
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الثامن 8 ج2 بقلم ليله عادل
تأملته ماسة بعينين تائهتين يختلطان بالحزن والغضب، ثم ردت بفتور: انا مش عايزاك تعتذر، ولا عايزاك تدبح حد، أنا حكيتلك عشان تفهم أنا ليه تعبانة وليه ساكتة، ووجودى هنا علشان عايزة أحمي مصطفى وأهله من اذيتك، وحكيت علشان تعرف قد إيه الناس دي وقفوا جنبي ولولاهم أنا كان ممكن أكون مت.
تجمد سليم في مكانه، ثم ارتفع صوته، وهو يحاول إقناعها: هو أنتِ ليه فاكره اني ممكن أذي أهل مصطفى؟! والله ماكنت ناوي ولا فكرت فيها حتى، بس بعد اللي قولتيه حياتهم بقت أمانة عندي، دى انا افديهم بحياتي يا ماسة، أنا لا يمكن أذي الناس اللي حافظوا عليكي، اللي حافظوا لي على ماسة
هزت رأسها ببطء، وصوتها يحمل شك لا ينتهي: مش قادرة أصدقك.
انخفض صوته، وخرجت الكلمات محملة بالمرارة: عشان لسه زعلانة، ولسه خايفة منى.
صمتت ماسة لحظة، ثم قالت بنبرة متعبة: انا مش عايزة اتكلم اكتر من كده، مش عايزة افتكر الايام دي تانى، كفاية كده.
اقترب سليم خطوة، لكنها رفعت يدها أمامه لتوقفه، أشار بيديه في استسلام: حاضر، بس انا نفسي تسامحيني ياماسة، نفسي تديني فرصة، مش عارف حتى اطلبها منك ازاي بعد اللي حكتيه، ولا عارف اذا كنت استحقها ولا لا، حاسس إن ده عقاب ربنا ليا، اني اتحرم منك ومن مسامحتك، بس أنا قلبي طمعان في قلبك الابيض إنه يسامحيني ويدينى فرصه أخيره، خلينا نعاتب بعض، خلينا ندي نفسنا فرصة أخيرة.
تنهدت ماسة بعمق ومسحت دمعة على خدها: انا مش عايزة اتكلم بالله عليك، انا مرهقة، واللي سمعته دلوقتي وجعني اوي، خصوصا لما عرفت إن ندى السبب، اتوجعت من جديد، وبعدين حتى لو اتكلمنا، تفتكر السماح سهل زي ما أنت متخيل؟!
هز سليم راسه برجاء: متسامحيش، بس اسمعيني، أنا عايز اقولك على حاجات حصلت.
التفتت بعيدا عنه وقالت بتعب: مش عايزة اعرف، أنا عايزة انام.
ابتسم ابتسامة يائسة وهو يهمس: هتنامي تاني؟
هزت راسها بايجاب وهي تمسح دموعها: ايوه، أنا تعبانة وعايزة انام، مش قولت أنك اتغيرت، وعايز تفهمني بسبب ايه؟! بس انا مش عايزة اسمعك ولا افهم، انا عايزة اشوف التغيرات دي، وريني تغيراتك بالافعال مش بالكلام.
بدات بتحرك بخطوات بطيئة بينما وقف سليم في مكانه، وصوته ينكسر بالانين وهو يقول: معاكي حق، هستنى، هفضل طول العمر مستنى، وفي انتظارك.
واصلت ماسة السير مبتعدة، فيما ظل هو متسمرا في مكانه، فجأة رفع كفه وضرب جذع الشجرة بقوة، فارتد الصدى في الليل كصرخة مكتومة فما سمعه منها كان كفيلا بتمزيق أعصابه وإشعال روحه رغبة في كسر العالم، أدرك أن المسافة بينه وبينها أوسع مما تخيل، كهاوية لا قرار لها، شعر بنار تلتهم صدره، وقلبه يعصر بلا رحمة حتى كاد يتفتت، لم يتخيل أن ماسة حملت كل هذا العذاب، كان يظن أن فراقها أقسى مايمكن أن يعيشه، لكنه اكتشف أن ما مرت به أشد قسوة، وأنه هو الجاني الذي تركها تواجه جحيمها وحدها.
زاد غضبه من نفسه حتى نهش قلبه، أراد أن يمحو أثره من حياتها، لكنه لم يجد طريقا. أي اعتذار أو أسف صار بلا معنى انهمرت دموعه بصمت، حارقة كأنها دماء من جرح غائر، لولا خطيئته في ذلك اليوم، لما كان كل هذا الخراب قد حدث.
عض على أسنانه حتى أوشك أن يطحنها، واشتعلت في عينيه شرارة غضب مكبوت، وفجأة فقد السيطرة على نفسه، اندفع يركض نحو سيارته وقادها بجنون، وكأنه يريد أن يهرب من جلده، من ماضيه، من جريمته.
لمحه مكي وهو يبتعد مسرعا، فركض خلفه محاولا اللحاق به، توقف سليم عند محطة وقود، ترجل بخطوات متعثرة، جسده يرتجف من شدة الانفعال، يده ترتعش وهو يمدها نحو العامل، واشترى بنزينا، بينما مكي مازال خلفه خطوة بخطوة، يتعقبه بسيارته، يراقبه من بعيد بعين قلقة، يتساءل: لماذا توقف عند محطة الوقود؟ ولماذا اشترى هذه الكمية الكبيرة من البنزين؟
أما سليم، فالغضب الأعمى والحزن الغامر جعلاه لا يرى شيئا حوله، لم ينتبه حتى أن مكي يتبعه، وصل إلى فيلتهما القديمة، المكان الذي شهد كل أهوال ماسة، المكان الذي تحول إلى لعنة تطارده.
أخرج جركنين البنزين بيدين ترتجفان، ودخل الفيلا بخطوات متسارعة غاضبه بعين تطلق شرا، صعد إلى الدور الثاني، إلى الغرفة التي شهدت أكبر كارثة يمكن لإنسان أن يمر بها، عيناه مسحت المكان، ورأى شريط الذكريات يعرض أمامه: السرير الذي عاشت عليه العذاب تلك الليلة، الحائط الذي حاول أن يخنقها عليه، الأرضية التي شهدت دموعها وصرخاتها، كل زاوية في الغرفة كانت تصرخ في وجهه: أنت السبب.
بدأ يسكب البنزين بجنون، يرشه على السرير، على الحائط، على الأرض، على كل شيء، ثم خرج إلى الممر وبدأ يسكب على السلالم، ثم إلى الغرف الأخرى، لم يترك ركنا دون أن يغمره بالبنزين، كان كالمسعور، عيناه محمرتان، أنفاسه متقطعه، والغضب يعميه، حتى فقد الإحساس بكل شيء حوله.
أنهى الجركن الأول، ثم أمسك بالثاني وكأن بين يديه خلاصه الوحيد، لم يترك شيئا إلا وغمره بالبنزين، حتى آخر قطرة.
خرج إلى الخارج، وقف يتأمل الفيلا كأنها وحش، عادت إليه لحظة دخول ماسة هذا المكان بعد هروبها: وجهها المذعور، صرخاتها، انكسارها، مشاهد متلاحقة طعنته بلا رحمة، وكأن تلك الليلة لا تنتهي.
مد يده المرتجفة، أشعل ولاعة ورماها، في ثوانٍ التهمت النار الجدران والأثاث، وانفجار هز الأرجاء.
ظل سليم يحدق في النيران، عيناه زائغتان ودموعه تختلط بابتسامة موجوعة. الحريق لم يكن سوى انعكاس لحريق قلبه، غضبه على نفسه وندمه لأنه تركها تواجه الأهوال وحدها.
غطى وجهه بيديه المرتجفتين، لكن صورة ماسة وهي ترتجف لم تفارقه، تطعنه كخنجر لا يخرج. حاول أن يصرخ، لكن صوته انحبس في صدره.
بقي واقفا وسط اللهيب، يتمنى لو التهمته النار كما التهمت المكان وأدرك أن لا خلاص له؛ ذنبه سجنه الأبدي، وقلبه سيبقى يشتعل… حتى آخر نفس.
وهنا اقترب مكي بخطوات مترددة، وصوته منخفض ومبحوح: إللي عملته ده يا سليم مش هو إللي هيشفيك، حرق شويه حيطان مش هيمحي إللي جوه قلبك.
ظل سليم يحدق في اللهيب، وخرج صوته متكسرا: بس على الأقل، أخلص من أكبر ذكرى كانت سبب في دمارنا.
أدار رأسه فجأة نحو مكي، ملامحه ممزقة، وصوته يتقطّع بمرارة: أنت متعرفش هي عاشت إيه؟! حكتلي على كل إللي حصل لها في الست شهور، عمري ما تخيلت إنها ممكن تكون عاشت كل ده، ماسة عاشت في الشارع يا مكي، عاشت تلات أيام بتنام في الشارع، أنت عارف يعني إيه ست تنام في الشارع، لدرجة إن أنا ندمت إن أنا سألتها وعرفت، بس لا أنا استاهل أعرف علشان اتوجع عليها أكثر وأكثر، ده أنا حتى مش عارف اعتذر لها اعتذر لها على إيه ولا إيه..!!
اقترب مكي خطوة، وقال بدعم ومواساه: يمكن مش هتعرف تصلح إللي فات، ولا هينفع ترمم إللي اتحرق، بس تقدر تساعدها إنها تشفى، هي مش هتنسى، بس ممكن تشفى.
ألتفت إليه سليم، وعيناه ملتهبتان بالدموع والغضب، وصوته يخرج مشوشا:تشفى من إيه ولا من إيه يا مكي؟! تشفى من كابوس وتصحى على غيره يطاردها؟! تشفى من ليلة ويفضل ألف غيرها واقفين قدامها؟!
تزلزل صوت سليم وهو يصرخ كأن الكلمات تمزق حنجرته:
أنا السبب في كل ده، أنا آخر واحد ينفع أديها شفا ! شكل هو ده عقابي ربنا ليا، أفضل أبص لها واتمنى تسامح ومتسامحش، أشوف وجعها واتوجع عليها، أشوف خطيئي فيها، وأفضل أندم وألعن نفسي طول العمر.
تقدم مكي خطوة أخرى، وصوته هذه المرة كان حازما:
غلط، هي محتاجة لك دلوقتي أكتر من أي وقت، أنت فاكر إنك لما تحرق فيلا أو تهرب من نفسك كده هتكون بتنقذها؟ بالعكس يا سليم، أنت كده بتسيبها لوحدها تواجه أوجاعها إللي كسرتها.
