رواية الماسة المكسورة 2 الفصل التاسع 9 ج2 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل التاسع 9 ج2 
بقلم ليله عادل



ردت ماسة بهدوء: لا أنا تمام. 

تردد لحظة قبل أن يقول: متيجي معايا؟

هزت رأسها بسرعة: قولتلك لا.

سليم بابتسامه: طيب، إيه رأيك أوصلك عند مامتك، وأخدك وأنا مروح؟ أو ابعت أجيبهم يقعدوا معاكى.

تسمرت لحظة، عينها تلمع بأشتياق، ثم رفعت نظرها نحوه: وهتجيبلي عمار وسلوى؟ ولا لسة دول برة الحسبان؟

ابتسم بخفة: هجيبهم يا ستي ، هجيبهم كلهم، يقعدوا معاكي زى ما أنتِ عايزه.

أجابته بمرارة خفيفة: آه ووقتها بقى، عمار ولا سلوى ولا أي حد فيهم يقول كلمه مش على هواك، ألاقي رصاص مسدسك هو إللي بيرد، لا، شكرا  أنا لا عايزه أروح لحد ولا عايزه حد يجيلي، أنا كدة تمام.

اقترب منها، وهو يحاول إقناعها بمراره وصدق: هو أنت هتفضلي تعاقبيني على الغلطه دى لحد امتي يا ماسه؟ للدرجه دى مبقتيش تصدقي وعودى وشيفاني وحش أوى كده؟

نظرت له نظرة طويلة متعبة، وقالت بحسم:
أيوه مبقتش أصدقك، وكل مبشوفك قدامي، مش بشوف إلا الخنجر إللي أنت مخبيه ورا ظهرك لأهلي، أنا أصلا خايفه من هدوءك، وحاسه إنك ناوي تعمل حاجة بس أنا مش هغلط وهفضل ساكتة لحد أما أعرف أنت ناوي على إيه؟!

تنهد سليم، مسح وجهه بيده، وكأن كلماتها أصابته في عمق قلبه، تذكر صوت الطبيب "متضغطش عليها"

فابتسم بهدوء وقال بلطف: طيب عموما أنا همشي،
وهسيب عشرى معاكى هنا علشان لو غيرتي رأيك وحبيتى تروحي خديه معاكى، وهخلى سحر تعملك كوباية لبن بالعسل أشربيها، وشك مصفر خالص.

رفعت حاجبها بعناد: ده غصب؟

ابتسم بخفة، وعينيه فيها حنان أبوي: لا مش غصب، ده اهتمام وحب وخوف، ولو مش حابة تشربيه براحتك، محدش يقدر يغصبك على حاجة أنتِ مش عايزاها يا ماسة؟!

رمشت بعينيها وهي تنظر في ملامحه تحاول أن تصدقه، لكن ما زال قلبها غير مطمئن، تسائلت: هتتأخر؟!

ابتسم وهو يستدير نحو الباب: خايفة تقعدي لوحدك ولا إيه؟

ضحكت بسخريه ومراره: تفتكر بعد إللى حصلي في الست شهور دول، ممكن أخاف؟

وقف لحظة، نظر إليها نظرة طويلة، ثم تنهد وقال بهدوء: سلام يا ماسه.

أغلق سليم الباب خلفه بخفة، وبقيت ماسة في مكانها تحدق في الفراغ، تستعيد عرضه الذي قدمه منذ قليل، هل كان عليها القبول؟ أم أن خوفها مازال في محله؟
تساءلت إن كان سليم يتعمد المبالغه ويقوم بتضليلها ليصل إلي غايته الخفية!؟

هزت رأسها بحيرة، ثم تناولت هاتفها، توقف بصرها عند رقم سلوى، ترددت بين الاتصال والتراجع، حتى غلبها العجز، فانهمرت دموعها بصمت، وأعادت الهاتف إلى مكانه، غير قادرة على المجازفة بهم.

نهضت بتثاقل، توضأت، وفرشت سجادة الصلاة، تؤدي ركعتين علها تجد في الخشوع سكينة تطفئ اضطرابها.

في الجهة الأخرى.

كان سليم قد وصل إلى سيارته، حيث وقف مكي بانتظاره، وإلى جانبهما عشري، فتح مكي باب السيارة الخلفي لسليم.

سليم وهو يوجه كلامه لعشري: هتعمل إللي أنا قولتلك عليه، تروح تجيبهم بنفسك، سيبهم يقعدوا زي ما هما عايزين، وعرفهم إن ماسة مستنياهم في الفيلا علشان يطمنوا، متاخدش معاك حد، روح لوحدك.

أجاب عشري بإيماءه سريعة: أمرك يا ملك.

ألتفت سليم نحو مكي، بصوت منخفض: مكي، تحب تروح معاه؟

رفع مكي حاجبيه بسخريه: ليه هيتوه؟! أنا جاي معاك.

ابتسم سليم بقلة حيله أمام رأس صديقه الجامده، ثم مال بجسده داخل المقعد الخلفي، أغلق مكي الباب خلفه، وصعد إلى الأمام بجانب السائق، انطلقت السيارة بهدوء، بينما قاد عشري سيارة أخرى متجها نحو فيلا عائلة ماسة.

فيلا عائلة ماسة، السادسة مساء.

وقف عشري بسيارته أمام البوابة، ثم ترجل وتوجه نحو باب الفيلا، طرق الباب ففتحت له الخادمة على الفور.

عشري بإبتسامة خفيفة: مساء الخير.

تراجعت الخادمة بإرتباك: خير يا عشري؟

عشري وهو ينظر من حوله: في حد هنا؟

هزت الخادمة رأسها بإيجاب: كلهم موجودين.

عشري: طب بلغيهم إني هنا.

أومأت برأسها، ثم أسرعت إلى الداخل، دخلت غرفة المعيشة حيث يجلس مجاهد وسعدية يتابعان التلفاز بهدوء.

الخادمة: ست هانم عشري برة، وبيقول عايزكم.

ما إن نطقت اسمه، حتى انتفضت سعدية واقفة، وضربت بيدها على صدرها بفزع: يا لهوي! ايه اللى جابه؟ مكنا مرتاحين، ولا هو علشان رجع من السفر هيشتغلنا في الأزرق.

ألتفت مجاهد ،محاولا تهدئتها: يا سعدية، صلي على النبي، ما هو راجع من فترة، يمكن في حاجة.

التفت سعدية تسأل الخادمه بصوت مرتجف: هو برا لوحده؟! 

أجابتها الخادمة: آه لوحده.

مجاهد بهدوء: شفتي بقى؟ لو كان في حاجة كانوا جم كلهم، خلينا نشوف عايز إيه.

تحرك الأثنان إلى الخارج معا، ليجدا عشري واقفا في منتصف الهول بملامح هادئه.

عشري بإبتسامة: مساء الخير متتخضوش، مفيش أي حاجة، بس الهانم في انتظاركم في الفيلا.

تجمد مجاهد، قال بتلثعم: هانم مين؟! ماسة؟

عشري، بإبتسامة جانبية: آه.

شهقت سعدية وهي تضع يدها على فمها: هو سليم لقاها؟

عشري: أيوه من كام يوم، وهي في انتظاركم دلوقتي، فياريت تجهزوا كلكم علشان اوصلكم.

مجاهد بقلق: يعني سليم عارف؟

عشري بتأكيد: أكيد طبعا وهو إللي بعتني أجيبكم كلكم علشان تشوفوها، هى موحشتكوش ولا أيه؟ 

ارتجفت سعدية وأنفجرت دموعها بفرح: يا حبيبتي يا بنتي!

ألتفتت بسرعة لمجاهد، وهي تشد ذراعه بلهفة:
يلا يا راجل، خلينا نغير هدومنا بسرعة!

وقف مجاهد مذهولا للحظة، بين الفرحة التي تغمر قلبه والخوف الذي لم يجد كلمات تعبر عنه، فقط أومأ برأسه وهو يتمتم: الحمد لله.

أسرع الأثنان يصعدان الدرج بخطوات متلاحقة، والارتباك بادي على وجهيهما، فتحت سعدية أبواب الغرف واحدا تلو الآخر، تنادي بصوت متهدج:
يا عمار، يا يوسف، يا سلوى، قوموا بسرعة!

تجمع الأبناء الثلاثة ووقفوا أمامها بملامح تملؤها الدهشه، وهي تقول من وسط دموعها: يلا هنروح عند أختكم، سليم لقاها!

ساد صمت قصير، تبادلوا فيه النظرات الغير مصدقة، ثم فجأة انفجرت ملامحهم بفرحة متوترة، أختلطت بالدموع.

يوسف بلهفة: يعني هنشوفها بجد؟!

سعدية وهي تمسح دموعها بكفها المرتجف: أيوه، عشري تحت مستنينا، يلا بسرعة، متضيعوش وقت.

تفرقوا للحظات ليبدلوا ملابسهم على عجل، وقلوبهم تسبق خطواتهم، وكل منهم يحاول استيعاب أن ماسه عادت أخيرا، هبطوا مسرعين وركضوا نحو السيارات، شوقا للقاء الذي طال انتظاره.

قصر الراوي الساعة 5:45 مساء.

نرى كل من فايزة ورشدي وفريدة يقفون في الداخل أمام البوابة في إنتظار وصول مي.

تألقت فايزة في طلتها كأنها تحمل هيبة ملكة من عصرها، وبجوارها فريدة التي لا تقل عنها جمالا، ووقف رشدي بينهم، يرتدي بدلة أنيقة.

فايزة بخنقة وهي تتحدث من طرف أنفها: هنفضل واقفين كدة كتير ولا إيه؟

رشدي بإبتسامة: أنا كلمتها ثواني وهتكون هنا.

وما أن أنهى كلماته حتى توقفت سيارة أمام القصر، كان رشدي قد أرسلها لتصطحب مي، تقدم بخطوات ثابتة نحو السيارة، فتح لها الباب وهو يرحب بها كأميرة.

هبطت مي، ترتدي فستانا رقيقا ويغطى شعرها حجابها الذى زادها جمالا، ترتسم على وجهها ابتسامة رقيقة تخطف الأنظار.

رشدي بإبتسامة واسعة وغزل:  إيه الجمال ده كله! إحنا مش قد كده والله.

مد يده محاولا أن يمسك يدها ويقبلها، لكنها سحبت يدها بسرعة، وقالت بحسم: متعملش كدة تاني.

رشدي ضاحكا: خلاص يا محمود انصرف، أصل إحنا هنا بنستقبل الأميرات كده.

ضحكت مي بخفة:مفيش فايدة فيك.

وما أن قالتها حتى ظهرت خلفها سيدة خمسينية مهيبة.

رشدي بدهشة: مين دي؟

مي بهدوء: دي الدادة بتاعتي.

رفع رشدي حاجبه بسخرية: وجايباها ليه بقى؟ حارس شخصي يعني؟

مي بحدة: هو كده إن كان عاجبك؟ لو مش عاجبك، أمشي؟!

