
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السادس عشر 16 ج 2 بقلم ليله عادل
رمش بعينيه، وقلبه يخفق بعنف حتى كادت دقاته تسمع، رفع عينيه نحو المرآة المقابلة للفراش، فوجدها فارغة!! لم يكن هناك أحد!!
ارتجف جسده بالكامل، ثم نهض فجأة وجلس على حافة السرير، يميل بجسده إلى الأمام، يضغط رأسه بين كفيه، وهو يتمتم بصوته المبحوح: لا لا، أنا مش هعيش بخيالات تاني، مفيش خيالات تاني، أنتِ مش حقيقية.
رفع نظره، فوجدها مازالت ممددة على الفراش، على أحد جانبيها، بأنوثتها الطاغية، ترتدي قميص نوم أسود وتبتسم له بهدوء قاتل.
نهض وهمس بصوت مرتجف: أنتِ مش حقيقية، وأنا مش هقبل اعيش في خيالات تاني...
اتجه نحو الحمام مسرعا، فتح الماء ومرره على وجهه بعنف، كمن يريد أن يغسل شيئا داخله، لكن حين رفع رأسه نحو المرآة رآها خلفه، تنظر إليه بإبتسامة عاشقة، وهي تقترب بخطوات بطيئة مليئة بالأنوثة والحنين..
تجمد مكانه، اتسعت عيناه، وألتفت يصرخ بصوت مخنوق غاضب: أنتِ مش حقيقية! مش حقيقة!
رفع يده في الهواء، كمن يحاول أن يمسحها من الوجود، وفجأة اختفت، صر بأسنانه، وأنفجر في لحظة من الغضب العاجز، وضرب المرآة بقبضته بكل ما تبقى فيه من وجع، ضربة جعلت زجاجها يتناثر، وسال الدم من يده، لكن الجرح في قلبه كان أشد وجعا وأعمق بكثير من أصابة يده
على اتجاه آخر في غرفه ماسة.
كانت جالسة في غرفتها، ساقاها تهتزان من شدة التوتر، وعيناها تتجهان بين الحين والآخر إلى الساعة؛ فقد تأخر سليم، ولا تعرف عنه شيء، وكعادته في الليالي الماضية، لا يجيب على اتصالاتها، مما زادها غضبا، شعرت بوخزة في بطنها، فتمتمت بضيق واضعة يدها عليها، ثم نهضت لتعد كوبا من النعناع عله يهدئها قليلا.
فتحت الباب بخطى متثاقلة، فإذا بسحر أمامها تحمل فنجان من القهوة، فتساءلت باستغراب: لمين القهوة دى يا سحر؟!
أجابتها بهدوء: لسليم بيه.
تساءلت بدهشة: هو سليم جه؟
هزت رأسها بإيجاب: آه، لسه جاي من شوية، وطلب فنجان قهوة.
ضمت شفتيها بضيق، وتساءلت بنبرة متعبة: طب
هو أكل؟
هزت رأسها نافيه: لا قال مليش نفس، وطلب قهوه بس
هزت رأسها بانزعاج: طب رجعي القهوة واعملي له لبن بالعسل.
ثم تابعت بأدب، وهي تضع يدها المرتجفة على معدتها التي تؤلمها: ومعلش هتعبك، اعمليلي نعناع، علشان تعبانة شوية.
ابتسمت بخفة: عنيا، الف سلامة عليكي.
وابتعدت بهدوء، وبقيت ماسة واقفة تحدق بباب غرفة سليم وهي تعض شفتيها في محاولة لكبح الغضب الذي يغلي بداخلها، ثم تحركت بخطوات حادة نحو غرفته، وعيناها تتقدان شررا بعد أن نفد صبرها من بروده وجفائه المقيت.
دفعت الباب بقوة، تبحث عنه بعينيها في كل زاوية، لكن الغرفة كانت خالية تماما، تقدمت ببطء ونظرت لمعطفه الملقى بإهمال، وفي تلك اللحظه خرج من الحمام وشعره لايزال رطبا، وعلى ملامحه أثر الإرهاق.
رفع عينيه نحوها وتجمد في مكانه لحظه، لا يعلم أهي طيف من انفعاله المكبوت أم واقع ملموس يخشي مواجهته.
تقدمت نحوه وصوتها خرج حادا، وعينيها تتلألأ بشرارة غضب مكتوم: طب والله كويس إنك جيت بدري النهاردة، حمد لله على السلامة.
مرر كفه على وجهه يحاول طرد خيال ثقيل يظنه من نسج ذهنه المتعب، لكن نبرتها الصارمة أعادته إلى الواقع، وهي تتقدم نحوه وتصيح بغضب: أنا بكلمك رد عليا، أنا مش هتحمل أسلوبك ده أكتر من كده!
في تلك اللحظة، تأكد أنها حقيقية وليست خيال؛ فالطيف الذى ينسجه خياله يتعامل معه برقه وحنان يشتاقه منها وليس بتلك النبرة الغاضبه، لكنه ظل على صمته، وتحرك ببرود متعمد نحو الطاولة، وأخذ منديلا ووضعه على يده المجروحة بحذر واضح.
لم تلحظ جرح يده، فاقتربت منه بعصبية متصاعدة: أنا عايزة أفهم ايه اللي بتعمل ده؟ إزاي تخرج طول اليوم وترجع آخر الليل كده، لا وكمان ومبتردش عليا؟! هو ده الأسلوب الجديد؟! أنت بتعاند مين عايزه افهم؟!
لم يلتفت إليها، ولم ينطق بكلمة، كأنه اختار أن يعاقبها بصمته المدروس، مدركا أن صمته هذا يؤلمها أكثر من أي حديث، وربما وجد فيه راحته بعد الوجع الذي لايزال ينزف داخله منذ تلك الليلة.
صاحت وهي تمسك كتفه بغضب مكبوت لتجعله يستدير لها: سليم! بصلي وأنا بكلمك!
استدار ببطء يرمقها بملامح متصلبة، لكن ما إن التقت عيناها بيده حتى تجمدت الكلمات في حلقها، واتسعت عيناها وهي ترى الدم يتسرب من بين أصابعه، فأمسكت يده وهي تتساءل بلهفة وقلق: إيه الدم دى يا سليم، إيدك مالها؟!
سحب يده بسرعة كمن يهرب من النار، وقال ببرود: ملكيش دعوة، ولو سمحتي اطلعي بره.
أمسكت بيده مره أخري، وهي تقول بصوت مرتجف قلق: خليني أشوفها طيب! إيه اللى عمل في إيدك كده؟
تنهد بعمق، ثم استدار يعطيها ظهره وكأنه يغلق بابا داخله، وقال بنبرة متهكمة: قولتلك اطلعي برا، أنا مش عايز أتكلم، احترمي اللي أنا عايزه.
ساد الصمت لحظة، وهي ترمقه بعينين تلمعان غضبا وخذلانا، لا تدري أتبكي على جرحه أم على الجدار الذي بناه بينهما.
اما هو فاقترب منها فجأه، وعيناه لا تفارقان وجهها، وهمس بصوت خافت مشوب بالوجع يعيد عليها كلماتها: اصبري عليا شوية استوعب، أصل أنا كمان مش عارف أتخطى.
ارتجفت أنفاسها، حاولت التماسك والرد بهدوء، لكن الغضب غلبها فانفجرت كلماتها بحرقة مكتومة: سليم، الطريقة اللي بتستخدمها معايا دي متنفعش! أنا معملتش حاجة تستاهل كل ده! لو التعبير خاني، فأنت كمان غلط، ومكانش ينفع ت...
وضع إصبعه على شفتيها مقاطعا استرسالها بنظرات حادة كالسيف: هششش، مش عايز أسمع منك حاجه، قولت اطلعي بره.
تجمدت مكانها لحظة، تنظر إليه بذهول وجرح عميق، ثم أطرقت تخفي دمعة ثقيلة على وشك الانحدار، ثم رفعت رأسها فجأة وردت بعناد واضح: لا، مش هطلع بره، دي مش أول مرة تعملها معايا! امبارح عملت نفس الحركة وسكت وعديتها، بس كده مينفعش دي مش أسلوب، أنت كده بتدخلنا في دوامة خصام ووجع ملوش آخر.
رمقها بنظرة ساخطة لتمسكها بدور الضحية وإلقاء اللوم عليه دائما، وقال ببرود حاد خالي من الانفعال: دي اللى عندى، أنت مش هتعلميني أتكلم ازاى، ومش هقول تانى اطلعي بره، عشان أنا على أخري منك ومش طايق أتكلم معاكي.
حدقت فيه بعيون دامعة، تبحث في وجهه عن بقايا دفء تعرفه، ثم تساءلت بنبرة جاهدت لجعلها هادئة تحاول بها فتح أي نطاق للحديث بينهم: طب أنا بكرة عندى معاد عند الدكتور ياسر الساعة اربعة، مش هتيجي معايا؟
رد ببرود قاطع، دون أن ينظر إليها: لا، خدى عشري وراوية معاكي.
قالت بصوت باكي: وهروح لماما بعد ما أخلص عند الدكتور.
رد على نفس ذات الوتيرة الباردة: روحي.
صمتت لحظه وهي تنظر الى يده النازفة بقلق، وقالت بنبرة مهتزة: طب إيدك مالها؟
انفجر صوته فجأة، حادا قاسيا كالسف: ملكيش دعوة، واطلعي بره.
تجمدت للحظة لا تصدق قسوته في التعامل معها، فعضت خدها من الداخل وردت بعناد وهي تمسك بيده النازفه مره أخري: مش هخرج الا لما اعالج ايدك الأول.
ضغط على شفتيه الاماميه بغضب، وجذبها من ياقة بيجامتها، متجها نحو باب الغرفه وهو يقول بغضب بالغ: مش هتخرجي؟! طيب.
حاولت الاعتراض: يا سليم ميصحش اللى بتعمله دى، سيبنى طيب اشوف ايدك مالها ومش هتكلم معاك تاني والله.
أخرجها خارج الغرفه وصفع الباب في وجهها بقسوة، فأخذت ترمق الباب بنظرة منكسرة قبل أن تهز رأسها باستسلام، وتغادر بخطوات ثقيلة دون أن تنبس بكلمة.
في غرفتها، جلست على الفراش، تضع كفيها على وجهها، تحاول أن تهدأ، لكن الدموع لم تنتظر الإذن،
وانهمرت في صمت ثقيل، لا تعلم أتبكي من ألم قلبها لقسوته الشديدة معاها، أم من ألم معدتها الذى اشتد عليها بعد المواجهه المشحونه بينهم.
أما سليم، فالقي جسده المتعب على السرير بارهاق وهو يطلق زفرة طويلة ويمسح وجهه بكفيه بتعب واضح، فقد كان الصراع بينهما أثقل من احتماله، لكنه اختار الصمت، ذلك الصمت الذي يؤلم، وربما - في نظره - فيه الشفاء.