أشاح سليم بوجهه، والدموع تجري على وجنتيه، وهو يهمس: وأنا إزاي أكون سند ليها وأنا إللي هديت حياتها بأيدي؟ إزاي أبقى أمانها وأنا أول واحد سرق منها الأمان؟
مد مكي يده، وأمسك بذراع سليم بقوة، وقال بصوت قوى: مش هتعرف تمحي إللي فات لكن تقدر تكون حاضر في إللي جاي، صدقني أنت ملكش ذنب، متحملش نفسك فوق طاقتها، الليلة دي مش مسئوليتك، أنت كنت متخدر يا سليم، حتى لو هي عرفت ده ومسامحتش، دى طبيعي؛ لإنها لسة مش قادرة تتخطى، بس أوعى تشوف نفسك مذنب للدرجة دي.
لان صوته قليلا، وهو يحاول التخفيف عنه: من رأيي اتعاملوا الفتره دى كأتنين أصحاب، خدوها ببساطة كأتنين موجوعين، أتنين مرضى محتاجين يشفوا بعض، هي مش محتاجة بطل ينقذها محتاجة تحس إنك فعلا اتغيرت المرة دي، ومش هترجع تاني لطريقتك القديمة.
ثم شدد قبضته على ذراعه: بلاش تخلي النار دي تاكلك، اتعلم من أخطاء الماضي علشان تعرف تعيش حاضر مختلف، وبص قدامك، علشان مستقبلك ميبقاش كله شوك.
ثم ركز النظر في ملامحه، وقال بتأكيد: مش هقولك تاني ماسة محتاجاك جنبها، متحسسهاش إنها لوحدها تاني، خليها تحس بالأمان إللى فقدته.
ارتجف صدر سليم، وصوته خرج مبحوح وهو يردد: عمرى ماهسيبها لوحدها تاني.
أغمض عينيه للحظة، كأن العبارة اخترقت قلبه، ثم فتحهما ببطء، ينظر إلى ألسنة النار التي تلتهم ما تبقى من الفيلا، وهمس كأنه يحدث نفسه: يمكن دي آخر مرة النار دي تحرقني، يمكن أقدر أخليها تشفى حتى لو مش هتنسى زى ما قولت، أنا لازم أعمل المستحيل، لازم أرجع أنا وهي زي زمان، لازم أرجع تاني سليم إللى كانت بتخاف من الدنيا كلها إلا منه، سليم اللى قالتله في يوم أوعى تبقى زيهم.
وضع مكي يديه على كتفه بدعم، فرفع سليم عينه، فقال مكي بعقلانية وتأكيد: بالظبط هو ده إللي أنا عايزك تعمله، وبعدين أنت دلوقتي مشيت في خطوات كثير لازم تعرفها لها، لازم تعرفها إللي حصل في الست شهور معاك أنت كمان.
هز سليم رأسه بصمت، دموعه مازالت تلمع في عينيه، وصدره يعلو ويهبط ببطء كأنه يحاول التقاط أنفاسه لأول مرة من زمن بعيد.
فيلا سليم وماسة
غرفة النوم
جلست ماسة على حافة الفراش، ودموعها تغمر عينيها، والقلب المرهق يعصره الألم، الصداع يدق في رأسها كالطبال، ونيران الذكريات تحرق قلبها، امتدت يدها إلى الكومودينو تبحث عن مسكن، جلست ماسة على حافة الفراش، الدموع تغرق عينيها والقلب المرهق يعصره الألم. الصداع يدق في رأسها كطبول حرب، فيما نيران الذكريات تواصل التهام قلبها.
مدّت يدها المرتجفة نحو الكومودينو تبحث عن مسكّن، لكن بصرها سقط على خاتمها. قبضت عليه بدهشة، رفعت حاجبها وهمست: "إيه جابه هنا ده؟!"
لم تطل التفكير، ارتدته على عجل وعادت تبحث فتحت الدرج، وبينما كانت أصابعها تلامس شريط الدواء… جمدت مكانها.
هناك، في الزاوية، كان يرقد هاتفها القديم. هاتف ظنت أنها دفنته مع ماضيها… لكنه عاد الآن ليطل عليها كأشباح الليل.
تجمدت لحظة، نظرت إليه بإستغراب كيف تركه سليم هنا؟ إلتقطته بيد مرتعشة، ضغطت زر التشغيل، فإذا به يضيء أمامها وكأنه لم يغب لحظة، البطارية مشحونة بالكامل.
ازدادت علامات الاستفهام على وجهها، مدت يدها لتفتح بيانات الهاتف، وما أن أتصل بالواي فاي حتى انهارت الإشعارات بسرعة هائلة، كأنها سيل لا ينتهي، رسائل لا تُحصى، عبر الواتساب والرسائل القصيرة، كلها باسم واحد (كراميل)
ارتجفت أصابعها، وكادت تتراجع، لكنها لم تستطع، لم تكن قادرة على فتح كل هذا الكم دفعة واحدة، كأن الهاتف يئن من ثقل الشوق المتكدس فيه، وبعد لحظات من التردد، قررت فتح أول محادثة، فاستقبلتها الكلمات كطعنات متتابعة:
"أخاف أن تشرق شمس الغد ولا أسمع صوتك، أخاف أن يطول غيابك أكثر."
"كل الطرق بلا عينيكي مظلمة، وكل الأيام بغيرك عابرة بلا روح."
"أمضي يومي أبحث عنك في كل تفصيلة، في ظل على الحائط، في نسمة هواء، لكن لستي هنا."
"أرجوكي، إن كنتي بخير، فامنحيني علامة واحدة فقط."
"أكتب إليكي كأنك ستقرئين غدا، لعل كلماتي تصل قلبك قبل عينيك."
"قلبي لم يعرف الخوف إلا حين اختفيتي."
"أشتاقك حد الألم، وكأن جسدي يئن لأنك لستي بقربي."
"حتى الأحلام لم تعد تنصفني، أراكي فيها وتغيبين قبل أن ألمسك."
"أتعلمين؟ أحاديثي معك لم تتوقف، أنا فقط أحدث صمتك الآن."
كانت تقرأ الرسائل بألم يمزق أحشائها، كل كلمة تنغرس كخنجر في صدرها، كل حرف يلسع قلبها بجمرة حارقة، ارتجفت يداها وهي تقبض على الهاتف بعجز، أصابعها ترتعش كأنها لم تعد تملك القوة لتحمله، انهمرت دموعها بلا هوادة، والآهات تتكسر في صدرها مكتومة، كأنها سجينة لا تجرؤ على الخروج.
ثم انطلقت أول رسالة صوتية، صوته تخلل الغرفة خافتا، مبحوحا، يقطع أوصال قلبها:
ماسة أنا عارف إن التليفون مش معاكي، بس ببعتلك عشان يوم ما ترجعي وتفتحي، تسمعي وتعرفي أنا كنت موجوع قد ايه، مش عايش من غيرك، إللي مخليني لسة بتنفس، إحساسي إنك بخير، أو يمكن يقيني إن قلبك لسة عايش معايا، أنا قولتلك قبل كده: قلبي هيقف في الثانية إللي قلبك هيقف فيها، ومادام قلبي لسة بينبض، يبقى قلبك لسة بينبض معايا، وحشتيني أوى، الليل مبيعديش، الثواني بقت ساعات، والساعات بقت شهور، أنا موجوع أوي، ومحتاجلك أوي.
جاءت رسالة أخرى بصوت يقطر وجعا: أنا مش عارف أعيش من غيرك والله مش عارف، حتى الأكل مش قادر آخد لقمة من يوم ما اختفيتي.
ثم فويس باكي قصير: وحشتيني.
أخذت ماسة تستمع وتقرأ الرسائل، وكل كلمة كانت تخترق قلبها، الوجع يفتك بها، والدموع تنهمر بلا توقف، صوته، نبرته، رجاؤه، وحنينه، وشوقه كلها كانت تقتلها، تارة تبكي، وتارة تبتسم بلا وعي، مشاعرها متشابكة، لا تفهمها، ولا تستطيع السيطرة عليها.
كانت تحاول أن تبقى صلبة، أن تكون قوية، أن تتحكم في قلبها الذي يركض وراءه في كل مرة يشعر فيها بالحزن، لكنها لم تستطع، كل رسالة كانت تضيف ثقلا آخر على صدرها، كل كلمة منه كانت تجعل قلبها ينهار شيئا فشيئ، رغم رغبتها في عدم التأثر والاستسلام للشوق.
عدد الرسائل كان هائلا، يبدو أن سليم لم يترك يوما إلا وأرسل لها رسالة أو أكثر: عن شوقه لها، عن عذابه، حزنه، وحتى تفاصيل يومه، كل رسالة كانت كجسر من قلبه إلى قلبها.
لم تستطع ماسة أن الصمود أكثر، فانفجرت تبكي، دفنت وجهها في الوسادة، تبكي بلا توقف، كانت تحاول الهروب من الشوق، من الحنين، من الوجع، ومن السؤال الذي يفتك بها منذ أشهر: كيف مازلت تحبه بعد كل ما فعله بها؟ كيف تستطيع أن تشعر بهذه المشاعر تجاهه رغم عدم شعورها بالأمان؟ كيف يمكن أن يجتمع الحنان مع الخيانة، الحب مع الألم؟ أم أنها فقدت كل كرامتها لتصل الأمور إلى هذا الحد؟
كانت دموعها تبلل الوسادة، وكل تنهيدة منها كأنها تصرخ في قلبها، تحاول أن تفهم، أن تتصالح مع مشاعرها، لكنها لم تجد جوابا، كل شيء متشابك داخلها: الحب، الغضب، الحيرة، الألم، الشوق، كل مشاعرها تصارع بعضها بلا هوادة، وتتركها منهارة على فراشها، عاجزة عن الصمود أمام قوة ما سمعته ورأته.
في قصر الراوي، السابعة مساء
السفرة.
كانت العائلة كلها ملتفة حول مائدة العشاء، حضر الجميع بأبنائهم، ولم يغب سوى سليم، وبالطبع صافيناز وعماد، إذ اعتادوا عدم مشاركة العائلة العشاء إلا عند الضرورة.
وبينما كان الضحك والأحاديث الجانبية تملأ الأجواء، ضرب رشدي بالشوكة على الكوب الزجاجي، ليلفت الانتباه قائلا بجدية مفتعلة: ممكن تركزوا معايا شوية؟
ارتفعت العيون نحوه، وسأله عزت ببرود وهو يتكئ على كرسيه: خير يا رشدي، عملت مصيبة إيه المرة دي؟
ضحك رشدي بسخرية وهو يهز رأسه: هو أنا لازم كل مافتح بقي تبقى مصيبة!؟
رفعت فايزة يدها بإستهزاء وهي تضحك: هو أنت بتعرف تعمل حاجة غيرها؟
صمت رشدى لحظة، ثم قال بهدوء مفاجئ: لا المرة دي هتجوز..