رشدي رافعا يديه كأنه يهدئها: بالراحه يا محمود فيه ايه، أنا بس مستغرب يعني هي دي إللي هتمنعني لو كنت ناوي أعمل حاجة؟
ثم أضاف بمزاح وقح: يا مشمش إحنا كرجالة مبنحلش في الحوارات دي، حلوة، وحشة، كبيرة، صغيرة، كله شغال.

نظرت له مي بغضب: رشدى بطل وقاحه وقلة أدب، الا همشي والله.

رشدي متراجع: خلاص آسف.

ثم أشار إلى فايزة وارتفع صوته قليلا وهو يقول بنبرة ساخرة: ودي بقى يا ستي أمي، فايزة هانم رستم أغا، من سلالة آل عثمان ، شفتي مسلسل حريم السلطان؟ أمي بقي تبقى من سلالته.

وتابع بنبرة أكثر مزاحا وهو يضحك: وأنا من أحفاد القاتل إللي قتل إخواته.

ضحكت مي بخفة، ووضعت يدها على فمها برقة: 
يا ابني، بطل بقي.

لكن على الجانب الآخر، تبادلت فايزة وفريدة نظرات الصدمة، خصوصا من مظهر مي وحجابها؛ أمر لم يخطر ببالهم أبدا.

تقدمت مي بخطوات واثقة، ورشدي بجانبها، تتبعها الدادة.

مي بأدب: إزي حضرتك يا أفندم؟

فايزة وهى تمد يدها بابتسامة رسمية: أهلا، إزيك؟

مي برقه: الحمد لله.

فريدة برقي: منورانا، أهلا بيكي.

مي بإبتسامة خجولة: ميرسي جدا، أنا آسفة والله لو أزعجتكم بخروجكم هنا لاستقبالي، بس يعني وجودي هنا مكنش هينفع غير لما أتاكد بوجودكم.

فريدة بلطف: مفيش أي مشكلة خالص، اتفضلي، هي دي والدتك؟

مي موضحة: لأ، دي الدادة بتاعتي، أنا متعودة تبقى معايا في كل حته.

فريدة بابتسامه لطيفه: أهلا بيها اتفضلوا.

رشدي مازحا: طب يا ست البنات، هتقعد معانا ولا نسيبها في المطبخ؟

مي بهدوء: عادي، هي ممكن تستناني في الجنينة..
ألتفتت نحو دادتها: تحبي تستنيني فين يا دادا؟

الدادة بإبتسامة: ممكن هنا، في الجنينة الحلوة دي.

رشدي بعدم اهتمام: خلاص، اعتبري الجنينة بتاعتك لفي براحتك.

تحركت مي ورشدي نحو الداخل، بينما بقيت الدادة بالخارج، وما أن وطأت قدم مي أرضية القصر حتى اتسعت عيناها بإنبهار، أخذت تنظر بعينيها في أركان ذلك القصر المهيب ذو المساحة الشاسعة والأساس الملكي المبهر.

مي بإنبهار: هو أنا ليه حاسة إني دخلت قصر من قصور محمد علي؟ روعة بجد! ينفع تفرجني عليه، أنا بعشق القصور الأثرية.

رشدي: ماشي ، بعد العشا.

في الصالون الكبير، 

كان جميع العائلة بانتظارها، لحظة دخولها، وقفوا احتراما، لكن علامات الدهشة والاستغراب لم تغادر وجوههم، ماعدا ياسين.

همست منى لطه: شكل المخدرات لخبطت دماغ أخوك، شوف جابلنا مين!

طه مازحا: يمكن هي كمان واخدة حباية زيادة، علشان كده لابسه حجاب.

منى بنظرة تقيميه: لأ، شكلها بنت محترمة فعلا.

قدمها رشدي بإبتسامة فخورة: مي راشد خطيبتى قريبا، دول إخواتي أعرفك عليهم بالترتيب: طه، ومنى مراته وفريدة طبعا عرفتيها إبراهيم جوزها، سليم متجوز بس مراته ماسة مجتش.
أضاف بسخرية خفيفة:
صافيناز، أعز أخواتي، وعماد جوزها هو كمان من أعز أصحابي، وياسين أخويا الصغير، وهبة مراته، وده بقى البوص الكبير، عزت الراوي، بابا.

مي بإبتسامة مهذبة: تشرفت جدا، ميرسي على الاستقبال الجميل ده.

عزت بنظرة متفحصة من أعلى لأسفل: اهلا بيكي، اتفضلي.

جلسوا جميعا، لكن العيون لم تكف عن التحديق بها، غير مصدقين أن رشدي يعرف فتاة مثلها، كانت مي منتبهة لتلك النظرات جيدا، لكنها لم تعلق.

طه بابتسامه: يا ترى يا مي، أيه أكتر حاجة عجبتك في رشدي؟

مي بخجل: إحنا لسة في مرحلة التعارف، بس هو إنسان كويس جدا، يستاهل يعني إن أدي له فرصة بس طبعا مكانش ينفع ياخدها غير في نطاق رسمي علشان أنا متربية على كدة.

صافيناز بسخرية: حلو والله إنك حسيتي إن رشدي إنسان كويس ويستحق الفرصة.

قلب رشدي عينيه ونظر لها نظرة تفهمها، وقال بنبرة ساخرة وحاده: آه طبعا، أصلها بتشوف بقلبها وعينيها، زيك كده بالظبط يا صافي، الناس بتشوفك من بعيد بتقول عليكي تنكة ومغرورة، لكن مجرد ميعرفوكي كويس، يتأكدوا إن المعلومة حقيقية هههههه 
ضحك ثم رمقها بنظرة حادة وكأنه يقول "لها اتلمي أحسنلك"

حاولت فايزة لم الموقف سريعا وقالت: طب يلا بينا، نكمل الدردشة على العشا.

السفرة 

جلس الجميع على مائدة فاخرة عامرة بالأكلات التركية، بينما سحب رشدي لمي المقعد، كانت لقطة ملفتة للإنتباه للجميع.

فايزة برقي: أتمنى تحبي الأكل التركي، رشدي إللي طلب السفرة تكون تركي النهاردة.

مي برقه: بصراحة مكلتوش قبل كدة، بس متشوقة أجرب.

وأثناء تناول الطعام، كانوا يسرقون النظر من حين لآخر نحو مي فمازالوا لا يستوعبون أن رشدي يعرف مثل تلك الفتاة حقا.

نظرت فايزة إليها فجأة: عرفتوا بعض إزاي بقي، أصل رشدي مقالناش أي حاجة.

مي بهدوء: عن طريق زيزي.

ضيقت فايزة حاجبيها: زيزى بنت عيسى؟

اومأ رشدي: آه.

عزت بهدوء: ووالدك بيشتغل إيه؟

مي وهي تتناول ما في الشوكة: بابا مهندس بترول.

ساد صمت قصير، قبل أن تطرح فايزة سؤالها المباشر: طب، هو إيه إللي خلاكي تجيبي الدادة معاكي؟

مي بتنهيدة هادئة: بصراحة، لما رشدي طلب مني أجي القصر، وأتعرف على العيلة، كنت مترددة جدا، أنا مش متعودة أروح بيوت أصحابي خصوصا الشباب، لكن بما إننا داخلين على خطوة جدية، قولت لازم أجي، بس كان فيه مشكلة أجي ازاي لوحدي؟! ففكرت اني أقول للدادة وأجيبها معايا لإني كدة كدة بعتبرها زي والدتي لإن ماما متوفية من وأنا صغيرة.

سليم بإبتسامة لطيفة: لو حابة تخليها تنضم لينا على العشا، هاتيها.

مي بربكة: مفيش داعي, هي مستنية في الجنينة.

سليم بإصرار: أنا بتكلم بجد، مادام هي زي والدتك، خليها تشاركنا.

رشدي بتأيد: بالظبط، أماني، نادي على دادا كريمة.

مي بإبتسامة ممتنة: ميرسي جدا.

ياسين بابتسامه لطيفه: على فكرة رشدي، كلمني كتير عنك، بس معرفش يوصل خالص المواصفات. 

مي بربكة: هو كلمني عليك كتير برضو، وكلمني عنكم كلكم.

وبعد ثواني، دخلت الدادة وجلست بينهم، في أجواء يغلب عليها التوتر والفضول أكثر من الكلمات.

وظلوا يتناولون الطعام ويتحدثون مع مي بهدوء وبعد انتهاء العشاء جلسوا في الصالون الكبير، وفناجين القهوة موزعة أمامهم، والحديث يدور بخفوت.

اتكئ رشدي على الكنبة، متحفزا لأي كلمة، بينما مي بجواره تحاول أن تبدو في كامل ثباتها.

فريدة بإبتسامة متعجبة، وهي تنظر لمي: بصراحة يا مي أنا مستغربة، رشدي ده أشقى واحد فينا كلنا،
وأنتِ شكلك هادي ورقيق، إزاي بتتعاملي مع شقاوته دي؟

تحرك رشدي في مكانه وكاد أن يرد بحدة، لكن مي سبقته في الكلام، ورفعت يدها بخفة، وهي تقول بابتسامه واثقه:
بالعكس، أنا مش شايفاه شقي، أنا شايفاه شخص عنده طاقة كبيرة جدا، بس محتاج يوجهها صح، يمكن أنتم متعودين على صورة معينة ليه، وده خلى حكمكم عليه قاسي شوية، بس هو إنسان عنده عيوب وأخطاء زي أي حد، بس ده ميمنعش إنه طيب وذكي جدا، وممكن ينجح بشكل كبير لو لقى الطريقة الصح إللى يوجه بيها طاقته، والتشجيع الكافي إللي يخليه يواصل نجاحاته بالشكل إللى يسعده. 

ساد صمت قصير، تبادلوا فيه النظرات المتفاجئة من دفاعها الواضح عن رشدي، بينما ابتسم رشدى ابتسامة صادقة وهو يشيح بعينيه بعيدا، يخفي أثر كلماتها عليه فهذه أول مرة يلقي مديحا من أحد.

نظر عزت لمي بإبتسامة خفيفة: أنا مبسوط إنك قدرتي تشوفي حاجات في رشدي إحنا مشوفنهاش، ومبسوط أكتر إننا اتعرفنا عليكي يا مي، يا ترى يا رشدي، اتفقتوا بقى؟ هتاخدوا خطوة جدية إمتى؟

اعتدل رشدي في جلسته، وقال بجديه: المفروض أنا وهي نتكلم الأسبوع ده ونحدد معاد، وبعدها نروح لهم البيت أتقدم.

عزت بحسم: أنا معنديش أي مانع، وأتمنى كمان إن الجواز يتم بسرعة.

أومأ رشدي بصمت، ثم التفت الي مي وهو يقول بصوت منخفض: مي، تحبي تتفرجي على القصر شوية؟

مي بإبتسامة: ماشي، بس هاخد الدادة معايا.

