
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل التاسع 9 بقلم ليله عادل
{"قد أخطأت في الماضي، لكنني اليوم أحاول أن أصلح الحاضر من أجل مستقبلٍ أفضل فلا تجعل من زلاتي القديمة حكما علي، وإن رأيتني لم أتغير فابتعد، أما إن وجدت في الصدق والسعي، فلا تحرمني فرصة أخرى."}
الفصل التاسع♥️🤫
[بعنوان: لا تحاكمنى بالماضي]
اندفعت ندى نحو الطريق وألقت بنفسها أمام سيارة مسرعة، ارتطمت وسقطت على الأسفلت بلا حركة، والدماء تلطخ الأرض وسط صراخ المارة.
تجمع الناس حولها، وجوههم مذهولة يملؤها الحزن؛ هذا يضرب كفًا بكف، وذاك يضع يده على صدره، وآخر يغطي فمه بدهشة، فيما تتعالى أصوات من الشارع:مين دي يا حرام؟!
اخر: عملت كدة لية في نفسها؟
وآخر يردد: انا شفتها وهي بترمي نفسها على العربية السواق مش غلطان !
عند مصطفى
كان مصطفى والعائلة يجلسون ومازال الضيق يخيم علي المكان، وفجأة دوت صوت ضجة في الشارع.
مصطفى بدهشة: إيه الصوت ده؟
نبيلة بإرتباك: أكيد حادثة.
أسرع إيهاب إلى البلكونة، مد عنقه بأسف:حادثة فعلا
نبيلة بأسف: لا إله إلا الله، كل شوية حادث في الطريق ده.
اقتربوا من الشرفه، وأعينهم تتابع المشهد في الاسفل، فتجمدوا حينما رأوا ندى ممددة على الأسفلت، الدم يحيط بها، وتبادلوا النظرات الصدمه وكأنهم لا يصدقون ما يرونه.
مصطفي بصدمه: ندى
اندفع الجميع إلى الأسفل، وملامحهم يعلها الصدمة.
وحين وصلوا إلى الشارع، اندفع مصطفى يشق الزحام حتى وصل إلى جسد ندى الملقى على الأرض، جثا بجوارها، وذراعاه ترتجفان وهو يحتضنها، صوته يختنق بالخوف ندى… ندى، ردي عليّا! عملتي إيه في نفسك يا مجنونة؟
وقف السائق مضطربا، يرفع يديه متوسلا: والله العظيم هي إللي رمت نفسها قدامي.
حاول إيهاب السيطرة على الموقف وقال بسرعة: مصطفى فوق، خلينا نوديها المستشفى.
احتضنها مصطفى بقوة، رفعها بين ذراعيه، ركض بها نحو السيارة، وضعها في المقعد الخلفي وصعد بجانبها، بينما أمسك إيهاب عجلة القيادة.
نبيلة بخوف: ابقوا طمنونا يا إيهاب!
انطلقت السيارة، ومصطفى يلتفت إليها ويمسح الدم عن وجهها وهو يهمس بصوت مرتبك: بسرعة يا إيهاب.
في مستشفى المواساة،الثالثة مساءً
هبط مصطفى من السيارة مهرولا وهو يحملها بين ذراعيه، قال بصوت مفزوع: عايز سرير بسرعة!
ركضت الممرضة ومعها دكتور: إيه إللي حصل؟
مصطفى بتوتر: حادثة عربية من ربع ساعة، فقدت الوعي، النبض بطيء وفيه كسور.
الدكتور بعمليه: خدوها على غرفة الطوارئ.
تمددت ندى على السرير، الأجهزة تحاوطها، والأطباء يتحركون من حولها في محاوله للسيطره على الموقف.
وقف مصطفى بوجهه شاحب، اقترب إيهاب همس بعدم تصدق: المجنونة، موتت نفسها بجد!
مسح مصطفى وجهه بكفه المرتعش: ندى خلاص، بقت فاقدة السيطرة، محتاجة تتحجز في مصحه نفسيه، لأنها بقت خطر على نفسها مش على الناس بس.
عاد الطبيب بعد دقائق وقال بجدية: عندها كسر في الإيد، هنعمل أشعة نتأكد إن مفيش نزيف داخلي بس لازم نبلغ بالواقعة.
مصطفى برجاء: لو سمحت بلاش نبلغ، السواق ملوش ذنب، هى اللى رمت نفسها وكانت عايزه تنتحر، فخلى الموضوع ودى، ورجاءا بس تتحط تحت ملاحظه شديد، وياريت لو تفضل نايمه اطول فتره ممكنه، لحد ما أبلغ أهلها ونشوف هنعمل ايه.
هز الطبيب رأسه معترضا: وأنا إيه إللى يثبتلى إن الحاله انتحار مش محاولة قتل؟
لوح مصطفي بيديه: يا دكتور أسامه هى ندى غريبه عليك!؟ أنت عارف إنها بتمر بأزمة نفسيه، وهددت قبل الحادثه بدقايق انها هتموت نفسها، ولو سألت أى حد من اللى كانوا واقفين هيقولوا إن هى اللى رمت نفسها قدام العربيه.
تنهد أسامة وقال مترددا: بس يا مصطفى هي كده هتبقي محتاجه تتحجز في مصحه نفسيه، هنا مفيش إمكانيات كافيه للسيطره على الحاله.
قاطعه مصطفى بنفاذ صبر: يا سيدي عارف، أنا بس بكلمك في البلاغ، بلاش تبلغ واقفل الموضوع ودى بينا.
هز الطبيب رأسه بإيجاب، وبعد ساعات أكدت الأشعة عدم وجود نزيف داخلي، تم تجبيس الكسور، واعطوها حقنه مهدئه، وبقيت معها ممرضه للسيطره على الموقف اذا استيقظت.
بعد ساعات قليلة، وصلت والدتها مسرعة، وجهها شاحب والدموع تغمر عينيها، وقفت خلف الزجاج تحدق في ابنتها الممددة على الفراش، والجبس يلف يدها وقدمها، ساكنة بلا حول ولا قوة.
صرخت بصوت متكسر: إيه إللي حصل يا مصطفى؟
تنهد مصطفى بصوت مبحوح: إللي حصل إن بنت حضرتك عملتلي مشكلة كبيرة مع واحدة أعرفها، قالت كلام ميصحش عنها لجوزها، وبسببها ممكن زوجها ده يقتلها.
شهقت مشيرة ووضعت يدها على فمها: يا نهار أبيض!
أكمل مصطفى بغضب وحرقة: جاتلي بكل بجاحة وقالتلي إنها السبب، أنا طردتها وضربتها بالقلم، وقولتلها تبعد عن حياتي حتى كلمت عمي فتحي وقولتله ابعد بنتك عنى.
مشيرة بسرعة وارتباك: أتصل بيا وقالي وقعد يزعق، بس مكنتش فاهمه هي عملت إيه؟! وكلمتكوا محدش رد.
مصطفى موضحا بعقلانية: كنا مستنيين نطمن عشان نعرفك الأخبار، بصي يا طنط مشيرة، ندى حالتها بقت صعبة، ولازم تتحجز في مصحه نفسيه، علش...
قاطعته مشيره بغضب واستنكار، وهي تمسح دموعها بعنف: أنا بنتى مش مجنونه علشان ارميها في مستشفي المجانين، بنتي زي الفل وأنا هعرف أبعدها عنك، متشكرين يا سيدي لحد هنا.
قاطع مصطفى كلامها بضجر، وصوت حاد، وهو يحاول توضيح خطورة الأمر: بلاش الجهل ده يا طنط! أنتِ ست متعلمة، بنتك انتحرت وحاولت تموت نفسها ! مكانش فارق معاها حياتها، بنتك دلوقت بقت مؤذية لنفسها قبل ما تكون مؤذية لغيرها، وإن كانت فشلت المره دى، أنا بؤكدلك إنها هتفضل تحاول لحد ما تنجح، ساعتها هتكوني مبسوطه؟ المرض النفسي مش عيب، العيب إننا ندفن راسنا في الرمل ونقول ولادنا زي الفل، بس لا بنتك مش زي الفل وأنتِ عارفة ده، بنتك محتاجة تتعالج وهما في المصحه هيعرفوا يوفروا لها بيئه آمنه تتعالج فيها، والا المره الجايه مش هتيجي تستلميها من هنا، هتيجى تستلميها من المشرحة، وساعتها متلوميش الا نفسك أنا عن نفسي نصحتك وخلصت ضميرى من ناحيتها.
كانت مشيرة ملامحها منهاره ومكسوره، شعر مصطفي بقسوة حديثه معاها، فحاول أن يخفف من حدته ويقنعها بطريقة لطيفة وحنونة: متزعليش من كلامي، بس دي الحقيقة، أنا بكلمك لمصلحتها، ندى حالتها بقت صعبه ومحتاجه علاج، ومتقلقيش أنا هفضل معاكي لحد ماتفوق هما مدينها منوم، وأنا رأى إن حضرتك تاخدي قرار بنقلها مصحه وهي نايمه لأن لو فاقت ممكن يبقي الوضع صعب السيطره عليه.
كادت أن تخونها قدميها من هول الصدمه، فاسندها مصطفي، وأحضر إيهاب الكرسي وجلست مشيرة، بينما ظل مصطفى ينظر إليها بقلق قائلا: الموضوع وصل للانتحار لازم نتحرك قبل فوات الأوان، فكرى في مصلحتها يا طنط وخدى قرار.
بعد قليل
جلس مصطفى وإيهاب بالقرب من مشيرة التي لا تزال على مقعدها أمام ابنتها النائمة، وعينيها مثبتتان عليها بقلق لا ينطفئ.
كان الأثنان ممسكين بهواتفهما، يتبادلان النظرات المتوترة من حين لآخر، كان إيهاب يتصل بماسة دون جدوى، فالهاتف مغلق تماما، بينما مصطفى يحاول الاتصال بسليم الذي لم يرد عليه، الخوف كان يلتهمهما في صمت ثقيل.
قطب مصطفى حاجبيه، وقال بحدة مكتومة: وأنا كمان قلقان عليها، وبرن على سليم مبيردش، خايف يكون عمل فيها حاجة، بعد الجنان اللى ندى قالته؟! ده مجنون، والله أعلم عمل فيها إيه!؟
صمت لحظة، ثم رفع عينيه فجأة وصوته خرج مترددا: بقولك إيه؟! متعرفش تهكر تليفونها أو تليفون سليم؟
زفر إيهاب بضيق، وقال بنبرة مترددة: ممكن أحاول، بس هنستفاد إيه؟!
مرر مصطفى يده على جبهته ببطء، وتنهد وهو يحاول أن يبدو متماسكا: يمكن تكلم حد من إخواتها ونطمن إنها بخير، المشكلة إني مخدتش رقم حد فيهم.