تابع بنبرة استخاف: وهجيبلك رشروش صغير يا فوفا، عشان يقول لك يا تيتة فوفا، ويكمل مسيرة أبوه في المصايب.
ساد صمت ثقيل، حتى الأبناء تبادلوا النظرات بدهشة، الجميع يعرف طباع رشدي، وأنه لا يأخذ شيء على محمل الجد بسهولة.
لحظة قصيرة مرت قبل أن تنفجر فايزة بضحك عالي، تبعها عزت، ثم انضم باقي الجالسين، وحده ياسين ظل ساكنا، ينظر إلى رشدي بعينين متيقظتين لأنه يعرف أنه جاد.
مال رشدي برأسه، وهو يقول بنبرة استخفاف حادة: هو أنا قولت نكتة جامدة كدة؟ ولا بزغزغكم؟ ولا الأكل مرشوش فيه حتة بميه؟
تابع هو يتحدث بنبرة جادة رجولية: أنا مبهزرش، أنا بتكلم جد، هتجوز، وهجيبها لكم تتعرفوا عليها بس عايزكم تبقوا مؤدبين وقتها، عشان أنا كمان أبقى مؤدب أنتم عارفيني، لما بتهب، بتهب.
انحنى عزت للأمام وسأله بإستهزاء: ودي عرفتها في أنهي نايت كلب؟ ولا عند أنهي ديلر؟
حاولت فايزة كتم ضحكتها بكفها: وياترى أبوها شغال إيه بقى؟ تاجر مخدرات؟ ولا سلاح؟ ولا تجارة أعضاء؟
ألقى رشدي بجملة لاذعة مستخفة وهو يمسح فمه بمنديل الورق: لا يا فايزة أبوها تاجر كوكتيل، هاهاها.
ضحك طه وتناول مافي شوكتة: رشدي أكيد بيهزر أو متقل في الشم المرة دي.
شد رشدي ملامحه، ورفع حاجبه بجدية: لا بتكلم جد، هجيبها يوم الأربعاء، وأنتِ بنفسك ياهانم هتطلعي تستقبليها أنتِ وفريدة.
سخرت فايزة وهي ترفع صوتها: أنا أستقبلها؟ أنت اتجننت؟
ابتسم رشدي ببرود وهو يتكئ للخلف: أيوة هتستقبليها على البوابة، وأظن أحسن لنا يعني نسمع الكلام.
ثم رفع عينيه نحوها بنظرة تهديد وهو يبتسم: ده أنا حتى هقول لسليم يحضر علشان أعرفه عليها.
تبدل وجه فايزة، واشتعل غضبها: مش هتبطل الوقاحة والأسلوب القذر بتاعك ده؟
رفع رشدي حاجبه متحديا: وأبطلوا ليه؟
تدخل عزت وهو ينظر له بريبة: وليه مهتم اوي كده إننا نستقبلها على البوابة؟
ابتسم رشدي وهو يميل للأمام: هتعرفوا، لما تشوفوا.
قاطعه عزت بأنفعال: أنت عايز والدتك وأختك يروحوا يستقبلوا واحدة من الأشكال إللي أنت تعرفها؟
ضحك رشدي باستهزاء، وهو يلوح بيده: ما إحنا استقبلنا قبل كده الخدامين عشان المصلحة، والمرة دي هتستقبلوا ضيفتي علشان أنا أكون مؤدب وهادي، بس لو حد دماغه وزته يستخف دمه ويرمي كلام سخيف زى رشدي الفاشل، المدمن.. ويقل مني قدام ضيفتي، يبقى ميلومش غير نفسه، البنت دي أنا هتجوزها، فلسانا يتحط جوة بقنا، علشان أنا كمان بعرف أقول على مين خروف، وعلى مين حربوق، وعلى مين بومة، عندي أسامي حلوة ولطيفة اوي ليكم هتعجبكم، بس مش مستاهله نطلع كل قاذورتنا قدامها من أول يوم.
تعجب عزت بتهكم: أنا عايزة أفهم هو أنت ماسك علينا ذلة ولا إيه؟ إيه الطريقة إللي بتتكلم بيها دي!
رشدي بهدوء وثقه: ولا ذله ولا حاجه يا والدي العزيز، إيه المشكلة يعني لما أطلب إن ضيفتي تيجي هنا وتستقبلوها بإحترام، ولإني عندي سبب مهم جدا، بطلب من فايزة، مراتك، أمي حبيبتي، إنها تستقبلها هي وأختي عند البوابة؟ ده أول طلب أطلبه منكم في حياتي كلها، حاولوا تتنازلوا مرة، وافتكروا إن أنا ابنكم، وليا حق، إنكم تستقبلوا ضيوفي بالطريقه إللي تناسبهم.
صمت عزت للحظة، وهو يرمقه بنظرة متفحصه:خلاص يا فايزة، أعملي له إللي هو عايزه أما نشوف اخرتها معاه.
ثم تابع بتحذير: بس اسمع لو طلعت واحدة من الأشكال إللي شبهك متزعلش من ردة الفعل.
ابتسم رشدي وهو يلوح بقبله في الهواء: شكرا يا حجوج!
ثم تابع باستهزاء: أبقى قول لأختي الحربوقة تحضر، علشان مراتي المستقبلية تشوف قد إيه احنا عيلة مترابطة وبنحب بعض.
ضحكت هبة بسخرية على كلمته، فانتبه لها رشدي معلقا بسخرية: معلش دي نكتة سخيفة، بس نحاول نتحمل بعض يا هبهوب.
ابتسم رشدي وبدأ يتناول طعامه بهدوء، بينما كان الجميع يتبادلون النظرات في صمت، لم يجرؤ أحد على الكلام، فهم يدركون جيدا أن من يحاول الحديث مع رشدي قد يندم؛ فهو سليط اللسان، وكما يقال: لا تجادل السفهاء.
في الحديقة العلوية
جلس رشدي وياسين معا في أجواء أخوية، فقد أصبحا مقربين لبعضهم البعض في الفتره الماضيه.
ابتسم ياسين بعدم تصديق وقال: مش مصدق إنك اخدت خطوة بجد مع مي، مش كان اسمها مي؟
ابتسم رشدي بسعادة: أنا كمان مش مصدق، حاسس إحساس حلو جدا، مش قادر أفهمه لكنه حلو.
ياسين بعقلانية: أنت برضه لسه مش بقالك معاها كتير، مع الوقت هتبدأ تفهم أكتر حقيقة مشاعرك.
وأشار بيديه بتحذير: بس مش هقولك تاني يا رشدي، لو البنت زي ما أنت حكيت، بلاش لعب يعني لو خطوة إنك تعرفها على العيلة وتجيبها هنا، لعبه بتلعبها عليها بلاش وسيبها في حالها.
رشدي بصدق: والله العظيم لا، أنا بجد حاسس معها بحاجة حلوه، حاجه شداني ليها زى المغناطيس أنا حتي مش عارف أوصفها ولا اسميها، وأنا بتعامل معاها بصدق مش بلف وادور عليها، كل الحكايه إنها عايزة نتعرف على بعض في إطار رسمي، وأنا حبيت يعني أعرفها عليكم، وهي مش عايزة تيجي وتدخل غير لما حد يستقبلها عند البوابة الأول، علشان خايفة.
ياسين بابتسامه: خلاص، هكلمهم وأقولهم إن البنت مختلفة.
قاطعه رشدي بثقة: أنا مش عايزك تقول حاجة؟! أنا عايزها تبقى مفاجأة.
ثم تابع بمراره ووجع: أنت بس قولهم يحترموني قدامها ويبطلوا يقلوا مني.
ثم تابع بنبرته الساخره: ومراتك كمان خليها تفرد وشها احنا مش قاتلين لها قتيل.
ابتسم ياسين وهو يقول بسخرية: أقولهم يحترموك قدامها دى مقدور عليها، لكن هبه تفرد وشها دي صعبه؟!
رشدي بضجر: مراتك دي فظيعة من ساعة ما اتجوزتها وهي مش طايقة حد فينا، خصوصا أنا، عندها كره ليا فظيع، يمكن محصلش بينا كلام كتير، بس نظراتها ليا مريبة، وكل ما أجي ألعب مع نالا تقولي: "أصلها نايمة، أصلها مش عارفة إيه.." لحد ما خلتني في مرة زهقت منها وقولتلها: "غروي في داهيه أنتِ وبنتك أنتِ هتقرفيني ليه"
وسرعان ما تدارك نفسه، ونظر لياسين باعتذار: سوري يا ياسين
ضحك ياسين ساخرا: سورى بعد ايه بقي، وبعدين مش ممكن رشدى بيعتذر!؟ من امتي؟!
ضحك رشدي: يعني بحاول اتغير، بشتغل على نفسي، بس سيبك الأسيستنت بتاعك الجديد مزه الصراحة، أحلى من مراتك البومه.
ابتسم ياسين وتلألأت عيناه: لوجين؟
غمز رشدي مازحا: إيه ده إحنا عنينا بتلمع والفراشات بتطير حوالينا كده ليه؟! الصنارة غمزت ولا إيه؟!
ياسين بإستهجان: يا عم بلاش هبل، هي بس بنت كويسة وبقينا أصحاب.
رشدي ضاحكا: عموما، معنديش مشكلة تبقى دي مرات أخويا الجديدة بدل مراتك البومه.
ثم اقترب منه وقال بجديه وصوته خرج خافتا: بقولك ايه، أنا عايز أقول لسليم يبقى موجود.
ياسين بابتسامه تشجيع: قوله بكرة بعد الاجتماع، وخليه يجيب ماسة، حاول تقنعه وصلح علاقتك بيه سليم كويس والله.
هز رشدي رأسه موافقا، ثم شرد قليلا، لقد نسي أمر ماسة، أو تظاهر بالنسيان، كأن ما فعله بها لم يكن سوى لحظة عابرة أسقطها عمدا من ذاكرته، لكن ما أن ذكر ياسين اسمها، ارتجف داخله كمن أيقظ ضميره من سباته، تجمد لثواني، وتجنب النظر لياسين، محاولا إخفاء اضطرابه بإبتسامة باهتة، فتنهد ولم يجد مايقوله سوى كلمة مقتضبة خرجت من بين شفتيه: ماشي.
قالها وهو يعلم في أعماقه أن سليم لن يستطيع احضارها معه، وفي تلك اللحظة أدرك أن ما حاول دفنه داخله سيعود ليقف أمامه من جديد.
فيلا سليم وماسة، الثانية عشر مساء
عاد سليم إلى الفيلا الجديدة بعد الحريق الذي ألتهم الفيلا القديمة، كان الوجع يثقل قلبه، وكأن الحطام الذي تركه وراءه تبعه حتى هنا.