تنهد رشدي، وعلق مازحا: مقولتلك إللي فيها.

مي بهدوء: معلش أنا حابة كدة ...بعد اذنكم.

تحركت مي مع رشدي، وخلفهم كريمة، تتابعهم نظرات العائله حتى خرجوا.

رفع سليم عينه نحو صافيناز، وقال بنبرة حادة: أنا مش طايقك، ولا طايق حتى أقول اسمك، خدي جوزك وغوري من وشي، وبعد كدة المكان إللي هتشوفيني فيه مشوفكيش قاعدة فيه.

رمقته صافيناز بضجر، لكنها لم تستطع النطق، فالجميع يقف ضدها الآن، وهي في موقف لا يسمح لها إلا بالصمت، ثم نهضت وغادرت برفقة عماد.

التفت عزت نحو سليم، وهو يقول: بصراحة، وجودها مكنتش حابه بس رشدي إللي أصر إن مي تشوفنا كلنا كعيلة.

سليم بهدوء: عادي، بس الصراحة مكنتش متوقعها كدة.

ياسين بتأكيد: أنا عارف الموضوع بقالي فترة، وهي فعلا بنت محترمة جدا.

اشعل عزت السيجار الفاخر: أتمنى إنها تغيره وميضايقهاش، ولا تكون مجرد وسيله علشان يوصلها.

ياسين بجدية: لا، المرة دي مختلفة، أنا حاسس إنه حبها بجد.

فريدة بتأييد: صح دي أول مرة يجيب واحدة هنا طول عمره يعرف بنات، لكن ولا واحدة دخلت القصر الموضوع شكله مختلف فعلا.

هبة بضيق: أنا هطلع أشوف نالا، أظن مش محتاجين مني حاجة تاني.

لم يرد عليها أحد، فصعدت لغرفتها وهي تشعر بالضيق.

بعد قليل، استأذن سليم أيضا: أنا همشي بقى، علشان اتأخرت على ماسة.

ياسين بابتسامه: ياريتك كنت جبتها معاك، وحشتنا خالص وبقالنا كتير مش بنشوفها.

سليم بإبتسامة خفيفة: إن شاء الله تشوفوها في الخطوبة، سلام.

في الممرات الداخلية للقصر 

قاد مي رشدي بين الغرف المزينه بالتحف والجداريات، والداده كريمه تتبعهم في صمت، كانت مي منبهرة حتى دخلا غرفته، فتوقفت في منتصف الغرفه تتأملها بدهشه.

مي بعفوية: بصراحة، أنا كنت متوقعة شاب زيك ألاقي أوضته مليانه صور بنات عريانة والدهانات سودا. 

رشدي ضاحكا: قديم أوي جو الصور العريانة، والخيالات أنا دلوقتي ليا في الحقيقي.

رمقته بنظرة تحذيرية وقالت: أتلم وبطل قلة أدب.

ثم وقعت عينيها على رف صغير موضوع عليه لعبة معدنية صغيرة، على شكل موتوسيكل رفعتها بفضول، وهي تردد بإنبهار: الله! ده شكله حلو أوي.

رشدي بإبتسامة خجولة: أنا إللي عامله.

مي بدهشه: بجد؟ أنت بتعرف تعمل الحاجات دي؟

رشدي بنبرة حزينة: كنت زمان، وأنا صغير، بس بطلت، كنت نفسي أدخل هندسة.

ضيقت مي حاجبيها بتعجب: وليه مدخلتش؟ معتقدش مجموع، لأنه ممكن يتظبط بالنسبالكم حتى لو خمسين في المية.

رشدي بهدوء، وهو يشيح بنظره: مش قصة مجموع بس ملقتش حد يشجعني، فدخلت اي زي سليم.

مي بإستغراب وهي تمسك تلك اللعبه: طب وليه مكملتش في الحاجات دي.

هز رشدي رأسه بأسف ويحاول أن يظهر اللامبالاة:
لإني برضه مالقيتش أي حد يشجعني ولا حد مهتم، وكل مرة أوريهم حاجة، ماكانش فيه حد بيهتم.

ثم أقترب من مكتبة صغيرة، أزاح بعض الكتب، وأخرج مجموعة ألعاب سلكية معدنية غير متقنة من خلفهم يبدو أنه كان يقوم بتخبيئتهم

رشدي بإبتسامة باهتة: شايفة دول؟ أنا إللي عاملهم، بس مطلعوش مظبوطين، كنت صغير وكنت بزعل أوى لما مظبطش معايا، وكل مرة كنت أحاول أوريهم لماما أو بابا، مكانش حد بيهتم حتى إنه يقولى متزعلش المره الجايه هتعملها أحلي وتنجح، لحد ما عملت الموتوسيكل ده بس حسيتهم ميستاهلوش يشوفوه، يعني إللي مهتمش يشوفني وأنا بحاول أو وأنا لسة في أول تجربة، ميستاهلش يشوف النهاية ولما وصلت مكملتش، أنتِ أول واحدة تشوفه، من وقتها بطلت.

نظرت مي للموتوسيكل بإعجاب حقيقي: رشدي، أنت حقيقي موهب، يمكن إللي ناقصك مش شطارة، ناقصك تصدق في نفسك وتبطل تستنى تشجيع من حد علشان تكمل طريقك، حرام والله تضيع حاجات كتير في حياتك علشان مستني كلمة!.

كان في عينيه لمعة غريبة، كأنه يسمع الكلام لأول مرة.

نظرت مي في ساعة يدها، وقالت بهدوء: طب أنا لازم أمشي بقي علشان اتأخرت.

ابتسم رشدي، وهو يقف امامها محاولا إيقافها، ويردد باندهاش وهو ينظر في ساعته: أتأخرتى إيه الساعه لسه7 ، لسة بدري، مبقالكيش ساعه هنا!

ادخلت مي خصلة شعر سقطت على وجهها داخل حجابها: لا معلش، كفايه كده، مش هينفع أتأخر أكتر من كدة.

مال رشدي للأمام وتحدث بنبرة هادئة: طب، مقولتيش رأيك في العيلة؟

مي بابتسامة صغيرة وهى ترد بعقلانية: مش عارفة، محدش بيحكم على حد من أول مرة؛ لإن معادن الناس بتبان أكتر بالعشرة والتعامل، بس ممكن أقولك كأنطباع مبدأي عنكم، يعنى إن أنتم عيلة راقية جدا، حسيت إن ياسين وسليم محترمين خالص، وفريدة لطيفة أوي.

أطلق رشدي ضحكة خفيفة وهو يغمز لها: طب وأنا؟

ترددت مي لحظة ثم رفعت حاجبيها مازحة: لسة محتارة فيك، بس حابة أعرفك أكتر مع الوقت قبل ما أقول رأي، يلا بقى سلام .

توقف أمامها مرة أخري متسائلا: طب هتتكلمي مع والدك امتى علشان أجي أتقدم لك ؟

مي بهدوء: النهاردة هفتح مع بابا الموضوع وأكلمك.

رشدي، بإيماءة مطمئنة: طيب.

ثم ألتفت نحو كريمة التي كانت تقف بجانبهم وقال مبتسما بمزاح : يلا يا كركر.

وتحركا معا.
   💞_____________بقلمي_ليلةعادل

فيلا سليم وماسة، السابعة مساء

توقفت السيارة أمام الفيلا الحديثة، التي كانت شامخة خلف بوابة عالية، محاطة بأشجار مصطفة كأنهم حراس صامتون، وقف الجميع للحظات يتأملون المكان بدهشة واستغراب، تتداخل في أنفاسهم مشاعر الفضول والرهبة.

رمق مجاهد المكان بعينين متسعتين:  إيه ده فيلا جديدة؟!

عشري بنبرة هادئة: آه، جابها قريب.

خطا عشري نحو الباب وطرقه بخفة، ثواني وفتحت سحر الباب بوجه مشرق وإبتسامة ترحيب دافئة:
أهلا وسهلا، نورتونا، اتفضلوا.

عشري بهدوء: سحر بلغي الهانم إن أهلها هنا.

سحر بسعادة: هواا.

غرفة ماسة 

كانت ماسة جالسة على الأرض، يديها تحتضنان المصحف، والإسدال الأبيض يغمرها بسكينة عجيبة، كأنها قطعة نور وسط الغرفة.

طرقت سحر بخفة، فارتفع صوت ماسة الهادئ:
ايوه يا سحر.

دخلت سحر بخطوات سريعة، عيناها تلمعان: متنزلي معايا تحت، عايزاكي في حاجة مهمة.

أغلقت ماسة الكتاب برفق بعد أن صدقت، ورفعت رأسها بإبتسامة صغيرة: طب متقولي هنا.

سحر، بإصرار: لأ، تعالي يلا.

مدت يدها تجذبها بلطف، فنهضت ماسة ببطء، وخلعت إسدالها وسارت معها، وما إن وضعت قدميها على الدرج، حتى تجمدت في مكانها واتسعت حدقة عينيها، هنا في الأسفل وجوه لم تراها منذ شهور، تسارعت أنفاسها، ودموعها انسابت بلا إرادة، لتخرج صرخة مختنقة: بابا !!! ماما!

ركضت، كطفلة ضائعة عادت أخيرا، خطواتها تتعثر من شدة الشوق، حتى ارتمت في أحضان والدها، ضمته بكل قوتها، تقبل يديه وخديه وهي تبكي بحرقة: بابا وحشتيني أوي.

ثم اندفعت نحو والدتها، التي احتضنتها كأنها تحاول أن تعوض في لحظة كل أيام الغياب، تقبل وجهها ويديها مرارا: وحشتوني وحشتوني!

تدفق إخوتها نحوها، يتلمسونها بأصابع مرتعشة، كأنهم يخشون أن تتلاشى فجأة

عانقت يوسف: حبيبى عامل إيه 

يوسف بدموع: مبقتش كويس غير لما شوفتك.

نظر عمار لأسفل بخجل لأنه لم يستطيع حمايتها: عاملة إيه، حقك عليا يا ماسة مقدرتش احميكي منه.

ضمت ماسة عمار بشده: بلاش كلام عبيط، وحشتنى أوى.

وقفت سلوى مذهوله، ودموعها تملئ عينيها، فالتفت إليها ماسة، والتقت نظراتهما، لتندفع نحوها في لهفه، وتنهاران في عناق طويل صامت، يرافقه بكاء يوجع القلب.

اقتربت سحر تمسح دموعها وتضحك بخفة: خلاص بقى، كفاية دموع، المهم إنكم اتقابلتوا تاني.

سعدية وهي تحبس دموعها وتمسح على شعر ماسة:
عندها حق، بس والله الواحد مش مصدق. 

ابتسمت ماسة من بين دموعها: مش مهم، المهم إني شيفاكم دلوقت.
ثم رفعت رأسها تنظر لأبيها بتساؤل: جيتوا هنا ازاي؟

رفع عشري عينيه وأجابها: الملك هو إللي أمر، أنا برة لو احتاجتم حاجة.
تركهم بخطوات صامتة، وكأنه يمنحهم وقتا بلا قيود.