إيهاب موضحا: أنا معايا رقم سلوى، بس خايف لو اتصلنا نعمل لها مشكلة.
عقد مصطفى حاجبيه متسائلا: مشكله ايه إللي هنعملها؟ هو خلاص وصلها، إحنا بس محتاجين نطمن إنها بخير..
ثم أضاف بنبرة متوترة، ونظرة شاردة وهو ينظر إلي الأرض: أنا بفكر أروح لسليم.
اتسعت عينا إيهاب بدهشة: تروح لسليم فين؟! هتنزل القاهره؟!
مصطفى وهو يعتدل في جلسته، ونبرته صارت أكثر حزما: ايوه هنزل القاهره، هروح له المكتب ولو ملقتهوش هروح الفيلا، المهم لازم اطمن عليها، وافهمه إن ندى دي مريضة وكل إللي قالته محصلش..
ثم أضاف بتنهدة وهو يتكئ للخلف: أنا هطمن على ندى، وأمشي، وأنت روح البيت طمنهم.
هز إيهاب رأسه: ماشي، بس خد بالك من نفسك.
ساد الصمت للحظة تبادل فيها الأثنان النظرات المشدودة.
بعد قليل
اقترب أحد الأطباء بخطى هادئة، القي السلام على مصطفي، وسأله بنبرة مهنية: دي والدتها ؟
هز مصطفى رأسه بإيجاب بصمت ثم نظر إلى مشيرة ورد عليه بنبره منخفضه: هي مش مقتنعة، حاول أنت تتكلم معاها يمكن تسمع منك، هي ندى هتصحي امتي؟
الطبيب بعمليه: بكره، لأنها واخده حقنه طويله المفعول.
ألتفت مصطفى إلى مشيرة قائلا: طنط مشيرة، دكتور علي محتاج يتكلم مع حضرتك شوية.
ثم ابتعد مصطفى وجلس على مقعد بعيد بجانب إيهاب، بينما وقف الطبيب أمامها، يوزع كلامه بهدوء طبيب خبير: يا فندم، أنا فهمت من دكتور مصطفى شوية حاجات، وعرفت إن دكتورة ندى للأسف هي إللي رمت نفسها قدام العربية، إحنا هنقفل الموضوع بهدوء علشان دكتور مصطفى ولأنها زميلة، بس هي فعلا محتاجة علاج نفسي لإنها واصله لمرحله اكتئاب حاد، وأصبحت فاقده قيمه كل شيء في حياتها حتى نفسها، هي عندها أزمة كبيره ولازم تتعالج منها، النهاردة الحمد لله قدرنا ننقذها، لكن المرة الجاية الله أعلم الخطر هيوصل لإيه؟! ومش بعيد تحاول تموت نفسها تاني!
تشنجت مشيرة، وقالت بتوتر: أنا عارفة إنها تعبانة، بس حضرتك مينفعش تقولي عليها مجنونة!
الطبيب بلطف صارم محاولا تهدئتها، واقناعها بهدوء:
من امتى والمرض النفسي كان جنون؟ ده مرض زي أي مرض تاني، وهما في المصحه مش موجودين علشان يعذبوها ويكهربوها بجهاز صدمات، زي مابتشوفي في الأفلام، هما هيمشوا معاها على جلسات علشان يغيروا من أفكارها المسيطره عليها، ويوروها إن الدنيا مش واقفة على شخص واحد، ويعلموها تحب نفسها وتقدرها وتحط حدود للقيمة إللي بتديها لخياراتها،ممكن يستخدموا بعض المهدئات مؤقتا، بس الأهم إنهم هيقدروا يوفروا لها بيئه آمنه علشان نضمن إنها متحاولش الانتحار تانى لحد ما نفسيتها تستقر.
ترددت مشيرة، ودموعها تلمع في عينيها، وقالت بنبرة مكسورة: طيب هي لازم تتحجز هناك؟ مينفعش تتعالج في البيت؟
أجاب الدكتور موضحا بعمليه: لأسف لازم تتحجز لفترة مؤقتة لحد مانفسيتها تستقر ونضمن سلامتها وإنها مش هتأذى نفسها تانى، بعد كده ممكن تخرج وتتابع الجلسات مع الدكتور بتاعها، فلازم حضرتك تاخدي القرار دلوقتى علشان نلحق نتصرف قبل ماتفوق.
تنفست مشيرة بمرارة ثم همست بانكسار: أنا عايزة بنتي تبقى كويسة وترجع زي زمان يا دكتور.
ابتسم الطبيب بعينين يملؤها التعاطف: هترجع لو حضرتك قبلتي إننا نبدأ معاها رحلة العلاج النفسي.
مشيرة: طب لما تصحى بس أتكلم معاها
الطبيب بعقلانيه: اولا هي مش هتفوق الا بكره، وبعدين حضرتك شايفه إن واحده سيطر على عقلها فكره إنها تنهى حياتها لمجرد خروج شخص منها، دى واحده مؤهله إنها تاخد قرار بالشكل دى، على الأغلب هيبقي رد فعلها عنيف وهترفض وهنضطر ناخدها بالعافيه، فأنا رأي نقلها وهي نايمه هيكون أفضل.
مشيرة بتنهيده: على العموم أبوها هيوصل النهارده بالليل هو يبقي ياخد القرار أنا مش هقدر أخد قرار زى دى.
وفي الليلة نفسها، وصل والد ندى إلى مصر، شرح له الطبيب النفسي حالة ابنته بتأني وهدوء، فاستوعب الأمر سريعا ووافق على نقلها إلى المصحة النفسية، وبالفعل تم نقلها بحذر إلى المصحة، وظلت ندى تحت تأثير المهدئ حتى صباح اليوم التالي، كأن العالم كله توقف حولها.
جامعة المستقبل العاشرة صباحا.
نرى سلوى تتحرك في أحد الممرات حتى وصلت إلى باب غرفة، طرقت الباب بخفة، وانتظرت حتى سمعت صوت من الداخل يأذن لها بالدخول: اتفضل.
دخلت سلوى لتجد طارق جالسا خلف مكتبه، ومعه بعض الزملاء، فرفعت سلوى، يدها بستاذان: دكتور طارق، ممكن دقيقة لو سمحت؟
نظر لها طارق بصمت للحظة، ثم نهض بتحفظ وتحرك تجاهها، ووقفا عند سور الغرفة، ونظر إليها بعينين مليئتين بالاستفهام.
سلوى بتوتر: ممكن أعرف مبتردش عليا ليه؟
بقالي ٣أسابيع بكلمك مبتردش؟!
طارق ببرود وهو يشير بيده: وأرد عليكي ليه؟
سلوى متعجبة: يعني إيه ترد عليا ليه؟ هو أنا مش خطيبتك؟
طارق بمرارة، وهو ينظر بعيدا: آه خطيبتي إللي سابتني مرمي على الأرض سايح في دمي، وأخذت أخواتها ومشيت، وحتى مكلفتش خاطرها تبص عليا.
شعرت لحظة بالتوتر، ارجعت شعرها خلف اذنها، وقالت: أنا كنت بكلمك عايزة أعتذرلك بسبب الموضوع ده، بعتلك كذا رسالة واعتذرت فيها، وأفهمك إني أنا مبقدرش أشوف دم وبخاف، أعصابي بتتعب، فمشيت، أنا آسفة حقك عليا، بس أنا حاولت أكلمك كثير، وأنت مردتش، حتى عمار أتصل بيك، وبرضو مردتش عليه.
رفع طارق حاجبه باستنكار: والله!! وكان المفروض أرد عليكي إزاي؟ وحضرتك مشيتى وسبتيني وأنا مضروب من خطيبك السابق إللي قولتيلي عليه قبل كده إنه مجرد زميل، وطلع خطيبك، وعديتها.
نظرت له سلوى بثبات وهي تركز النظر في ملامحه:
أنا قولتلك كده في البداية قبل مايكون بيننا أي حاجة، ولما عرضت عليا إنك عايز تخطبني، ووافقت عرفتك كل حاجة قبل حتى ما نقرأ الفاتحه، وأنت قبلت ومزعلتش.
طارق بصوت منخفض وعينان تلمعان بالحزن: صح يا سلوى أنا قبلت وعدتها، بس أنتِ شايفة إللي حصل في الحفله ده ورد فعلك عليه حاجة عادية؟
سلوى بصوت مرتبك: لا، مش حاجة عادية أكيد، بس أنا مليش دعوة بيه ولا وجهت له دعوة أصلا، وبالنسبه لرد فعلى أنا فهمتك، إني بخاف من الدم ومقدرتش أقف، بس أول ماروحت البيت واستوعبت قولت إيه العبط ده؟ إزاي مطمنش على طارق؟ كلمتك كذا مرة، بعتلك رسايل كتير واعتذرت، وأنت مكونتش بترد عليا ولاحتى على عمار...
ثم خفضت رأسها وقالت بهدوء: وأدينى أهو جايه اعتذرلك تانى، وأقولك أنا آسفه.
نظر لها طارق بضيق، وقال بغضب مكتوم: وإللي اسمه مكي ده، هيفضل ينط لنا كتير؟
سلوي بهدوء، وهى تنظر بعينيها الحزينه في اى اتجاه سواه حتى لا يلحظ حزنها: لا خلاص، بعد إللي حصل في الحفله معتقدش هيكلمني تاني.
تنهد طارق، ووضع يده في جيوبه، ونظر إليها بثبات: طب يا سلوى، الامتحانات الأسبوع الجاي خلصيها ونتخطب، ونحط حد للموضوع ده.
سلوى بابتسامة صغيرة: ماشي، أمي قالتلي كده برضو، بس المهم، أنت خلاص مش زعلان مني؟
أشاح طارق بوجهه بعيدا عنها: بصراحة لسة زعلان، بس هحاول أعديها.
رفعت سلوى حقيبتها على كتفها: طب أنا عندي محاضرة.
مال طارق نحوها بخفة: هنتقابل بعد المحاضرة؟
هزت سلوى رأسها نافية: لا، مش هينفع، عندي شغل، بس ممكن تيجي توصلني ونتكلم شوية.
طارق بإبتسامة خفيفة: اتفقنا.
سيارة مصطفى العاشرة صباحا.
كان مصطفى يقود سيارته بسرعة عاليه، وأصابعه تقبض على عجله القياده بعنف، ذهنه مشغول بما يدور في رأسه أكثر من الطريق، قلبه منقبض خوفا على ماسة من حديث ندى، يعرف ندى جيدا، ويعرف ماتتسبب به كلماتها، ومع ذلك، لم يستطع أن يمنع نفسه من الحزن لأجلها، فقد كانت يوما زوجته، وهذا وحده كافي ليشعل داخله غضبا وقلقا مختلطين.
أخرج هاتفه، يتصل بسليم مرارا ولكن لا رد! أعاد الاتصال ثانية، وثالثة ولكن دون جدوى، فصرخ وهو يضرب بيده على الدركسيون، ثم ألقى الهاتف بجانبه بعنف.