صعد إلى الطابق الثاني بخطوات ثقيله، وحين مر أمام غرفة ماسة، لمح الضوء يتسرب من أسفل الباب، فتوقف لحظة بتردد بين أن يدخل أو يغادر.
في الداخل، كانت ماسة جالسة على الفراش، تضم قدميها إلى صدرها، ودموعها تنساب بلا توقف، سمعت وقع خطواته قريبا من بابها، فشهقت بصمت، وشدت نفسها أكثر، وأغمضت عينيها بقوة، وهي تخاطب نفسها "أمشي متفتحش مش عايزة أضعف أمشي" فهي كانت تخشي أن تضعف أمامه بعد تلك الرسائل.
ظل سليم واقفا أمام بابها، يمد يده إلى المقبض ثم يسحبها، كأن بينه وبين الغرفة جدارا لا يكسر وأخيرا، تنفس بعمق، وأكمل طريقه إلى غرفته.
غرفة سليم.
دخل وجلس على الفراش، يطوي رأسه بين يديه، يهمس في داخله "كيف أسترجعها؟ كيف أمسح ما فعلته بيدي؟
أما ماسة، ففتحت عينيها الغارقتين بالدموع، وتنهدت قبل أن تدفن وجهها بين ركبتيها وتترك بكاءها يملأ الغرفة.
تقريبا لم يذق كل من ماسة وسليم طعم النوم في تلك الليلة، كانت ليله طويلة وثقيلة، يختلط فيها الليل بالصمت حتى بدي وكأن عقارب الساعة توقفت.
مع حلول الصباح، لم يذهب سليم إلى المجموعة رغم المكالمات المتكررة، خاصة من رشدي، الذي ألح باتصالات متكرره للقاؤه والحديث معه عن مي والعشاء المقرر في الغد.
كان سليم مستلقيا على ظهره، يحدق في السقف بعينين مثقلتين بالحزن، ومع إصرار رشدى ورناته المتتاليه، اضطر سليم للرد أخيرا، فالتقط الهاتف ببطء، وأجاب بصوت مبحوح يقطعه تعب واضح: إيه يا رشدي، في ايه لكل دى؟
جاءه صوت رشدي مليئا بالحيوية من مكتبه في المجموعة: إيه يا أمير، فينك؟
أغمض سليم عينيه لثواني، ثم قال بفتور: عايز إيه؟
رشدي بنبرة ساخرة: غايب عننا بقالك كتير في حوار كده محتاجك فيه.
سليم بإقتضاب: مش جاي النهاردة؟
رشدي بهدوء: مش مشكلة، قولي أنت فين وأنا أجيلك.
سليم متعجبا: عايز إيه يعني؟
صار صوت رشدي أكثر جدية: عايزك في موضوع أخوي.
ضحكة قصيرة ساخرة خرجت من بين شفتي سليم وهو يتمتم: موضوع أخوي، بينا؟
رشدي ضاحكا: آه والله يا سولم.
زفر سليم طويلا، وصوته خرج أخفض من ذي قبل: مش عارف يا رشدي، هشوف كده، هو مينفعش الموضوع دى يتأجل بعدين؟
رشدي بإصرار: لا لازم نتقابل النهارده، شوية كده وهكلمك، باى.
أغلق سليم الخط ورمى الهاتف بجانبه، جسده ثقيل لكن قلبه أثقل، نظر إلى باب غرفة ماسة المشترك بينهما، كأنه يتمنى أن يفتح فجأة، وتظهر وتمنحه ابتسامة صغيرة قادرة أن تنعش روحه الذابلة،لكن الباب ظل صامتا.
أما ماسة، التي سمعت المكالمة، لم تبدِ اهتماما، ونهضت بخطوات ثابتة، دخلت الحمام لتغتسل من بقايا الليل.
أما سليم، فمد يده ببطء إلى الهاتف مجددا، وصوته هذه المرة بدا كسيرا، متوسلا: أيوه يا دكتور، عارف إن جلستي بعد يومين، بس أنا محتاج أجيلك النهاردة.
جاءه صوت الطبيب هادئا صارما: سليم، مش ده الإتفاق، لازم نلتزم.
أطبق سليم جفونه بقوة، وقال بنبرة استعجال وارتباك انكسرت في صوته: مش هينفع، أنا لقيت ماسة.
ساد صمت قصير على الطرف الآخر، ثم جاءه صوت الطبيب أكثر جدية: ماشي، هستناك الساعة سبعة.
أزاح سليم الغطاء عن جسده، وجلس على حافة السرير، وخرخ صوته ضعيفا: خليها بدرى عن كده، أنا تعبان.
الطبيب بتساؤل: أنت أخدت حاجة مهدئة؟
سليم: لأ.
الطبيب: كويس، خلاص خليها خمسه.
أغلق سليم الهاتف والقاه بجانبه، ثم مرر كفه على وجهه المتعب وزفر بقوة، ونهض بخطوات ثقيله وتقدم نحو الجرموفون ووضع الأبرة على الاسطوانة، فانطلقت أغنية لعبدالحليم حافظ "حاول تفتكرني"، تمزق جدار الصمت الثقيل.
في تلك اللحظة، خرجت ماسة من الحمام، ترتدي برنص أبيض، وقطرات الماء تتساقط من شعرها، جلست أمام المرآة، بدأت بتصفيف شعرها ببطء، وفجأه اخترقت صوت الأغنيه قلبها دون استئذان، كأنها خرجت من داخله لا من جهاز قديم، وضعت يدها على صدرها، تنهدت بغصة حاولت أن تخفيها بعينين ترقرق بدموع.
أما سليم فوقف عند الشرفة، سيجارة مشتعلة بين أصابعه، يحدق في الأفق بعينين شاردتين، والأغنية تنطق بما عجز هو عن قوله، تكشف جرحه العميق دون رحمة.
(كلمات الأغنية)
أنا إللي طول عمـــــري باصــــــــــــدق كلام الصبر في المواويــــــــــــــــل
وأنا إللي طول عمــــــــري با أقول الحب عمره طويـــــــــــــــــــــــــــــــــل
من كتر ما كان الحب واخدنــــــا وكل حلاوة الدنيا في إيدينــــــــــا
ولا فكرنا زمان يعاندنــــــــــــــا ولا أيام تقدر تبعدنـــــــــــــــــــــا
وعشنا الحب بالأيــــــــــــــــــام وكل بكرة فيه أحــــــــــــــــــلام
واتـــــــاري كل ده أوهـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــام
وســــــــــــافر مـــــن غير وداع فـات في قلبي جراحـــــــــــــــــــه
دبت في ليل الســـــــــــــــــــهر والعيون مـــا ارتاحــــــــــــــــــوا
ومنين نجيــــــــــــــب الصـــــــــــــــــــــبر ياهل الله يداوينــــــــــــــــــا
إللي انكــــــــــــــــوى بالحـــــــــــــــــــــــــب قبلينا يقول لينــــــــــــا
حبيبي.. والله لســــــــه حبيبي والله وحبيبي .. مهما تقســـــــــى حبيبي والله
حبيبـــــــــــــــــــــي .. عمري ما انســــــــــــــــــــــــــــــى حبيبي والله
لو مريت في طريق مشينا مرة فيه أو عديت بمكان كان لينا ذكرى فيه
أبقـــــــى إفتكرنــــــــي .. حاول تفتكرنـــــــي .. دي ليالي عشــــــــــناها
أبداً مــــــــــــــــــــــــــــش ح أنســــــــــــــــــــــــــــــــاها
على بالي يا حبيبي على بالـــــــي على بالي أيام وليالي يا حبيبـــــــــي
على بالي ليــــــــــــــل ونهـــــــــــــــــــار وأنت على بالــــــــــــــــــي
ظلا يستمعان إلى الأغنية، وكأنهما يسترجعان الماضي بذكرياته الجميلة التي تتسلل إلى قلبيهما، فتدمع أعينهما شوقا، وتمتلئ أرواحهم بحنين جارف إلى تلك الأيام التي خذلتهما، وقادتهما إلى ما هما عليه الآن
بعد وقت..
هبطت ماسة إلى الأسفل بعد أن بدلت ملابسها، وقد ارتدت فستانا قديما من الذي كانت تحبهم فيما مضى، بدت خطواتها هادئة وملامحها مترددة، كأنها تحمل فوق كتفيها ثقلا خفيا.
ابتسمت سحر فور أن رأتها وقالت: صباح الخير يا بنتي.
أجابت ماسة بصوت منخفض: صباح النور.
سألتها سحر بحنان: أعملك الفطار؟
ماسة بابتسامة خفيفة بالكاد ترى: يا ريت، أنا جعانة أوي، هقعد في الجنينة لحد ماتخلصي.
سحر وهي تتحرك نحو المطبخ: ماشي، هعملك فطار أنت وسليم بيه كمان، علشان مأكلش من امبارح.
هزت ماسة رأسها من دون تعليق، واتجهت إلى الجنينة، جلست أمام النيل، وعينيها معلقتان بالجزيرة الصغيرة التي تقبع وسط الماء، كأنها ترى نفسها غارقة في المنتصف لا تعرف أي ضفة تقصد،
في الأعلى، كان سليم واقفا في الشرفة يراقبها بصمت، عيناه مثقلتان بالقلق، ظل واقفا حتى نادته سحر إلى الفطور، فهبط بخطوات ثقيله.
السفرة
جلسوا حول السفرة، حاول سليم أن يكسر الصمت بإبتسامة صغيرة: وحشني فطارك يا سحر، خصوصا البطاطس بالزبدة إللي بتعمليها.
ضحكت سحر: ألف هنا يا بيه.
ألتفتت إليها ماسة تتساءل: بنت أختك الرغاية فين صحيح؟!
سحر موضحة: اتجوزت، أمها جوزتها وهي حامل دلوقتي.
اتسعت عينا ماسة، وأنفلت صوتها بإندهاش: يا ما شاء الله! إيه ده، هو أنا غبت كل ده؟ دول ست شهور بس!
ردت سحر وهي تهز كتفيها: ربك خلق الدنيا في ست أيام، وأنتِ غبتي شهور، حصلت فيهم حاجات كتير، ربك قادر يبدل من حال لحال في دقيقة.
زفرت ماسة بحزن: عندك حق، ونعم بالله.
سحر بتساؤل: عايزين حاجة تاني؟
أشار سليم بيده قائلا: شكرا يا سحر، اتفضلي ارتاحي أنتِ.