عمار بإهتمام: طب أحكي يا حبيبتي إيه إللي حصل؟ هو وصلك إزاي؟ عملك حاجه؟

تنهدت ماسة بتعب: حكاية كبيرة، تعالوا نقعد.

نظرت لسحر بصوت هادئ: سحر من فضلك أعمليلنا عصير.

جلسوا جميعا في الصالة الواسعة، وماسة ماتزال متمسكة بيد أمها، كأنها تخشى أن تبتعد عنها ثانية.

مجاهد بلهفة: أحكي بقى يا بنتي إيه اللي حصل؟ هو إزاي وصلك؟

ماسة بتنهيدة ثقيلة: هقولكم كل حاجة.

بدأت تروى ما حدث، وبعد أن انتهت من سرد ما حدث، قالت سعدية بدهشة: مراته دى مجنونه؟ الحمد لله إنه طلقها، دي بنت مرووشة، بس والله ربنا يباركلهم ويقعدلهم في صحتهم وعافتهم، زي ماحافظوا عليكي، وحموكي من بهدلة الشارع، ربنا يسترها معاك يا مصطفى زي ماسترت بنتي. 

مسحت سلوى دموعها بعصبية: هو أنتِ ناقصاها! وبعدين ازاي مخبتيش الخاتم؟

مدت ماسة وجهها بعدم معرفة: مجاش في بالي إنها تدخل الأوضة وتفتش فيها، كنت حاطاه في الدرج، بس هو كان هيعرف يوصلي، كان مستني مكالمة واحدة أعملها.

مجاهد بتنهيده: الحمد لله إنه كويس معاكي دلوقتي.

ماسة بقلق: بس أنا سكوته مخوفني أنا مش فاهمة هو ناوى على ايه؟!

سعدية بصدق: شهادة حق يا ماسة، من يوم مامشيتي، مشفناهوش غير المرة إللي جيتي فيها، ومكناش نعرف إنك هربانة، جه قعد يهدد شويه ومشي ومن بعدها لا شوفناه ولا شوفنا رجالته.

نظرت سلوى لماسة بقلق: طب هتعملي إيه دلوقتي؟

ماسة بقلة حيله: هقعد، هعمل إيه يعني؟ أنا مش قادرة أفكر وخايفة، مش مستوعبة لسه، بقولك مبقاليش يومين!

تساءل يوسف: طب هو فين دلوقتي؟

ماسة بتوضيح: في القصر.

ربتت سعدية قدميها بنصيحة: أنا من رأيي تسمعيه، وتديله فرصه، يمكن يتغير.

هزت ماسة رأسها ودموعها تتلألأ: بقولك خايفة منه.

تسائل مجاهد بصوت حازم: هو الأهم من كل ده! أنتِ أصلا هربتي ليه؟ إيه إللي حصل تاني يا ماسة؟

ترددت لحظة، ثم أخذت نفسا عميقا، رفعت يدها تمسح وجهها بعصبية وأزاحت شعرها للخلف، وقالت بنبرة مرتعشه: إللي حصل إنه ضربني، إداني علقة موت.

ساد الصمت، كأن الجدران نفسها توقفت عن التنفس.

تنهدت ماسة بصوت مخنوق: هقولكم إللي حصل.

أصغوا إليها بوجوه متشنجة، والقلق يزداد مع كل كلمة وبعدما انتهت من سرد ما حدث في هذه الليله، صاحت سلوى بصدمه: يعني هو كان واخد حباية؟

ردت ماسة بعينين تشتعلان بالغضب: صافيناز الحقيرة هي إللي حطتله الحباية! بس هو قالي إنه عاقبها، وأنا متأكدة إنه ضربها ضرب غبي أنا عارفة سليم.

عمار بشك: وأنتِ مصدقاه؟

رفعت ماسة عينيها نحوه بثبات: أيوه، سليم يمكن طباعه صعبة شويه، بس مبيكدبش، بس الموضوع أكبر من الحباية.

تنهدت، وأضافت بصوت مرتعش: أنا مش قادرة أتعامل معاه، كل مبشوفه قدامي مبشوفش غير نظرته ليا الليله دي، بشوف كل ليلة عشتها في الشارع بسببه حتى لو مكانش ليه ذنب، بشوف خوفي عليكم وحرماني منكم طول الفتره دى، علشان كدة رفضت إنكم تيجوا، خوفت يعمل حاجة وإحنا قاعدين سوا. 

أضافت ويديها ترتعش عند قلبها بدموع: دلوقتي وأنا معاكم، والله قلبي مش مطمن، وخايفة...
أطرقت لحظة، ثم رفعت رأسها بحدة: قوموا أمشوا قبل مايجي، المهم إني أطمنت عليكم.

سعدية بهدوء، وهي تمسح دموع ماسة بحنان: متخافيش يا حبيبتى، أنا حاسة إنه مش هيعمل حاجة، لو كان عايز يعمل حاجة كان عملها.

مجاهد بهدوء شديد يخفي وراءه اضطرابا: أيوة أمك عندها حق، لو كان عايز يعمل حاجة، كان عملها.

همست ماسه بصوت متحشرج: يمكن عايز يطمني وبعدين ينتقم مني.

هزت سعديه رأسها باعتراض: ينتقم إيه بس يا بنتي، صلي على النبي.

وأثناء حديثهم، قطع المشهد صوت خطوات منتظمه تتقدم من عند الباب، ألتفت الجميع، فإذا بسليم قد عاد.

ما إن رأته ماسة حتى ارتجفت، وقبضت على يد والدتها بشدة، تبحث بعينيها عن أله حادة، لتحمي أهلها كما فعلت مع أهل مصطفي من قبل، وإن كان الثمن حياتها.

سليم بإبتسامة لطيفة، ونبرة هادئة: مساء الخير.

الجميع بنبرة جامدة، شبه موحدة: مساء النور.

ابتسم إبتسامة باهتة وهو يتفقدهم بعينيه: عاملين أيه؟

مجاهد بهدوء: الحمد لله.

سليم بلطف: ديما، البيت بيتكم طبعا، عن إذنكم.

ثم ألتفت وصعد الدرج بخطوات ثابته، تاركا خلفه صمتا ثقيلا، مدركا أنهم مازالوا غاضببن مما فعل، ومع ذلك، كان كل ما يهمه أن ماسة رأت عائلتها أخيرا بعد طول غياب، وسعدت بذلك.

يوسف بصوت منخفض مشوب بالريبة:  هو ماله متغير كدة ليه؟

ألتفتت ماسة إليهم بعينين غارقتين في الخوف:
شوفتوا إني ليا حق أخاف؟

وضعت سعدية يدها على يد ابنتها تطمئنها وتحدثها بهدوء: ما يمكن ربنا هداه، وبقى كويس، وغيابك أثر فيه.

تنهدت ماسة، ومسحت وجهها بتعب: طب غيروا الموضوع، أنا عايزة أعرف أخباركم، عاملة إيه يا سوسكا؟ بعرف أخبارك  على الفيسبوك؟ ماشاءالله الحاجات إللي بتعمليها قمر، بجد أنا مبسوطة إنك حققتي أكبر حلم ليكي، ألف مبروك يا حبيبتي. 

امسكت سلوى يد ماسة، وقالت بدموع تلمع في عينيها: كان نفسي تكوني جنبي 

ماسة بابتسامه: أنا جنبك بقلبي.

ألتفتت ليوسف بمزاح: وأنت؟ لسة زي ما أنت فاشل؟

يوسف ضاحكا: معنديش جديد، غير اني بنجح في الجامعة، والحمدلله أموري ماشية في الشغل. 

نظرت لعمار بلطف: وأنت يا عمور، هتتجوز إمتى

عمار بابتسامه: بعد ما اخلص الكلية، علشان أكون جهزت نفسي، أنا شغال دلوقتي في شركة سياحة.

ماسة: وأنت يا بابا؟!

مجاهد بنبرة حزينة: أنا لسة ملقيتش شغل، قاعد في البيت، يوسف وعمار هما إللي بيصرفوا  سلوي بتصرف على نفسها وبتساعد على قد ماتقدر.

ماسة بإستغراب: هو سليم بطل يديكم فلوس؟

سعدية بسرعة: لأ خالص بالعكس، ده بيبعت أكتر من الأول، بس إحنا حاطين الفلوس على جنب، مابناخدش منهم مليم، أصل هنقول له لا؟ بنخاف منه، فبناخدهم وبنركنهم... 

وأضافت بصوت منخفض: كذا مرة نقوله نمشي، وهو يرفض، أخوكي كان عايز يجيب لنا شقة إيجار، بس أنا قولتله خلينا زي ما إحنا، علشان أختك، وكمان حرام خليه يحوشله قرشين عشان يتجوز.

ماسة بجدية: بصراحة يا ماما إللي عملتيه هو الصح، بس يا بابا ليه مش لاقي شغل؟

مجاهد بتنهيده: كل مروح في حته، يقولولي أنت راجل كبير ومحدش بيقبلني.

تسائلت ماسه بقلق: طب يعني الفلوس بتكفيكم؟

هز مجاهد رأسه بإيجاب: بتكفينا الحمد لله، إحنا زمان عيشنا بأقل من كده، ومن فات قديمه، تاه يابنتي.

ماسة بلهفة: أنا تليفوني مفتوح، ابقوا كلموني لو احتاجتوا حاجه، هو سابلي التليفون.

مجاهد بصدق ونصح: بصي يا بنتي، أنا رأيي من رأي أمك، فكري تاني واديله فرصه، وإذا كان على إللي حصل منه مع عمار ومعانا، إحنا مسامحينه، هو برضو عمل معانا حاجات حلوة ياما، مننساش الحلو ونمسك في الوحش، حتى لو الوحش إللي عمله زي الشوكة في الضهر، بس الحق يتقال الراجل ده منع عننا بهدلة كتير.

مسحت ماسة  دموعها، بصوت مكسور: كان نفسي ميكونش كدة، كنت متعشمة فيه إنه مش هيعمل فيا كده، بالله عليكم غيروا الموضوع بقي مش عايزة أتوجع، أنا مبسوطة إني شفتكم، كنتوا واحشني أوى.

وضمت والدها بقوة، وظلوا يتحدثون طويلا، حتى حان وقت الرحيل، فقاموا بتوديعها على أمل لقاء قريب.

وقفت ماسة عند باب الفيلا تودعهم بوجه شاحب لكنه ممتلئ بالحنان: خدوا بالكم من نفسكم، لو حصل أي حاجة في أي وقت كلموني علطول، سلوى أبقي كلميني.