سيارة ياسين، التاسعة مساء
كان يقود سيارته ببطء على الكورنيش، يدور بعينين شاردتين، يتأمل كل شيء حوله، بينما يده الأخرى تمسك الخاتم الوردي الذي صنعه لهبة، ضغط عليه بكفه فجأة، كأنه يفرغ فيه كل شعور الغضب الذي بداخله.
وبعد الكثير من اللف بلا وجهه محدده، عاد إلى القصر، وصعد إلي غرفتها ووقف في الشرفه ينتظرها.
بعد قليل دخلت هبة بخطوات مرحة، مع قليل من الخجل الذي لم يظهر إلا في وهلة قصيرة.
لكن ما إن رأته واقفا حتى تجمدت للحظة، ثم قالت بارتباك: أنا آسفة يا ياسين، بس أنت عارف، بقالي كتير مشفتش البنات.
ابتسم وهو يحاول كبح انزعاجه: ولا يهمك.
نظرت إليه، وتساءلت بشك: يعني مش مقموص مني؟
أجابها بنبرة جاهد أن يخرجها هادئة: لا مش مقموص، عارف إنه غصب عنك.
سألته وهي تركز النظر في ملامحه: أمال شكلك مكشر ليه كده؟
تنهد وهو ينظر بعيدا: أكيد متضايق، يعني لما أعمل لمراتي كل إللي عملته ده وفي الآخر متجيش، طبيعي أكون متضايق.
ترددت قليلا ثم قالت محاولة التبرير لنفسها: أنت ليه مشيت ومستنتنيش؟ حتى لما كلمتك مرجعتش؟!
نظر لها نظرة حادة، قائلا بنبرة لازعة: أنا فضلت مستنيكي ساعة، ميعادنا كان الساعة سبعة، وأنتِ وصلتي الساعة تمانية ونص، ده اسمه إيه؟
أجابته بضجر: شوفت بقى إنك مقموص، قولتلك الوقت سرقني
عقد حاجبيه متعجبا: وحتى لو كنت مقموص، مش شايفه إني ليا حق؟
تنهدت بلامبالاة: عادي نبقي نعوضها مرة تانية يا ياسين.
ثم أضافت وهي تتثائب: أنا هروح أنام، تصبح على خير، وميرسي بجد على إللي كنت عامله هناك.
وضعت قبلة خفيفة على خده، ثم اتجهت لغرفة تبديل الملابس.
نظر إليها للحظة، ثم تنهد وقال كمحاولة منه لإزالة الخلاف وتلطيف الأجواء: الجو حلو النهارده، إيه رايك ننزل نقعد تحت شوية.
هزت رأسها رافضة وهي تتحرك: لا، أنا تعبانة، وبكرة عندي اجتماع مهم جدا، تصبح على خير.
هز رأسه موافقا، محتفظا بابتسامة صغيرة بالكاد ترى، بدا له في تلك اللحظة أن والدته كانت على حق؛ فهبة لم تعد إليه حبا، بل عادت لشيء آخر لا يعرفه بعد، ولهذا بدا كل ما فعله، وكل ما يخفق في صدره، بلا قيمة في نظرها.
ظل واقفا في الشرفة بملامح متجهمة، قبل أن يقرر النزول إلى الحديقة، رغم برودة الجو وبدء تساقط الأمطار، لكنه أحب تلك الأجواء، فجلس على المقعد تحت المطر، غارقا في أفكاره، حتى بدأ يسعل قليلا، عندها عاد إلى الداخل، مقررا طي صفحة هذا اليوم عند ذلك الحد.
💞__________________بقلمي_ليلةعادل
في صباح اليوم التالي، غرفة النوم
استيقظ ياسين وهو يسعل، أنفه أحمر قليلا، وملامحه تحمل علامات التعب وبوادر البرد، جلس على حافة السرير، محاولا أستعادة توازنه قبل أن يتحرك.
خرجت هبة من الحمام، ترتدي برنصا وتمسك منشفة لتجفف شعرها، وعيناها تلمعان بخفة: ايه يا ياسين، عمال تكح كدة ليه؟
نظر إليها، وهو يحاول أن يقف لكن جسده لم يستجب: شكلي خدت برد، جسمي مكسر ومش قادر أتحرك خالص.
مدت يدها بتحذير: طب أوعى تمسك البنت النهاردة.
وقفت عند التسريحة، تنظر إلى نفسها في المرآة وهي تصفف شعرها، ثم قالت بصوت منخفض: والله كويس إني منمتش جمبك إمبارح، كان زماني اتعديت منك، وعديت البنت.
تنهد ياسين بصعوبة: محسيتش بيكي أصلا وأنتِ بتقومي في نص الليل.
ثم تمدد على الفراش وهو يضع رأسه على الوسادة: شكلي مش هقدر أروح المجموعة النهاردة.
اقتربت منه، ولمست وجهه برفق: الحمد لله مفيش حرارة، هخليهم يعملولك يانسون، واقعد ارتاح فعلا.
ثم تابعت بنبرة حذرة: بس أوعى بالله عليك تيجي جنب البنت...
هز رأسه بصمت، وعيناه مغمضتان من التعب، فأضافت بصوت متردد، وهى تركز نظرها عليه: كنت عايزه أقعد معاك النهاردة، بس والله عندي اجتماع مهم أوي.
رفع عينيه نحوها، لكنه وجد نفسه عاجزا عن الكلام، هل يترجاها لتجلس معه؟ أم يستجدي منها بقايا المشاعر والاهتمام؟ بالطبع لا، فقال بنبرة ثابتة: روحي شغلك يا هبة، أنا كويس.
تنهدت وهي تهز بأسف: هحاول أخلص بسرعه ومش هتأخر، وهقولهم يبعتولك فطار وحاجه دافيه ودوا للبرد خده ونام على ما أجي، بس متجيش جنب البنت.
أجابها بنبرة حادة: خلاص يا هبة، قولتيها ثلاث مرات لحد دلوقتي، مش هاجي جنب البنت.
ثم وضع الوسادة فوق رأسه وتنهد بتعب، بينما بدأت هبة بتغيير ملابسها ونزلت إلى الأسفل، تاركة له فرصة للراحة، دخلت المطبخ وطلبت من الخدم أن يعدوا له فطورا وشيئا دافئا، مع دواء للبرد، ويهتموا به لحين عودتها.
وخلال اليوم، بدأ التعب يزداد عليه تدريجيا، حتى أصبح واضحا في ملامحه وحركته البطيئة وصوته المبحوح، بينما على الجانب الآخر، ظل ذهن هبة مشغولا بمواعيدها وأعمالها، ولم يخطر في بالها الأتصال بياسين ولو لمرة للإطمئنان عليه.
💕_________________بقلمي_ليلةعادل
فيلا سليم وماسة الثانية عشرة ظهرا
هبطت ماسة الدرج ببطء، وملامح وجهها تشي بإرهاق خفي، كانت تبحث بعينيها عن سحر، فانتبهت إلى فتاتين جديدتين تعملان في المكان، توقفت أمام إحداهن، وتساءلت باستغراب: أنتِ مين؟
ألتفتت الفتاة بسرعة، ملامحها أجنبية، وقالت بعربيه متكسرة: أنا ليزا، المساعدة الجديدة.
وفي تلك اللحظة، خرجت سحر من المطبخ، تلوح بيدها وهي تقول: روحي خلصي إللي وراكي يا ليزا...
ثم ألتفتت إلى ماسة توضح بإبتسامة بسيطة: على فكرة، بتفهم عربي كلميها عربي.
نظرت نحوها وتساءلت بإستغراب: مين دول يا سحر؟
سحر موضحة: دول اتنين سليم بيه جابهم يساعدوني.
هزت رأسها بتأييد: كويس إنه عمل كدة، الفيلا كتير عليكى وأنتِ بتتعبي جامد.
ضحكت سحر بخفة وهي تلوح بيدها: يا ستي هو أنا بعمل إيه يعني؟ غير شوية الأكل بس، والتنضيف فيه اتنين بييجوا كل يومين.
ابتسمت ماسة بلطف: ربنا يديكى الصحه يارب، بس معلش كده أفضل
ثم تتنهد بعمق وهي ترفع يدها إلى بطنها بتعب: ممكن تعمليلى نعناع، بطنى وجعاني أوى.
سحر بلهجة حنونة: سلامتك يا حبيبتي الف سلامه، تحبي أعملك فطار خفيف الأول؟
هزت رأسها وهي تحاول الاتكاء على طرف الكنبة: لأ، لأ، مش قادرة أفطر خالص، اعمليلي نعناع بس.
توقفت لحظة وكأنها تذكرت شيئا: هو سليم فطر قبل ما ينزل؟
هزت سحر رأسها موضحة: أيوة فطر، بس شكله كان تعبان.
خفضت عينيها، وقالت بصوت مبحوح بضجر: طبيعي لازم يتعب، بيفضل برا طول اليوم ويجي آخر الليل وهو مش قادر، مش عارفة بيعمل في نفسه كده ليه.
سحر بحنان أمومي: ربنا يكون في عونه بس شكل رجله رجعت تتعبه تاني، النهاردة كان ماشي بالعافية.
هزت رأسها بحزن، ثم خرجت إلى الحديقة، وجلست على أحد المقاعد الخشبية، أغمضت عينيها للحظة وهي تفكر ماذا عليها أن تفعل؟! ، فهو لا يرد على حديثها، ولا يتقبل منها أي اعتذار أو تبرير.
بعد دقائق، جاءت سحر تحمل صينية عليها كوب نعناع وبعض الأطعمة، ووضعتها أمامها بلطف: اتفضلي يا ستي.
فتحت عينيها ببطء، ونظرت إلى الطعام بضيق واضح: مش أنا قولتلك نعناع بس يا سحر؟ شيلي الأكل دى مش قادرة أشم ريحته، بطني بتوجعني أوي.
رفعت سحر حاجبيها بسعاده: لحسن تكوني حامل يا ست ماسة؟
ضحكت ضحكة قصيرة ممزوجة بالحزن: حامل إزاي بس؟ ما أنتِ عارفة إللي حصل لسليم.
ضربت على صدرها بندم خفيف: أيوه صح، يقطعني نسيت! ربنا يشفيه يا رب.
رفعت نظرها نحوها بجدية خافتة: الكلام ده ميتقالش قدامه يا ماما سحر، أحسن يزعل على نفسه.
هزت راسها مسرعة: لا طبعا، عمري ما أقول، بس برضو كلي لقمة صغيرة، علشان متدوخيش.
هزت رأسها نافيه، ثم مدت يدها إلى كوب النعناع، تشرب رشفة صغيرة وهي تغمض عينيها من الوجع.
