات كمان، ونخلي الواد ياسين يدونك معانا في السباق.
ضحكت وتساءلت بتعجب هي تميل برأسها: هو أنت بتعمل سباقات بتاعة العربيات
هز رأسه موضحا: لا هفهمك، عندك ياسين مجنون بالعربيات وأنا مجنون بالإسكواش، سليم بقى في السباحة، بس إصابة رجله منعته شوية.
صمت وشرد بعيدا كأن الذكرى لسعت قلبه، بتأنيب ضمير، فهو السبب في تلك الحادثة، لمحت التغير المفاجئ في ملامحه، ونظراته التي شردت فجأة، عض شفته دون قصد وهو يحاول استعادة توازنه.
قالت بهدوء حذر، وهي تميل ناحيته قليلا: مالك يا رشدي؟ افتكرت الحادثة؟
ابتسم بتعب، وهو يشيح بعينيه بعيدا عنها: فعلا كانت مؤلمة اوي.
فقالت بأسف وتأثر: ربنا يشفيه ويرجع أحسن من الأول.
أجابها داعيا بابتسامه مهتزه: يارب.
ساد الصمت لحظة، حتي قطعه فجأة وهو يقول بحماس: بقولك إيه تيجى نروح نركب مركب ونطير البالونات، احتفالا بالمناقصة والسواقة.
هزت راسها إيجابا بحماس: ماشي يلا.
هبط الأثنان من السيارة وتبادلا الأماكن، فتولى رشدي القيادة، بينما جلست مي إلى جواره وقد بدا على ملامحها شيء من الاطمئنان، انطلقت السيارة بهما، والطريق أمامهما بدا أكثر سلاسة من أي وقت مضى، كأنه يفسح لهما المجال ليعيشا لحظة خفيفة بعد أيام ثقيلة، لحظة تليق بسعادتهم بعد انتصارهما الكبير.
على إتجاه آخر عند ياسين في المطعم.
المكان أصبح متوهجا العازفون في أماكنهم، الطاولة مضاءة بالشموع، والموسيقى الهادئة بدأت تملأ الجو،
فكل شيء أصبح جاهزا في انتظار هبة، لكن الساعة بلغت السابعة، ولا أثر لها.
اقترب أحد المديرين وسأله: نبدأ يا فندم؟
أجابه وهو ينظر إلى الباب: لأ، لما المدام تيجي، ولما تيجي، أعملوا إللي قولت عليه بالضبط.
مرت عشر دقائق، فاتصل بها مجددا ولكن لا رد، ثم مرت نصف ساعة فاتصل بها مرة أخرى دون أجابة منها.
في الناحية الأخرى.
كانت لاتزال غارقة في الضحك مع صديقاتها، هاتفها داخل الحقيبة على وضع الصامت يرن بلا توقف، وهي لا تشعر بشيء.
الوقت مر سريعا صارت الساعة الثامنة.
في تلك اللحظة، شعر ياسين بالضيق في صدره، جز على أسنانه بخيبه أمل، ثم نهض ألتقط معطفه، وغادر المكان دون كلمة واحدة.
ركب سيارته وأخذ يقود ببطء على الكورنيش، محاولا تهدئة نفسه.
على إتجاه آخر عند هبة، كانت تضحك مع أصدقائها وكأن شيئا لم يكن.
ألتفتت إيناس إليها وقالت بدهشة: هو أنتِ مش عندك ميعاد مع ياسين؟ الساعة بقت تمانية ونص!
اتسعت عيناها بصدمة: يا نهار أبيض! ده المعاد كان الساعة سبعة!
قفزت من مكانها بسرعة وهي تجمع أشيائها في حقيبتها: باي باي يا بنات! أشوفكم بعدين!
خرجت مسرعة، يدها ترتجف وهي تتصل بياسين،
رد بعد ثواني، بصوت هادئ لكنه بارد: نعم؟
هبة بإعتذار،: أنا آسفة يا حبيبي والله، أنا خلاص، دقيقتين وهكون عندك، أصل الكلام خدنا، والقعدة كانت حلوة..
أجابها بإقتضاب: ولا يهمك.
وأغلق الخط.
لم تكن تعرف أنه غادر بالفعل.
بعد خمس دقائق وصلت إلى المطعم، استقبلها النادل بإبتسامة رسمية: مدام هبة، اتفضلي.
دخلت بخطوات مترددة، فتجمدت في مكانها حين رأت الطاولة المضاءة بالشموع، الورود، البالونات الحمراء، الكلمة المكتوبة بخطه، كل شيء كان ينتظرها.
اقترب منها النادل ووضع أمامها الكأس والطبق الرئيسي، فتسألت وهي تجلس: هو ياسين بيه فين؟
أجابها النادل بإحترام: مش عارف يا فندم.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة، رفعت شوكة صغيرة وتذوقت قطعة من البطاطس، شربت رشفة من الكأس، ثم رفعت هاتفها أتصلت بياسين: ألو، ياسين، أنت فين؟ في التواليت ولا إيه؟
اجابها ياسين الذي مازال في سيارته بنبرة مقتضبة: لأ أنا روحت، كملي إنتِ عشاكي، وأبقي تعالي، سلام.
سقط صوته علي أذنها كصفعة باردة، فتنهدت ووضعت يدها على جبينها هامسة بضيق: يخرب بيت القمص...
نظرت حولها، ثم تابعت طعامها في صمت، كأنها تحاول اقناع نفسها أن الأمر لا يستحق، بينما في الحقيقة، كان يستحق وأكثر.
في إتجاه آخر عند مي ورشدي
توجها إلى أحد المراكب على ضفاف النيل وصعدا إليه، كان الجوّ ساكنا يحمل نسمات رطبة من قلب الماء، جلست مي تتأمل الموج المتلألئ، وهي تشعر بسعادة غامرة، كطفلة وجدت لعبتها المفضلة أخيرا، بينما رشدي كان يعيش معها لحظات لم يألفها من قبل؛ كأنه أصبح شخصا آخر، غير ذالك الذي يعرفه الجميع.
أطلقا معا بضع بالونات ملونة نحو السماء، كأنهما يودعان بها خوفا قديما، ويتعاهدان على أن يظلا معا حتى ينتصر كل منهما على ما يخفيه قلبه من وجع أو قلق.
تبادلا الأحاديث والضحكات، والسعادة تكسو ملامحهما، وفي نهاية اليوم، أوصلها إلى منزلها، ودعته بإبتسامة هادئة، بينما ظل هو للحظة يراقب باب البيت بعد أن دخلت، يشعر بأن هذا اليوم ترك فيه أثرا لا يشبه ما قبله، كأنه بداية صغيرة لحياة جديدة لم يتوقعها.
فيلا سليم وماسة، التاسعة مساء
غرفة نوم سليم
دخل الغرفة بخطوات متعبة، خلع جاكيت بدلته وألقاه على الفوتيه، ثم تحرك ببطء ثقيل، وألقى بنفسه على الفراش متنهدا، فقد كان اليوم طويلا وشاقا، وكل ما أراده الآن هو بعض الصمت والراحة.
بعد لحظات، طرق الباب بخفة، ثم دخلت سحر وهي تقول بإبتسامة خفيفة: حمد لله على السلامة يا سليم بيه، تحب أعملك حاجه؟!
أجابها دون أن يفتح عينيه: الله يسلمك يا سحر، اعملي لي قهوة وهاتيها هنا.
تساءلت سحر بإهتمام: مش هتاكل يا بيه؟
فتح عينه، وأجاب بنبرة متعبة: لا مليش نفس، وأعملي حسابك، بكرة في كذا بنت هيجوا علشان يساعدوكي.
نظرت له بإستغراب: مش محتاجة يا بيه، كفاية الست إللي بتيجي تنظف.
قال بنبرة هادئة لكن حاسمة: لا، لازم يبقى معاكي حد يساعدك، شوفيهم، وإللي تعجبك فيهم خليها.
هزت راسها إيجابا بإحترام: تمام يا بيه، مش عايز حاجة تاني؟
هز رأسه بالنفي، فخرجت بهدوء وأغلقت الباب خلفها.
سكنت الغرفة تماما، ولم يبقَ سوى ضوء خافت يتسلل من الأباجورة وصوت أنفاسه المرهقة، أغمض عينيه محاولا أن يريح جسده، لكن فجأة شعر بيد ناعمة تمرر أصابعها على صدره برفق حنون.
أنقبض صدره للحظة، قبل أن يسمع صوتا يعرفه تماما، ذلك الصوت الذي لا يخطئه قلبه: حمد لله على السلامة، مش هتغير هدومك؟
فتح عينيه ببطء، وعيناه تتسعان في ذهول صامت، ثم ألتفت بجانبه.
كانت ماسة متمددة على الفراش بجواره، تبتسم له تلك الابتسامة التي طالما أربكته وأذابته معها.
تمرر أناملها على صدره ولحيته بحنان بالغ، وعينيها تلمعان بخليط من الشوق والخوف: عامل إيه؟