سلوى بتفهم: حاضر 

بعد أن غادرت العائلة وتحركت السيارة، أغلقت ماسة الباب، ورفعت نظرها إلى الأعلى بخوف، عيونها حمراء متعبة، دمعة واحدة هبطت على خدها ثم تنهدت..
تفكر: لماذا يفعل ذلك؟ ماذا يريد منها؟ هل يريد أن يجعلها تجن أم ماذا؟ هل عقابه حقا أن يجعلها تطمئن له ثم يطعنها بخنجر العقاب؟ أم إنه بالفعل تغير ولا يريد منها سوى المسامحة؟

أخذت نفسا عميقا، ثم صعدت إلى الأعلى، في إتجاه غرفة سليم.

فتحت الباب دون أن تطرق.

وجدته واقفا عند النافذة، يدخن سيجارة، ويستمع لأغنية تركية تملئ المكان، ألتفت إليها وهو يرمقها بمزيج من الاستغراب والهدوء، وألقى بسيجارته.

اقتربت منه ماسة وهي تصيح بضجر: قصدك إيه بإنك تجيبهم هنا؟! عايز توصل لإيه؟!

أجابها بهدوء، ونبرة ناعمة: ولا أي حاجة، أنا كنت عايز أخليكي مبسوطة، عارف قد إيه وحشوكي، أنتِ بقالك تقريبا سنة ونص مشوفتيهمش.

ردت بضجر وهي تنظر داخل عينه: آه بتعمل كده علشان تكسب ثقتى وتخليني أطمنلك زى زمان، وتخدعني بقناع الطيبة والحنان المزيف وبعد كدة هترجع تلبس قناع السجان إللى مش بيعرف يعمل حاجه إلا إنه يهدد ويوجع، أنت بنفسك قولتلى زمان علشان توجع عدوك لازم تخليه يطمنلك، وبعد كدة تطعنه، فأنا المرة دى مش هتخدع بالمصيدة المزيفة دى أنا مبقتش البت العبيطة بتاعة زمان.

صمت للحظة وهو يرمقها بصدمة، رد بصوت تغلفه المرارة: بس أنتِ مش عدوتي علشان أعمل فيكى كده يا ماسة !! وأنا مش وحش للدرجه دى..
اضاف وهو يهز رأسه بأنين موضحا نواياه بصدق يخرج من عينه، بنبرة مبحوحة: أنا مكنتش عايز أى حاجه غير إن أشوفك مبسوطة، عارف إن بقالك كتير مشوفتيهمش وأكيد وحشوكى بس أنتِ بتعاندي

نظرت إليه ماسة من أعلى إلى أسفل، وقلبها يتخبط بين رغبتها في تصديق ما تشع به عيناه وتنطق به شفتاه بصدق، وبين عقلها الذي لا يكف عن تذكيرها بالحقيقة المُره التي عاشتها، فـمهما تظاهر بالهدوء! فهي تعلم أن ذلك الهدوء لم يكن سوى هدوء يسبق العاصفة، عاصفة قد تطيح بها وبعائلتها بأكملها.

أخرج سليم أنفاس ساخنة، وتساءل: بس مشيوا بسرعة كدة ليه؟؟ وليه مخليتهمش يباتوا معاكي؟؟ 

رفعت ماسه حاحب بتحفز: وأنت عايزهم يباتوا ليه؟ كنت ناويلهم على إيه؟!

رفع سليم حاجبيه متعجبا، وقال بنبرة ساخرة: في إيه ياماسة، أنتِ ليه محسساني إني محمد على ومجمع المماليك علشان أدبحهم في القلعة؟؟

حاولت ماسة كتم ضحتها فهي لم تنتظر ذلك الرد، وضعت يدها على أنفها ثم رفعت وجهها ورسمت الثبات الكاذب.

تابعها سليم بوجع، وهو يقترب منها حتى توقف أمامها مباشرة وهو يركز النظر داخل عينيها: أنتِ بجد خايفة عليهم منى للدرجة دى؟! 

ردت ماسة بنبرة لاذعة مخذولة: أه طبعا، وأنت إللي زرعت الخوف ده بإيدك جوايا لما هددتني قبل كدة بيهم، ورفعت مسدسك على أخويا قدامي.

رمش سليم بعينه، وأقترب أكثر حتى لم يعد يفرق بينهما سوى أنفاسهما المختلطة، مد يده وضم كتفها بحنان، وقال بصوت منكسر: صح، أنا عملت كده وندمان، وصدقيني مستحيل أكررها تاني...
زادت ملامحه عشقا وصدقا بعين لا ترمش: أنا بحبك يا ماسة، سامحيني، وخلينا نرجع ونصلح إللي فات.

أمسك يدها برفق، ورفعها ليضعها على صدره حيث يخفق قلبه بعنف شوقا إليها، ثم غطى كفها بكفه، كأنه يثبت يدها فوق قلبه، وقال بنبرة عاشقة صادقة: بلاش تصدقيني أنا، صدقي قلبي، قلبي إللي مستحيل يكذب عليكي

رمشت بعينيها، وارتفعت أنفاسها برجفة.

أضاف وهو يضع كفه على وجهها، ويركز نظره داخل بحور عينيها: بصي في عينيا، شوفي بتقولولك إيه؟

رفعت عينيها ببطئ ونظرت في عينيه، تلك التي تقول كل شيء: ندم، حزن، حب، شوق، وتوسل.

غاصت في أعماقهما برعشة اهتز لها جسدها، دقات قلبه تتخبط تحت كفها، وأنفاسه تختلط بأنفاسها من ذلك القرب الذي هدم إرادتها، وأذاب قوتها، وأخرس غضبها.

بينما هو مازال على ذلك الوضع، يحدق بها بكلمات لا تنطق سوى بالعشق الخالص، وعين تسكنها دمعة متحجرة.

مرت لحظات من الصمت، تكلم فيها القلب والعين فقط.

ارتفعت أنفاسها شيئا فشيئا، وتجمعت الدموع في عينيها بوجع وضعف، من الحرب الداخلية التي تعيشها، فقد مر يومان فقط، واستطاع أن يجعلها تضعف بهذا الشكل، بمجرد أن رأته نسيت كل شيء.
كان هناك صوت داخلها يردد:
"هو بيحبك، وصادق، جربيه، ده سليم."
وصوت آخر يهتف:
"بس هو برضه إللي وجعك، لو صادق دلوقتي، هيرجع بعد يومين يوجعك ويخذلك تاني" 

أغمضت عينيها بضعف أكبر، سالت دموعها، سحبت يدها ببطء، وحاولت التمسك ببقايا قوتها الهشة، وابتعدت بضع خطوات للخلف.

مسحت دموعها، وقالت بصوت قاطع: عموما أتمنى تكون صادق، بس أنا بقي صعب أثق فيك.

ارتسمت نصف إبتسامة أنين وتمنى: مسيرك هتطمني وتصدقيني، الزمن كفيل ينسيكي، ويداوي جروحك.

نظرت إليه بعينين يعتصرهما الوجع، وقلبها يتوق إلي الارتماء في أحضانه والبكاء على كتفه، لكنها لم تستطع تجاوز ما عاشته بعد.

ابتلعت غصتها وحاولت تغيير الموضوع بإبتسامة مصطنعة: بس قولي، انبسطت هناك؟

ابتسم سليم إبتسامة مكسورة: أكيد مش هنبسط، وأنتِ بعيدة عني.

ماسة بفضول: طيب احكيلي، البنت شكلها عامل إزاي؟

عقد بين حاجبيه، متعجبا: مين؟

اقتربت ماسة منه موضحة: البنت إللي هيخطبها رشدي.

تنهد سليم، ثم قال بنبرة عابرة:  آه "مي" مش هتصدقي، محجبة.

نظرت له بدهشة: محجبة؟! 

هز  رأسه بإيجاب: وبنت محترمة جدا كمان.

قهقهت ماسة فجأة، ضحكتها ملأت الغرفة، وراحت تضرب كفيها ببعض بغير تصديق، شعر سليم بقلبه يذوب، فهو لم يسمع تلك الضحكة منذ أكثر من عامين.

ماسه بنبرة ساخرة: مش مصدقة إن رشدي يعرف واحدة زي دي! ينوبك فيها  ثواب قولها أهربي!

ابتسم سليم بخفة: ما يمكن هي إللي تصلح حاله.

ماسه بإستنكار: وإللي زي رشدي ده، بيتصلح حاله؟

أقترب سليم خطوات معلقا بإستغراب: غريب إنك بتتكلمي عن رشدي كدة، مع إن علاقتك برشدي كانت كويسة، أعتقد كانت أفضل  علاقاتك مع أهلي.

هزت ماسة رأسها ببطء وشرود: صح لإنه الوحيد إللي كان يعاملني حلو من غير تكبر، كمان سهرنا كتير في الفترة إللي كان يومي معكوس فيها، بس عارف؟ حتى وهو بيتعامل معايا كويس، كنت برضه بخاف منه.

ثم أضافت بصوت منخفض: بس واضح إني فاتني كتير، على رأي سحر يوم واحد قادر يقلب كل حاجة، ما بالك بقى ست شهور؟

اقترب منها ووقف أمامها، وهو يقول بنبرة متوسله: 
هو ده إللي بحاول أقنعك بيه.

رفعت ماسة عينيها اليه متسائلة: ناوي يعمل معاها ايه؟

سليم بابتسامه: هيخطبها.

مدت ماسة وجهها بإستغراب ممزوج بإبتسامة ساخرة: كمان؟ واضح إن ميشو سحرتله، تفتكر ممكن يتغير زيك؟

مد سليم وجهه: ممكن، أتمنى والله.

سألت بدهشة: بتحب إخواتك ليه بعد كل إللي عملوه معاك؟

سليم موضحا: هو مش حب، لكن عمري ما فكرت أأذيهم أو أتمنى ليهم الشر، ولو لقيت حد فيهم عايز يتغير لأحسن ومحتاج مساعدتى، هساعده.

وقفت أمامه ونظرت له للحظات بصمت، ثم قالت: أحيانا بسأل نفسي "ليه أنت الوحيد إللي كده؟"

ابتسم إبتسامة صغيرة بأمل: بس أنا متأكد إنهم زيي، بس مش لاقين الايد اللى تشدهم، بعدين ياسين وفريدة حاجة تانية، مش شبهنا، وطه كمان.

ماسة باستفسار: فاهمه، بس أنا أقصد صافيناز ورشدي، تفتكر؟

حك سليم خده قليلا بحيرة: رشدي؟ بحس إنه آه، أما صافي، موضوعها مختلف، رشدي مشكلته معايا إنه بيغير، وفاكر إني أخدت مكانه وأخدت منه الحب والحنان، مش قادر يفهم إن كل الحب والتقدير إللي شايفه في عيونهم مصلحة وخوف مش حب، رغم إنه عارف، بس الحرمان والوجع والغيرة عموه عن الحقيقة دي.
ثم تابع بضجر: أما صافيناز، عمرها ما حست بأي تفرقة، بالعكس هي الأقرب للباشا والهانم من فريدة.

ماسة بعقلانية: الكره والأذية ملهومش مبرر، هما إللي عايزين كده.
ثم تنهدت وقالت: أنا هروح أوضتي.