في إحدى الشركات التابعة للمجموعة لإنتاج الحديد، الثانية ظهرا
كان سليم يتجول بين الأقسام، يتفقد الماكينات ويتابع سير العمل، قبل أن يتجه إلى مكتبه يراجع بعض الأوراق الخاصه بالحسابات بعيون مرهقة لكنها دقيقة.
ترك الباب مواربا، فدخل منه مكي بخطوات مترددة، وهو يقول بخفه: ممكن ادخل؟ ولا مشغول؟!
رفع نظره إليه بإستغراب: أنت إيه إللي جابك، وأنت تعبان؟
ابتسم بخفة وهو يقترب: وحشتني يا عم، قولت أجي أشوفك.
رفع حاجبه بعدم تصديق: جايلي مخصوص؟
جلس أمامه وهو يقول بجدية يشوبها الود: عايز أتكلم معاك شوية.
وضع القلم على المكتب، وأسند ظهره إلى الكرسي، نظر له مطولا بقلق: فيه حاجة؟
هز رأسه مبتسما: لا مفيش، أنا بس حابب أقعد مع أخويا شوية، فيها حاجة دي؟
ابتسم بهدوء: لا مفيهاش.
ضحك بخفة: طب تعالي نطلع فوق على الروف، علشان نعرف نتكلم على رواقه.
نهضا معا وصعدا بالمصعد حتى وصلا إلى السطح الواسع للشركة، ووقفا بجانب السور الحديدي يتأملان المدينة الممتدة أمامهما.
مكي وهو ينظر للأفق: قولي بقي إيه حكاية رجوعك متأخر وسكوتك ده؟
كاد سليم أن يرد بحدة، فأشار مكي بيده، وتابع بعناد: ومتقوليش مش عايز أتكلم، علشان المرة دي مش هسكت.
أطلق سليم زفيرا طويلا، ثم قال بوجع مكتوم: أنا فعلا مش عايز أتكلم يا مكي، علشان دى أفضل ليا وليها، لو اتكلمنا هنتجرح تاني، آخر مرة اتكلمنا قالتلي كلام وجعني أوي، حسيت إن السكوت هو الحل، مؤقتا على الأقل، وبحاول أركز في الشغل، علشان أعوض إللي فات، وأشغل دماغي في أي حاجة بعيد عنها.
مكي بعقلانية: بس ده مش حل يا سليم، بقالك 4 أيام لا بتكلمها ولا بتكلم حد، المشكلة حصلت يوم ما رجعتلها الذاكرة، يعني كانت لسه مشوشة، ممكن تكون قالت كلام من غير قصد، واختيارك للسكوت ده هي شايفاه بعد وجفا، هي دلوقتي زعلانة ومش فاهمة أنت بتفكر في إيه، يعني بتحل؟ ولا بتهرب؟
نظر له بضيق: يعني أنا الغلطان برضو؟
مكي بهدوء: لأ، مش غلطان، بس إللي بتعمله مش حل، هو يا إما تعتذر كتير، يا إما تبعد زيادة لحد ما توجعها؟! معندكش وسط؟!
صمت لحظة، ثم نظر للمدينة وقال بهدوء: صدقني يا مكي، أنا محتاج أهدى شوية، خايف أتكلم معاها تقولي كلمة توجعني تاني، وأنا أرد بعصبية أوجعها أكتر، فنرجع لنفس النقطة، الصمت مؤقت بس ضروري.
تمتم مكي بتساؤل: مؤقت لحد إمتى؟
رفع كتفه وهو يمد وجهه بعدم معرفى: معرفش..
ثم تساءل بشك: هي اتكلمت معاك في حاجة؟
هز رأسه بسرعة مفسرا: لا، من يومها مفتحتش الموضوع.
ثم ربت على أعلى صدره بهدوء: بس المهم، أنت متضغطش على نفسك.
ابتسم سليم بخفة وحاول تلطيف الأجواء، فتساءل بمزاح: قولي بقى يا أبو إيد ونص، الجرح عامل إيه؟
مد يده وهو يحركها: أهي بتتحرك، يعني تمام.
ضحك وربت على كتفه: سلامتك ألف سلامة، ويلا روح بقي ومفيش خروج من الجيست هاوس الا لما تخف خالص
اومأ بإبتسامة: ماشي، وأنت هدى عقلك شوية.
تبادل الأثنان نظرة صامتة، قبل أن يعود السكون ليغمر السطح، بينما كانت المدينة في الأسفل تزدحم بالضوء والضجيج، وداخل سليم لا يزال الضجيج الحقيقي مستمرا.
في العيادة النفسية، الثالثة عصرا
دخلت ماسة المكتب بابتسامة تخفي ألما يعتصر قلبها، فاستقبلها الطبيب باحترام: أهلا مدام ماسة.
أومأت برأسها بابتسامة: أهلا بحضرتك.
أشار الطبيب نحو المقاعد مبتسما: تحبي تقعدي على الكرسي، ولا الشازلونج؟
رفعت كتفها بخفة وخجل: عادي أي حاجه، ممكن على الكرسي هنا كويس؟
أومأ موافقا، فخطت ماسة نحو المقعد بخطوات هادئة، جلست برفق، وضعت حقيبتها الصغيرة بجوار قدميها، وشبكت أصابعها في حجرها بتوتر تحاول إخفاءه.
جلس على المقعد المقابل، فتح دفتر ملاحظاته، ونظر إليها بإبتسامة مطمئنة: حمد لله على سلامتك يا ماسة هانم.
رفعت رأسها نحوه وابتسمت بخجل: الله يسلمك.
تأملها لثواني قبل أن يقول بنبرة هادئة محاولا فتح مجال للحوار: تعرفي، أنا كنت متشوق أشوف ماسة إللي قاعدة قدامي دلوقتي.
ارتسمت الدهشة في عينيها، وأمالت رأسها قليلا بإستغراب: ليه؟ هو في فرق؟
أجابها موضحا: طبعا فيه فرق كبير، ماسة إللي شوفتها وهي فاقدة الذاكرة كانت مليانة حياة، طفولة، براءة، لكن ماسة إللي قدامي دلوقتي، شايف فيها وجع سنين.
لمعت عيناها بالدموع، وحاولت أن تبتسم لتخفي ارتجاف شفتيها، ثم تنفست بعمق لتستعيد تماسكها وقالت بصوت مبحوح لكنه متماسك: سليم قالي إن حضرتك متابع معاه من زمان، وأكيد عارف إللي حصلنا.
أومأ ببطء، وقال بنبرة عملية هادئة: عارف من وجهة نظر سليم، بس حابب أسمع منك أنتِ.
صمت لحظة، يحدق فيها بعينين تلمعان بترقب مهني واهتمام حقيقي، ثم تابع بنبرة ألين: بس قبل مانبدأ، قوليلي، أنتِ جاية النهاردة ليه؟ علشان نشتغل على علاقتك بسليم؟ ولا فيه سبب تاني؟
أخفضت بصرها نحو الأرض لا تعرف من أين تبدأ أو ماذا تقول، ثم قالت بصوت خافت متعب: أنا جاية علشان فيه حاجات أنا عايزه اتخطاها ومش عارفه، وكنت عايزاك تساعدني اتخطاها.
توقفت قليلا، شردت نظراتها في الفراغ ثم أضافت بنبرة غائمة: فيه صور بفتكرها ومش عايزة تسيب دماغي خالص، خاصة آخر ليله بيني أنا وسليم قبل ما امشي آخر مره
ظل صامتا للحظة، وهو يتأمل ارتجاف أصابعها، ثم هز رأسه بتفهم وتساءل بنبرة عملية: تقصدى الليله اللى مشيتي فيها قبل ال 6 شهور؟!
أومأت برأسها في صمت، فتساءل وهو يركز النظر في ملامحها، كأنه يحلل ما وراء الكلمات: هل بتشوفي حاجة محددة في الليلة دي؟ ولا المشهد كله بيجي مرة واحدة؟
أطرقت برأسها، وانحنت شفتاها بخجل واضح وهي تهمس: لحظة ما سليم، حاول يعني...
رفع كفه مقاطعا بنبرة هادئة تحمل احتراما لخجلها: تمام، وصلت الفكرة.
ثم دون ملاحظة سريعة قبل أن يرفع نظره إليها من جديد، وتساءل: فيه حاجة تانية بتشوفيها؟
خفضت رأسها، وأصابعها تعبث في طرف بلوزتها كأنها تبحث عن مهرب من ذاكرتها: لا مفيش صور تانيه بتيجي في دماغي، بس في حاجات انا يمكن اتخطها او يعني عرفت اتعايش بيها، بس أحيانا لما ببص ف عينه بفتكر اللي عمله معايا ومع أهلي، فبتوجع
قال بتفهم: طبيعي جدا يا ماسة، لأن دي من أشد المواقف إللي سببتلك ألم نفسي.
ثم مال للأمام قليلا، وأضاف بصوت هادئ وهو ينظر داخل عينيها بثبات: إحنا رحلتنا لسه طويلة لأن الجرح الحقيقي جواكي، وده إللي مأثر على كل حاجة حتى علاقتك بسليم، ومخليكي مش عارفة تبتدي منين ولا إزاي تبنيها من جديد، بس إحنا هنا علشان نحاول نرجع العلاقة دي على أسس صحية.
ثم ابتسم ابتسامه صغيرة وهو يتساءل برفق: ولا أنتِ مش عايزة ترجعيها؟
هزت رأسها، وصوتها خرج مرتجف كمن يبوح بما يكتمه منذ زمن: لأ أكيد عايزة، بس عايزة أسألك سؤال.
الطبيب بهدوء واحترام: اتفضلي.
رفعت نظرتها إليه للحظة، ثم خفضتها سريعا، وكأنها تخشى الحكم عليها، فهمست بصوت واهن يقطر ذنبا: هو أنا كده مش طبيعية؟
تساءل باستغراب: يعني إيه مش طبيعية؟ وضحيلي أكتر.
أشارت إلى نفسها بإيماءة مرتجفة، وقالت بوجع يخنق صوتها: يعني علشان لسه موجوعة، ومش قادرة أتعامل مع سليم بالطريقة إللي هو محتاجها، ده معناه إني مش طبيعية؟ إني أنانية؟ ومحبيتهوش بجد؟! ومكبرة الموضوع؟
زفرت أنفاسها المضطربة، ثم أكملت بصوت مبحوح تكسوه المرارة: أنا مش فاضل تقريبا غير الشجر، وحيطان البيت، إللي لسه ملامونيش وغلطوني، فهل أنا كده مش طبيعيه؟ قولى؟
تأملها بعين فاحصة، ثم تساءل وهو يركز النظر في ملامحها: أنتم اتخانقتوا يوم ما رجعتلك الذاكرة؟
هزت رأسها نافيه، وقالت بنبرة مكسورة: متخانقناش بس هو مفهمنيش وزعل، ومن ساعتها وهو مخاصمني.