وصل إلى الفيلا الواقعة على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، الفيلا التي التقي بماسة في طريقها، تلك التي أحرقها سليم ليلة الأمس.
أوقف السيارة بحدة أمام البوابة، كانت الفيلا مغلقة بقفل وجنزير كبير، ورائحة الدخان مازالت تتصاعد من بين القضبان الحديدية، مع بقايا مياه وسواد يغطيان الأرض.
وقف ينظر للفيلا بذهول، عيناه تدوران بقلق، يحاول أن يرى من خلف الحديد، كان المبنى من الداخل مظلم، الدخان والرائحة يخنقان صدره.
اقترب رجل عابر يحمل سقالة على كتفه.
مصطفى بلهفة: هو إيه إللي حصل هنا؟
الرجل: حريقة كبيرة لحد الفجر، كانوا بيطفوها.
اتسعت عينا مصطفى، تنفس بصعوبة:طب وإللي كانوا جوا؟
هز الرجل رأسه: محدش يعرف عنهم حاجة، بس تقريبا مكانش فيه حد.
وقع الكلام عليه كالصاعقة، تراجع خطوة إلى الوراء، وأسند جسده على السيارة للحظات، يحاول استيعاب ما سمع، زاد خوفه على ماسة، هرول سريعا وصعد إلى سيارته، ثم أنطلق نحو "مجموعة الرواي".
مجموعة الراوي
عند وصوله، ترجل مسرعا، ووقف عند موظفي الاستقبال.
مصطفى: لو سمحت سليم بيه موجود؟
الموظفة: سليم بيه مجاش النهارده يا فندم.
مصطفى بتوتر: يعني هو كويس؟ أصل أنا الدكتور بتاعه وعايز أكلمه في موضوع مهم.
ابتسمت الموظفة بتهذيب: ثانية واحدة يا دكتور.
بحثت بين الأوراق ثم أخرجت بطاقة صغيرة.
الموظفة: ده كارت السكرتيرة الخاصة بيه، أتفق معاها على ميعاد، لأن سليم بيه اعتذر النهاردة ومش هيجي.
أمسك مصطفى البطاقة بعصبية واضحة: طيب شكرا.
خرج ببطء، يمسك البطاقة بين أصابعه، عقله يتصارع مع أسئلة لا تهدأ "يا ترى إيه إللي حصل؟ وهل لغياب سليم دخل بحريق الفيلا؟"
وقف عند سيارته، قلبه يزداد ضيقا، رفع الهاتف واتصل بإيهاب: ألو، يا إيهاب، عرفت توصل لحاجه؟
إيهاب: للأسف تليفونها لسه مقفول.
جز مصطفى على أسنانه بغضب: طب أروح لأهلها يعني ولا أعمل إيه؟! أنا روحت لقيت الفيلا محروقة
إيهاب بهلع: بتقول إيه!؟ طب أنت فين دلوقتي؟
مصطفى بتنهيده: أنا لسة في القاهرة؟!
إيهاب بهدوء: طب تعالى وهنشوف حل
أغلق الهاتف بعصبية، تمتم وهو يفتح باب السيارة بهمس يائس: إن شاء الله ميكونش حصلك حاجة، ويكون إللي في دماغي ده أوهام.
دخل السيارة، وأدار المحرك، والنيران مازالت تشتعل بداخله أكثر من تلك التي ابتلعت الفيلا.
💞____________بقلمي_ليلةعادل
فيلا سليم وماسة، الخامسة مساءً
جلس سليم في مكتبه، أمامه اللاب توب يراجع الملفات بعينين مرهقتين، كان يمد قدمه من حين لآخر ثم يغمض عينيه متألما، كأن الألم يزداد قسوة مع كل دقيقة تمر، تنهد بعمق، ثم نادى بصوت مجهد: يا سحر.
دخلت سحر مسرعة، عينيها مليئتان بالقلق:أيوه يا بيه؟
سليم وهو يضغط على ساقه: من فضلك هاتيلي الدوا من فوق، العلبه الحمرا، وأعملي فنجان قهوة،
سحر بلهجة حنونة: حاضر يا بيه، حضرتك تعبان؟
سليم يتنهد: آه شوية.
سحر بحنان: ألف سلامة عليك يا بيه.
سليم بتنهيدة ثقيلة: الله يسلمك، هي الهانم فين؟
سحر بإبتسامة صغيرة: قاعدة بتتفرج على التلفزيون وعملتلها طبق فاكهة بتاكله.
سليم بإيماءة هادئة: تمام، شكرا يا سحر.
صعدت سحر إلى الأعلى ثم عادت تحمل الصينية عليها فنجان القهوة، كوب الماء، وعلبة الدواء الحمراء، وأثناء مرورها في الممر، ألتقت بماسة، توقفت ماسة فجأة، نظراتها تركزت على الدواء.
ماسة بصوت متردد: الدوا ده لمين يا سحر؟
سحر بخفوت: لسليم بيه رجله وجعاه شوية.
ماسة بعينين مضطربتين: يعني تعبان أوي؟
سحر بنبره حزينه: لا التعب العادي إللي بيجي له، ربنا يشفيه ويعافيه...
وقبل أن تكمل سحر كلماتها، ظهر سليم يسير ببطء نحوهم، وقال بصوت جاد وهو ينظر إليهما: إيه يا سحر، كل دى بتجيبي الدوا والقهوه؟
سحر مرتبكة: آسفة يا بيه، اتفضل الدوا اهو، والقهوه احطهالك في المكتب؟
مد يده، تناول الحبة وابتلعها مع رشفة ماء، ثم قال بنبرة مجهدة: لا خلاص، هطلع أرتاح فوق.
سحر: خلاص هطلعهالك، ألف سلامة عليك يا بيه.
تحرك نحو الدرج، يجر قدمه، متكئا على الدربزبن متجنبا أي حديث مع ماسة كما أوصى الطبيب.
ظلت ماسة واقفة مكانها، قلبها يضيق كلما رأت خطواته المتعبة، فهي تلحظ بطء حركته في اليومين السابقين، لابد أن التعب اشتد عليه منذ اللحظه الذى ظل يركض فيها ورائها، شعرت بالوجع يتسلل إليها، وقبل أن تدرك، تحركت يداها من تلقاء نفسها، تمدها نحوه.
وقف سليم ينظر لكفها الممتد، ثم رفع بصره نحوها، ألتقت نظراتهما، فارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه، ووضع كفه فوق كفها كأنه وجد سندا حقيقيا.
ماسة بصوت مرتعش: متروح للدكتور وتبطل إهمال في نفسك؟
سليم بتنهيده: بروح ورجعت أعمل عليها علاج طبيعي، بس بقالي يومين مروحتش، علشان بالي مش رايق، كان المسكن مريحني بس النهارده التعب زاد شويه.
ابتلعت ماسة ريقها من إحساسها بالذنب تجاهه، وقالت بنبرة اهتمام خرجت منها رغما عنها: بلاش تهمل في نفسك يا سليم.
نظر إليها بابتسامة خفيفة، وقلبه يخفق بالفرحة: حاضر.
أكملا الصعود معا، وهي تسنده وقلبها يدق بعنف، وتحاول أن تخفي ارتباكها خلف ملامحها الجادة، بينما هو لم تفارق الابتسامة وجهه؛ ابتسامة رجل تحرر من سجنه أخيرا، لمسة يدها كانت له الدواء، شعر كأن الألم في قدمه تلاشى.
انتبهت ماسة لنظراته، ألتفتت نحوه وهي تعيد خصلات شعرها خلف أذنها بتوتر: بتبتسم كدة ليه؟
سليم بعينين لامعتين: وحشني أوي اهتمامك وخوفك عليا.
وسرعان ما صحح بمزاح رقيق: قصدي إنسانيتك.
ارتبكت ماسة، وسحبت يدها بسرعة، وأخفت ارتجافها خلف نبرة صارمة: بلاش كلامك ده، خليني أساعدك وبس، ولا أقولك أطلع لوحدك.
كادت أن تتحرك، لكنه جذبها من كتفها وقال بابتسامة مازحة: يا ستي بهزر معاكي، بلاش قفش، يلا طلعيني.
ارتعشت نظراتها للحظة، وتعالت انفاسها، ثم خفضت بصرها محاولة الهرب من ضعفها أمامه، تنهد هو، وتنهدت هي أيضا، قبل أن يكملا الصعود.
في غرفته.
ساعدته على الاستلقاء على الفراش، عدلت الوسادة خلف ظهره، تلامست خصلات شعرها وجهه، فأغمض عينيه يستنشق عطرها بعمق، كأن العالم كله أختفى وبقيت هي فقط، كان هائما بها، قلبه يفيض فرحا كسجين نال حريته أخيرا.
انحنت تخلع حذاءه، وهو يراقبها بعينين تلمعان بالامتنان، كان قادرا على فعل ذلك بنفسه، لكنه تركها، كأن لمستها هي الدواء الحقيقي.
رفعت رأسها، وجهها ما زال مضطربا: مرتاح كده؟
ابتسم، وعيناه مليئتان بالعاطفة: أيوة، شكرا يا قطعه السكر.
ماسة بضجر ممزوج باهتمام: أنت أكلت علشان القهوه والأدوية دي؟
سليم بإبتسامة: لا مستنى ناكل سوا.
تبسم ماسة بلطف واهتمام: أنا كنت مقررة أطبخ النهاردة بإيدي، هخلي سحر تعملك طبق فاكهة لحد ما الغدا يجهز.
هز سليم رأسه بالإيجاب، وقفت عند الباب: عايز تاكل حاجة معينة؟
بإبتسامة عاشقة: أي حاجة من إيدك حلوة، بس ولو عملتيلي الطاجن إللي بحبه، هبقى ممنون ليكي جدا.
هزت رأسها بإبتسامة بصمت، فتحت الباب وغادرت خطوة، ثم عادت وهي ترفع حاجبها: على فكرة، أنا بعمل كده عشان إنسانيتي، متفهمش غلط، أنا لسة مش طايقاك، بس أنت جوزي، وهتحاسب عليك.
تمتم سليم بابتسامة حزينة: فاهم، فاهم طبعا، ما أنا قولتلك، وحشتني إنسانيتك.
تبادل النظر للحظات، ثم خرجت وهي تلعن قلبها الذي مازال يحن إليه ويخاف عليه، بينما هو أغمض عينيه غارقا في سعادته، وهو يتذكر لمساتها واهتمامها.
وبالفعل نزلت ماسة إلى المطبخ، بدأت في تحضير الطعام بحماس غريب، دون أن تفهم سر الدافع الذي يحركها، وبعد أن انتهت من إعداد كل شيء ورتبت الصينية، صعدت إلى الأعلى، كان سليم قد غفى.