سليم بلهفة: متخليكي قاعدة معايا شوية كمان..

ارتسمت على وجهها ابتسامة واسعة وقالت: تعرف، دي تاني مرة نتكلم فيها بهدوء، في نفس اليوم.

تحممت ثم تابعت بصوت منخفض، وهي تخفض رأسها هربا من عينيه المتلهفه: معلش محتاجة أنام، تصبح على خير.

هز رأسه بإيجاب وصمت، بينما تحركت هي مبتعدة، وظل هو واقفا يطالع أثرها بعينين يترقرق فيهما الدمع، ووجع يعصف بقلبه.

أما هي، فجلست على فراشها، تتذكر ارتجاف قلبه أسفل يديها، وضعف نظرته اليها، لقد أحضر اليها عائلتها، ولم يمسهم بسوء، ومع ذلك قلبها مازال يرفض التصديق، لا يقوى على المسامحة بعد.

قصر الراوي العاشرة مساء 

غرفة صافيناز الجديدة 

كانت صافيناز تتحرك في الغرفة ذهابا وايابا، بملامح مشتعلة بالغضب، جلس عماد على حافة الفراش، وعينيه تتابعان خطواتها، ثم لوح بيده، وقال محاولا تهدئتها: متقعدي يا صافي وتهدي شوية.

زفرت بعنف وهي تقول بصوت غاضب: أهدى؟ أهدى إزاي بعد إللي حصل فينا تحت؟

زفر عماد بعمق، وقال بنبره هادئه: اللى حصل دى شيء متوقع وطبيعي جدا، دى أنتِ أحمدي ربنا اوي، وقومي صلي ركعتين، إنها جت على قد كده، أنتِ عارفة كويس معنى إن سليم يعرف إنك عملتي كده في ماسة وكنتي السبب إنها تهرب منه، ده كويس إنه مولعش فيكى وفيا وفي العيال.

رفعت صافيناز يدها إلى جبينها تحكه بعصبية، ثم مررت أصابعها في شعرها لتعيده للخلف، صوتها خرج متحشرجا: عارفة بس مش قادرة، شوفت كانوا بيعملوا معايا إيه تحت؟ كل يوم نفس الإهانة.

وقف أمامها، وامسك وجهها بين كفيه، وهو يقول بهدوء: اهدى يا صافي واسمعيني، احنا دلوقتي لازم نطاطي للموجه، ونفكر إزاي نصلح أمورنا مع سليم، صدقيني، كل إللي بيحصل معاكي ده يعتبر طبطبة ورحمة قدام إللي كان ممكن يحصل.

أشاحت صافيناز بوجهها بعيدا عنه، وضربت الأرض بقدمها بعصبية، وصوتها يرتفع بغضب: يعني نقبل على نفسنا الإهانة ونسكت؟! إحنا بنتفتش يا عماد، عارف يعني إيه بنتفتش!؟

صمت لحظه، وأنفاسها تتسارع من الغضب، وكأن عقلها يجري بأفكار متلاحقة، ثم قالت بنبرة شرسه:
أنا لو هخسر مش هخسر لوحدى، مش دلوقتي كلهم بقوا ملايكه وصافيناز بس اللي شيطان، أنا مش هشيل الذنوب لوحدى، ههد الدنيا عليهم، وهقول لسليم كل حاجه، وبعد كدة نسافر ونختفي، ووقتها  يوروني هيعملوا ايه في إللى سليم هيعملوا فيهم لما يعرف اللي عملوا فيه إيه هو ومراته وولاده.

صمتت قليلا، بنظره شاردة، وصوت أبيها يتردد في رأسها، وهو يقوم بتهديدها بأن يخبر عماد كل شيء، وهذا ما تخشاه.
ثم جلست على السرير بانهاك وهي تردد بتخبط بتراجع:
أو ممكن نجيب ماسة، ونساوم سليم عليها، ونخليه يرجع لنا كل حاجه، وبعد كده نديهاله.

اتسعت عينيها، ورفعت شعرها للوراء بحركة سريعة، وأكملت بلهفة: صح ماسة مقابل الأسهم، ومش بس الأسهم بتاعتي، لا هخليه يكتبلي كل ما يملك واعيشه مذلول وشحات طول عمره، وإحنا كدة كدة عارفين مكانها صح؟!

ثم لمعت عيناها أكثر، وانفرجت شفتاها بإبتسامة ماكرة بشر: ومافيش مانع لو كمان لعبنا باعصابه شويه، وقولناله إننا عارفين مكان بنته..

هز عماد رأسه باستنكار: بنته إيه أنتِ كمان، أنتِ ناسيه إن أحنا موتناها من زمان.

ردت بإندفاع وهي تلوح بيدها: يا سيدي نقوله كدة وخلاص، نرجعله ماسة، يرجعلنا الأسهم وكل حاجة، وبعدها نسافر بره ونبقي في أمان، وساعتها نقوله إننا كذبنا عليه في موضوع بنته وإنها فعلا ماتت أو نسيبه متعذب وبيدور على وهم، أو حتى نجيب أي بنت شبه ماسة ونقدمهاله على إنها بنته، هنتصرف ياعماد مش هنغلب.

انفلتت ضحكة قصيرة من عماد وهو ينظر لها بإستغراب: وسليم عبيط يعني مش هيعمل DNA؟

شهقت صافيناز وأمسكت صدرها كأنها تختنق بالوجع: والله يا عماد هموت، مش قادرة أتحمل الإهانة دي أكتر من كده.

جلس بجانبها على الفراش وربت على يدها بتهدئه، وقال بنبره هادئة وحازمة: طيب، أهدي يا صافيناز، خلينا نفكر ونخطط هنعمل ايه، بس بالعقل.

غرفة هبة وياسين

دخل ياسين الغرفة، وكانت هبة منهمكة في ترتيب حقيبتها.

نظر لها ياسين بعينين نصف مغمضتين، صوته هادئ لكنه حاد: خلاص هتمشي؟

لم تنظر إليه وأكملت وضع ملابسها في الحقيبه بعناية، ثم قالت بصوت خافت: آه، إحنا اتفقنا إني هقعد يومين لحد زيارة مي، واعتقد كدة خلصنا المسلسل اللي عملناه عليها النهاردة، ووريناها قد إيه إحنا عيلة دافية وعيله....

رفع ياسين يده، مقاطعا إياها بحده وملل: مش محتاجة تكملي، أنا مصدع ومطلبتش توضيح منك، أنا سألت سؤال وإجابته آه همشي، وخلاص خلصنا.

لم تستطيع هبة منع نفسها من الرد، وقالت بنبرة مليئة بالاستفزاز: أنت أسلوبك بقى مش حلو.

ضحك ياسين، وضرب كف على كف، ثم جلس على المقعد: حلوه النكته دى، وأنتِ أسلوبك إيه بقى؟!

تنهدت هبة بعنف، أغلقت حقيبتها بعصبية،  ووقفت أمامه بضجر: أنا هروح عند ماما، مش هينفع أقعد في الفيلا لوحدي، وكمان علشان تخلي بالها من البنت وأنا في الشغل، على الأقل هناك هكون وسط أهلي، مش لوحدي بين الحيطان والحراس والخدم.

ابتسم ياسين ابتسامة حزينة، وقال بنبره هادئة لكنها حازمة: أقعدي في المكان إللي تحبيه، بس ياريت متعرفيش أهلك المسافة إللي بينا بقت كبيرة قد ايه، لكن إللي أنتِ شايفاه، أعمليه يا هبة.

نهض ياسين تحرك إلى الشرفة، وقف هناك، بينما اقتربت هبة بخطوات مترددة، عيناها مليئتان بالقلق:
بس إيه البنت إللي أخوك هيخطبها دى؟ أزاي واحدة زيها ترتبط برشدى؟!

نظر لها ياسين، وقال ببرود: وإيه المشكلة؟

اسندت هبة، ظهرها على السور وهي تقول: المشكلة إنها حد محترم أوى، حرام تتجوز واحد زي رشدي، صايع ومغتصب وبلاويه كتيره، دى مفيش حاجة حرام معملهاش...
ثم أضافت بصوت ضعيف متأثر: صعبانة عليا أوي، تخيل أنا كدة ومقدرتش ولا اتحملت، أومال هي بقى هتعمل ايه!؟

نظر لها ياسين بعينين حادتين، وقال: ملكيش دعوة بحد يا هبة، خليكي في نفسك، بطلي تعملي فيها واعظة، وشوفي حياتك وأخطائك الأول وبعدين أبقي عدلى واتكلمي على أخطاء غيرك.

جزت هبة على أسنانها وقالت بضجر: أنا غلطانة إني بتكلم معاك، بكرة هخرج من الشغل على أهلي وهقولهم إنك مسافر.

ياسين بتساؤل: وهشوف البنت إزاي؟

هبة بتنهيده: خلاص هقولهم عندك شغل كتير، وبتيجي متأخر، هتصرف.

هز ياسين رأسه إيجابا في صمت، ومضت هبة تكمل ما كانت تقوم به، بينما ظل هو يحدق في الفراغ أمامه، يعتصره الحزن والأسى لأن حياته مع هبة وصلت إلى هذا الحد.

غرفة عزت وفايزة 

كانت فايزة تجلس أمام التسريحة، ترتدي قميص نوم أنيق يعلوه روب طويل، وبيدها منديل تزيل به مستحضرات التجميل عن وجهها، انعكست ملامحها في المرآة، بينما عزت خرج لتوه من الحمام، مرتديا روبا فوق بيجامته، وتمدد على الفراش باسترخاء يراقبها من بعيد.

فايزة وهي تنظر في المرآة: شوفت مي؟ مقولتش رأيك فيها؟

مد عزت رأسه بإيجاب: الصراحة، البنت شكلها مؤدب جدا، واضح كمان إنها من عيلة ملتزمة ومش شبهنا خالص.

ابتسمت فايزة ابتسامة خفيفة وهي تتابع مسح وجهها: مظبوط، هي عجبتني، ومعنديش أي مانع إننا نروح نطلب إيدها. 

رفع عزت حاجبيه بدهشة وعدل جلسته على الفراش: مش معقول! فايزة رستم هتنزل من برجها العالي وتروح تطلب مي بنت المهندس راشد؟

ألتفتت فايزة إليه، بعد أن وضعت المنديل على الطاولة أمامها، ونظرت له بتعجب: إيه المشكلة؟

هز عزت رأسه وهو يضحك ساخرا: المشكلة إنها من طبقة أقل مننا، وأنتِ دايما عندك حساسية من النوع ده.

عدلت فايزة جلستها، نظرت في المرآة وبدأت تمشط شعرها: لكن بنت ناس، باباها مهندس، ووالدتها الله يرحمها بالتأكيد كانت ست محترمة، أنا هعمل تحرياتي عنها، وبعدين ده رشدي! تفتكر هيفرق معايا رشدي يتجوز مين؟

نظر عزت لها نظرة مطولة ولوح بيده: أنا إللي عارفه كويس إن ميهمكيش الا نفسك وصورتك قدام المجتمع، ورشدي، حتى لو مستهتر، هيفضل اسمه على اسمك، ابن فايزة رستم أغا.