ابتسم بأسى وقال: ومخاصمني أنا كمان، طب أنا محتاج أعرف منك إيه إللي حصل بالضبط، لإن سليم كان جالي يومها وهو ثاير جدا، ومفهمتش منه غير إنك تقريبا رفضتيه، واتهمتيه إنه استغلك.
هزن رأسها نافيه بسرعة، وكأنها تدافع عن نفسها أمام تهمة قاسية: أنا مرفضتوش، والله مرفضته، كل الحكاية إني قولتله بلاش تنام جنبي دلوقتي، أنا لسة تعبانة ومحتاجة وقت، بس هو اتجنن، ومفهمش إني قصدي وجع مش جفا، وفضل يقولي "هصبر لحد إمتى؟".
توقفت لحظة، تنفست بإرتباك، ثم تابعت بصوت أقرب للهمس: وأنا وقتها كنت موجوعه ومش عارفه بقول ايه، فقولتله إنه استغل إني كنت ناسية عشان يحصل بينا علاقة، يمكن خانني التعبير ومكانش ينفع أقول كده، بس أنا كنت موجوعة وحاسة أنه استغل ضعفي، خصوصا إني...
ترددت، وعضت على شفتها السفلى بخجل، وحركت يديها في اضطراب صامت.
لاحظ ارتباكها، فمال للأمام قليلا وقال بلطف واطمئنان: مدام ماسة، مفيش داعي للإحراج بينا، أحكيلي زي ما أنتِ حاسة، أنا عايز أفهم علشان أقدر أساعدك.
مسحت وجهها بأنامل مرتجفة وقالت بنبرة مهتزة بعينين تترقرق بالدموع: أنا متأكدة إن أول مرة فعلا كان عايز يساعدني أفتكر، بس تكرار ده حسيته كأنه بيحاول يثبت إن لسه ليه مكان جوايا، يمكن لأنه عارف إن ده صعب يحصل بينا لما ترجعلي الذاكرة، وعارف إن لما أفتكر، مش هقبل ده بسهولة.
صمتت لحظة وهي تنظر في الأرض، ثم رفعت نظرها نحوه: على فكرة، أنا مش رافضاه.
رفع عينه من الورق، وسأل وهو يدون ملاحظة: أمال إيه؟
نظرت إلى الفراغ بصمت لحظه كأنها تفتش عن إجابة: أنا مش رفضاه بس غصب عني كل ما يقرب مني بتيجى صور الليله دى في دماغي فبخاف.
ثم تابعت وهى تمسح دمعه سالت على وجنتها: وهو مش قادر يفهم إن دى غصب عني.
أومأ الطبيب بتفهم، وتساءل بنبرة هادئه: طب يوم المشكلة احكيلي ايه اللى حصل بالتفصيل؟
زفرت بإختناق، وأمالت رأسها إلى الأسفل، كأنها تحاول أن تخفي ارتجاف شفتيها، ثم رفعت رأسها ببطء، نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت بصوت واهن: أنا هحكيلك إللي حصل بالظبط.
بدأت تسرد له كل شيء، بصوت مبحوح متقطع بالدموع، وكان الطبيب يصغي اليها بصمت، حتى انتهت.
رفع عينيه نحوها وقال برفق: ماسة أنتِ لا غلطانة، ولا مش طبيعية زى ما بتقولى، أنتِ بس موجوعة، إللي جواكي مش ضعف دي جروح محتاجة وقت، كل إللي محتاجينه شوية صبر منك ومنه.
أطرقت برأسها، والدموع تلمع في عينيها، وقالت بصوت مبحوح: بس هو مش عايز يسمعني ولا يفهمني، قولتله تعالي نروح للدكتور، أكيد هيفهمنا نعمل إيه، بس مرضيش، ومخاصمني و مبيكلمنيش، وبيعمل نفسه مش شايفني بقاله كام يوم.
قال موضحا بهدوء، وهو يرمقها بنظرة متفهمه: رد فعله طبيعي جدا، سليم دلوقتي في حرب نفسية، هو فاكر إنكم هتبدأوا من الصفر تاني، مش شايف إن جواكي حاجات كتير اختلفت المرة دي، أنا نفسي مكنتش متوقع إنك توصلي للدرجة دي من التقبل، كنت فاكر أني هبدأ معاكي من مرحلة أصعب شوية، بس سليم تعب ومش قادر يقيم الأمور صح، الانتظار أنهكه، والوجع جواه مخفش، هو كمان محتاج يطمن ويرتاح شويه، عارفة هو عامل زي إيه، زى اللى طلع على قمة الجبل وقبل حتى ما ياخد نفسه قالوله يلا أنزل علشان في رياح، وملحقش حتى يفرح.
نظرت اليه بعينين تلمعان بدموع مكبوتة وقالت بوجع: يعني هو هيطمن لما أخليه ينام جنبي وأقوله كلمتين حلوين؟ صدقني سليم ذكي وحساس جدا، ومينفعش معاه الطريقه دى.
هز رأسه بتأييد: عندك حق، سليم فعلا مينفعش يتعامل بالطريقة دي، سيبيه يهدى شويه، هو دلوقتي في معركة جواه، وأنا متأكد إنه قريب جدا هو إللي هييجي يقولك "إيه آخر إللي بينا ده" وساعتها قوليله كل إللي أنتِ حساه.
ثم اعتدل الطبيب في جلسته، وصوته صار أكثر جدية:
بصي يا ماسة، أنا حاسس إن فيه حلقه مفقودة في القصه، وفيه حاجه أنت مخبياها، الفتره اللي بعد الحادثة، أنتِ حاولتي تمشي 4 مرات، صح؟
رمشت بعينيها بتوتر، وهزت رأسها إيجابا بصمت.
تابع بتساءل واستفسار: طب إيه الأسباب؟ إيه إللي خلاكي تحاولي تمشي 4 مرات، بالطرق دي؟ سيبك من الأخيره لان اسبابك فيها واضحه، لكن ال3 اللى قبلها كانت إيه اسبابك؟
قالت بصوت منخفض، وعينيها تهرب منه: لا هما مرتين بس، علشان أول مرة اتراجعت.
رفع حاجبه وهو يتساءل: واتراجعتي ليه؟
تنهدت وضغطت أناملها معا قبل أن تهمس: عشان بحب سليم وخوفت عليه.
تساءل بنبرة هادئة وهو يدون ملاحظاته: والمرتين أللي بعدها كان ما بينهم مسافات بعيدة ولا قريبة؟
رفعت عينيها تحاول التذكر: متهيألي بينهم شهر؟ ويمكن أقل مش فاكرة، بس حاجه في الحدود دي.
أومأ ببطء، وهو يتساءل: طب وإيه إللي خلاكي تغيري قناعتك بالسرعة دي؟ حسيتي إن سليم ميستحقش حبك؟
هزت رأسها نافية على الفور، ثم عضت شفتها قبل أن تقول بتردد: لا، بس...
ظهر عليها التوتر بوضوح، وأصابعها تلعب في طرف الثوب قبل أن تهمس: أنا مش مستعدة أتكلم في الموضوع ده دلوقتي.
رفع عينيه نحوها بتفهم: ماشي، وأنا هحترم قرارك، بس عايز اسأل على حاجه، بعيدا عن المره الأولى اللى اتراجعتي فيها المره اللى بعدها كنتوا متفقين تكونوا كويسين مع بعض مش كده؟ طب هل سليم عمل حاجة زعلتك علشان كده كنتي عايزه تمشي؟
ساد صمت ثقيل لا يسمع فيه سوى صوت أنفاسها المتقطعه، ثم قالت بصوت مضطرب وهي تهز رأسها نافية بقوة؛ فمازال الخوف يسيطر عليها: لأ يا دكتور، أنا مش عايزة أتكلم في الموضوع ده دلوقتي.
لاحظ ارتباكها الشديد، فمد يده في إشارةٍ هادئة وقال بلطف: خلاص أهدي، مش هنتكلم في الموضوع ده دلوقتي، بس عايزك تبقي عارفه إننا مش هنعرف نبدأ رحلة العلاج طول ما فيه حتة جواكي لسه مستخبيه ومش راضيه تطلعيها، لأن أول ما تطلعي السر إللي جواكي، ساعتها نكون قطعنا ٦٠٪ من طريق الشفاء.
ثم أغلق الدفتر وضعه بجانبه، ونظر اليها وتحدث بهدوء وكأنه يحلل لها شيئا عميقا: بالنسبة بقي لموضوعك أنت وسليم، فأولا هو مستغلكيش، إللي حصل مكانش أنانية أو رغبة لحظية، هو معملش كده غير بعد ما أنا طلبت منه ده، وكان متردد جدا في البداية.
ثم تابع بصوت أكثر دفئا: وتكرار إللي حصل، مكانش علشان يشبع رغبة، لكن لإنه كان بيحاول يتمسك بالإحساس اللي عايشه معاكي، كأنه خايف يفقده، هو صدق إنك خلاص نسيتي، وإنك بدأتي صفحة جديدة معاه، وعاش ال65 يوم دول بكل تفاصيلهم، كأنه بيحاول يعيش الحب إللي اتحرم منه سنتين.
تنفس بعمق، وأضاف بتوضيح: تعرفي لما افتكرتي رشدي في الحفلة، هو اتلخبط، وكان حاسس إنك كرهتيه، علشان عقلك مفتكروش حتى وهو بيخوفك، أنتِ شايفة هو قد إيه ضعيف! لدرجة إنه كان بيتمنى تشوفيه وأنتِ فاقدة الذاكرة حتي لو بصورة مشوهة؟! يومها جالي بالليل وكانت حالته مزرية جدا، وأنا حاولت أهديه وأقنعه إنك مش كرهاه، بدليل أنك مشوفتيهوش في الصور المشوهه اللى كانت بتيجيلك، ولما مشي من هنا واضح إنه نسي الخوف، وأفتكر الحب، وعقله الباطن أقنعه إن وجودك جنبه خلاص كفاية، وإنك لما تفتكري، هتفتحي دراعك له تاني لإنك طبعا خلاص شوفتي قد إيه هو أتغير.
قالت بصوت متهدج وهي تلوح بيديها بتوتر، كأنها تزيح تهمة عن نفسها: على فكرة أنا مش شايفاه متهم علشان تدافع عنه، أنا بس موجوعه ومش عارفه اتخطى حاجات معينه حصلت بينا، والكلمه لما طلعت والله العظيم طلعت غصب عني مكنتش اقصدها.