وضعت الصينية على الطاولة القريبة، ثم وقفت تتأمل ملامحه بتركيز، كأنها تبحث عن شيء ضائع منها، اقتربت أكثر، حتى صارت رائحة عطره تلامسها، ترددت، ثم مدت أناملها بخفة، كانت تريد أن تداعب لحيته، قاومت لحظات، لكنها عجزت، فمررت أصابعها برعشة على شعر لحيته، في تلك اللحظة دق قلبها بعنف، وشعرت بقشعريرة تسري في جسدها، كانت تشتاقه مهما كذبت على نفسها، ومهما حاولت أن تبدو صلبة وقاسية، فهي في أعماقها لا تزال تعشقه، ولا تزال تضعف أمامه، لهذا كانت دائما تهرب منه، لأنها تعلم أن البعد يمنحها قوة، أما القرب فيسلبها الإرادة.
تنهدت بدموع غلفت عينيها من ذلك الضعف، وجزت على أسنانها بغضب من نفسها: كيف تفعل كل ذلك بعد ما فعله بها؟ يا الله، أي حب هذا الذي يجعل الإنسان ضعيفا أمام من يحب، مسلوب الإرادة، كأن القلب هو الذي يحكم كل الأفعال؟
مسحت دموعها بسرعة، ثم أخذت نفسا عميقا وربطت على كتفه برفق: سليم، سليم، أصحى.
تحركت جفونه ببطء، فتح عينيه وابتسم: ياااه، يا ريت كل يوم أصحى على عيونك إللي بموت فيهم دول.
نظرت له ماسة، وقد هزها الموقف من الداخل، صدرها ارتجف من قربه ونظرته، وقالت وهى تدعي الانشغال بجلب صنيه الطعام: يلا قوم، أنا عملت الأكل.
بدأ أن ينهض حتى جلس، انزلقت عيناها نحو طبق الفاكهه على الكومودينو، والذى يبدو أنه لم يمسه قط، قالت بصوت خافت: مأكلتش ليه؟
رمقها سليم بإبتسامة صغيرة: مكانش ليا نفس.
قالت وهي تحاول إخفاء ارتباكها: طب عامل إيه دلوقتي؟
هز رأسه إيجابا: أحسن، الحمد لله.
وضعت الصينية أمامه وجلست: طب يلا كل.
نظر سليم إلى الأطباق بأنبهار، فوجد فراخ مشوية على طريقته المفضلة، ورق عنب، وطاجن لسان عصفور بالخضار ومخلل زيتون.
سليم بابتسامه: أنتِ عاملة كل الأكل إللي بحبه!
ماسة ببرود: وأنا كمان بحبه، متنساش كده.
ضحك وقال بتدلل وهو يمسك يده ويدعي الألم: طب ممكن تأكلينى؟ إيدي وجعاني.
نظرت له بسخرية: انسانيتي ليها حدود يا سجنجن.
ضحك بحرارة: تصدقي وحشتني الكلمة دي،وحشتني حتى سجنجن إللي كنتي بتجننيني بيها.
ضحكت ماسة ضحكة خرجت منها رغما عنها، ثم دفعت الأطباق أمامه: طب يلا كل.
بينما يتناول الطعام، رفعت نظرها إليه وقالت بإهتمام: هو أنت كنت تعبان كده علشان الجري إللي جريته ورايا؟
ابتسم سليم بتعب: هو أكيد الفرهده اللى فرهدتهالى جزء من التعب، بس مش السبب الرئيسي، أنا قولتلك بقالى يومين بفوت جلسه العلاج الطبيعي وباخد مسكنات، بس هكلم الدكتور واحجز معاد بكره.
ثم ركز النظر بها، وقال بعينين تلمع: تسلم إيدك يقطعه السكر، أكلك كان واحشني، بس مش أنتِ إللي عاملة ورق العنب؟
أجابت بخجل: سحر إللي عملته، بس أنا إللي سويته.
سليم بابتسامة: شوفتي، بعرف آكلك إزاي؟
رفعت ماسة حاجبها بشراسة: هو إنت كنت عايز ماتعرفش اكلي؟ والله كنت دبحتك!
ضحك سليم: لا يا عم الشرس، إحنا مش قدك!
رفعت ماسة حاجبها: أهو كده الكلام!
وضحكوا سوا.
صمتت لبرهة، وأخذت تحدث نفسها بصمت: ماذا أفعل؟ كيف أمزح معه وكأن شيئا لم يكن؟ أي عبط هذا؟ ثم وضعت الملعقة وقالت فجأة: الحمد لله، أنا شبعت.
رفع حاجبيه: أنتِ مكلتيش حاجة.
ماسة بنيرة مهتزة وهي لا تنظر له: لأ، أكلت كتير النهاردة، لو احتاجت حاجة نادى...
سكتت لحظة، كادت تقول "سحر"، لكنها بلا وعي أكملت: نادي لي أنا في الأوضة.
نظر سليم اليها بصمت، ثم أومأ برأسه بإبتسامة باهتة، كان يشعر بالحزن من مقاومتها، لكنه في الوقت ذاته يغمره أمل جديد.
خرجت من الغرفة مسرعة نحو غرفتها، وهي تشعر بالوجع والغضب، فامسكت وسادة والقتها بعيدا.
منزل لوجين الثامنة مساءً
وقف ياسين أمام الباب، يحمل باقة ورد وعلبة شوكولاتة فاخرة، ضغط على الجرس بإبتسامة هادئة، وعيناه تلمعان بثقة.
بعد لحظات، فتحت له لوجين الباب، كانت بكامل أناقتها، ترتدي فستانا بسيطا لكنه أنيق، تاركة شعرها ينسدل على كتفيها، وابتسامتها تضيء ملامحها.
لوجين بترحاب، وهي تتنحي جانبا لتدعوه يدخل:
ايه المفاجأه الحلوه دى، أتفضل.
ياسين بإبتسامة خفيفة وهو يعبر العتبة: عاملة إيه؟
اومأت برأسها وهي تغلق الباب خلفه: الحمد لله.
مد إليها الورد، وقال بصوت هادئ: اتفضلي.
اخذت منه الباقة، تشمها بإبتسامة إعجاب: ميرسي جدا، شكله جميل أوي.
ثم أشارت بيدها: أتفضل من هنا.
سارا معا نحو الصالون.
لوجين بامتنان رقيق: تعبت نفسك والله ماما بقت كويسة الحمد لله، وكنت هرجع بكره.
رفع ياسين حاجبيه مازحا: مكنتيش عايزني أجي ولا إيه؟
هزت لوجين رأسها بابتسامه: لا، إزاي! أنت تيجي في أي وقت.
في الصالون.
جلست والدتها نهى وبجانبها أختها نغم، حاولت الأم النهوض لتحيته.
فانحني ياسين يصافحها بأحترام: خليكى زى ما أنت، حمدلله على سلامتك يا هانم.
ابسمت نهى بود: الله يسلمك، شكرا، تعبت نفسك.
جلس ياسين بهدوء: مفيش أي تعب.
ثم يلتفت نحو نغم بأبتسامة جانبية: أخبارك إيه يا نغم؟
إجابته نغم بخجل خفيف: تمام الحمد لله.
لوجين بتساؤل: تشرب إيه؟
ياسين بابتسامه: قهوة مظبوطة.
لوجين بمرح: طبعا مفتقد القهوه إللى بعملهالك.
ياسين بابتسامه: آه والله اليومين دول مش عارف اشرب قهوه خالص.
لوجين بابتسامه: دقيقه واحده ويكون قدامك أحلى فنجان قهوه.
ثم تتحرك بخفة نحو المطبخ.
وحينما اختفت داخل المطبخ، ألتفتت الأم نحوه وقالت بصوت منخفض يميل للجدية: أنا حقيقي بشكرك على إللي عملته معانا، المستشفى إللي وديتنا ليها، وإنك دفعت الحساب، وفضلت طول طول الليل مع بناتى، حقيقي مش عارفه اشكرك ازاى.
ابتسم ياسين بخجل: لا شكر على واجب، أى حد مكاني كان هيعمل كده وأكتر.
نهى بنبرة ذات معنى: طيب، أخبار مراتك وبنتك ايه؟
عدل ياسين جلسته، وأجاب بإختصار: الحمد لله، كويسين.
عادت لوجين بالقهوة، ووضعت الصينية على الطاولة برفق، وقالت بمرح: عملتلكم أحلى قهوه هتشربوها في حياتكم.
ثم جلست بجانب ياسين، وقالت بابتسامه: أخبار الشغل من غيري ايه؟ أكيد مالوش طعم.
ياسين ضاحكا: حقيقي، المكتب مستنيكي تنوريه، ووراكي شغل قد كده.
رفعت لوجين حاجبها مازحة: والله حاسة، بس متنكرش إني كنت بظبط كل حاجة بالتليفون.
ياسين باستسلام: مقدرش أنكر.
وأخذ يتناول قهوته، وحينما انتهي وضع الفنجان، ونهض بهدوء: طيب، أنا همشي بقي، كنت بس جاي أطمن على مدام نهي، والحمد لله إنها بخير.
ثم التفت للوجين: ولو حابة تقعدي يومين زيادة، براحتك.
نهضت لوجين، مزحته: إيه ده؟ مش لسه قايل مفتقدني ههههه؟
ياسين مشيرا برفق إلى والدتها بإبتسامة: الهانم أهم،
عن اذنكم.
عند الباب
لوجين بإبتسامة ممتنة: شكرا يا ياسين على الزيارة اللطيفة والسريعة أوي دى.
ياسين بجدية ممزوجة بالدعابة: زيارة المريض لازم تكون سريعه.
ثم ابتسم مازحا: هستناكي بكرة، أنتِ والسندوتشات.
ضحكت لوجين وهي وتلوح بيدها: بس كده، عنيا.
صافحها ونظر في عينيها لحظة صامتة، ثم ابتعد بخطوات ثابتة نحو المصعد. تابعته بعينيها وابتسامة صغيرة حتى غاب عن نظرها.
عادت وجلست بجوار والدتها، بينما نغم فتحت علبة الشوكولاتة وأخذت قطعة بهدوء.
نغم بتلذذ: طعمها حلو أوى.
نظرت نهى إلى لوجين بنظرة جادة لكن الحديث يخفي شيئا آخر: ياسين محترم، بس متجوز.
نظرت لها لوجين بتعجب: ما أنا عارفة يا ماما إنه متجوز.
اقتربت نهى منها، وقالت بصوت حازم: خليكي دايما فاكرة النقطة دي.
تنفست لوجين بعمق، وهزت رأسها: مفيش حاجة بينا يا ماما صدقيني، إحنا أصحاب عادى.
وضعت نهى يدها على يد ابنتها، وتابعت بجدية: لا مش عادي، خصوصا إنه راجل متجوز، مش عايزاكي تتوجعي، علاقتكم حساها قربت أوي وأخدتوا على بعض أوى، وده مينفعش، هو مهما لف مسيره هيرجع لمراته وبنته، أنتِ إللى هتتوجعي يا بنتى.