قهقهت فايزة، وردت بثقة وهي تستدير له: سليم راح اتجوز خدامة، تفتكر أنا ممكن أتضايق لو مي اتجوزت رشدي؟ وبعدين مي مش زي ماسة، فيه فرق كبير، مي أعتقد في نفس المستوى المادي بتاع هبة ممكن أقل شوية بس مش كتير، وواضح إنها بنت هادية ولطيفة، وكفاية أصلا إنها قبلت برشدي.

صمتت لحظة وقطبت حاجبيها: آه صح! بخصوص هبة، أنا بدأت أتضايق منها، وشكل ياسين بدأ يتضايق هو كمان...
ثم ضيقت عينيها بتساؤل:
البنت إللي اسمها لوجين دي مين إللي شغلها؟

رفع عزت عينه بإستغراب: مين لوجين؟

فايزة بتعجب: أنت مش عارف مديرة المكتب الخاصة بإبنك أسمها إيه؟

رد عزت  بلامبالاة وهو يعدل جلسته على الفراش: 
وأنا هركز في حاجات تافهة زي دي ليه؟

ابتسمت فايزة ابتسامة ماكرة: لا، مش تافهة، دول بيخرجوا مع بعض كتير.

عزت باستغراب: وأنتِ إيش عرفك؟

اتكأت فايزة على التسريحة وغمزت بعينيها:  شوفت صورهم كذا مرة، البنت جميلة الصراحة، باباها الله يرحمه كان سفير، ومامتها مستشارة، أصل أنا عملت عليها شوية تحريات.

مال عزت بجسده للأمام: وناوية على إيه يا فايزة؟

ضحكت فايزة واستدرات مرة أخري وهي تصفف شعرها في المرآة: كل خير، عايزة أعمل  تجديد دم في العيلة، ياسين لازم يطلق هبة، وقربه من لوجين هيسهل عليا كتير، ومي كمان لازم تتجوز رشدي، حتى لو باباها كان شغال سفرجي، هجوزها له

نهضت وجلست أمام عزت موضحة: البنت دي هتغير كتير من رشدي، كفاية أوي إنه بعد عن السهر بشكل معقول؟! يمكن يعقل لما يتجوز واحدة زي مي، أما الباقيين، هحاول أتخلص منهم، واحد واحد، وعماد أولهم.

ضيقت فايزة عينيها وتساءلت بخبث وهي تمسك يده: مش ناوى تقولي إيه إللي ماسكه على صافي؟ حاجة ممكن تخلي عماد يطلقها؟ خيانة مثلا؟

ضحك عزت وحرر ذراعها بلطف: لا مش خيانة ومش ماسك عليها حاجة.

دققت فايزة النظر في ملامح عزت، وصوتها صار عميقا ونظراته أكثر جدية: إحنا عشرة سنين يا عزت، صافيناز جاية حاطة رأسها في الأرض وقابلة بأوضاع كتير استحال تقبلها، وأنا متأكده إنك ماسك عليها حاجة كبيرة...
اقتربت منه أكثر وخفضت صوتها بتحذير: عموما، صافي مش سهلة احذر منها.

قلب عزت عينه بقوة شخصية وقال بصوت حاد: وأنا عزت الراوي صدقيني، لو حسيت إنها هتغدر هندمها.

مالت فايزة تجاهه، وهمست:  لسة معرفتش سليم كان مسافر ليه؟

هز عزت راسه وقال ببرود: لا.

فايزة بنبرة منخفضه: أنت عرفت إنه جاب فيلا جديدة؟

اشعل عزت سيجاره، وأجاب: أيوة عرفت، وقاعد فيها.

نظرت له فايزة بقلق وسألته: تفتكر وصل لماسة؟

زفر  عزت دخان السيجارة: مش اولادك، بيراقبوها خليهم يشوفوا.

قالت فايزة بعد صمت قصير: ماشي، بس لو رجعت، هتبقى كارثة كبيرة، لأنها أكيد هتتكلم.

رفع عزت صوته بغضب مكتوم: وطبعا هتجربوا تخرسوها.

أجابته فايزة بسرعة: هنحاول نسكتها بالتهديدات، مش هنعمل حاجة تانية، إحنا لسة روحنا في إيد سليم.

بان على ملامح عزت الإرتباك، وقال بصوت متردد: فايزة، أنا قلبي مش مطمن، حاسس إن الأيام إللي جاية مخبيلنا حاجات صعبة، إحنا كان لازم نحسب حساب اليوم ده من زمان، اكيد هيجي عليها وقت وتتكلم، ولو اتكلمت يبقي إحنا انتهينا، تعرفي؟ ساعات بفكر نقتلها عشان ندفن السر معاها.

نظرت له فايزة بهدوء وقالت ببرود: أنا معنديش مانع.

تنهد عزت وهو يمرر يده على جبينه: مش عارف، محتار في قراري، البنت دي لو رجعت وقالت لسليم على إللي كنتم بتعملوه معاها، واني عرفت وسكت، يبقى حفرنا قبرنا بإيدينا.

فايزة بثقة وقوة: ماسة دي بنت جبانة، وأهلها في إيدينا، وأنا بعرف اخرصها إزاي.

تغيرت نبرة فايزة فجأة وقالت: سيبك دلوقتي من ماسة، خلينا في رشدي ومي، أنا موافقة على البنت دي، أعمل حسابك هنروح نطلبها.

أومأ عزت ببطء وقال: تمام، وأنا هتكلم مع رشدي، في موضوع إنه لازم يروح مصحة ويتعالج، أو حتى يتعالج هنا في القصر، وهاخد موضوع مي حجة علشان يوافق.

فايزة بإبتسامة باردة: تمام.
   💞_____________بقلمي_ليلةعادل  

منزل مي الواحدة صباحا 

غرفة نومها

كانت مستلقية على فراشها، ممددة برأسها على الوسادة، وعيناها شاردة في السقف، رغم شرودها، لم تفارق الابتسامة ملامحها، فقد كان ذهنها ممتلئا بصورة رشدي، وبالليلة التي تعرفت فيها على عائلته.

قطع خيط أفكارها صوت هاتفها على الكومود، مدت يدها بتكاسل، أخذته، فرأت رسالة جديدة من رشدي:
"مستنيكي بكرة الساعة 4:00 في المطعم."

ابتسمت بخفة، ثم أعادت الهاتف بجوارها، وضعت يدها على صدرها، كأنها تحاول أن تفهم دقات قلبها المتسارعة، تساءلت بصوت خافت:
"أنا ليه مشدودة ليه كده؟"

فهي تعرف جيدا أن لا شيء يجمعها برشدي، فهو مختلف عنها تماما، من عالم آخر لا يشبه عالمها، لا يحمل أيا من الصفات التي كانت تتمناها في شريك حياتها، ومع ذلك هناك خيط خفي يشدها إليه أكثر فأكثر، العلاقة بينهم تأخذ شكلا جديدا في كل مرة يلتقيان فيها.

أدارت رأسها على الوسادة، ألتقطت الهاتف من جديد، فتحت معرض الصور، وبدأت تتأمل لقطات الرحلة: صورها معه، ضحكاته العفوية، نظراته المباشرة التي كانت تفضح كل ما يخفيه.

ثم انتقلت لصورة أخرى، عينيه فيها ثابتتان عليها، نظرة حادة وصريحة، لكنها مليئة بدفء لم تعتاده، رفعت يدها ولمست الشاشة بخفة، كأنها تلمس ملامحه نفسها، وبين صورة وأخرى، عادت إلى ذهنها كلماته الصريحة:
"أنا بتمنى أتغير علشانك."

توقفت يدها، واتسعت ابتسامتها أكثر، لحظتها فقط، أدركت أنها عالقة في دائرة لا تعرف إن كانت بداية حب؟! أم مجرد ارتباك قلب لم يتذوق هذه المشاعر من قبل!؟

تمتمت بصوت هامس: إزاي قدرت تخترقني كده، وإحنا مفيش بينا أي تشابه؟

شعرت بحرارة تسري في وجهها، قلبها يخفق بسرعة غير عاديه، وضعت الهاتف بجانبها لتتخلص من هذا الشعور، لكن بعد لحظات لم تحتمل فعادت وألتقطته من جديد، وكأنها أسيرة لصورته.

وفجأة، ظهر إشعار رسالة جديدة، كانت من رشدي،
"لسة صاحية؟ كنت بفكر فيكي."

اتسعت عيناها، تسارعت أنفاسها، أعادت قراءة الرسالة مرة واثنتين وثلاثة، ابتسمت ابتسامة مرتبكة، وضغطت الهاتف على صدرها، تغمض عينيها للحظة وكأنها تريد أن تحفظ إحساس الكلمات داخلها.

ثم همست بخجل: يا ربي أعمل إيه معاك؟

جلست في السرير، وبدأت تكتب ردا، لكنها ترددت، ومسحت الكلمات أكثر من مرة، فهي لا تعرف كيف تعبر عن مشاعرها، مشاعرها التي تكبر مع كل يوم يمر، ومع كل رسالة منه.

وفي النهاية وضعت الهاتف بجوارها، وشدت الغطاء على جسدها كأنها تبحث عن دفء يسكن ارتباكها.

عيناها ظلت معلقتين بالسقف، والابتسامة لا تفارق وجهها، بينما قلبها يقربها خطوة جديدة نحو رجل لم تتخيله يوما في عالمها، فيما عقلها يهمس بتحذير خافت، لكنها ولأول مرة، اختارت أن تصغي لقلبها.

غرفة رشدي الوحده صباحا

جلس رشدي على الأريكة، السيجارة بين أصابعه، وعيناه معلقتان بالسقف في شرود عميق، كان يسترجع في ذهنه حديث "مي"، وتحديدا انبهارها بالأشكال التي صنعها بيديه في صغره، ابتسم ابتسامة باهتة، كمن يتذكر أمنية قديمة؛ كم تمنى أن يلتفت أحد إلى موهبته، أن يمنحه كلمة تشجيع، أو حتى نظرة تقدير، موهبة وأدها منذ سنوات طويلة حين لم يجد من يهتم بها.

فجأة، مد يده إلى الهاتف وأتصل بـ "شوقي"، وطلب منه بعض الأدوات، وبعد قليل، جاء شوقي حاملا ما أراد: أسلاكا حديدية، مسدس شمع، روابط، وأدوات أخرى صغيرة.

جلس رشدي أمام مكتبه، وبسط الأدوات أمامه، بدأ العمل مترددا، يحاول مرة تلو أخرى، فيفشل، ثم يعاود من جديد بعناد لا يلين، والليل يمضي طويلا وهو غارق فيما يصنعه.