ابتسم بهدوء، وأومأ برأسه يطمئنها: مش محتاجه تبرري، أنا متفهم شعورك، متقسيش على نفسك، ومتديش ودنك للناس إللي حواليكي، الناس دايما بتشوف إللي من بره، بس محدش بيحس باللي جوا إلا إللي عاش التجربة بنفسه، مش عايزك تتأثري بهجوم الناس إللي حواليكي وجعك يحترم وطبيعي جدا، حتى لو مش طبيعي إحنا هنقدر نتجاوزه سوا
مسحت وجهها بيد مرتجفة وقالت بصوت خافت متهدج: أنا بس كنت عايزة إجابة واحدة بدور عليها، إني مش مهولة الموضوع، ولا ظالمة سليم إحنا الاتنين اتظلمنا، واتوجعنا مع بعض.
أغمضت عينيها للحظة، ثم قالت بصدق ممزوج بالألم: عارف لما مصطفى ضرب نار في لحظة غضب؟ مكنتش مصدقه، لاني عارفه إنه إنسان هادي بطبعه، يمكن عصبي أوقات بس مش بالشكل ده، قعدت بعدها أفكر، ففهمت إن أحيانا الخوف الشديد على إللي بنحبه بيخلينا نتصرف غلط ومن غير وعي، ووقتها فهمت، إن سليم عمل إللي عمله مش لإنه قاسي، لكن لأنه بيحبنى وكان خايف يفقدني.
اومأ بتفهم: أنتِ محتاجة تقعدي مع سليم، وتتكلمي معاه بصدق، وتفهميه كل أسباب وجعك، أنا عارف إنكم قعدتوا واتكلمتوا قبل كده، بس لسة فيه جزئية أنتِ مخبياها، وهو لازم يعرفها.
صمت لحظة ثم قال بصوت حذر وكانه قرأ حجم ذلك الحديث على وجهها: وواضح إن السر إللي جواكي كبير، لدرجه لو اتقال فيه حاجات كتير هتتغير.
هزت رأسها بشرود: هو فعلا لو قولته فيه حاجات كتير هتتغير، بس أنا خايفه عليه وخايفه من رد فعله، الحاجة دى لو عرفها ممكن يتجنن، ويولع في الدنيا كلها أنا مش ببالغ.
هز رأسه بتأييد: عندك حق فعلا سليم لما بيثور بيبقى شخص تاني تماما وعلشان كده إحنا محتاجينه يهدى لأول، هو كان ماشي بخطوات كويسة جدا، بس إللي حصل وجعه، وخيب أمله، بس أنا واثق إنه قوى وهيعرف يقوم نفسه تاني.
ثم تنهد وهو يبتسم بأسى: ومع ذلك، عجبني موقفه الأخير جدا، يمكن قال كلام في لحظة غضب، لكن إللي خرج منه وقتها عجبني، وحسيته إنه كده بدأ يحبك صح.
نظرت له بإستفهام حذر: ليه هو قال ايه؟
ابتسم وهو يقول بهدوء: دي اسرار بيني وبين مريضي، والسر إللي أنتِ مخبياه ده، ممكن تقوليه ليا الأول، وأنا أساعدك تتشجعي وتقوليهوله، بس طبعا مش دلوقتي لما تبقي مستعدة.
ثم اعتدل في جلسته وقال بإعجابٍ صادق: على فكرة يا ماسة أنتِ شخصية قوية جدا، وسليم فعلا محتاجلك جنبه.
ارتسمت على شفتيها إبتسامة مستخفة: أنا قوية؟
أومأ بتأكيد: أيوة قوية، إللي تمر بكل إللي أنتِ مريتي بيه ولسة واقفه على رجليها، ده إنسانة قوية جدا.
ثم أخذ نفسا عميقا وقال بعملية: إحنا هنقعد مع بعض كتير الفترة الجايه، بس عايز اطمنك أنت مشكلتك أخف من سليم بكتير، لإن انت مشكلتك صدمات ومواقف مش قادرة تتخطيها، يعنى مجرد اضطراب نفسي من الصدمات اللى اتعرضتيلها ودى سهل الاستشفاء منه إن شاء الله، وإحنا هنمشيها خطوه خطوه مع بعض.
هزت رأسها، وقالت بنبرة مترددة: يعني أنت رأيك محاولش اتكلم مع سليم دلوقتي؟
هز رأسه: لا أستني يومين، خليه يهدى الأول، لحد ما تحسي إنه مستعد للكلام.
وقفت ترتب ملابسها بتوتر، وهي تقول: شكرا لحضرتك يا دكتور.
أجابها بنبرة عملية وهو يمد لها بورقة صغيرة: وده واجب بسيط عايزك تكتبي كل مشاعرك ناحية سليم، سواء زعل أو حب أو خوف، كل حاجة حتى لو بسيطة اكتبيها كأنك بتحكي لنفسك، ولو حصل حاجة تستاهل نتكلم فيها، تعالي خلال الأسبوع ده نحكي سوا، وطبعا لو اتصالحتوا تعالوا مع بعض.
ثم تابع بنبرة عمليه: وزي النهاردة الأسبوع الجاي إن شاء الله أشوفك.
أمسكت الورقة بإبتسامة خفيفة: تمام، شكرا لحضرتك مره تانيه.
فقام يصافحها بإبتسامة، وقال بصوت واثق: أنا إللي بشكرك يا ماسة، خلي بالك من نفسك، ومن سليم.
هزت رأسها بخفة، ثم ألتفتت نحو الباب، وغادرت بخطوات هادئة بينما ظل هو يراقبها بابتسامة لم تفارق وجهه، كأنه يرى في خروجها بداية جديدة.
قصر الراوي، الرابعه عصرا
غرفة ياسين.
وخلال اليوم اشتد المرض علي ياسين، فتناول بعض الأدوية واحتسى مشروبات دافئة، ولم يهتم به أحد، سوى الخدم، وهذا كان طبيعيا في العائلة؛ لم يشعر أحد بأنه مريض أو حتى موجود في القصر، لم يخرج من غرفته طوال الوقت.
دخلت هبة إلى الغرفة وهي تتساءل بلهفة مصطنعة: ياسين عامل إيه دلوقتي؟
فتح عينيه بصعوبة ثم اغمضهما مجددا من شده التعب، وقال بصوت مبحوح: تعبان خالص، مش قادر.
وقفت بجانبه وقالت: طب أجيبلك دكتور؟
هز رأسه معترضا: لا لا، أنا خدت دوا، وهبقى كويس.
قالت وهى تغادر الغرفه: طيب، أنا هروح أشوف البنت وبعدين أجيلك.
خرجت لتطمئن على نالا، ثم عادت بعد قليل حاملة صينية عليها شوربة، وقالت: خليتهم يعملولك شوربة.
وضعتها على الكومودينو بجانبه، لكنها لم تقم بمساعدته على الجلوس أو الاعتدال، وقالت بإبتسامة خجولة موضحة: معلش يا ياسين، أنا مش عايزة أقعد جنبك عشان متعديش، والبنت أنت عارف إن مناعتها ضعيفة.
قال وهو يحمل الصينية ويضعها على قدمه: ولا يهمك، عادي، حتى متقعديش معايا في الأوضة، روحي أقعدي معاها.
هزت رأسها نافيه: لا مينفعش أسيبك لوحدك.
هز رأسه بهدوء، وهو يتناول الشوربة: لا لا، روحي.
اومأت بإيجاب وهي تضع الهاتف بجانبه: طب بص التليفون جنبك اهو، علشان لو عايز تكلمهم تحت أو حاجة، وأنا كمان هرجع أطمن عليك بعد شوية، ألف سلامة عليك.
رد عليها بنبرة متعبه: الله يسلمك.
غادرت، وبدأ هو بتناول طعامه ببطء، عيناه تكاد تنغلقان من التعب، وما هي إلا لحظات قليلة حتي دخلت الخادمة تحمل كوب يانسون، وضعته على الطاولة بجانبه، ثم مدت له الدواء، فقبض على الكوب بيد مرتعشة وتناول الدواء، ثم تمدد على الفراش بارهاق وتعب.
ومع مرور الوقت، شعر بتحسن تدريجي، وانخفضت حرارته قليلا، لكن قلبه ظل مثقلا بشعور غريب بالوحدة، كأن الجدران حوله تهمس بعدم اكتراث أحد لألمه، فهبة التي يفترض أن تكون ملاذه، لم تطمئن عليه إلا نادرا، نظرة سريعة هنا أو هناك، دون شعور حقيقي بما يمر به، كل ذلك جعله يشعر وكأنه مجرد ظل لا أهمية له عندها
فيلا عائلة ماسة، السادسة مساء
غرفة نوم مجاهد وسعدية
كان مجاهد ممددا على الفراش، وجهه شاحب، وماسة تجلس بجانبه وتمسك يده بحنان، بينما تجمع حولهما إخواتها وسعدية.
ماسة بإنفعال: عيب عليكم بجد! إزاي محدش يقولى إن بابا تعبان، بقي أجي واعرف بالصدفه؟!
ابتسم مجاهد بخفوت: يا بنتي دول شوية برد، بس أبوكي كبر بقى وشوية البرد بقوا يرقدوه، خلاص بقي حسن الختام
نظرت إليه ماسة بحدة: أوعى تقول كده تاني يا بابا، والله هزعل منك!
تدخلت سعدية بتوضيح وحنو: الحمد لله يا بنتي هو بقى كويس اهو، إحنا مكناش عايزين نقولك علشان متقلقيش، وإحنا عارفين إنك تعبانه فمحبناش نزود عليكى.
اومأت بإبتسامة: ماشي، هعديها المره دى، بس لو اتكررت تاني هزعل منكم بجد
ثم أشارت نحو اشقائها، وقالت بنبرة حادة معاتبة: وبعدين تعالو هنا أنتم الاتنين، أنتم أزاى محدش فيكم فكر ييجيلي! غير مرتين بس، حتى بعد ماخفيت؟! طب ماما قاعدة مع بابا، وسلوى عندها شغل، إنما إنتم إيه؟!
عمار ببرود وهو يشيح بنظره بعيدا عنها: أنتِ عارفة إحنا مبنجيش ليه يا ماسة.
نظرت له بإرتباك: بس أنت جايلي أنا، مش جايله هو.
زفر بغضب بعينين مثقلتين بالحزن: مش طايق أشوفه، كل ما بشوفه بفتكر إزاي رفع المسدس علينا! والرصاصة إللي ضربها عليا لما لفيت ضهري، ومنعه إننا نشوفك سنة؟!
سعدية بتهكم وهي تلوح بيدها: ولازمته إيه الكلام دى دلوقتي.
تدخل يوسف بنبرة هادئة: فعلا يا عمار، مش وقته، حمد لله على سلامتك يا مسموسة.
ثم أضاف بإبتسامة موضحة: بس والله كنت مشغول، أنتِ عارفة علينا جمعيات، وبصراحة كنت خايف أقول كلمة قدامه وتحصل مشكلة.