منزل عائلة مصطفي، الثامنة مساء.
جميع أفراد العائلة يجلسون في ترقب وانتظار، القلق مرسوم على وجوههم، وبعد قليل، فتح مصطفى الباب ودخل، فنهضت العائلة كلها فورا.
إيهاب بلهفة: خير يا مصطفى؟! إيه الحريقة إللى كنت بتقول عليها في التليفون دى؟ إيه إللى حصل؟
نبيلة بسرعة: ماتصبر عليه يا إيهاب ياخد نفسه الأول، عائشة هاتي كوباية مية لأخوكي.
تنطلق عائشة نحو المطبخ، بينما جلس مصطفى على الأريكة منهكا، يلتقط أنفاسه بصعوبة القي مصطفى مفاتيحه على الطاولة، عادت عائشة بكوب ماء وتقدمه له.
لم ينتظر إيهاب، قال: فهمني، إيه إللي حصل؟
احتسى مصطفى رشفة، ثم تكلم بصوت متعب وممزوج بحيرة: معرفش، أنا روحت الفيلا لقيتها محروقة ومفيش حد هناك، وسليم مبيردش على تليفونه، ومش موجود في المجموعة، أنا خايف عليها يكون عمل فيها حاجة!
إيهاب بقلق: طيب معرفتش الحريقة دي سببها إيه؟
رفع مصطفى كتفيه بيأس ثم أنفجر بنبرة مشوشة: مش عارف، تفتكروا يكونوا اتخانقوا مع بعض وحرق الفيلا؟ والله أعلم الملعونة ندى قالتله إيه تاني؟!
حاولت نبيلة تهدئة الجو: ممكن تكون الحريقة دى قضاء وقدر، وأنتم إللى واهمين نفسكم.
إيهاب مستنكرا: قضاء وقدر؟! اشمعنا دلوقتي؟!
نبيلة بعقلانية: واحد زي سليم كان زمانه حرق الفيلا بيها من أول يوم رجعها فيه، مش هيستنى يوم بليلة وبعدين يحرقها!
فكر مصطفى للحظة، ثم قال باقتراح مرتبك: ممكن يكون بعد ماحرقها خرجها من الفيلا، وحطها في مكان تاني...
صمت للحظة ثم تابع بحيرة: طب نكلم أهلها؟
صمت ووضع يديه على جبينه بتفكير عميق: لأ بلاش هنخوفهم على الفاضي، هو أكيد هيظهر...
أضاف بحسم: ولو مظهرش أنا هروح لأي حد من أهله، يوصلني ليه.
إيهاب بسرعة: عامة أنا مظبط الأرقام لو عايز تكلم أختها.
زم مصطفي شفتيه بحيرة واضحة على ملامحه، وهو عاجز عن إتخاذ قرار: خايف نعمل كدة نخوفهم عليها، وبعدين هما بإيديهم إيه يعملوه أصلا؟!
حاولت نبيلة تهدئة الأجواء مرة أخري: أنا متأكدة إنه مش هيعمل لها حاجة.
فقد إيهاب أعصابه لأول مرة: أنتِ اللي طالع عليكي مش هيعمل لها حاجة؟! أنتِ جايبة منين كل الثقة دي فيه بعد كل إللى هى حكته عنه؟!
نظر إليه مصطفى وعائشة بإستغراب.
مصطفي بحدة معاتبه: إيهاب، خد بالك من نبرة صوتك.
تراجع إيهاب فورا: أنا آسف يا ماما مقصدش، أنا هدخل أقف في البلكونة شوية.
نهض متجها إلي الشرفة، ولكن أوقفته نبيلة قائلة بصوت متماسك: إيهاب، هو سمع كلام ندي، وجه ورجعها بهدوء، وحضنها قدامنا، وكلنا شوفنا خوفه ولهفته عليها لما رفعت السكينة على رقبتها، دى كلها مش تصرفات حد هيحرق ولا يأذى، دى تصرفات واحد عاشق التراب إللى بتمشي عليه، ده حتى مصطفي أخوك لما عمل إللى عمله سكتته بنظرة من عنيها.
أيدت عائشة كلام والدتها برفق:وأنا رأيي كدة برضو.
مصطفى بجدية وحسم: عموما، أنا مسافر القاهرة يومين، ولو مظهرش في اليومين دول، هقابل أبوه أقوله يوصلني بأبنه.
هزت نبيلة رأسها بضجر: أنا مش فاهمة أنت شاغل بالك بيها ليه، ماخلاص رجعت لجوزها، عايز منها إيه تانى، إحنا عملنا معاها الواجب وزيادة.
أنفجر مصطفى بضيق: دى كانت هتموت نفسها عشان تاخد منه كلمة إنه مش هيأذينا! وأنتِ تبيعيها كده بسهولة! وحتى مش عايزانا نعرف أخبارها ونطمن عليها!
ثم نظر في عينيها وهو يضغط على كلماته: بقولك أنا روحت لقيت الفيلا محروقة، وندى قالتله إن كان فيه بينا علاقة! واحد زي سليم تخيلي ممكن يعمل فيها إيه بعد كلام ندى ده؟
نبيلة بحزن: أخص عليك يا مصطفى، أنا بعتها !! دى ربنا وحده يعلم أنا حبتها قد أيه، بس بحبكم أنتم أكتر، أنتم ولادي، وأنا خايفة عليكم، إذا كان سليم سكتلك مرة فهو مش هيسكتلك كل مرة...
أضافت بلوم وعتاب: وأصلا مكانش يصح إنك تقول الكلام إللى أنت قولته ده، ولا تقف قصاد راجل وتمنعه ياخد مراته وتتحايل عليها متروحش معاه، دى لا أدب ولا أصول ولا دين ولا أنا ربيتك على كده، ولما أجى أكلمك في الصح والأصول تقول عليا بعتها؟!
هز مصطفي رأسه بإيجاب وهو يقول بنبرة معاتبة في محاولة لإخفاء خجله من نفسه: طب والأصول يا ماما بتقول إن واحدة عاشت وسطنا شهور، وأكلنا مع بعض عيش وملح، يوم ماتمشي منسألش فيها ولا نطمن عليها !!! خصوصا بعد ماعرفنا إللى ندى عملته وأنتِ عارفة كويس قد إيه ندى مؤذية؟! وإللى زاد وغطي إني روحت لقيت الفيلا محروقة، دى كلها حاجات متخلنيش أقلق وأبقي عايز أطمن عليها !!
نبيلة بنبرة قلقة: يا أبنى يمكن هما قافلين على نفسهم وبيتصافوا ويتعاتبوا ويومين ولا حاجة ويظهروا، فبلاش نقلق نفسنا على الفاضي، وربنا يسترها معاها ويجيب العواقب سليمة، قوم يا أبنى غير هدومك على ما أعملك لقمة تاكلها، أنت مكلتش حاجة من الصبح وطول النهار برة.
تنهد مصطفي، ثم هز رأسه بعدم اقتناع، واتجه إلي غرفته.
نظرت نبيلة لأثره وهي تنظر لأعلي وتدعو: ربنا يهديك يا مصطفى يا ابني.
وفي الليل...
عند لوجين، كانت الموسيقى الهادئة تتردد في الغرفة، وهي جالسة على السجادة الرياضة بملابسها الرياضية، أغمضت عينيها، وأخذت نفسا عميقا، ثم مددت جسدها في إحدى وضعيات اليوغا.
لكن عقلها أبى أن يصفو... تطفو صورة ياسين أمامها من جديد: صوته، وقوفه بجانبها، ضحكهما معا، تذكرت دفء اللحظات، وكيف كان قلبها يطمئن في وجوده، فكرت في حديث والدتها، هل يمكن أن يكون حديث والدتها صحيح؟ هل قربها منه خطأ؟
رفرفت بجفونها سريعا، وضعت كفيها على وجهها تخفي ابتسامة صغيرة تسللت رغما عنها، ثم همست لنفسها بحزم "مفيش أي حاجة، صديق وبس، ماما بتهول الموضوع."
سحبت نفسا آخر بعمق، وكأنها تطرد تلك الأفكار بعيدا، مدت ذراعيها إلى الأمام، وأعادت تركيزها على التمارين.
وفي اتجاه آخر...
كان مصطفى واقفا أمام نافذته، الهاتف مازال في يده، وسليم لا يجيب على اتصالاته، الأفكار تتزاحم في رأسه، وكلما تذكر ما قالته ندى لسليم، أزداد خفقان قلبه واضطربت أنفاسه.
لكن القلق بلغ ذروته بعد أن رأي الفيلا محترقه، لم يعد يفهم شيئا، سوى أمر واحد ظل يسيطر على عقله "يجب أن يلتقي بسليم بأي طريقة ممكنة"
وعند سليم وماسة.
كان سليم قد أتصل بالطبيب النفسي، وروى له ماحدث مع ماسة، ثم سأله عن الوقت المناسب لإعداد المفاجأة التي اتفقا عليها، فأجابه الطبيب أن ينتظر يومين ويتركها على راحتها، مؤكدا أن مايحدث معهما يعد تقدما رائعا.
ظل سليم يفكر بسعادة بكل ما قدمته ماسة له، بينما كانت هي غارقة في صراع داخلي، رغم مرور يومين فقط، شعرت بالضجر والحيرة، والألم الذي يشد قلبها للاستماع إليه، بينما عقلها يرفض، سالت دموعها بصمت، وهي تغوص في أفكارها عن ما هو قادم؟
حتى جاء الصباح، ليبدأ يوم جديد في حياة الجميع يحمل في طياته الكثير.
💞______________بقلمي_ليلةعادل
مكتب ياسين، التاسعة صباحا
دخل ياسين إلى مكتبه بخطوات واثقة، مر على مكتب لوجين، وجدها جالسه بكامل أناقتها، شعرها منسدل على كتفيها، وعيناها غارقتان في الأوراق أمامها، جمالها الطبيعي وبراءتها لفتت انتباهه، فوقف يتابعها بابتسامه واسعه.
ثم تقدم اليها، ومال برأسه قليلا وقال بنبرة لطيفة:
وأنا أقول المكتب منور ليه، حمدالله على السلامه.
رفعت لوجين عينيها، وابتسمت بخفة: الله يسلمك.
أومأ بثقة، وظهر في صوته نشاط صباحي: ها مستعدة؟ النهاردة فيه شغل كتير.
عضت لوجين شفتها بخفة وهي تنظر في شاشة الكمبيوتر: ده حقيقي أنا لسة ببص على الجدول، عندك اجتماعين وكذا مقابلة مهمة، بس متقلقش أنا هظبطلك كل حاجة.
أشار ياسين بيده بعمليه: تمام، أعمليلى فنجان القهوة بتاعك إللي مفتقده، وتعالي عشان نتكلم في الجدول.