انصرفت سحر، نظر سليم إلى الخاتم بين أصابعها باستغراب، وقال بنبرة خفيفة: لبستيه تاني يعني؟
رفعت ماسة حاجبها، تمرر أناملها على الخاتم وكأنها تستعيد شعوره: عادي، أنا أصلاً ماقلعتوش غير عشان محدش يشك فيا، لأنه غالي بس هو وصل هنا إزاي؟
ابتسم سليم بهدوء، وشرح بصوت واثق: عادي لما كنت بستناكي، طلبت من عائشة تطلع تجيب كل حاجتك، حطيتهلك من امبارح قبل ما تصحي.
أطرقت ماسة رأسها بهدوء، وأومأت بإيجاب صامت، كأنها تستسلم للحظة دون جدال ثم اكملا طعمها، ولم يلبث أن رن هاتف سليم، نظر إليه بتعجب فهو رشدي فتجاهله دون رد، بينما عيني ماسة ثبتت عليه بترقب صامت، وهو يتناول قرصا من الدواء وشربه.
ماسة بضيق: متقفل تليفونك بقى أو رد؟ إيه الازعاج ده؟
زفر سليم وهو يجيب بصوت مبحوح: ده رشدي عايز يقابلني، بيقول محتاجني في حاجة ضروري، معرفش عايز إيه.
رفعت ماسة حاجبها: آه أنا سمعت الصبح إنه كلمك كتير، متروح تشوف عايز إيه.
سليم ببرود: سيبك منه.
نظرت إليه بإستغراب: ليه تسيبك منه؟ متشوف عايز إيه؟! هو عارف إني رجعت؟
خفض سليم بصره إلى طبقه، وأجاب بجدية: محدش كان عارف أصلا إنك مشيتي، محدش يعرف أي حاجة عن إللي حصل بينا، حتى صافيناز، بعد ما عاقبتها، متعرفش التفاصيل.
صمتت ماسة لحظة، ثم قالت: خلاص، روح شوفوا عايز إيه.
مال سليم برأسه تجاهها، وقال بصوته الهادئ: مش عايز أسيبك لوحدك، أنا ماصدقت لقيتك، أنتِ وحشاني.
ماسة بابتسامة: لا معلش، روح شوف هو عايز ايه.
هز سليم رأسه إيجابا، وهو يرفع يده إلى جبينه في حركة تلقائية، فتراجعت ماسة فجأة للوراء، وكأنها تتوقع صفعها !!
تجمد سليم في مكانه، وانقبض قلبه، واتسعت عيناه بدهشة وهو يتساءل: مالك؟
أخفضت ماسة رأسها بصمت، وأخذت تواصل تناول طعمها بسرعة وارتباك: مفيش.
ظل يراقبها بصمت، يتوسل في داخله أن يكون قد أخطأ الفهم، وأن رعشه عينيها ليست خوف منه، بل مجرد وهم يطارده.
، ثم تنهد، وقال بنبرة خافتة: مش عايزاني أجيبلك أهلك؟
رفعت عينيها بحدة: لا.
تألم صوته وهو يهمس: موحشوكيش؟
اغرورقت عيناها بالدموع: وحشوني أوى، بس أنا مش مصدقاك، مش مصدقة الهدوء، والسكينة، والأغاني على الصبح، مش مصدقة أي حاجة، إيه إللي يضمنلي إنك مش هتجيبهم هنا وتأذيهم؟
سليم بحرارة: لو كنت عايز أذيهم، كنت عملت ده وأنتِ هربانه!
هزت رأسها وقالت بنبرة مرتجفة: لأ، أنت بنفسك قولتلي قبل كده، أكتر حاجة ممكن توجع حد إنك تديه الأمان وتحسسه إن مفيش حاجة هتحصل، وفجأة تطعنه، وأنا حاسة إنك بتلعب معايا نفس اللعبة دي، عايزني أصدق إنك اتغيرت، وأول ما أصدق، ألاقي الطعنة جاية منك، وأنا مش هديك الفرصة دي.
رفع سليم يده نحو صدره: والله العظيم ماهعمل حاجه، أنا فعلا عايزك تشوفي أهلك، علشان عارف إنهم وحشوكي، أنا مش وحش أوي كده يا ماسة.
تمتمت ماسة بصوت مكسور بعدم تصدق: يمكن.
تنهد سليم بتعب: عموما، تليفونك فوق لو عايزة تكلميهم أو تجيبيهم هنا براحتك، إللي أنتِ عايزاه.
ثم نهض، وقال بنبرة هادئة لكنها مكسورة: أنا هروح أشوف رشدي عايز ايه، وبعدها عندي مشوار، لو احتاجتي حاجة كلميني.
مد يده وألتقط هاتفه من على الطاولة، ضغط على رقم رشدي وبدأ يتحدث معه وهو يخطو نحو الخارج، وظلت ماسة مكانها، وهبطت دموعها بصمت فوق وجنتيها، دون أن تحاول مسحها.
في أحد شوارع القاهرة، الرابعة مساءا
نشاهد سليم يقف أمام سيارته، يبدو كأنه في انتظار شخص ما، بعد قليل، وصل رشدي بسيارته، وتوقف بجانب سيارة سليم، هبط رشدي من السيارة، نظر بإستغراب واقترب منه.
رشدي بإبتسامة متعجبة: أيها الأمير الصغير، مش عايزنا نتقابل ولا إيه؟
سليم بنبرة جادة: عايز إيه يا رشدي؟ إيه الموضوع المهم إللي لازم نتكلم فيه؟
رشدي متسائلا: أنت ليه مبتجيش المجموعة ولا القصر فيه حاجة؟
سأل سليم مرة أخرى بحسم: عايز إيه يا رشدي؟
ابتسم رشدي بمرح: تعرف، أنا نفسي أبقى زيك كده، ذو شخصية، وهيبة، ومبتكلمش كتير.
ثم قال بنبرة جاده: كنت عايزك بكرة تيجي الساعة 6:00 على العشا.
تساءل سليم مستغربا: ده إشمعنا يعني؟
رشدي بتوضيح: عازم ضيفة، اتعرفت على واحدة كدة وهخطبها، وهي بكرة هتيجي تتعرف على العيلة، فكنت حابب تبقى موجود.
سليم باستغراب: أنت اتعرفت على واحدة وهتتجوز !
رفع رشدى حاجبيه وهو يقول: آه يا عم، ايه المشكلة يعني؟
تنهد سليم، وقال بهدوء: مفيش، طب وأنا وجودي يعني ليه أهميته في الموضوع ده؟
رشدي موضحا: عايز العيلة كلها تبقى موجودة، عايزها تشوفنا قد إيه قريبين من بعض، وبعدين أنت بالذات، لما تشوفها، هيفرق معايا كثير.
سليم متعجبا: مش فاهم؟!
رشدي ضاحكا: بكرة هتعرف، وبعدين أنا دي أول مرة أطلب منك حاجة، كأتنين إخوات يعني، ولا إحنا مش إخوات؟
ابتسم سليم: ماشي يا رشدي، هحاول أجي، أنا بس عندي ظروف، ومراتي تعبانة، ومش هينفع أسيبها لوحدها، علشان كده مبجيش المجموعة.
رشدي بابتسامه: خلاص تمام، بس هتفضل متجيش المجموعة كتير ؟
سليم بهدوء: لحد ما ماسة تبقى كويسة بس.
ركز رشدي النظر في عينيه وهو يقول: أنا نويت أسمع كلامك، إللي قولتهولي زمان، وأركز في الشغل.
هز سليم رأسه بذهول: ده واضح إن فيه تغيرات فعلا، اتمنى تبقى حقيقية ودايمة، مش لحظية.
رشدي بابتسامه: هفاجئك الفترة الجاية.
ابتسم سليم، وهو يربت على كتفه بدعم وتشجيع: وأنا مستعد أتفاجئ يا رشدي، يلا سلام.
صعد سليم سيارته وقادها، والحراس من خلفه، أما رشدي فظل ينظر لابتعاد السياره حتى اختفت عن مرمي بصره، أخرج سيجارته وهو ينظر إلى الأفق، وقال: ماسه مين اللى تعبانه، هتفضل تمثل لحد إمتى ما احنا عارفين هي فين، بس والله يا سلوم لو ضامن إن ماسة تفضل حاطة لسانها جوة بقها ومتحكلكش حاجة، لكنت عرفتك مكانها بنفسي.
💞_____________بقلمي ليلةعادل
في أحد العيادات النفسية، الخامسة مساءً
جلس سليم أمام الطبيب النفسي، جسده مشدود، ويديه متشابكتان فوق ركبتيه، وأصابعه تتحرك بتوتر، وعيونه تبحث عن شيء يثبتها، أخذ نفسا عميقا،قبل أن يبدأ الكلام.
سليم بضجر: أنا مش فاهم ليه كل ده بيحصل؟ أنا جيتلك علشان ماسة، هي مش راضية تصدقني، وكل ما أحاول أقرب، ألاقيها بتهرب.
دون الطبيب ملاحظاته، ثم تحدث بعقلانية: بص يا سليم، إللي بتحكيه ده رد فعل طبيعي ومتوقع جدا، وإحنا كنا عارفين إن مش بالساهل هتسامح على طول، إحنا اتفقنا إننا مش بندور على المسامحة، إحنا بندور إزاي تصلح من نفسك عشان متغلطش تاني، لإن ده إللي هيطمنها ويخليها تسامح.
شد سليم يديه بقوة على ركبتيه، صوته ارتجف قليلا بضجر: بس أنت قولتلي إنها كويسة! خليتني أصدق ده.
ابتسم الطبيب برفق: وهي فعلا كويسة، يمكن تكون عدت بأسبوع صعب زي ما أنت حكيت، بس ده مش معناه إنها أنهارت.
قبض سليم على كفه الآخر بعصبية، وجهه صار متشنج: بقولك نامت في الشارع! وكان ممكن حد يغتصبها!
رفع الطبيب يديه بهدوء ليهدئه، وتابع بعقلانية: مظبوط، بس فيه حد أنقذها أكتر من مرة، وهو وعيلته كانوا زي الملاك الحارس ليها، لازم تبص للجانب المضيء مش للجانب المظلم، دلوقتي ماسة جنبك، متفكرش في إللي حصل لها، فكر إزاي تحسسها بالأمان إللي فقدته، وتحول خوفها لإطمئنان.
نظر سليم لأسفل، وخرج صوته مبحوح بوجع: بس هي مش عايزة تسمع، وتعرف إن أنا بتعالج.
الطبيب بهدوء وهو يركز النظر في ملامحه: ده طبيعي أنا مش عايزك تضغط عليها، هي دلوقتي في حالة صدمة، مش مستوعبة إنها رجعت تاني، كل إللي في دماغها حاليا سيناريوهات عن العقاب الجديد، أنت قولت أول حاجة قالتهلك "سيبني أستوعب، سيبني اتخيل العقاب إللي خيالي حتى ميقدرش يوصل له"عقلها دلوقتي مش قادر يتخيل حاجة ثابتة، كله خوف.
حرك سليم رأسه ببطء، وعينيه مليئة بالدموع، وقال بصوت منخفض: هي قالتلي مش قادرة تصدق هدوئي، مش مصدقة السكينة إللى أنا فيها.
ثم أرتفع صوته بضجر وهو يضرب بقبضته على المكتب: أنا مش حاسس بخطوة واحدة بتقربني منها يا دكتور، المسافة كبيرة، وبعد إللي حكته أنا بدأت أتأكد إن هي بقت أكبر كمان.
دون الطبيب شيئا ثم نظر له وقال بهدوء :هي رجعت إمتى؟
تنهد سليم، وأجاب وهو يمسح وجهه: أول إمبارح بالليل، إمبارح طول اليوم نايمة، وبعدين على المغرب حكتلي إللي حصل معاها بعد إلحاح مني، وبعدين طلعت أوضتها زي ما حكيتلك.
دون الطبيب شيء، ثم تساءل: وأنت بعدها حرقت الفيلا، ومنمتش طول الليل طبعا، صح؟
أغمض سليم عينيه، يضغط على أنفه بيده: آه، معرفتش أنام
وأضاف بألم ومرارة ووجع يقطع نياط قلبه: كنت فاكر لما احرق الفيلا المشؤومه دى بذكرايتها الوجع إللي في قلبي هيهدى، بس ولا أي حاجة، حاسس إن روحي بتتحرق، كأن كل الأوجاع إللي في العالم اتحطت جوة قلبي واتقفل عليها، مش قادر أنسى كلامها، بيرن جوايا، كأن فيه حد قاعد جوة وداني عمال يعيد في الكلام إللي قالته.
وضع الطبيب القلم وتحدث بهدوء بنبرة حانية: بص يا سليم، ماسة محتاجة تشوف إنك مش هتعيد نفس الأخطاء، أو يعني مش هترجع تاني تستخدم الأساليب القديمة،متضغطش عليها، اديها مساحتها، خليها تستوعب الوضع، متلحش عليها تتكلم، متبدأش الكلام أنت استنى لحد ما هي تبادر بالكلام، لكن متتكلمش عن إللي حصل لها ولا تتأسف.
اقترب بجسده من المكتب وهو يركز النظر في ملامحه، وكأنه يحاول أن يرسخ الفكرة في عقل سليم بهدوء: هي مش محتاجة تسمع كلمات، مش محتاجة قسم، أو إعتذار أو ندم، هي محتاجة تشوف أفعالك، محتاجة تشوف إنك بالفعل آسف.
وتابع هو يركز النظر في عينيه بثبات: خليك فاهم إن خطواتنا لازم تكون محددة، وهي إنك توصلها إنك اتغيرت ومش هترجع لنفس الأخطاء تاني، شيل من دماغك فكرة إنك تعتذر كل شوية وتستنى السماح، حتى لو قدمت ألف اعتذار، لأنها مش هتسامح غير لما تشوف التغيير بعينيها ملموس وحقيقي، التغيير هو إللي هيوصلك للسماح، مش العكس.
وتابع بنبرة هادئة لكي يطمئنه:
وهي بالتأكيد شايفة الندم جوه عينيك وحساه، المشكلة عندها، إنها شافت قبل كدة منك اعتذرات ووعود كتير، لكن للأسف الشديد بعد الحادثه اللى حصلت لكم والظروف الصعبه اللى مريتوا بيها، أنت رجعت تاني لنقطة البداية، والمرة إللي هربت فيها وأنت اتعاملت معاها بعنف، ده خلق بينكم فجوة كبيرة، بسبب العقاب الشديد إللي حصل منك.
ثم ابتسم كأنه يعطي أمل ودعم:إنما المرة دي الوضع مختلف، هي لما رجعت المره دى استقبلتها بحضن وبإعتذار، وبقلها يومين شايفة منك هدوء غير معتاد، فهي بقي عندها تشتيت وحيرة، وده رد فعل طبيعي، خليها تصدق المرة دي إنك فعلا مش هتعمل حاجة، واديها فرصة لأفعالك هي اللى تتكلم.
رفع سليم عينيه بحيرة، وأصابعه تمسك الكرسي: طب إيه رأيك أجيبلها حد من أهلها، وأوريها إني مش هعمل لهم حاجة؟
حرك الطبيب رأسه ببطء: فكره كويسه بس أصبر شوية، متستعجلش عليها، سيبها يومين ومتتكلمش معاها، بعد كده، ابدأ اتكلم معاها بهدوء، من غير عصبية، ومن غير نظرات حادة، فهمها إنكم محتاجين تتكلموا بهدوء وعقلانية.
وتابع الطبيب وكأنه يعطيه ارشادات كي يمشي عليها:
وأنتم بتتكلموا اقعدوا في حته هاديه، وبعدها خلي أهلها ييجوا قدامها، هي ممكن تحس بخوف، وهيكون رد فعل طبيعي من التوتر، كل إللي محتاج تعمله تطبطب عليها تقولها "أقعدي براحتك"، خلي الزيارة طبيعية، بعد مايمشوا، متتكلمش معاها الا لو هى باردت، ويومين وجيبهم مرة ثانية، وسيبهم يمشوا، وكرر العملية مرة ثالثة، وخليهم يباتوا، أعرض عليها تروح لو حابة، هتقولك: "خايفة" أو "مش عايزه"، رد عليها بهدوء: "لما تحبي تروحي، روحي" لو قالت: "أروح من غيرك"، خليها تروح واديها الحرية تبات كمان، وخليها تشوف التغيرات بنفسها، الموضوع مش محتاج أكتر من وقت، ومش هقولك تاني، إحنا مش بندور على المسامحة أو إزاي نعالج إللي حصل، أحنا بندور ازاى نصلح من سليم علشان ماسة ترجع تاني تشوفه أمانها.
عض سليم شفته السفلى، وقال بصوت منخفض: يعني النهاردة وبكرة متكلمش معاها خالص؟
هز الطبيب راسه بإيجاب: آه إلا لو هي كلمتك، سيب المبادرة ليها.
أخفض سليم عينيه على الأرض، أصابعه تتحرك بتوتر، صوته خرج مكسور: أنا مش قادر أسامح نفسي.
الطبيب بثبات: مش أنت السبب في اللى حصل يا سليم، الظروف هي السبب، أنت عرفت أخطائك وبدأت تصلحها، بلاش تكون قاسي على نفسك، خليك هادي، أنا عايزك النهاردة تاخد حباية، وأشرب حاجة دافية، وأعمل التمارين إللي قولتلك عليها.
أومأ سليم برأسه، وتنفس بعمق، ثم رفع يديه لوجهه في محاوله لتخفف التوتر عن صدره، لكنه ظل ساكنا، عيونه مليئه بالندم والقلق، كأن قلبه مثقل بأكثر مما يستطيع تحمله.
كان الطبيب يتابعه بنظرة متفحصه آسفة، زم شفتيه، وشعر أن سليم يحتاج دعم أكثر، فنهض من مكانه حتى جلس أمامه وأمسك يده: متقلقش إحنا في الطريق الصح، حتى لو هنطول شوية، بس أنا متأكد إن النتيجة هتريحك كتير.
هز سليم رأسه بصمت، وقلب مثقل بالأوجاع والتعب.
بعد أن انتهى سليم من الجلسة مع الطبيب النفسي، غادر المكان بخطوات هادئة، وكأن عبئا ثقيلا بدأ يخف عن صدره، كان يحاول أن يهدأ ويطبق نصائح الطبيب خطوة بخطوة، خاصة فيما يتعلق بصبره على ماسة وانتظار الوقت المناسب.
توجه بعد ذلك إلى النادي لإجراء تمارين الاسترخاء الذى نصحه بها طبيبه النفسي مع مختص بالنادي ، حيث ذهب مع المدرب الخاص به إلى مكان هادئ مفتوح وهو يرتدي ملابس رياضيه مريحة، وبدأ بالتمارين البدنية الاسترخائية، يشعر بكل حركة في جسده وكأنها تزيح عنه توتره وقلقه، وبعد أن هدء توتر عضلاته ووصل لمرحلة الاسترخاء بدأ بجلسة الmeditation (تأمل) ، حيث طلب منه المدرب أن يجلس في وضعيه مريحة بالنسبة له ويغلق عينيه ويوقف عقله عن التفكير في أى شيء ويركز تفكيره فقط على صوت أنفاسه لمده 3 دقائق ، ثم بعد ذلك بدأ في جلسه الvisualization (التخيل أو التصور ) حيث طلب منه المدرب أن يغوص في عالم خياله، وأن يقوم باستحضار صور ذهنية لحياته المستقبلية وما يتمنى تحقيقه بها .
فرأى سليم نفسه في منزل صغير على ضفاف بحيرة هادئة، تتساقط منها شلالات مياه صافيةو ماسة إلى جانبه، وولدان وبنتان يلهوان حوله، والجميع يبتسم ويستمتع بجمال الطبيعة، حاول أن يصفي ذهنه من كل الأفكار السلبية، وأن يركز تفكيره على تخيل كل ما يسعى لتحقيقه في حياته بنظرة إيجابية تجبر عقله على تصديق حدوث ذلك بالفعل كما أخبره المدرب ، وظل سليم في ذلك التصور لدقائق حتى ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه وخفق قلبه وكأن ما يراه الآن يعيشه حقيقة ملموسة وليس خيالا فاذا به صدقها بشكل كبير ..!
انتهت الجلسة وشكر مدربه، ثم أستكمل نشاطه اليومي بتمارين السباحة، مستمتعا بشعور الماء يحيط به، حتى حان وقت الانصراف عند الساعة الثامنة مساء، تاركا وراءه شعورا بالهدوء والطمأنينة و الثقة في حديث الطبيب معه بأن المسامحة قريبة وليست ببعيدة.
فيلا سليم و ماسة التاسعة مساءً
دخل سليم الفيلا بخطوات هادئة، وأول ما سأل عنه كانت ماسة؟!
قالت له سحر وهي تشير نحو النيل: قاعدة على النيل.
هز سليم رأسة وتحرك نحو الحديقة، اقترب منها ووقف خلفها، يتأملها بإبتسامة هادئة، كان يريد أن يقول لها "شكل المكان عاجبك؟!" لكنه تردد، تنفس ببطء محاولا تهدئة قلبه، وحاول تنفيذ إرشادات الطبيب، رفع يده ليلمس كتفها ثم تراجع بسرعة، وضع يده بجانبه مره أخري وتحرك منصرفا قبل أن يضعف.
فجأة، سمع صوت ماسة وهي تلف وهي تقول: سليم؟!