تنهدت وهي تؤمئ براسها: ماشي عموما إحنا لينا كلام مع بعض كتير في موضوع سليم.
نظر لها عمار بريبة: شكلك بتفكري تسامحيه.
ردت سعدية بتهكم حاد: ومتسامحوش ليه يا عين أمك؟ مش جوزها.
ثم نظرت لمجاهد باستهجان: متقول حاجة يا راجل!
مجاهد بصوت متعب: يا ابني، ملكش دعوة بأختك، تعمل إللي هي عايزاه، وبعدين متسامحوش ليه، ما الراجل بقى كويس!؟
أشار لها عمار بنبرة قاسية: أعملي إللي أنتِ عايزاه، بس طول ما أنتِ مع سليم أنا عمري ما هدخل بيتك تاني.
قالت بتأثر وصوت مبحوح: عمار أبوس إيدك، أنا تعبانة والله، أهدى شوية عليا.
قاطعتها سلوى وهى تتساءل: أنتِ أصلا كنتي فين النهاردة؟
تنهدت ونظرت لها وما زال تأثير حديث عمار واضح عليها: كنت عند الدكتور النفسي بتاع سليم، علشان اتابع معاه لحد ما ابقي كويسه.
ربتت سعدية على قدمها بحنان: إن شاء الله يا حبيبتي تبقي كويسة ويحفظك ربنا أنتِ وجوزك، يارب، الا صحيح هو عامل إيه دلوقتي؟
هزت راسها بابتسامة حزينة: الحمد لله كويس.
ثم زادت ابتسامتها اشراقا وهي تضيف: هو أنا مقولتلكوش مش سليم عمل العملية، وهو ده إللي خلاني أتخبطت ووقعت على دماغي..
يوسف بصدمة: يعني إنتي فعلا اتعصبتي على سليم عشان مقالكيش إنه عمل العملية؟
أومأت برأسها بإيجاب مفسرة: أيوه، كنا بنتكلم واحنا واقفين على السلم، وفجأة قالي إنه عملها من غيري، فاتجننت ومن عصبيتي اتكعبلت ووقعت وأنا بشد ايدى منه!
ثم أضافت بحزن وهي تمد وجهها: أصل العملية دي كانت خطيرة، ونسبة النجاح فيها قليلة، بس الحمد لله عدت على خير، وهو دلوقتي كويس، أنا ساعتها بس اتجننت لما افتكرت إن كان ممكن مشفهوش تانى.
وجه مجاهد نظراته لأبناءه بعتاب: شوفتوا بقى؟ إن جوز أختكم مكدبش.
قلبت سعدية شفتيها يمينا ويسارا وهي تقول بسخرية متهكمة: أنا أصلا معرفش إيه إللي كان في دماغكم يوم ما كذبتوه، بقى سليم الراوي هيخاف مننا ويكدب؟!
نظرت لهم ماسة بتعجب: هو أنتم فعلا اتهمتوه؟
هزت سلوى رأسها بايجاب: بصراحة اه، ومكناش مصدقينه، وكنا شاكين إن هو اللى عمل فيكى كده.
هزت ماسة راسها بسرعة موضحة: حرام عليكم والله العظيم، ملوش ذنب في أي حاجة.
مالت سعدية عليها وهي تتساءل: سيبك منهم وقزلى لي، أنتِ لسه زعلانة مع جوزك؟
نظرت لها للحظة بصمت، والدموع تلمع في عينيها، قالت بنبرة مهتزة: أنا حاولت أكلمه كتير، بس هو مش بيرد عليا، والدكتور قالي أسيبه يهدي شوية.
سعدية بلوم: الصراحة عنده حق، كلامك وجعه، بس أسمعي كلام الدكتور.
ضحك مجاهد وهو يمازحها: إيه يا وليه مش هتعملي لبنتك أكل؟
سعدية ضاحكة: عينيا، هقوم اعملها كل اللى بتحبه، أنت هتقعدي معانا لحد بالليل يا ماسة صح؟
هزت رأسها إيجابا بإبتسامة: أيوة، بس متتعبيش نفسك مش قادرة أكل حاجه
ثم وضعت يديها على بطنها: مش عارفه ليه بطني وجعاني بقالها فتره ومليش نفس أكل.
وضعن سلوى يدها على كتفها: ألف سلامة عليك يا حبيبتي.
هزت رأسها قائلا: الله يسلمك يا سوسكا.
قضت اليوم مع عائلتها في أجواء دافئة، ومع حلول المساء، غادرت عائده إلي فيلا المعادى المطله علي النيل.
في السيارة
كان عشري يجلس بجانب السائق، وماسة في الخلف.
عشري وهو يلتفت للخلف: إحنا رايحين الفيلا الجديدة إللي على النيل، الملك إدانا أمر بكده، وقال إنك حابة تروحي هناك، ولا غيرتي رأيك؟
ابتسمت وهي تهز رأسها نافيه: لا مغيرتوش، بس الحاجات بتاعتي مين هيجيبها؟
أجابها عشري موضحا: أكيد سحر جابتهالك.
ابتسمت وهي تهز رأسها: خلاص أطلع علي هناك.
...............
فيلا سليم وماسة الجديد، الثامنة مساء
استقبلتها إليزا بابتسامة، وقالت بعربية متكسرة: حمد لله على السلامة، مدام.
أجابتها بخفة: الله يسلمك، هو سليم بيه رجع؟
هز رأسها نافيه: لا، مدام.
هزت رأسها وقالت باشتهاء وهى تضع يدها على معدتها: طب أنا هطلع أوضتي ارتاح شويه علشان تعبانة، وأنتِ هاتيلي شوية فاكهة، نفسي أوى في فراولة وموز.
قالت كلماتها وتقدمت خطوة، ثم عادت مرة أخري تنظر لإليزا من أعلي لأسفل بغيره مبطنه: بقولك إيه يا حببتى ابقي طولى الجيبه دى شويه والبسي بكم، لو ناقصك حق القماش اديهولك بس مشوفكيش بالمنظر دى تانى، وابقي بلغي التانيه نفس الكلام.
ثم غادرت بخطوات غاضبه نحو غرفتها، وهي تمتم بكلمات غير مفهومه، جلست على حافة الفراش بغضب وهي تقول: رايح جايبلى اجانب صغيرين وحلوين علشان يفرسني، ماشي يا سليم أن ما وريتك، أبقي المحك بس بتبص على واحده فيهم.
قامت لتبدل ملابسها، وبعد فترة جلست أمام التلفاز تشاهده دون تركيز، فالأفكار كانت تعصف بداخلها كالأمواج، وهي تتذكر حديث الطبيب معاها.
وفجأة شعرت بوجوده في الغرفة المجاورة، فزفرت بضيق، ونهضت تتحرك في الغرفة ذهابا وإيابا، قلبها يتصارع بين القبول والرفض: هل تستمع إلى كلام الطبيب وتبتعد؟ أم تستمع إلي قلبها الذي يريد الاطمئنان عليه؟ قررت أخيرا أن تتبع نصيحة الطبيب، فعادت وجلست على الفراش، تتنفس ببطء محاولة تهدئة أنفسها.
في الغرفة الأخرى، عند سليم
غير ملابسه لملابس منزليه مريحه، وجلس على الأريكة، يحاول مقاومة خيالات ماسة التي تطارده، فأغمض عينيه لبرهة، ثم فتحهما يراقب الباب بتوجس، يخشى أن تأتي كما في الأيام السابقة، لكن الدقائق مرت، ولم تطرق الباب، فحمد الله على ذلك، فهو لم يكن مستعدا لأي مواجه اليوم، رغم أنه يشتاق إليها بشدة.
رفع يده على صدره، كما لو كان يحبس شعوره بداخله، فياليتها تشعر بما يشعر به من وجع وحزن، فصمته ليس عقابا لها، بل تعبيرا عن ألمه الداخلي.
وفجأة ارتفع صوت طرق الباب، فنظر إليه بتوجس، وزفر بارتياح، حينما دخلت سحر بخطوات هادئة، وهي تحمل صينية صغيرة: حمد لله على سلامتك يا سليم بيه.
ابتسم بخفة: الله يسلمك يا سحر.
سألت بخفة: هتتعشى ولا زي كل يوم؟
أجاب بإيجاب: ممكن تجيبيلي حاجة بسيطة كده.
صمت للحظة، ثم سألها وهو يبتلع ريقه: هي ماسة في أوضتها صح؟
اومات براسها بإيجاب: أيوه، من ساعة ما جات وهي فوق، عملتلها شوية فاكهة واكلتهم بألف هنا.
هز رأسه بإيجاب: تمام يا سحر.
اقتربت منه بحنان، وسألته بعطف: هو أنت كويس دلوقتي يا بيه؟ أصل أنا كنت شايفاك الصبح تعبان.
أجابها بهدوء: لا مش تعبان الحمد لله، هو بس شوية إرهاق من ضغط الشغل
ابتسمت بخفة، وقالت بدعاء صادق: ربنا يكون في عونك، ويديك الصحة، ويحققلك كل ما تتمناه، ويفتحلك الأبواب المقفولة يارب
ابتسم وهو يقول بتهذيب: آمين، شكرا يا سحر. روحي أعمليلي كده حاجة خفيفة آكلها بقي.
اومأت برأسها، والتفت لتغادر، ولكن قبل أن تخرج سألها: البنات اللى جم كويسين معاكي؟ أنا نسيت أسألك معلش.
أجابته بتأكيد: آه، كويسين يابيه، بالأذن.
غادرت إلي المطبخ، بينما أسند هو ظهره على الأريكة، وهو ينظر لسقف الغرفة بشرود.
على الطرف الآخر من الباب المشترك، كانت ماسة ملاصقة بأذنها للباب، تحاول ألتقاط كل همسة وكل نفس، وعندما سمعت أنه بخير، وأنه سيتناول طعامه، شعرت وكأن ثقلا قد أنحسر عن صدرها، وانسكبت فيها موجة من الطمأنينة، فاستدارت وجلست على الفراش، وضمت ركبتيها إلى صدرها، كأنها تحضن قلبها بيديها، شاعرة بالهدوء والسكينة يتغلغلان في عروقها، بعد هذا الاطمئنان البسيط الذي صار فجأة كنسمة دافئة تعبر روحها.
💞___________بقلمي_ليلةعادل
مجموعة الراوي التاسعة صباحا
مكتب ياسين
كان ياسين يجلس خلف مكتبه، بجانبه الاسيستنت الجديدة، تناقش معه بعض الأمور الخاصه بالعمل، بعمليه ورتابه، زفر بملل وهو يصيح بضجر: ولما أنا هعمل كل دى أومال حضرتك موجوده هنا بتعملى ايه، إيه مش عارفه تشوفي شغلك ؟!