أومأت سريعا، وأعادت عينيها إلى الأوراق، تخفي ابتسامة صغيرة، ودخل هو إلى مكتبه.
بعد دقائق، طرقت الباب بخفة، ودخلت تحمل كوب ليمون، ووضعته أمامه بحذر: قولت أعملك لمون بدل القهوة، القهوة من غير فطار تحرق دمك، أنا عارفه إنك مش بتحب تفطر دلوقت، فشويه كده أجيبلك السندوتشات تفطر وبعدين أعملك قهوة.
رفع ياسين عينيه عن اللاب توب، ونظر إليها بابتسامة إمتنان: ميرسي يا چوچا.
ثم مال للأمام، عينيه تلمعان بحيوية صبيانية: بس قبل متسحلينى معاكى في الشغل، ألحقيني بخروجه حلوه أنا حاسس إني فصلان على الآخر.
هزت كتفيها بخفة، ورفعت حاجبيها بإبتسامة مازحة: ممكن أظبطلك خروجة مع أصحابك، تروحوا مكان زي الملاهي، تمسكوا فيه مسدسات لعبة كدة وتقتلوا بعض، مش فاكرة اسمها إيه.
قهقه ياسين، وضرب كفه على المكتب: إبعديني عن الألعاب القتالية، دي خليها لرشدي، هو بيحبها.
لوجين بابتسامه: طب هفكرلك في مكان تاني.
ساد صمت قصير، دقق ياسين النظر في عينيها وقال بدهشة: هو أنا ليه حاسس إنك مش حاطة نفسك معايا في الخروجه؟
ارتبكت، وقالت بخفوت: لا أنا مش هينفع أخرج معاك الفترة دي، لحد ما أتأكد إن ماما بقت كويسة.
لكن الحقيقة أنها كانت تريد أن تبتعد قليلا، تخشى أن يصدق كلام والدتها، وأن يدخلها قربها الزائد منه في حزن، أو يجعلها تحبه دون أن تشعر.
أومأ ياسين ببطء، يخفي خيبة أمله بإبتسامة باهتة: تمام.
حاولت لوجين تغيير الموضوع: طب قولي، أخبارك ايه مع مدام هبة لسه الأمور بينكم مش متظبطه؟
رفع يده سريعا مقاطعا: لا، مش عايز أتكلم في الموضوع ده، خلينا نبدأ شغل.
لوجين بهدوء: حاضر.
ثم مدت يدها بملف وقالت: الأوراق دى محتاجه توقيعك.
أخد منها الملف وقبل أن يبدأ بالتوقيع، رفع عينيه اليها مبتسما: بقولك إيه، إحنا عندنا مزرعة خيل علي طريق الفيوم، إيه رأيك نقضي اليوم فيها؟ أنا شوفت على الإنستا بتاعك إنك بتحبي الخيل.
رفعت عينيها بإرتباك: مش عارفة، بس أصل..
قاطعها بحسم، وصوته يحمل قرارا نهائيا: لا مفيش أعذار، يوم الجمعة هنروح.
لوجين بارتباك: ماشي هشوف.
وبدأ في العمل معا، كان ياسين بين الحين والآخر يلقي نكتة، فتضحك، لكن ضحكتها لم تكن صافية كما اعتاد، إذ ظلت عيناها تحملان قلقا خفيا.
وفجأة، فتح الباب بسرعة، ودخلت فايزة بخطوات حادة: ياسين كنت عاي...
لكنها توقفت فجأة حين رأت لوجين، وقفت لوجين وشدت الأوراق بين يديها، وقالت بتحفظ: صباح الخير يا فايزة هانم.
ضيقت فايزة عينيها، ونظرت اليها بنظره فاحصه، ثم ردت بجفاء: صباح النور، أخيرا جيتي.
لوجين، بنبرة تحمل تبريرا: ماما كانت تعبانة.
لوحت فايزة بيديها: عندي خلفية، ألف سلامة..
ثم نظرت لياسين وقالت بعملية: ياسين كنت عايزاك تركز كويس في المناقصه دى، لازم ناخدها.
اتبسم ياسين، وقال بصوت هادئ مطمئن: متقلقيش هناخدها، حضرتك هتحضري معايا.
رفعت حاجبها بإيجاب: أيوة هكون معاك.
ياسين بتهذب: تمام، عشر دقايق وهكون جاهز.
أومأت برأسها، لكن عينيها لم تفارق لوجين، استدارت نحو الباب، وأمسكت بالمقبض، وقبل أن تغادر، دوى صوت ياسين من الداخل: أنا مش عايز اعتراض هتيجي معايا المزرعة مفيش هشوف، هنعمل سباق خيل مع بعض.
ضحكت لوجين بخفة، وحركت يدها بعفوية: هو أنا ليه حاسة إنك بتحاول تغريني علشان عارف إني بحب الخيل.
ابتسم ياسين بمكر، ومال نحوها: الصراحة آه، الشغل واخدك مني، وماما كويسة خلاص، بلاش هس هس.
ابتسمت لوجين، رفعت حاجبها متحدية: خلاص ماشي، طب واللى يكسب السبق؟
ياسين ضاحكا: مبلاش لاكسبك زى ما بكسبك علطول.
أشارت لوجين بتهديد مازح: لا لحد هنا وإنسى، الخيل حاجه والاسكواش حاجه، أنا كنت لحد أولى إعدادي بتدرب خيل ودخلت مسابقات كتير.
ياسين بابتسامه: عايزين نبقي نشوف الجمدان دى في المزرعه، دلوقت خلينا نخلص إللي ورانا.
كل ذلك، وفايزة تقف خارج المكتب تستمع إلى الحديث، ابتسمت فجأة، وومضت في عينيها فكرة غامضة، كأنما وجدت خيطا تلعب به!
مكتب سليم العاشرة صباحا
في بهو المكتب وقف مصطفى أمام السكرتيرة نور ووقاره يزيده صرامة.
مصطفى بإقتضاب: عايز أشوف سليم بيه؟!
نور بإبتسامة مهنية: فيه موعد سابق؟
مصطفى بصرامة: قولي له دكتور مصطفى.
أومأت نور سريعا، ثم دخلت إلى المكتب، تاركة مصطفى واقفا بجموده، يديه في جيبيه، وجهه مشدود الملامح.
بعد لحظات خرجت نور وقالت: اتفضل يا فندم، سليم بيه في انتظارك.
مكتب سليم
كان سليم يجلس خلف مكتبه العريض، ينظر في الأوراق المبعثرة أمامه، وكأن دخول مصطفى لا يعنيه.
دخل مصطفى بخطوات سريعة، والغضب بادي على ملامحه، وصاح بغضب: كلمتك كتير، مبتردش عليا ليه؟
رفع سليم عينه ببرود، وأجاب بهدوء وهو يشير للمقعد: اتفضل يا دكتور.
نظر له مصطفى ووقف مكانه، وصوته أرتفع أكتر وقال: رد عليا يا سليم، مبتردش عليا ليه؟
سليم ببرود: هو أنا المفروض أبررلك؟
أشتعل وجه مصطفى غضبا، أقترب خطوة من المكتب: عملت فيها إيه؟
حرك سليم مقعده بهدوء وقال بنبرة ثابتة: وهعمل فيها إيه؟ أنت ناسي إنها مراتي؟!
مصطفى بتوتر: سليم الكلام العبيط إللي قالتهولك ندى مش حقيقي، دي واحدة مجنونة صدقني ولا كلمة من اللى قالتهولك صح.
ابتسم سليم بهدوء وثقة: أنا عارف، أنا واثق في ماسة.
أوما مصطفى برأسه: طب كويس، كنت قلقان عليها.
رفع سليم حاجبه وهو يتأمله: مش شايف إن قلقك ده زيادة حبتين؟ وغير مقبول، بتخاف عليها من مين؟ من جوزها؟
جلس مصطفى بهدوء، وصوته صار أكثر حدة: مش شرط علشان أنت جوزها تكون مصدر أمان ليها، متنساش إنها خرجت من بيتك في عز الليل بقميص نومها في حالة صعبة جدا، وواخدة علقة موت، ولما جيت تاخدها من عندنا مخرجتش معاك غير وهي رافعة سكينة على رقبتها وبتطلب منك أمان الناس إللي وقفوا معاها، إزاي قابل على نفسك تعيش مع واحدة مش عايزاك؟! لازم تفهم إنها مش عايزاك ووجودها معاك دلوقتي في الشرع حرام.
اشتعلت عيني سليم بالغضب، ومال للأمام قليلا وهو يقول بصوت منخفض لكنه حاد: ماسة ماشية معايا برضاها، وأظن إنها قالتلك كده بنفسها، وقاعدة في الفيلا برضو برضاها، أنا مغصبتهاش على حاجة.
ثم عاد بظهره على الكرسي مرة أخرى، وهو يحاول تمالك غضبه، مذكرا نفسه بأن هذا الرجل هو من أنقذ ماسة، وتابع على نفس ذات الوتيرة: فأهدى كده يا دكتور يا محترم، وخلينا نتكلم بهدوء، وأعقل الكلام إللى أنت بتقوله.
قبض مصطفى يديه بعنف وصوته امتلأ إصرارا وهو يركز النظر في ملامح سليم: لازم تفهم اني مش هسيبها وهحررها منك، أنا مش هخاف، وعارف إنك ضعيف ومتسند على سلطتك وحراسك وفلوسك، لكن أنت من غيرهم فاضي وضعيف، وأنا مش هسبهالك تمرمط فيها أكتر من كدة؟!
قال كلماته تلك ونهض وخرج بهدوء وقوة
جز سليم على أسنانه بقوة كادت أن يفتك بهم، وقلب عيناه التى كانت تطلق شررا من شدة غضبه، ارتجفت يده لحظة، وفجأة نهض بعنف، وقلب الأوراق المبعثرة على المكتب، ثم مسح سطحه بيده في حركة واحدة، فتساقطت الملفات أرضا شيء واحد هو الذي يجعل سليم يحاول ان يتملك نفسه أن ذلك الرجل هو من انقذ ماسة.
المصحة النفسيه التى نقلت لها ندى، العاشره صباحا.
بدأت ندى تستعيد وعيها شيئا فشيئا، وكانت الإصابات على جسدها واضحة للعيان؛ يدها مكسورة ومغطاة بالكدمات، وقدماها متورمتان، ورأسها مربوط بشاش طبي
ندى بصوت واهن وهى ترمش بعينيها في محاولة لاعتياد علي ضوء الغرفه: آااه، أنا فين، أيه اللى حصل
اقتربت مشيرة من الفراش، وصوتها يعتصره الألم واللوم: إيه إللي عملتيه في نفسك دى يا ندى؟ وكل دى ليه؟ علشان راجل قالك أنا مش عايزك؟ فين كرامتك يا بنتي؟ هي حصلت تنتحري وتموتي كافرة؟! أنا مش عارفة أقولك إيه؟! هتموتيني أنا وأبوكي ناقصين عمر من اللي بتعمليه فينا دى.
مزقت الكلمات صدر والدها، فقال بنبرة مختلطة بين الحزن والغضب ومليئه بالخذلان واللوم: فين ندى بنتى اللى ربيتها؟ راحت فين؟ كان فين دماغك وتربيتك وأنتِ بتأذي ست ملهاش ذنب، طب مفكرتيش في رد فعل مصطفي لما يعرف! وكمان راحه تقوليله بمنتهى البجاحه إن أنتِ إللي أذيتيها؟ أنتِ جبتي الشر والجحود دى كله منين؟!
انفجرت ندى ببكاء متقطع، وهمست بصوت مكسور: كنت عايزها تمشي من قدام عنيه، علشان مصطفى يشوفني ويرجعلي؛ لأنه كان مهتم بيها ومش شايف غيرها.
مشيرة بعنف وحزن في آن واحد: مش الست دي يا ندى ولا غيرها اللى خسروكي مصطفي، أنتِ إللي ضيعتيه من ايدك بعمايلك دي.
ثم أشارت بيدها بحسم وهي تقول: وأسمعي أنتِ هتفضلي هنا، وهتتعالجي، حتي لو غصب عنك، وهتنفذى كل إللى يطلب منك.
صمت المكان لبرهة، ثقل الكلام يملئ الغرفة، بينما الطبيب يكتب ملاحظاته بهدوء.
نظرت ندى حولها باستغراب، وهي تتسائل: هنا؟ هنا فين؟
فتحي بحزم: هنا في المصحه النفسيه، هتتعالجي وتنفذى كل إللي الدكتور هيقولك عليه حتى لو غصب عنك.
صاحت ندى بصدمه: مصحه؟؟ مصحة اييه؟؟؟
ثم وقفت بعنف رغم الألم الذى ينهش جسدها، وصاحت بعنف ونكران، وهي تضع يديها على أضلعها بألم: أنا يستحيل أقعد هنا ثانيه واحده، أنا مش مجنونه علشان أقعد هنا، أنا معملتش حاجة غلط علشان تقولوا عليا مجنونه، أنا كنت بدافع عن حبي، هي إللي كانت عايزة تاخده مني، مصطفى بيحبني أنا، هو بس زعلان منى شويه وأنا هصالحه.
نظر اليها فتحي بحزن وهو يئن على حال ابنته: لا يا ندى، مصطفى مبقاش بيحبك، وأنتِ لازم تصدقي دى.
رفعت ندى عينيها إلى أبيها برجاء يائس ويديها ترتعشان وهي تقول بمهاوده: حاضر يا بابا، أنا مش هتكلم عن مصطفى تاني، ولا هقرب من أي حد يخصه، بس بالله عليكم متسبونيش هنا أنا مش مجنونه.
فتحي بصوت مكسور: أنتِ كنتي هتموتي نفسك يا ندى!
ندى وهي تلهث من البكاء، وتقول في محاولة لإقناعه: مش هعمل كدة تاني.
اقترب الطبيب خطوات قليلة، وقال بصوت هادئ لكنه حاسم: لو بقيتي كويسة هتخرجي، إحنا بنعمل كده عشان مصلحتك وسلامتك.
صرخت ندى بأعلى صوتها: أنا مش هقعد هنا دقيقه واحده، أنا مش مجنونه، أوعوا من وشي ..
اندفع بعض الممرضات نحوها وحاولن الإمساك بها بقوة وحزم، لكنها قاومت، ويدها تلوح في الهواء وتدفع من يحاول الاقتراب منها، وتصرخ مستغيثة بوالديها: يا بابا! يا ماما! متسيبونيش هنا!
وقف والديها ينظران اليها في عجز، ودموعهم تنهمر، فصاحت والدتها من بين شهقاتها: يا دكتور، هما مكتفينها كده ليه، إزاي تعملوا فيها كده؟
الطبيب بنبرة مطمئنة: أحنا بنعمل كده علشان متأذيش نفسها، فمن فضلك أهدى وحاولي تتمالكى أعصابك شويه.
ظلت ندى تصرخ بجنون، وبعد مقاومة يائسة لم تدم طويلا، أمسكها الفريق الطبي، وغرز أحدهم إبرة مهدئة في ذراعها السليم، فبدأ صراخها يخف شيئا فشيئا، وعيناها تغيبان عن الوعي، وهي تردد: أنا مش مجنونة… متسبونيش هنا! حتى سكنت تماما وغفت.
وقف والدايها إلى جوارها، ينظران اليها بعينين غارقتين في الحزن والدموع، قلبهنا يتمزق لكنهما يعلمان أن هذا هو الحل الوحيد لاستعادة ابنتهما.
ومن هنا، بدأت ندى رحلتها الطويلة في علاج أزمتها النفسية، التي طالما أنكرت وجودها من الأساس!
المكتبة الثانية عشر ظهرا
نرى مي جالسة على إحدى الطاولات، غارقة في كتابها، ملامحها جادة وكأنها في عالم آخر، فجأة دخل رشدي، بخطوات سريعة وحماس ظاهر، وصوته يقطع صمت القاعة: أنتِ بتعملي ايه هنا ؟
رفعت مي عينيها بدهشة، تحدق فيه لثواني وكأنها لا تصدق وجوده: رشدي؟! أنت إللي بتعمل إيه هنا؟
جلس أمامها، وقال بإصرار: لا جاوبي عليا، أنا إللى سألت الأول.
هزت مي كتفها بلامبالاة، موضحه: عادي، بقرأ، ما النهاردة الأربعاء، وأنت بقى؟
ابتسم ابتسامة عريضة موضحا: عرفت إنك هنا جيت، مش المفروض تكوني دلوقتي في البيت بتلبسي وتظبطي نفسك علشان العشا؟!
أغلقت مي الكتاب ببطء، قالت بإستنكار: مليش أنا في الجو دى، لسة بدرى على المعاد إللى اتفقنا عليه.
رشدى ضاحكا: طيب بالراحة يا محمود مش كدة
ثم ابتسم بلطف: بس تعرفي إنك وحشتيني.
ابتسمت مي بخجل، ثم تنهدت ومالت للأمام تتساءل بتعجب: أنا عايزة أفهم، هو أنت مش وراك شغل يا ابني؟ نفسي أشوفك مشغول مرة، نفسي توحشني، وأدور عليك وأقلق، أقول يا ربي فين رشدي؟ محتاجة أطمن عليه وأشوفه مختفي فين!
ضحك بخفة، ورفع كتفيه: مش ورايا حاجة، وبعدين الحق عليا ياست البنات إني مش عايز أتعبك يعنى.
عيناها لم تلن، وصوتها صار أكثر صرامة: رشدى أنا بتكلم بجد، هو إحنا مش اتفقنا إنك تركز في شغلك أكتر من كده؟
أومأ برأسه لكنه لم يبدِ اقتناعا حقيقيا: وأنا فهمتك، وقولتلك إللى فيها، وبعدين سليم خلاص رجع و....
قاطعته مي بحسم: وأنت مالك ومال سليم، شيله من دماغك وركز في أهدافك أنت.
ثم مالت بجسدها نحوه قليلا، وصوتها أهدأ لكن أكثر صدقا: أنا عايزاك تجتهد، وتشتغل على نفسك، لكن إللي أنا شايفاه دلوقتي واحد بيلعب وبس، نفسي مرة أكلمك تقولي أنا مشغول، عندي مشروع، مسافر، تاخد رأيي في أي حاجة، وصدقني أكيد هكون جنبك.
ثم اضافت بنبرة مازحة بلطف: ومتخافش هسقفلك على صفقة السكر لحد ما توصل لليفل صفقة البترول، ويا سيدي حتى لو موصلتش للبترول وبقيت صفقة بزازات، هفضل أشجعك بس عايزة أشوف إنك بتحاول وبتاخد حتى لو خطوات بسيطة وحقيقية.
أنفجر رشدي ضاحكا، يهز رأسه بدهشة ممزوجة بالمرح: بزازات! مش للدرجة دي، بس والله مش ورايا حاجة فعلا، مفضي نفسي النهاردة لاستقبال الأميرة مي في قصرنا الملكي، بس أوعدك بعد كدة ههتم بشغلى في المجموعة، وهتاخدي معاد بعد كده علشان تقابليني، بس مترجعيش تشتكى وتقولى أنت مبقتش بتهتم.
ابتسمت مي بخفة وتابعت بغرور مصطنع: لا يا سيدى مش هقول متخافش، وبعدين أنت لسة قاعد بتعمل إيه مش المفروض تكون في البيت بتلبس وبتظبط نفسك علشان تستقبلني!!
رشدى ضاحكا: ده على أساس بترديهالى يعنى !
مي بثقة: آه وإن كان عاجبك، ويلا من هنا بقى طريقك أخضر، خلينى أركز في إللى بعمله.
رشدى ضاحكا: ماشي يا محمود قايم متزقش.
وبعد أن انتهت مي من القراءة، همت بالمغادرة حتى لا تتأخر على موعد العشاء، وما أن خرجت من بوابة المكتبه، وجدت رشدي ينتظرها أمام سيارته بإبتسامة عريضة.
مي بذهول: يخرب عقلك، أنت لسة مروحتش!!
اقترب رشدي منها وقال بنبرة مرحة: مقولتلك إني مفضي نفسي النهاردة للأميره مي، أروح أعمل إيه ألعب معاهم شطارنج؟! وبعدين مش لازم أطمن بنفسي إن الأميرة مي وصلت بيتها الأول.
هزت مي رأسها بقلة حيلة: مفيش فايدة فيك، والله أنت مجنون
رشدى متعجبا، وهو يفتح لها باب السيارة: أول مرة تعرفي؟!
ضحكت مي وهى تمسك بباب السيارة وتهم بالدخول: لا عارفة من زمان.
دخلت مي السيارة ،ثم دخل رشدى من الإتجاه الآخر، وبدأ بالقيادة بسرعة هادئة.
فتح التابلوه وأخرج منه علبة عصير أناناس الذى تفضله وقدمه لها وهو يقول بنبرة مرحة: خدى بلي ريقك، أكيد ريقك نشف من كتر القراية، ومتخافيش مش حاططلك فيه حاجة أصفرة، سايب الحاجة الأصفرة أشربهالك في القصر، علشان أعرف اتغرغر بيكى براحتي.
قلبت مي وجهها بسخرية: رخم اوي ووقح، أحترم نفسك
رشدى بإبتسامة: حاضر، المهم الساعه 5 هاتلاقي عربية جاية تاخدك من قدام البيت، علشان مديله تعليمات بكتالوج السرعة المناسبة للأميرة مي.
مي بإبتسامة دافئة: شكرا يا رشدى.
فيلا سليم وماسة، الثالثة مساء
دخل سليم من باب الفيلا، فاستقبلته سحر بإبتسامة دافئة: حمد لله على سلامتك يا سليم بيه.
خلع سليم جاكت بدلته، وهو يتسائل: الله يسلمك يا سحر، ماسة فين؟
أجابته بابتسامه: في الجنينة.
قال بأهتمام وهو يعطيها الجاكيت: طب أكلت؟
ابتسمت سحر وأخذت الجاكيت: آه فطرت وشربت عصير، بس لسة متغدتش.
سليم بتهذب: طيب حضري لنا الغدا.
تحرك سليم نحو الباب الداخلي المطل على الحديقة، كان الهواء العليل يملئ المكان، لمحها من بعيد، جالسة وسط الخضرة، عيناها شاردة، كأنها غارقة في عالم آخر، وقف لثواني، قلبه يشده إليها، لكنه يقاوم رغبته الجامحة في الاقتراب؛ متذكر وصية الطبيب بألا يضغط عليها، لكنه يشتاق لها يتمنى نظرة، أو كلمة، قد تطفئ في قلبه نارا لا يطفئها شيء سواها، ومع ذلك، لم يستطع منع نفسه من التقدم.
اقترب وهو يبتسم ابتسامة صغيرة، كأنه وجد روحه:
مساء الخير.
رفعت ماسة عينيها، وردت بصوت هادئ: مساء النور.
جلس على المقعد المقابل، متأملا ملامحها: عاملة إيه؟
قالت وهي تتجنب النظر إليه: كويسة.
ابتسم محاولا فتح الحديث: على فكرة، مصطفى جالي النهاردة.
اعتدلت ماسة في جلستها وحدقت فيه بدهشة:جالك فين؟ وليه؟
ابتسم سليم بمرارة: جه يطمن عليكي، ويتأكد إن الوحش إللي أنتِ عايشة معاه معملش فيكي حاجة! شكلك حكيتلهم إني بقلب مصاص دماء بعد نص الليل.
ابتسمت ماسة ابتسامة صغيرة، وقالت بصدق فيه مرارة: لا والله! ربنا يعلم أنا قولت إيه في حقك.
أومأ سليم برأسه وابتسم بخفة، وعينيه تلمعان بمحبة مصدقا إياها: مصدقك أنا بهزر معاكي
ثم تنهد موضحا: كان قلقان من كلام ندى، خاف أكون صدقته واتصرفت معاكي غلط، بس أنا فهمته إن علاقتنا أكبر من كلام فاضي زي ده، وإني واثق فيكي...
صمت لحظة، ثم نظر إليها بتمعن: بس هو شكله بيعزك أوي، لدرجة إنه هددني واتحداني إنه هيخلصك مني لو على جثته.
اقتربت منه قليلا، وقالت برجاء، وهي تنظر داخل عينيه: لو سمحت يا سليم، متتضايقش من طريقته، هو بس خايف عليا، ده إنسان جدع ومحترم، أرجوك متأذهوش.
زفر سليم بعمق، وصوته خرج هادئا صادقا: أنا وعدتك مش هعمله حاجة، أرجوكي صدقيني، زمان كنت بتصدقيني مجرد موعدك، دلوقتي بطلتي؟!
رفعت ماسة عينيها إليه بتساؤل: طب مقالكش عمل إيه في ندى؟
هز رأسه بعدم اهتمام بإستنكار: لا مقالش تفاصيل، جه قال كلمتين وأطمن إنك بخير، وهددني ومشي.
صمت لحظة، ثم سألها: طب أنتِ ليه مكلمتيش حد فيهم تليفونك فوق؟
رفعت كتفيها بلامبالاة حزينة: أنا مش حافظه أرقامهم، وتليفوني كان في الشنطة إللي لابساها يوم ملاقتني...
ثم تذكرت فجأة: هي راحت فين صحيح؟
اوما سليم برأسه: أكيد وقعت منك وأنتِ بتجري، ممكن أدورلك عليها في العربية، ولو عايزة تكلميهم، معايا رقم مصطفى.
أطرقت ماسة بنظراتها وقالت: لا، أنا مش عايزة أكلم حد، أنا عايزاك تسيبهم في حالهم، هما خايفين عليا مش أكتر، بس صدقني ميقدروش يعملولك حاجة.
مال سليم برأسه قليلا نحوها، وصوته يحمل تساؤلا: بس ليه ندى قالت كده؟ تصرفها غريب!
تنهدت ماسة وهي تنظر أمامها بأسف: عشان بتغير، أي كلمة، أي نظرة، بتكبر الأمور في دماغها..
نظرت له وكأنها تشتكي له، قالت بتعجب ممزوج بضجر: أنا مكنتش مصدقة إنها توصل لكدة، كنت فاكراها زيي، وشها يقلب، تزعق شوية وخلاص، بس للدرجة دي من الأذى؟ لاااا.
عقد سليم حاجبيه: أنتِ فعلا كنتي بتخرجي معاه؟
حاولت أن تشرح وكأنها تزيل إتهاما: كنا بنخرج أه، بس مش زي ما أنت فاهم، كنا بنشتغل سوا في نفس المكان، أوقات كان بيوصلني لما ميعاد خروجه يوافق معاد خروجي، ومرتين قعدنا عند البحر، وجابلي آيس كريم، وهي شافتنا مرة، وعملت مشكلة كبيرة، نفس الموضوع اتكرر مع إيهاب، مرتين تلاتة لقاني قاعدة عند البحر، قعد يتكلم معايا، جابلي آيس كريم وزلابية، وهو إللي جابلي التليفون، وجابلي عقدين من الصدف بس والله العظيم...
مد سليم يده ضغط على يدها بثقه: متحلفيش، أنا عارفك كويس، آه متضايق وغيران جدا، بس واثق فيكي.
قالت بصوت ناعم متأثر: بس لازم تبقى عارف إن من شهر ونص، كنت قاطعة معاهم أي تعامل، اليوم إللي لاقيتني فيه، كان أول مرة مصطفى يوصلني من فتره، بس علشان كنت تعبانة..
صمتت قليلا، ثم أكملت بحزن: ماما نبيلة اتضايقت، وقالتلي بطلي تيجي وهما موجودين، الناس هتتكلم، الكلام وجعني، بس لما فكرت في كلامها فهمت إنها عندها حق، أنا ست متجوزة، وحتى لو تعاملنا مع بعض مفيهوش غلط، بس هيفضل عيب، ومن ساعتها بطلت أروح لهم..
ترقرقت عيناها بالدموع:
بس زعلت جدا وصعبت عليا نفسي، علشان ماما نبيلة بطلت تطلعلي، وتتصل بيا زي زمان، تقولي "تعالي يا ماسة أعمليلي أكلة من إيدك الحلوة"، كنت بفرح أوي لما تقولي كدة، حتى وهما مش موجودين، بطلت تكلمني هي وعائشة، حسيت إني غريبة، وإني هفضل البنت إللي هربانة، إللي جابوها من الشارع، إيهاب كان ملتزم بالقواعد، لكن مصطفي لا، هو الوحيد إللي متغيرش معايا، أنا إللي كنت بحط حدود، بس والله يا سليم، مفيش حاجة غلط حصلت بينا.
اقترب سليم منها، نظر إلى ملامحها بصدق: قولتك إني بثق فيكي، مش محتاج حلفان.
تنهدت ماسة وهي تعود بشعرها للخلف: أنا بجد الموضوع بتاع ندى مضايقني جدا، طب أنت أنت كنت عاقل وعارف أنا على إيه؟! تخيل بقى لو المجنونة دي راحت قالت كلام زي ده لراجل تاني! كان ممكن يعمل إيه في مراته! حقيقي مش طبيعية.
تنهد ثم قال بصوت خافت: سيبك منها، قوليلي، حد فيهم حبك بجد ولا مجرد شكوك من نبيلة؟
هزت رأسها موضحة: لا، كانوا بيتعاملوا معايا زي عمار، نصايح وخوف، حتى مفيش سلام بالأيد، هي بس خافت لاحسن حد فيهم يحبني، لإني حلوة وطريقتي حلوة، وممكن يتشدوا لى، يعني حبت تفصل البنزين عن النار قبل ميحصل أي حاجة.
سليم باستفسار: علشان كده شكيتي إن نبيلة هي إللي قالتلي.
هزت راسها بإيجاب: أيوة.
ارتسمت ابتسامة دافئة على شفتيه بصمت، كأنها تعلن عن السعادة التي يشعر بها داخله.
انتبهت له، وتسائلت بدهشة: بتضحك ليه؟
سليم موضحا بإبتسامة مطمئنة: أول مرة نتكلم كدة بهدوء، زي زمان، من غير خناق ولا عناد.
قالت بوجه متعب: أنا تعبت من العصبية والعند، في الآخر أنا إللي بتهلك.
ابتسم سليم وهو يتنهد: عموما أنا مبسوط إننا أخيرا اتكلمنا حتى لو شوية، أنا مش هضغط عليكي، وقت متحبي تتكلمي في موضوعنا هتلاقيني، أنا مستني اللحظة دي.
صمتت لحظة ثم سألت بخفة: هتروح النهاردة العشا؟
هز سليم رأسه بإيجاب: آه هروح، تيجي معايا؟
هزت ماسة رأسها سريعا برفض: لا، روح أنت ولما تيجى ابقي احكيلي.
وفي تلك اللحظة، دخلت سحر قائلة: الغدا جاهز.
نهض سليم، ونهضت ماسة معه، توجها إلى السفرة وجلسا لتناول الطعام، لم يتبادلا الكثير من الأحاديث، لكن سليم كان يشعر بسعادة غامرة، فقط لأنها اقتربت منه، لأنها فتحت قلبها، ولو قليلا.
(بعد وقت)
غرفة سليم
وقف سليم أمام المرآة، يرتدي قميص كاجوال أنيق مع بنطال بسيط، مرر يده على شعره بعد أن صففه بعناية، ألتقط ساعته ووضعها في معصمه، ثم أخذ نفسا قصيرا، وألقى نظرة أخيرة على صورته في المرآه، قبل أن يتجه نحو الباب.
في طريقه للخارج، مر أمام باب غرفة ماسة، في الداخل، كان صوت التلفاز يملئ المكان، توقف لحظة، تردد، ثم طرق بخفة.
جاءه صوتها من الداخل: ادخلى يا سحر.
فتح الباب بخطوات هادئة، ابتسم وهو يقترب: لا ده أنا مش سحر، مساء الخير، عاملة إيه؟
رفعت رأسها فجأة، ارتبكت قليلا، وحاولت أن تبدو هادئه: الحمد لله، خلاص نازل؟
أومأ بابتسامه: أيوه، قولت أعدي عليكي، أعرفك إني نازل، وأشوفك لو محتاجة حاجة.