ابتسم فورا، ارتعش قلبه للحظة وظن أنه سيقفز من قفصه الصدرى من شدة الفرحة، وألتفت لها بإبتسامة واسعة وكأنه طفل صغير رأى أمه بعد غياب طويل.
تقدمت ماسة بحذر، تتساءل وهي تقترب: رشدي كان عايزك في إيه؟!
تابعت بإرتباك ملحوظ، تلعب بأصابعها: أصلك اتأخرت؟! في حاجة؟!
ابتسم سليم بهدوء، وقال موضحا: مخدتش 10 دقايق مع رشدي، بس كان عندي مشوار، مش عايزة تعرفي فين؟!
نظرت ماسة بعينيها للأسفل لحظة، ثم رفعتها بحسم وقالت: لا، مش عايزه أعرف.
صمتت للحظة، ثم قالت بتردد وهي تعبث بكم فستانها: بس رشدي كان عايزك في ايه؟! يعني كلمك كتير، وأنتم أصلاً من إمتى بينكم مكالمات، أوعى تقول لي إن أنتم اتصالحتوا ؟ هتصدم بجد.
ابتسم سليم بهدوء: أنا ورشدي علاقتنا معتقدش إن ممكن تتحسن، بس هو عازمني بكرة على العشاء عشان عازم البنت إللي بيحبها.
اتسعت عينا ماسة بصدمة، ضحكت وهي تعود بشعرها للوراء: رشدي بيحب؟ هو إللي زي رشدي ده بيعرف يحب؟ عنده قلب يعني؟
ابتسم سليم معلقا: رشدي ده محدش بيفهم له حاجة، بس أنا عايز أروح وأبادر علشان أفهمه إني مش أنا إللي عندي مشكلة، إيه رأيك تيجي معايا؟
رفعت ماسه حاجبيها، وظهرها يميل للخلف: أجي معاك فين؟ القصر؟
هز سليم رأسه بالإيجاب: آه العشاء هيكون الساعة 6:00 بكرة.
شعرت ماسة بالتوتر فهذا القصر هو لعنة بالنسبة لها، فهزت رأسها بالرفض وخوف: لا أنا مش عايزه أروح في حته، روح أنت وأبقى أحكيلي عاملة إزاي؟
ابتسم سليم، وقال بخفة: خلاص ماشي، اللى يريحك، بس شكل القعدة هنا عجبتك؟!
ماسة بإبتسامة وهي تنظر على النيل: بصراحة، المنظر مريح للأعصاب، تحفة، ممكن أسألك سؤال غبي؟
تقدم سليم خطوه نحوها، وقال بابتسامه: اسألي.
ماسة ببراءة، وهى تحدق في الماء: لو المية عليت شوية هتغرق الأرض؟ أصل أنا ولا شايفة سور ولا أي حاجة.
ابتسم سليم، وهو يلوح بيده نحو الماء: لا، يعني حتى لو المية عليت شوية فيه احتياطات.
صمتت ماسة للحظة، ثم أشارت نحو الجزيرة الصغيرة التي في المنتصف أمامهم: أنا عايزه أروح أقعد على الجزيرة إللي هناك لوحدي، ممكن؟
أومأ سليم بخفة: تحبي تروحي دلوقتي؟
نظرت ماسة له بحذر، وهي تحاول السيطرة على خوفها: لا مش النهاردة، بس عايزة.
ابتسم سليم، وهو يشير بيديه وكأنه يوصف الطريق: وقت ماتحبي روحي، هتمشي كده شوية، هتلاقي لانش وفلوكة، أركبي إللي تحبيه، وهتوقفي أي حارس وتقوليله أنا عايزة أروح الجزيرة لوحدي.
ضيقت ماسه عينيها بشك وهي تستمع اليه و وصوتها الداخلي يردد:أنا مش مطمنة لك، حاسة إنك ناويلي على نية" فهناك شعور غريب لديها بالتوتر والخوف من هدوءه؛ فهي لا تعلم أنه بدأ في علاجه النفسي وأنه صادق فيما يفعله ليس كما تظن ..!
لكنها هزت رأسها: ماشي.
تنهد سليم وهو يضع يده بجيب بنطاله: أنا هروح أعمللي شاي فاكهة فرش، تحبي أعملك معايا؟
ماسة بدهشة : إيه شاي فاكهة ده؟
ضحك سليم بخفة: هو أنا معملتلكيش قبل كدة خالص؟
هزت ماسة رأسها نافية: لا.
رفع سليم حاجبيه باستغراب: يعني إحنا بقالنا 10 سنين متجوزين، ومعملتلكيش قبل كده؟
ابتسمت ماسة بخجل: شربنا إللي بيتباع برة، بس فريش ده لا.
هز سليم رأسه بإيجاب: خلاص، هعملك واحد معايا.
تحرك سليم بهدوء، بينما أخذت تنظر له بإستغراب، فهدوءه مربك بالنسبة لها.
تحركت خلفه وهي تقول بإبتسامة خفيفة، وعيونها متوهجة بالفضول: أنا عايزة أشوف شاي الفاكهة دى بيتعمل إزاي.
المطبخ
دخلوا المطبخ معا، بدأ سليم في تقطيع التفاح الطازج وجمع بعض حبات كريزي والفراولة والخوخ وشرائح الليمون والنعناع الطازج وورد الكركدية مع الشاي الأخضر البري الطازج، وضعها في البراد الشفاف ووضع عليهم الماء وأخذ يغليها.
ماسة بفضول: أنت بتحط ورد؟
رفع سليم يده مشيرا للورود: ده كركديه، لما يبقى طازة بيبقي عامل كده
ماسة بدهشة: أول مرة أعرف إن ده شكل الكركديه الأصلي.
رفع سليم يده وهو يقول بهدوء: متناوليني العس..
قبل أن يكمل كلماته، رفعت ماسة يديها بسرعة أمام وجهها، كأنها تحمي نفسها من ضربة متوقعة..!
تجمد سليم في مكانه، اتسعت عيناه بصدمة، لم يكن يقصد أبدا، كل ما أراده هو العسل! شعر بغصة تخنق صدره، كادت دموعه تفر من عينه، لكنه تماسك وحاول أن يحافظ على هدوئه.
خفض يديه المرتعشه ببطء، وخرج صوته متحشرجا بحنان، يحاولة أن يبث فيها الاطمئنان: في إيه أهدي، أنا بس كنت عايز العسل.
كانت أنفاسها متلاحقة، أنزلت، يديها وأشاحت بوجهها بعيدا عنه. اغمض سليم عينيه للحظة، ثم ألتقط العسل بصمت، وأدار لها ظهره.
بدي وكأنه يبتلع غضبه وهو يضغط على أسنانه، يلعن نفسه في أعماقه "إزاي وصلتها للدرجة دي؟ أنا السبب"
لم تحتمل ماسة أكثر، فغادرت مسرعة بخطوات مرتبكة، وكأنها تهرب من ظله.
بقي سليم وحيداً في المطبخ، تتآكله النار من الداخل، أمسك كوبا من على الطاولة وألقاه أرضا بعنف، فتهشم وتبعثرت شظاياه، لكن النار لم تخمد بداخله، فمد يده وضرب بكفه على الأدوات المعلقة، فتساقطت واحدة تلو الأخرى، وصوتها يتردد في المكان.
تلألأت عيناه بالغضب، ليس منها، بل من نفسه، هو السبب، هو الذي زرع هذا الخوف فيها.
وفجأة، تسلل إلى ذهنه صوت الطبيب، هادئا "أصبر… أصبر بس"
وبعد أن إنتهى من عمل الشاي قام بوضعه في الأكواب، ثم خرج للحديقه، رأها تجلس أمام النيل، فوضع لها الشاي أمامها.
ماسة وهى تتجنب النظر اليه: شكرا.
سليم بابتسامه حزينه: إن شاء الله يعجبك.
أخذت ماسة كوبها وبدأت تحتسيه، وكان مذاقه رائع حقا، لكن غريب بالنسبة لها، تفحصت عينيها لونه، وأخذت تشتم رائحته، وهي تحاول فهم طعمه.
ماسة بتقيم: طعمه حلو بس غريب، عموما شكرا.
سليم بإبتسامة هادئة: ألف هنا.
ثم تحرك مبتعدا، تاركا إياها تجلس بمفردها، كما طلب منه الطبيب.
صعد غرفته وجلس في الشرفة، يراقبها بهدوء، ظهره مستقيم، عيناه تتابع كل حركة لها من بعيد.
مازالت ماسة يخيفها ذلك الهدوء الغريب، تشعر أن هناك شيئا ما، شيئا لا تعرف له تفسير، لا تعرف كيف تمنح نفسها الأمان، كيف تطمئن له، كما يبدي لها في ابتسامته و نبرته وحديثه ومحاولاته الصادقة، كيف تطمئن وتقتنع أن كل هذا ليس مجرد قناع أو فخ.
وفي الوقت ذاته، تشعر بتغييره تلاحظه بشدة، لكنها مازالت لا تستطيع تصديق ذلك الإحساس، تخاف أن يكون مجرد وهم لأنها تحبه، فالقلب يشعر به وبتغيره الملحوظ، والعقل يقول "لابد أن تكوني حذرة"
كان لديها حالة من الشتات، لا تستطيع الاستسلام له أو تصديقه حتى الآن، وفي نفس الوقت يتملكها الرغبة في الاقتراب منه والاستماع له، لكنها لا تعرف كيف.
وأثناء ذلك، وبينما وهي تحتسي الشاي، رفعت رأسها تلقائيا لأعلى وهى تتنهد، فرأته واقفا عند النافذة، ينظر إليها، تبادل النظرات للحظات، ثم خفضت عينيها، وأعادت النظر أمامها.
أخذت رشفة أخرى بهدوء فجأة تذكرت تلك الليلة وما حدث معها بسببه، وشعرت بألم يعتصر قلبها، واجتاحها شعور بالغضب من قلبها الذى يضعف أمامه، فألقت الكوب بغضب شديد كأنها تريد أن تتسلح بالقوة ولا تستسلم مرة أخري.
نظر اليها سليم بإستغراب ثم تحولت نظراته للغضب، قبض على كفه بغضب شديد من نفسه وعين تطلق شرار، حاول السيطره على مشاعره، فتحرك، وفتح علبة الدواء مترددا، وأخذ حبة منها بعد صراع داخلي، واحتسها بالماء، ثم بدأ يؤدي تمارين الضغط، محاولا إخراج شحنة الغضب المكبوتة داخله.
لم يتحدث معها بقية اليوم؛ فقد جلست ماسة طويلا في الحديقة، حتى إنها لم تتبادل الكلام مع أسرتها، كان الخوف ما يزال يتملكها، رغم أنها كانت ترغب في الإطمئنان عليهم، لكن هدوء سليم وطريقته لم تستطع أن تصدقهما بعد، أما هو، فظل يراقبها من النافذة، يكتفي بمشاهدتها، محاولا أن يطمئن قلبه، ويخمد ذلك الشوق الذي يدفعه لمراقبتها من بعيد، فمجرد رؤيتها بعينيه، كان يمنحه بعض السلوى، وبعد وقت نام كل منهما.
وفي صباح اليوم التالي، استيقظ سليم مبكرا، ولم يستطع كبح رغبته في الاطمئنان عليها؛ فدخل غرفتها، فوجدها نائمة، ابتسم وهو يقترب منها، ويستنشق عبير أنفاسها، وطبع قبلة رقيقة على جبينها، ثم هبط إلى الأسفل وقرر عدم الذهاب إلي المجموعه، وفضل أن يبقي بجانبها فظل ينتظر استيقاظها، ليبدأ يوما جديدا، لعل قلبها يلين.
بالإسكندرية
منزل مصطفى الثانية ظهرا
الصالة
كان مصطفى وعائلته يجلسون في الصالة، فقد مر يومين على مغادرة ماسه مع سليم، كان الصمت يخيم في المكان، يبدو أنهم لم يتجاوزوا ما حدث الليلة الماضية، وفجأة ارتفع صوت طرق الباب يكسر صمت المكان من حولهم.
نهض إيهاب وفتحه، وتفاجئ بندى تقف أمامه، مبتسمة بتشفي.
ضيق إيهاب عينيه بدهشة: ندى !
تقدمت بخطوات ثابته، والجميع ينظرون اليها بإستغراب!
وقفت ندى في منتصف الصالة وهي تقول بإبتسامة شماتة: مالكم شوفتوا عفريت؟
عائشة بضجر: ندى، إحنا مش ناقصينك النهاردة الصراحة.
وضعت ندى يديها على خصرها وقالت بسخرية: ومش ناقصني ليه إن شاء الله، وبعدين مالكم قاعدين كدة ليه زي الحزانة؟ حد مات لكم ولا إيه؟
رفع مصطفى عينيه وقال بنبرة حازمة: ندى أمشي من قدامي الساعه دى، صدقيني أنا على آخري.
ابتسمت ندى بسخرية: شوفتوا؟ كلامي كان صح، أنت حبيتها يا دكتور يا محترم.
نظر لها الجميع بصدمة، ووقف مصطفى ببطء أمامها، وقال بعدم استيعاب: أنتِ بتقولي إيه؟
ندى بثقة ممزوجة بالتهكم: بقول الحقيقة، ليندا أقصد ماسة مرات سليم، إللي ضحكتوا عليا وقولتوا إنها بنت خالتكم، جوزها خدها أخيرا، علشان كده قاعدين حزانة.
اقترب إيهاب منها متسائلا بريبة: أنت إللي روحتي قولتيله عن مكان ماسة يا ندى؟
ندى بغيره وجنون: أيوه أنا إللي روحت قولت له! هو أنت كنت عايزني أسيبها قاعدة مع جوزي في بيت واحد؟ ورايحين جايين مع بعض؟ ويجيبلها آيس كريم والضحكة من هنا لهنا؟ كان لازم أقول لجوزها يجي يلمها، إللي ماشية على حل شعرها السافلة دي.
نبيلة مستنكرة: أخص عليكي! أوعي تكوني قولتي له كدة.
ندى بتحدي:طبعا، وقولتله أكتر من كده كمان! مش ده إللي كان بيحصل؟
عائشة بغضب: أنتِ بجد مريضة! أنا بكرهك، ده كان يوم أسود يوم ما مصطفى اتجوزك.
إيهاب بضجر: امشي من قدامنا دلوقتي يا ندى، علشان بجد إحنا مش طايقينك!
ندى بعصبيه: مش طايقني علشان عملت الصح! ده بدل ما تقول عيب لأخوك اللى كان مقضيها مع واحده هربانه من جوزها، وأنت يا طنط، كنتي بترفعي لهم الأرايل ولا بتظبطي لهم المرور؟ عيب عليكي، ده أنتِ حتى عاملة عمرة.
وفجأة، ودون أي مقدمات، صفعها مصطفى صفعة مدويه، والنيران تشتعل في عينيه من كثر الغضب، فترنحت على الأرض، وبدأت دماؤها تنزف من شفتيها، وصفرت أذنيها من قوة الصفعه.
صرخ مصطفى بغضب: اخرسي يا كلبه واعرفي بتتكلمي أزاى.
ركض إيهاب، يمسك بأخيه وهو يحاول تهدئته: أهدي يا مصطفى!
أجاب مصطفى بغضب، وهو يستعد للهجوم عليها مرة أخرى، ولكن وقف إيهاب يحول بينهم، فصرخ مصطفي بغضب عارم: أهدي إيه؟ أنتِ عايزة مني إيه؟ أنا مش عايزك! أبعدي عني وعن حياتي بقي، وخلي عندك دم وكرامة، أنا بكرهك وبحتقرك، وبكره اليوم إللي اتجوزتك فيه، اطلعي من حياتي بقي كفاية! عايزة مني إيه تاني؟ مش هرجعلك يا ندى لو آخر ست في الدنيا مش هرجعلك يا ندى، عشان أنا بحتقرك، عارفة يعني ايه بحتقرك وبكرهكك؟
صرخت ندى بجنون:أنت بتضربني! وبتكرهني ليه؟ علشان بعمل الصح!
دفع مصطفى إيهاب بعيدا عنه بغضب، وأمسك ندى من شعرها بعنف، وسحبها للخارج، قائلا بنبرة رجولية جهورة: أطلعي برة حياتي، قسما بالله يا ندى، لو شوفتك تاني صدفة، هخليكي تكرهي اليوم إللي دخلتي فيه حياتي.
حاول إيهاب تخليصها من يده، وهي تصرخ من الألم: مش كده يا مصطفى، سيبها!
صرخ مصطفى بغضب أكبر، وهو يدفع إيهاب بعيدا عنه، ويستمر في جرها للخارج: أوعي يا إيهاب! أطلعي برة يا حقيرة! يا زبالة! يا عديمة الكرامة! برة!
ودفعها بقوة خارج الباب، قائلا: ده آخر تحذير ليكي، مش عايزه اشوف خلقتك تاني، فاهمة؟
وأغلق الباب في وجهها بعنف
نبيلة بحزن: مش كده يا مصطفى، عيب إللي أنت عملته.
مصطفى بغضب: عيب؟ وإللي عملته وقالته مش عيب! أنتِ عارفة سليم ممكن يعمل إيه في ماسة من تحت رأس جنانها دى؟
إيهاب بقلق: إحنا كنا مطمنين شويه، بس دلوقت الوضع يقلق، ربنا يستر.
نبيلة بإصرار: أنا لسة مصرة إن هو مش هيعمل حاجة، منك لله يا ندى.
أثناء ذلك كانوا يسمعون طرقا عنيفا على الباب، فكانت ندى جالسة على الأرض منهارة تماما، طرحتها ساقطة وخصلات شعرها متناثرة، تتوسل وتترجى من خلف الباب، وهى تتطرق عليه بجنون: أفتح يا مصطفى، أنا آسفة، حقك عليا، والله ما هعمل كدة تاني، هعمل كل إللي تقولي عليه والله العظيم.
وحينما قابلها الجواب صمتا، قالت بجنون: لو مفتحتش هموت نفسي، والله هموت نفسي لو مفتحتش وسامحتني.
كادت نبيله أن تتحرك نحو الباب، لكن أوقفها مصطفي بصرامة: رايحة فين؟ سيبيها.
إيهاب بخوف وتوتر: نسيبها إزاي؟ هتعمل لنا فضايح!
مصطفى بحدة تقطع الهواء: مش عايز حد يتكلم، قولت سبوها، هتترزع شويه وهتمشي.
ثم تقدم نحو الباب ووقف وراءه وقال بصوت جامدا متصلبا: أنا مش هقولك تاني، أمشي يا ندى، بإحترامك ده لو عندك شوية احترام لنفسك.
رفعت ندى وجهها المبتل بالدموع، وقالت بصوت مختنق: طب أفتح، خلينا نتكلم.
أجابها بلا رحمة: غوري يا ندى، مش هقولك تاني.
ندة بصراخ يائس: لو مفتحتش هموت نفسي.
مصطفى بلا عطف وبفظاظة قاتلة: ياريت تموتي نفسك علشان تريحينا.
صمتت لحظة، وكأن الكلمات قد قضمت أوتارها الداخلية، وقالت بمرارة مختلطة بدهشة: كده يا مصطفى؟ يعني للدرجة دي مليش أي غلاوة عندك؟
أجاب بشكل لا يقل صلابة: آه، واخفي بقي مش هقول تاني
ضرب إيهاب كف على كف بتعجب: دي فعلا اتجننت على الآخر.
مصطفي: أنا هكلم أبوها، علشان بعد كده محدش يلومني.
أمسك هاتفه وأتصل بوالدها، انتظر لحظات حتى أجاب، فصاح بصوت غاضب: يا عمي فتحي، لو مش عارف تربي بنتك، أنا ممكن أربيها لك، بنتك المرة دي هتجيلك مضروبة بالقلم، المرة الجاية، قسما بالله هاتيجي تستلمها يا من القسم، يا من مستشفى المجانين! أبعد بنتك عنى لأن مش هستحملها أكتر من كده، أنا كنت عامل احترام للعيش والملح والعشرة، بس توصل الأذيه للدرجة دي؟ لا! أبعد بنتك عني أنا بقولك أهو. وأغلق الخط وهو يزفر بغضب شديد.
عائشة بتأيد: اللى عملته دى هو الصح، لازم يرجع ويربي بنته المجنونة دي.
على إتجاه آخر عند ندى
كانت ندى تهبط الدرج بخطوات متهالكة، والدموع تنساب من عينيها بصدمه كأنها لا تصدق ما سمعته، وكل كلمة من كلمات مصطفى تردد في عقلها بلا هواده:《أمشي من هنا...أنا بكرهك وبحتقرك...ياريت تموتي وتريحينا》
انفجرت بالبكاء، وكلماتها تخرج كندبة: هموت نفسي يا مصطفى، هموت نفسي.
وفجأة، وكأن قوة خفية دفعتها، اندفعت ندى نحو الطريق، ألقت بنفسها أمام سيارة مسرعة، ارتطام عنيف، ثم انطرحت على الأسفلت، الدم يلطخ الأرض، وندى صامته، لا حركة، لا نفس، وأصوات الماره حولها تتعالى بالصراخ والعويل..
تفتكروا ايه حصل لها؟