كادت أنا ترد وتوضح له، لكن قاطعها دخول رشدى بخفته ومرحه المعتاد: مالك يا عم ياسين صوتك جايب آخر المجموعه ليه، دى أنت كنت أليف ومحدش بيسمعلك صوت.
رمقه ياسين بصمت، بينما قالت مروة توضح له: والله يا مستر رشدي أنا مش عارفه أعمل إيه تانى مفيش أي حاجه في شغلى عجباه وأنا والله ما مقصرة.
رمقها رشدى بنظره جانبيه قائلا: طب روحي أنت دلوقتي وسبينا لوحدنا.
غادرت مروى، بينما جلس رشدي على الكرسي المقابل، وأسند ذراعيه على طرف المكتب، يراقب ملامح ياسين الحزينه وهو يتساءل باهتمام: مالك كئيب كده؟ فيه إيه؟ وبعدين فين القطة الشيرازي بتاعتنا؟
رفع حاجبه بإستغراب خفيف: القطة الشيرازي؟
ضحك رشدي بخفة وهو يومئ برأسه: أقصد لوجين.
تنهد بعمق، وأخذ يدير القلم بين أصابعه بعصبية دون أن يرفع عينيه عن الورق: سابت الشغل من فترة.
مال رشدي للأمام قليلا، صوته أنخفض وصار أكثر جدية: هي فعلا بقالها فترة مختفية من ساعة ما أنت سافرت..
ثم نظر إليه نظرة فاحصة، وقال بتساؤل: طب إيه إللي حصل؟ كنت حاسس إن الدنيا تمام بينكم، وفجأة هي اختفت، وأنت رجعت لمراتك؟! إزاي؟!
تجمدت يده فوق الأوراق، كأن السؤال لامس جرحا لم يندمل بعد، ثم قال بهدوء متماسك: متشغلش بالك.
مال رشدي برأسه قليلا، وحاجباه مرفوعان بإهتمام ممزوج بأستغراب: لا، هسألك. هو أنا مش بقولك كل حاجة؟ أحكيلي يمكن أديك نصيحة ولا مش واثق فيا.
تنفس ببطء، وأسند ظهره إلى الكرسي، عيناه زائغتان كأنه يفتش عن الكلمات المناسبة، ثم هز رأسه بإيجاب، وأخذ يروي له ما حدث، ظل رشدى يستمع إليه بصمت، بعينين متسعتين ونظراته تتغير من الدهشة إلى الضيق، وحين انتهى ياسين، أطلق رشدي زفرة حادة، ونظر إليه باستغراب ممزوج بالاستنكار.
رشدي باستهجان: إيه يا عم ده؟! ما تطلقها وتخلص! روح للي قلبك مرتاح معاها، إيه المشكلة؟
ثم رفع يده بإشارة حاسمة: مش هتبقى أول ولا آخر واحد يطلق، طول ما أنتم سوا بتتخانقوا، وحياتكم معقدة، لا هي مبسوطة ولا أنت مبسوط! طب إيه لازمتها؟!
مال إلى الأمام أكثر، وتحدث بعقلانية وهدوء: الواحد مبيتجوزش علشان يعاقب نفسه ويعيش تعيس، بيتجوز عشان يسعد نفسه ويستقر!
توقف لحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر حزما، فيها جدية صافية: عاجبك يعني تعيش مع مراتك غصب عنك؟ طلقها يا ياسين...
نظر له بثبات وأضاف متعجبا: أنا أصلا مش فاهم ليه اديتها فرصة تانية من الأساس.
ياسين موضحا بنبرة مثقلة: ما أنا قولتلك لوجين رفضت عرضي، ومفاتش وقت طويل لقيت هبة بتكلمني، بتقولي "خلينا ناخد فرصة".
تنهد بعمق، مرر يده على وجهه: وقتها لقيت كلام سليم بيرن في وداني، إني لازم أدي لهبة فرصة، واديني أهو بقالنا أسبوع تقريبا.
رفع عينيه إلى السقف لحظة، كأنه يهرب من أعتراف صعب، وقال بنبرة يغلبها الحيرة: بس أنا مش مرتاح، ولا مبسوط.
زم شفتيه بضجر: وهبة هي هبة مفيش تغيير.
اقترب رشدي بجسده للأمام قال بهدوء: بص أنا يمكن مش أنسب حد ينصك، بس اللى أقدر أقولهولك متعملش حاجة غصب عنك، أعمل إللي أنت مرتاحله وبس.
صمت لحظة، عيناه تغيم بشيء من الذكرى، قبل أن يقول بنبرة ثقيلة خرجت من عمق مجروح: بلاش تخلي بنتك تبقى مشوهة زينا...
حرك رأسه ببطء، كأنه يري ماضيه أمامه: كفاية المناظر إللي شايفها حواليك، أمك عاشت مع أبوك عشان المصلحة، عشان دايما تفضل "فايزة" إللي فوق الكل، مرات عزت الراوي، وأبوك؟ كل همه كان يكبر الفلوس والإمبراطورية، واحنا؟ إحنا الستة دفعنا التمن، وطلعنا مشوهين، دول حتى معرفوش يعلمونا أزاى نحب بعض.
رفع عينيه نحوه بثبات مرير، وأكمل: بلاش تعمل في بنتك كده، حتى لو الصورة شكلها مختلف، أي بيت فيه زوج وزوجة مبيحبوش بعض، وعلاقتهم ميتة، أكيد ده بينعكس على الأولاد، حتى لو قولت "إحنا مختلفين عن بابا وماما"،صدقني بنتك هتدفع التمن، هتعيش في بيت كله صمت وجليد، وأنتم فاكرين إنكم بتعملوا الصح وأنتم بتضيعوها وأنتم مش واخدين بالكم.
أغمض ياسين عينيه للحظة، كأن ثقيل الحديث عليه أكثر من احتماله، ثم قال بصوت واهن مبحوح: ما أنا برضو مش عايز أظلم هبة، عايز أديها فرصة حقيقية، بس مشكلتي إن دماغي تعباني أوي، مش قادر أشيل لوجين من تفكيري وحشتني، ومشغول عليها.
ثم خفت صوته بانزعاج: ودى في حد ذاته مضايقنى لأن مجرد تفكيري فيها دى خيانه لهبة، وأنا مش عايز أكون راجل خاين، وفي نفس الوقت عايز أدي فرصة لهبة، ومش عارف أعمل ايه؟!
رفع نظره نحو رشدي، وعيناه تلمعان بإرتباك حزين، كأنه يطلب منه مخرجا لا وجود له.
رشدى بتأكيد: أعمل اللى قلبك مرتاحله، صدقني دى هيبقي أفضل ليك وليها ولبنتك كمان.
هز ياسين رأسه إيجابا ببطيء، كأنه يستوعب نصائحه واحدة تلو الأخرى، وهو ينظر أمامه بشرود.
💞___________بقلمي ليلةعادل
في مستشفي حكومية، الواحده ظهرا
في أحدي ممرات المستشفي، كانت آلاء تجلس على أحدي المقاعد المعدنية، رأسها منحني للأمام، ودموعها تتساقط في صمت، كانت تحاول أن تخفي بكاءها بمنديل صغير، لكن ارتجاف أناملها فضحها.
مر مصطفى من الممر بخطوات سريعة، يحمل ملفا بين يديه، وحينما استمع لبكاء أحدى الفتايات، اقترب منها متسائلا بقلق: بتعيطي ليه؟
رفعت عينيها المحمرة من البكاء نحوه بصمت، فاتسعت عيناه بدهشه وهو يتساءل: مش أنتِ البنت بتاعة تشخيص امبارح؟
هزت رأسها إيجابا، وهي تمسح دموعها بكفها المرتجف، وقالت بصوت مبحوح باكي: أيوه يا دكتور أنا آلاء.
فتساءل باستغراب: وبتعيطي كده ليه يا آلاء؟
ثم أضاف بمرح محاولا تلطيف الأجواء: المريضة إللي شخصتيها امبارح ماتت ولا إيه؟
ضحكت رغما عنها، وغطت فمها بيدها بخجل، فابتسم وقال: أيوة كده أضحكي، وقوليلي إيه إللي حصل؟ مالك؟
أجابته بنبرة باكية: مس شيرين خصمتلي يومين.
تساءل بتعجب: وخصمتلك يومين ليه؟
تتحدثت من بين شهقاتها: عشان خلصت خلصت علبتين من شكاكة اختبار السكر ومرضتش استخدم شكاكه واحده لكل المرضي زى ما بيعملوا، فقعدت تزعقلي وتقولى إني بهدر موارد المستشفي وخصمتلي.
اتسعت عينيه، ورفع صوته بدهشة خفيفة: يخرب عقلك! العلبتين دول بيقعدوا معانا شهر وزيادة! خلصتيهم في يوم واحد أزاى؟
حاولت التبرير لنفسها، فشرحت له بإستهجان: عشان مينفعش نستخدم نفس الشكاكة لكل المرضى!
ثم أضافت بأعتراض حاد، وهي ترفع يديها: كل مريض لازم يبقى ليه الشكاكه بتاعته علشان العدوى! أنا قولتلها كده، لإن ده إللي درسته وده إللي أنا مقتنعة بيه وحتى جبتلها الكتاب ووريتها بعينيها إن دى الصح واللى المفروض يتعمل، وحتي من غير كتاب بالمخ كده يا دكتور مينفعش والله، ولا يعني علشان هما ناس غلابة ومش عارفين يتعالجوا في مستشفيات خاصة نتعامل معاهم كده..
بدأ صوتها يرتجف والدموع تتجمع في عينيها مره أخرى وهي تكمل: ماما جالها فيروس C وبتتعالج بسبب الموضوع ده، إزاي قسم كامل يستخدم نفس الشكاكة يا دكتور؟ أنا استحالة أعمل كده واضر الناس.
تغيرت ملامحه، ونظر لها نظرة مطولة فيها تقدير حقيقي، وقال بهدوء صادق: أنا مش مختلف معاكي، وأنتِ صح.
ثم تنهد وأكمل: بس يا آلاء، إللي المفروض يحصل مش دايما بيحصل في أرض الواقع، أنتِ هنا في مستشفى حكومي، والموارد بتاعتها محدوده فغصب عننا بنشتغل بالإمكانيات إللي موجودة.
رفعت رأسها برفض وإصرار: يعني أأذي الناس عشان الإمكانيات قليلة؟
هز رأسه موضحا: لأ طبعا بس لازم نوازن، يعني ممكن نعقمها برشه كحل قبل ما نشك بيها حد تاني.
رفعت حاجبها بإعتراض: بس نسبة الخطر والإصابة بالعدوى، هتفضل كبيرة برضو يا دكتور.
ثم تابعت وهي تمسح دموعها بخفة: وبعدين هي أصلا بتتلككلي وحاطاني في دماغها من أول يوم!
ابتسم لها متسائلا بخفة: ليه؟ حصل إيه تاني؟
استرسلت باستهجان واضح، وهي تلوح بيدها في الهواء: إمبارح برضو كانت هتغيبني، والدكتورة نرمين الله يسترها هي إللي وقفت معايا، وكل ده عشان خمس دقايق!
ثم أضافت بسرعة، وكأنها تريد أن توصل كل تفاصيل الظلم: والله يا دكتور، أنا كنت واقفة تحت من بدري عشان أمضي بس الدنيا زحمه، وأول ما دخلت القسم قالتلي أنتِ اتأخرتي خمس دقايق، يبقى غياب! وهتشتغلي برضو؟!
ثم ابتسمت إبتسامة صغيرة، وكأنها تلتمس العدل: بس الدكتورة نرمين ربنا يكرمها شهدت بالحق وقالتلها "أنا شايفاها واقفة من بدري قدام مكتب التمريض علشان الإمضاء" والحمد لله اتحسبلي.
ثم رفعت كتفيها بإحباط: بس هي مش راضية تسيبني في حالي ومن أول ما جيت، وهي بتعاملني بطريقة وحشة كأني قتلتلها قتيل.
هز رأسه بتفكير، وقال بهدوء: أنتِ جديدة هنا صح؟!
هزت راسها بإيجاب: أيو يا دكتور، بقالي أسبوع بس.
فقال بمزاح: أسبوع؟ وكنتي هتتغيبي امبارح واتخصملك يومين النهاردة؟ ده رقم قياسي والله.
ضحكت بخجل وهي تنظر للأرض: أعمل إيه يا دكتور؟ أبيع ضميري؟ وأذي الناس يعني؟.
ابتسم وقال بصوت هادئ فيه دفء واضح: خلاص يا آلاء، متزعليش نفسك، وأهدي كده، وصلي على النبي.
ثم مد يده وقدم لها منديلا: خدى أمسحي دموعك ومتعيطيش، أنا هكلم شرين بنفسي، وهشد عليها شوية علشان متضايقيش تاني.
رفعت رأسها بسرعة، وقالت توتر: لا لا بالله عليك يا دكتور، بلاش! هتفتكرني بشتكي.
ابتسم وهو يهز رأسه مطمئنا: ملكيش دعوة، هي أصلا عاملة مشاكل مع كذا حد قبل كده، وأنا نبهتها كذا مرة، بس دماغها ناشفة، هي في يوم من الأيام كانت زيك فلازم تبقى رحيمة بيكم.
ثم أشار بإيده ناحية الحمام: يلا أغسلي وشك، وروحي كملي شغلك.
قالت بابتسامة باهتة وهي تمسح دموعها: حاضر يا دكتور، شكرا بجد.
راقبها وهي تبتعد بخطوات مترددة، وارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة دافئة، فيها شيء من الراحة.
مكتب مصطفى
كان جالسا بهدوء خلف مكتبه، عيناه متجهتان نحو الأوراق أمامه، وبعد لحظات، دخلت شيرين، تحمل ملامح التوتر.
رفع عينيه نحوها، وقال بنبرة حادة وتهكم خفيف: إيه يا شيرين؟ مزعلة البنات ليه؟ كل شوية بسمع شكوى منك، وكده ما ينفعش.
رفعت كتفيها بتوتر: يا دكتور أنا معملتش حاجة، هما ال
قاطعها بحزم: لا عملتي!
زمت شفتيها وأضافت بتبرير خافت: دول بنات متدلعة يا دكتور، ولازم أشد عليهم.
رفع أحد حاجبيه متسائلا: وآلاء برضو من البنات المتدلعة؟
حاولت الدفاع عن نفسها: دي بنت لسانها طويل وبترد عليا.
مصطفى بعينين صارمتين: بترد عليكي بمعلومه اتعلمتها، والمفروض إنك عارفه قلة خبرتها يبقي تعلميها مش تخصميلها.
شيرين بنبرة ساخرة: فهمتها؟ وقعدت تقولي "أصل ماما مش عارفة مالها..."
قاطعها بنبرة صارمة وحادة: شيرين أتكلمي بأدب، وأوعي تقللي أبدا من جرح أي إنسان...
ارتجفت قليلا، ثم قالت بتقليل: يا دكتور دي حتة بت بيومية، ممكن تمشي بكرة، هي بس شغالة واسطه علشان الدكتور محسن موصي عليها، ال إيه علشان من أوائل دفعتها.
رفع صوته قائلا بحسم: شيرين أنا عايز أسمع كلمة حاضر، وملكيش دعوة ببنات التمرض الصغيرين ولا تحاولى تستقوي عليهم تاني، أوعى تنسى إنك في يوم من الأيام كنتي زيهم، فمتضطرنيش أقول لدكتور محمد بكر، ولو سمعت إنك ضايقتي ألاء أو غيرها بعد كلامي، العقاب هيزيد. أنا مش أول مرة أنبهك واقولك خليكي رحيمة على البنات، هما لسة صغيرين، وكلنا كنا كده، مطلعيش عقدك النفسية عليهم، ده آخر إنذار ليكي، يلا أتفضلي.
ضغطت على أسنانها بشدة، قبل أن ترفع رأسها وتخرج من الغرفة، بخطوات غاضبه تطوي الأرض تحت قدميها.
امام مجموعة الراوى، الخامسة مساء
نرى نور الاسيستنت الخاصة بسليم تتحرك نحو سيارتها، وبمجرد أن فتحت باب السيارة وهمت بالدخول، انفتح الباب الخلفي فجأة، وجلس رجل ضخم إلى جوارها دون، ورجلان آخران تسللا إلى المقعد الخلفي بسرعة خاطفة.
نور بفزع: ايه دى؟! انتم مين؟!
كادت ان تصرخ طلبا للنجدة: لكن وضع أحدهم فواهة مسدسه فوق رأسها.
الرجل بهدوء خطر: اطلعي، وسوقي من سكات.
أمسكت نور المقود، ويداها ترتجفان وقلبها وقع في قدميها وهي تتساءل بارتعاش: طب انتم مين؟ وعايزين مني ايه؟!
الرجل بنفاذ صبر: سوقي وأنتِ ساكته قولت لو باقية على حياتك وعايزه تعيشى.
نور بفزع وصوت لاهث من الخوف وهى تهز رأسها إيجابا بسرعة: حاضر حاضر.
قادت السيارة باضطراب، تتبع تعليماتهم حتى وصلت إلى مخزن قديم في أطراف المنطقة.
توقفت السيارة، وفتح الباب وسحبت نور إلى الخارج، بخطوات متعثرة على الأرض الخشنة.
تساءلت نور بزعر وهي تتلفت حولها: عايزين مني إيه؟! أنا معملتش حاجة!
دفعها الرجل بعنف وهو يقول : امشي وانتِ ساكتة.
دفعت نحو باب حديدي، فتحه أحدهم، وزجوا بها إلي الداخل حيث كانت الأضواء خافتة، والهواء محمل برائحة غبار قديم.
وفي منتصف المكان كان عزت واقفا، يديه خلف ظهره، وكتفيه ثابتين، ونظره حاد يخترق السكون.
وحينما رأته تجمدت نور مكانها، واتسعت عيناها بدهشة ورعب.
وقالت بنبرة ملتاعه وخوف: ع… عزت باشا؟!
اقترب منها خطوة، وقال بلهجة ثابتة لا تحمل أي شفقة: بصي يا نور أنتِ بتدوري على نانا صح؟ هي صاحبتك وحقك تقلقي عليها، بس من رأيي تبطلي تسألي كتير وخليكي في حالك أحسن.
نور بتوتر وهى تنظر من حولها: حضرتك تقصد إيه؟! انا مش فهمه حاجة؟!
رفع عزت حاجبه، وصوته ازداد برودة كحد السيف: أصل لو مبطلتيش تدوير عليها، هتلاقي نفسك بتدوري على ابنك و جوزك كمان اللى اختفوا في ظروف غامضه، ومحدش عارف راحوا فين، ايه رايك؟!
ارتعشت نور، وقالت بتوسل وخوف: لأ لأ، ابوس ايدك يا باشا، ملكش دعوة بابني وجوزي، أنا مش بدور على حد، وحاضر مش هسأل عليها تانى، بس ملكش دعوة بابنى وجوزي.
أشار بيده بحركة خفيفة للرجال وقال وهو ينظر في عينيها بتهديد خطر: طول ما أنتِ ساكتة هيفضلوا بخير، بس ولو فتحتي بوقك، هتتحسري العمر كله عليهم، واضح ولا أعيد تانى؟
هز رأسها بسرعة وبكاء: واضح يا باشا، حاضر والله حاضر، مش هسأل عنها ولا هجيب سيرتها تانى.
ابتسم عزت ابتسامة جانبية باردة: شطورة يا نور،
يلا روحي بقي على بيتك، واعتبرينا متقابلناش.
هزت راسها بسرعه برعب: حاضر يا باشا، بس بالله عليك، اوعى تأذي جوزي وابني.
أشار لها نحو الباب ببرود، فخرجت مسرعة بخطوان متعثرة، ودموعها تهبط بلا توقف، والخوف يلتصق بها كظل ثقيل.
حين اختفى صوت خطواتها، انقلب وجه عزت لابتسامة خبيثة وهو يوجه أوامره ببرود وجبروت لرجال.
عزت بغلظة لرجاله: خلوا عينكم عليها، ولو عملت أي مشكلة؟ أو فكرت تلعب بديلها، خلصوا عليها فورا
قصر الراوى، السادسة والنصف مساء
غرفة ياسين وهبة.
جلس ياسين على طرف الفراش وهو يبحث داخل درج الكومود على دواء للبرد، لم يجده فزفر بإختناق، وفتح درج آخر خاص بهبة، فوجد بداخل بعض عبوات، قلب بينها لعله يجد دواء مناسب يأخذه، وفجأة وقع أمامه شريط دواء يعرفه جيدا، فقبض عليه بشدة حتى برزت العروق في كفه.
خرجت هبة من الحمام مرتدية بيجامتها، وهي تقول:
إيه دى أنت لبست؟ طب عشر دقايق وهبقى جاهزة للعشا، أنا عارفة إن الهانم مواعيد العشا عندها مقدسة.
توقف ياسين فجأة، وألتفت إليها بعينين متقدتين، ورفع ما في يده أمامها، وهو يتساءل بغضب مكتوم، باتساع بؤبؤ عينه الذى غام بسواد خطر: إيه البرشام دى يا هبة؟؟
نظرت له هبه بارتعاش، واتسعت عينيها بتوتر أخفي ملامح وجهها وهي تنظر لما يحمله بين يديه..
استووووووب
ملحوظه
استنوا باقي الحلقه يوم الأحد القادم.
تفتكروا البرشام دى ايه؟
ورد فعل ياسين هيبقي إيه ؟!