وأخيرا نجح، ارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة، صافية، كإبتسامة طفل حقق انتصارا كبيرا طال انتظاره.

لكن لا ندري بعد، ما هو الشكل الذي أبدعه رشدي،
ولا نعلم هل سيقدمه لـ "مي" كهدية، أم سيحتفظ به لنفسه سرا، كخطوة أولى لعودة روحه القديمة.

فيلا سليم ماسة الثالثة مساء

نرى عثمان يتحرك في الفيلا وهو ينظر من حوله بإستغراب؛ فهو كان في أجازة ولا يعرف أي شيء مما حدث.

توجه إلى الحارس الذي يقف عند المدخل وسأله: إيه المكان ده؟

أجاب الحارس: فيلا جديدة.

نظر عثمان، ودهشته واضحة على وجهه: جابها أمتي؟

رد الحارس: مش عارف، إحنا فجأة لقينا مكي باشا بيتصل بينا وأدانا عنوان الفيلا هنا، جينا وظبطنا الدنيا، وأمنا المكان، أصل الهانم رجعت.

اتسعت عينا عثمان بدهشة: رجعت! إمتى؟

أجاب الحارس: من كام يوم، وكل الكلام ده حصل  في الأجازة إللي أنت كنت واخدها.

تنهد عثمان: طيب، هروح أدي التمام لعشري.

توجه عثمان إلى المبنى الصغير، حيث كان عشري جالسا في الخارج بهيبته المعتادة، يدخن شيشته.

أقترب عثمان: أنا جيت يا باشا.

عشري بإقتضاب وهو يسحب دخانه: طيب.

نظر عثمان إليه مستغربا، تساءل بخبث: مكلمتنيش ليه، وأنتم بترجعوا الهانم؟

نظر له عشري بتعجب قال بنبرة حادة: المفروض نقولك كل تحركاتنا ولا إيه!

عثمان بتوتر، وهو يحرك يديه بعصبية: مقصدتش يا باشا، بس يعني حاجة مهمة زي دي لازم أبقى عارف، وأقطع أجازتي.

رد عليه عشري بشدة، وهو يرفع حاجبه، ويدخن شيشته ببطء: لا مش لازم يا عثمان، وبلاش تدي نفسك قيمة أكبر من قيمتك؟ أنت زيك زي أي واحد  هنا، ممكن نمشيك عادي، الفرق الوحيد إنك مع الملك من زمان.

تمتم عثمان وهو ينظر حوله، وقال بخبث: طب أنا هقوم أشيك على الرجالة، بفكر أخدهم وأدربهم شوية، بس هلف كدة أشوف الفيلا والأماكن إللي ممكن أدربهم فيها.

هز عشري رأسه: هي دي هتغيب علينا يعني؟ مكان التدريب ورا خلي حد من الرجالة يوريهولك.

ألتفت عثمان حوله متفقدا المكان: هو مكي إجازة النهاردة؟

عشري بلا مبالاة، وهو يتثاءب قليلا: آه.

هز عثمان رأسه، وتنهد بعمق، ثم بدأ يتمشى في الجنينة الواسعة، كانت عيناه تتحركان مع كل خطوة، تلتقطان أدق التفاصيل؛ الأشجار العالية، الممرات الملتوية، وحتى الأسوار التي تحيط بالمكان.

لم يكن الأمر مجرد نزهة أو تدريب كما ادعى، بل محاولة مدروسة لرسم صورة كاملة عن الفيلا الجديدة: مداخلها، مخارجها، وكيفية تأمينها، أراد أن يروي كل هذا لعماد، لكن ما الذي يدفعه لهذا الحد من الولاء لعماد؟ هل هناك سر يخفيه عثمان سيكشف لاحقا؟

منزل سارة، الرابعة مساء

كانت أصوات الضحك تملئ المكان، حيث جلس عماد على الأرض بجوار مازن يلعبان البلاي ستيشن، بينما كانت كارمن تشاركهما الحماس بالصراخ والتصفيق، الجو كان مليئا بالفرحة والدفء.

دخلت سارة بخطوات نشيطة وابتسامة عريضة على وجهها، وبين يديها كعكة وبعض الأكياس الصغيرة، وضعت الكيكة على الطاولة وقالت بمرح:جبتلكم مفاجأة يا ولاد.

قفز مازن من مكانه بحماس، وكارمن ركضت نحوها تهتف: ياااه ماما جت بالكيكة!

ضحكت سارة وربتت على رأسهما، ثم جلست معهم تشاركهم اللعب والمرح، الجو ازداد دفئا، وصار المكان وكأنه يحتضنهم جميعا بروح واحدة.

وسط هذا الانسجام، رن هاتف عماد على الطاولة، صمت الجميع لثواني، مد عماد يده بسرعة وأمسك الهاتف، وعندما رأى الاسم ارتبك، رفع عينيه نحو سارة، ففهمت أنه لا يستطيع الرد أمام الأولاد.

ألتفتت نحوه وقالت بحزم: يلا يا مازن خد أختك وأدخلوا جوة؛ عشان بابا يتكلم في التليفون.

نظر مازن لوالده ببراءة وقال: طب يا بابا متدخل تتكلم أنت جوة.

نظرت اليه سارة بصرامة وهي تشير له: أنا قولت إيه؟

أنكمش مازن وأطفئ اللعبة وهو يقول: حاضر يا ماما.

ثم أمسك يد كارمن، ودخلا الأوضة، وأغلقا الباب خلفهما بهدوء.

رفع عماد الهاتف وأجاب بصوت مضطرب: إيه يا عثمان، فيه ايه؟

جاء صوت عثمان من بعيد من المرحاض، وكأنه يهمس بسر: ماسة هانم رجعت.

تصلبت ملامح عماد، كأن الأرض توقفت حوله، فوقف وهو يقول بصدمة: إيه؟ بتقول إيه؟ رجعت؟

تابع عثمان بعد تردد قصير: بقالها كام يوم حاولي تلات أيام، أنا لسة عارف لأني كنت واخد أجازة، ولما رجعت لقيت الباشا جاب فيلا جديدة، ولما روحت فهمت إللي حصل.

تنفس عماد بعصبية وهو يضغط على أسنانه: طب شاكك إنها قالت حاجة؟

عثمان بتردد: الله أعلم يا باشا، بس أنا حبيت أعرفك.

شد عماد على أسنانه: ماشي يا عثمان.

ضحكة خبيثة وصلت من سماعة الهاتف: أستنى يا باشا، هو الخبر ده ببلاش؟

أجاب عماد بحدة مكتومة: متقلقش، بكرة حسابك في البنك هيكبر، ربع مليون سلام.

أغلِق الخط بشرود، كانت سارة تراقبه بعين قلقة، فاقتربت وسألته: مالك يا عماد؟ في إيه؟ مين اللى رجعت؟

رفع رأسه إليها، وقال بصوت مضطرب: ماسة رجعت.

رفعت سارة حاجبيها بإستغراب: وده يخليك متعصب وخايف كده؟

ضرب عماد  كفه في الطاولة وقال بنبرة مضغوطة: أيوة خايف! ما يمكن تقول كل حاجة لسليم، إيه إللي هيخليها تسكت دلوقتي؟

اتكأت سارة بظهرها على الأريكة، وعينيها مركزتان فيه ببرود وهدوء وعقلانية: إللي خلاها تسكت طول السنة إللي فاتت، هو نفسه إللي هيخليها تسكت دلوقتي، هي عارفة إن أهلها لسة في إيدينا، لو كانت عايزة تتكلم، كانت اتكلمت من زمان.

مرر عماد يده على رأسه بإرتباك: بس ممكن تكون قالتله، وسليم دلوقتي بيفكر إزاي ينتقم.

هزت سارة رأسها بثقة: لا، حاجة زي دي لو وصلت له مكانش هيعرف يخبيها، أنتم بهدلتوا مراته، كسرتوا نفسها وهي في حضنه، لو كان عرف بالحقيقة، كان دفنكم صاحين مش هيستنى دقيقة واحدة يفكر.

مالت سارة نحوه وهمست وهي تتابع: بس دلوقتي أهم حاجة إنك متخافش، أهلها لسة في إيدينا، ابعتلها رسالة صغيرة عن طريق عثمان، كفيلة تفكرها إن أي كلمة هتطلع من بوقها معناها نهايتهم، بس كأني صافيناز هي إللي بعتتها مش أنت أوعى تظهر في الصورة.

رفع عماد راسه، وشرد بتفكير: صح، هكلم صافيناز أعرفها.

شدت سارة الهاتف من يده بعصبية: هو كل حاجة تروح تقولها لصافيناز؟

نظر عماد بتعجب: لازم تبقى عارفة علشان نفكر سوا.

سارة بغيرة وضجر: فكر معايا أنا، هو أنا مش كفاية ولا إيه؟ 
ثم أضافت بنبرة خبيثة تحمل في بطنها الكثير: وبعدين زي ما هي مخبية عنك حاجات، أنت كمان خبي عنها.

عماد بثقة: صافيناز مبتخبيش عني حاجة.

ضحكت سارة ضحكه صغيرة بإستنكار، ثم مدت يدها  وأمسكت هاتفها تلهو به ببرود وهي مبتسمة بخبث: زين قمور أوي، بس لا شبهك، ولا حتى قريب منك.

انتفض عماد واقفا، ملامحه تغيرت فجأة، وصوته خرج غاضبا: سارة كفاية تلقيح، بقالك فترة مش طبيعية، وكلامك بيستفزني.

وقفت سارة وتقدمت نحوه، نظرتها ثابتة وصوتها أكثر حدة: أنت بتزعقلي؟

أمسك بيديها بقوة، وقال بصوت غاضب ةمرعب في آن واحد: أيوه بزعقلك، دي مهما كان مراتي وشايله اسمي، ممكن أصدق أي حاجة، إلا  الخيانة سارة أعقلي.

ابتسمت سارة وهي ترفع ذقنها متحدية، وعينيها تسخران منه: أبلع ريقك يا حبيبي، علشان إللي واقف تدافع عنها دي، مدياك بالقفا 

تجمد وجه عماد، وصوته صار متقطعا يخرج بصعوبة: قصدك إيه؟

رفعت سارة رأسها بثقة، وحدقت في عينيه طويلا قبل أن تطلق كلماتها كرصاص بارد: قصدي إن زين ومريم، مش عيالك.

تجمد عماد مكانه، اتسعت عيناه كأنهما ستنفجران، الهواء أختنق في صدره، وملامحه ارتجفت بجنون،
وصاح بغضب: أنتِ اتجنينتي يا سارة؟ ولا حصل حاجه في مخك؟

سارة وما زالت تنظر في عينيه بثبات، وصوتها حاد قاطع: لا بقولك الحقيقة، زين ومريم مش عيالك.
استووووب
تفتكروا سارة هاتقول لعماد الحقيقة ولا هاتلعب عليه أن صافيناز خاينة؟! توقعاتكم



                    الفصل العاشر من هنا 

تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة