رواية الماسة المكسورة 2 الفصل العاشر 10بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل العاشر 10 
بقلم ليله عادل


 

                [بعنوان: بدايه جديدة]

خرج صوته متقطعا بصدمة: ايه اللي أنتِ بتقوليه ده يا سارة؟ أنتِ اتجننتي؟ مش ولادى أزاى؟

اقتربت منه وقالت بهدوء وهي تثبت نظرها في ملامحه: لا متجننتش، ومعايا دليل على كلامي.

سحبته من يده نحو الغرفة، ثم أفلتتها واتجهت إلى الدولاب تفتحه بعنف، وأدخلت الرقم السري في الخزنة، وبسرعة وغضب أخرجت ملفا يحوي أوراقا كثيرة، وانتزعت منه تحاليل الـDNA الخاصة بالطفلين التي تثبت صدق كلامها، ثم تقدمت نحوه كالعاصفة وصرخت فيه:  اتفضل شوف بنفسك مراتك اللي بتزعقلي عشانها مستغفلاك ازاى يا حبيبي.

أخذ عماد ينقل بصره بينها وبين الأوراق بصمت لحظة، ثم انتزعها منها، يمرر عينيه على ما كتب فيها، وسرعان ما اشتعل الغضب في عينيه، وصاح بغضب: 
بنت الك*لب! بتخوني أنااااا؟

ثم تقدم نحوها وامسكها من كتفها بقسوة، وهو ينظر داخل عينيها: أنتِ كنتي عارفة ومقولتليش؟ 

سارة بهدوء وخبث: بصراحة محبيتش أزعلك ولا أضايقك...
ثم قلبت عينيها وصوتها خرج أقوي: بس لما شوفتك بقى بتدافع عنها باستماتة كده، قولت لازم اعرفك عشان تفوق، وتعرف إن صافيناز حيه، حتى عليك.

جز عماد على اسنانه وهو يتحدث بلوم وتهكم: كان لازم تقوليلى يا سارة، ازاي هونت عليكي كل ده تسبينى زى المغفل وهى بتخوني.

ابتسمت بسخرية وكأنها تتلذذ بالتلاعب به: أهدى على نفسك يا حبيبي، هي مخانتكش.

ضيق حاجبيه باستغراب:  مخانتنيش ازاى؟؟ أنتِ عايزه تجننيني يا سارة؟؟ 

وقفت أمامه، وقالت ببرود وهدوء وهي تلتقط من الملف أوراق التبنى وتمد يدها بهم: سلامتك من الجنان ياعمده، بس هي فعلا مخنتكش، اتبنتهم.

ثم تحركت وهي تضيف بهدوء وتوضيح: لما راحت أمريكا جالها نزيف من كتر الشغل، التوأم اتولدوا ميتين وشالوا لها الرحم، وواحده زي صافيناز الراوي مقدرتش تتحمل خبر زي ده! يعنى كل إخواتها عندهم أولاد وهي لأ، فاضطرت تتبنى الطفلين دول.

كان عماد يصغي إلى الحديث بصدمة، يحاول ابتلاع غصته، وقد شعر أن صافيناز قد خدعته، وأنه لم يكن سوى مغفل.

لم تتوقف سارة عن حديثها، وتابعت على نفس ذات الوتيرة: أنا شكيت يوم ما زين اتعور وكان عايز نقل دم، وقتها عرفت إن فصيلته مش نفس فصيلتك لا أنت ولا هي، ساعتها حسيت إن في حاجة غلط، أخدت خصلة شعر من مريم وزين وعملت تحليل DNA، وعرفت إنهم مش ولادك، بعد كده روحت أمريكا عشان أجمع الخيوط، وهناك فهمت اللعبه.

شد عماد على أسنانه حتى برزت عروق رقبته، وخرج صوته غليظ وهو يتمتم بمرارة تجري في حنجرته: بنت الك"لب، تضحك عليا أنا، وتلبسني عيال مش عيالي.

رفعت سارة رأسها إليه، وقالت بستهجان: ومالك زعلان أوى كده ليه إنهم مش ولادك.

ضحك عماد ضحكة قصيرة بعصبية، وهو يصيح بتهكم: يعني إيه زعلان ليه؟ أنت عبيطة يا سارة؟ يعنى بعد السنين دى لما اكتشف إن ولادى مش ولادى مزعلش؟

وقفت سارة ثابتة للحظة ثم قالت بفحيح أفاعي: أيوه طبعا متزعلش، بالعكس دي جتلنا لحد عندنا، هو أنت مسألتش نفسك ليه صافيناز قبلت بكل الإهانة والشروط دي؟! أنا متأكدة إن عزت عرف وابتزها، إحنا كمان هنبتزها.

قلب عماد وجهه بضجر وهو يقول بتهكم: ابتزيها؟ أنا هروح اخنقها وأطلقها، أنا أخدت منها كل حاجة خلاص، صافيناز حاليا متتحكمش على جنيه واحد.

ضحكت سارة وهى تقف أمامه بستهجان: اهو هو ده بقى العبط بعينه، الحاجة معانا أه، بس أوعى تنسى يا حبيبي إن أهلها مها حصل هيفضلوا معاها؛ مش هيقبلوا إنك تضحك على بنتهم، هيجبوك ويقتلوك ويقتلوني...

اضافت بنبرة ساخرة خبيثه: أوعى تكون فاكر يا عمدة إن سليم الراوي وعزت الراوي ميعرفوش إنك متزوجني؟! أنت نسيت إن سليم كان بيراقبك، يعنى أكيد عرف وسكت، وعزت بعد اللي حصل أكيد دور وراك، وبردو سكت، ومعنى إن هما عارفين وساكتين يبقى الموضوع على هواهم. 

رمقها عماد بعينين ملتهبتين بالتعجب، ورد بغضب:أنتِ عايزيني أسكت واتعامل معاها عادي؟

زفرت سارة وهي تقول بتوضيح كأنها ترسم خطه شيطانيه ماكرة: إحنا لازم ناخد كل حاجة بالعقل، انسي الأسهم خلاص بقت مع سليم واستحالة ترجع، والملايين اللي أخدناها من صافيناز ولسه هناخدها، دي اللي هنلعب عليها، والمجوهرات لازم تيجى هنا حته حته، احنا للأسف مش هنقدر نبتزها دلوقتي لأن ممكن تروح تلجأ لأهلها، ودلوقتي احنا معندناش اللي يحمينا.

صمتت لحظه وكأنها تذكرت شيئا، فقالت بتساؤل: هو أنت ينفع تكلم تيمو أخو إريك؟ لو وافق يساعدك ممكن فعلا نبتزها، نبعت لها رسايل إن إحنا هنعرفك الحقيقة، وساعتها هناخد منها اللى أحنا عايزينه واهو نلعب باعصابها شويه.

تنهد عماد بضجر: أنا معرفش تيمو ولا ليا علاقة بيه، وانسي إني أطلب من اريك حاجة، ده بيهددني بيكي.

نظرت سارة للإمام، وهي تقترح الحل النهائي بصوت هادئ مرعب: يبقى مفيش غير حل واحد، نخليك زوج المرحومة صافيناز الراوي.

عقد عماد حاحبيه من هول المقترح، وسأل بصوت خافت متهدج: أنتِ عايزاني أقتلها؟

ردت سارة بذكاء، يرتسم على وجهها كخطة سوداء: 
لا مش بالقتل المباشر، هندوقها من نفس الكأس اللي دوقت منه رشدي، هنديها حبوب تخليها تفقد السيطرة، نبدأ بحاجة بسيطة عشان كمان، وأنت بتاخد المجوهرات متركزش معاك، لحد ما تدمن وتموت بجرعة زايدة...
ارتسمت على شفتيها ابتسامة شرانيه وهي تقول بفحيح افعي: ساعتها أنا هظهر، وهتاخدني ونسافر، وهم هيبقوا عايزين ياخدوا فلوسهم! أنت بقي تقولهم لو حد فيكم فكر يقف ضدي أو يأذي مراتي أنا هقول لسليم، ومعايا ما يثبت، ولو فكرتوا تقتلوني أنا ومراتي عادي، في طرف تالت معاه كل حاجة بالصوت والصورة، فخلينا حبايب أحسن، وكده كده اللي أنا أخدته حاجات بسيطة، وممكن كمان نساومهم على نسبه من الأسهم.

كان حديثها يقطر خبثا وشرا، زفر عماد بغضب مكبوت: أنا مش طايق صافيناز، وأنتِ عايزاني ارسم خطط واستنى؟ سارة أنا بجد حاسس بنار جوايا، إنها استغفلتنى كل السنين دي.

لم تهدئ سارة، وقالت في محاولة لإقناعه بخططتها: 
يا حبيبي ما أنا قولتلك مخاننتكش، اتبنتهم، فخلاص فكك بقي واهدى كده، وانتقم وخد حقك بمعلمه.

حدق عماد بعينين مشتعلتان بالغضب: أنا مش طايقها، ولو شوفتها قدامي هقتلها.

ربتت سارة على صدره تحاول تهدئه بمكر: لا مش هينفع دلوقتي، اهدي، أنا قولتلك هنقتلها بس بذكاء وهتاخد حقك منها، إحنا مش عايزين نتهور.

جلس عماد بتعب، وهو يمسح على جبينه بيد مرتجفة: سارة استني عليا لحد ما استوعب؛ لأني لو روحت دلوقتي وشفتها قدامي أنا مش عارفة هعمل إيه. 

ضحكت وهي تجلس بجانبه: عادي يعني، ما احنا ضحكنا عليها واستغفلناها برضو، متأفورش، وبعدين هي عملت كده عشان متسبهاش، وعشان تبقى زيها زي أخواتها عندها أولاد.

ثم تابعت بنبرة شامته: بس شوف ربك اللي عملته في سليم حصلها، زي ما سقطت حمل ماسة الأولاني واقنعتك تقتل حور بأيدك، ربنا خلاها تتحرم من الأمومه للأبد، صدقني هو ده الحل خلينا نخلص على صافيناز ونهرب قبل ما المعبد يتهد.

نظر إليها بصمت، وهو يشعر بنار تشتعل في رأسه، عاجزا عن اتخاذ قرار.

في أحد الكافيهات الرابعة مساء

نرى رشدي ومي يجلسان متقابلين، بينما يقترب النادل لتدوين الطلب.

نظر رشدي للقائمة، وهو يقول: خلاص يبقى كده اتنين ستيك مشوي مشروم، واتنين مكرونة وايت صوص.

تحرك الجرسون مبتعدا، فمال رشدي بجسده للأمام وقال بنبرة مازحة: وانا اللي كنت فاكر إنك هتقولي أنا قولتلهم وتعالى بكرة اتقدم.

ابتسمت مي بدهشة، وهي ترفع حاجبيها: بكرة؟! هو أنا لحقت، دى أنا لسه كنت عندكم امبارح، بس هكلم بابا النهارده إن شاء الله.

ابتسم رشدي وحرك يده في الهواء، فتقدم شوقي بخطوات هادئة، يحمل علبة هدايا صغيرة. 

أخذها رشدي منه، وقدمها لمي بابتسامة: اتفضلي.

ابتسمت مي وهي تفتح العلبة بحرص، ثم اتسعت عيناها بانبهار حين رأت حمامة مصنوعة من السلك الحديدي، منمقة بعناية.

مي بإعجاب صادق: الله يا رشدي، حلوة أوي! أنت عاملهالي أنا؟

مرر رشدي يده على رقبته بخجل: امبارح لما عجبوكي الحاجات اللي أنا كنت عاملها، بعت وجبت أدوات واشتغلت عليها طول الليل، نسيت نفسي وأنا بشتغل.

امسكت مي الحمامة بإعجاب، وقالت بتشجيع: مبسوطه إنك رجعت تعمل الحاجه اللي بتحبها، ايوه كدة كمل.

رشدي بنظرة صادقه: أنتِ الوحيدة اللي تستاهلي اني ارجع لهوايتي علشانك، واخترت الحمامة عشان بيقولوا إنها رمز السلام والمحبة.

ابتسمت مي، وعينيها تلمع: صدقني دي هتبقى من أغلى الهدايا اللي عندي، ميرسي.

رشدي بإحراج: أنا عارف إنها مش قد المقام و..

قاطعته مي بسرعة، ملوحة بيدها: متقولش كده! بالعكس لو كنت جبتلي هدية غالية، مكانتش هتعجبني زي دي، لأن دى أنت عاملها بإيدك، فبالنسبالي قيمتها كبيرة جدا، لأنها معموله بمشاعر حقيقه وصادقه.
ثم تابعت بحماس: إيه رأيك تفتح مشروع بالحاجات دي؟ أنا عارفة إنها حاجه بسيط بالنسبة لشغلكم، بس ممكن تطور فيه وتعمل أشكال كتير، أنت موهوب وهتنجح.

هز رشدي رأسه بابتسامة باهتة: عمري ما فكرت كده، دي حاجة بتاعتي أنا، ومش حابب حد يشاركني فيها،  دي للناس اللي بحبهم بس.

جاء الجرسون مرة أخرى، ووضع الطعام على الطاولة ثم رحل، فبدأ الاثنان في تناول الطعام.

تساءل رشدي وهو يقطع قطعة من اللحم، وينظر لها بترقب: يعني خلاص، هتكلمي باباكي النهارده؟ عشان لو كده آخر الأسبوع اتقدملك.

مي بابتسامة هادئة وهي تغرز شوكتها في المكرونة: ماشي.
    💞______________بقلمي_ليلةعادل
الاسكندريه، المركز الطبي

الكافتيريا الرابعة مساء

جلس مصطفى عند طاولة قريبة من الزجاج، أمامه كوب شاي، وعيناه غارقتان في شرود طويل، وذهنه يلوذ بصورة ماسة التي لا تفارق خياله ابدا.

راقب محمد صديقه من بعيد، ثم اقترب منه بخطواتٍ هادئة، وتنهد قبل أن يسحب المقعد المقابل ويجلس، ثم نظر إليه طويلا قبل أن يقول بصوت خافت:إيه يا عم، مالك؟ قاعد لوحدك ليه؟

رفع مصطفى رأسه ببطء، وقال بصوت مبحوح: مفيش، أنت أيه الاخبار؟

اومأ محمد: كويس،  أخبار ندى إيه؟

مصطفي بصوت مكتوم: اتحجزت في مصحة نفسية.

اومأ محمد برأسه: دى الصح واللى كان المفروض يتعمل من زمان...
ثم تابع باسفسار: سمعت إنك قابلت سليم؟ فيه حاجه ولا ايه؟

حرك مصطفى كوب الشاي بين يديه: جيت أطمن عليها كنت خايف يكون عمل فيها حاجة بعد كلام ندى.

محمد بتساؤل: طب وهو عمل ايه؟

مصطفى بهدوء ورزانة: الحمد لله، مصدقهاش؛ قالي إنه واثق فيها.

شبك محمد أصابعه على الطاولة، وحاول أن يخفف حدة صوته: حلو، خلاص اطمنت عليها، اهي رجعت لجوزها، نفوق بقى ونركر في حياتنا.

رفع مصطفى عينيه نحوه بنظرة فيها إصرار غريب:  
لأ لازم أنقذها منه، أنا لا يمكن اتخلي عنها ابدا.

محمد بصوت يتقطع بعصبية مكبوتة: تنقذ مين يا ابني؟ دى جوزها، فوق بقى! أنت بنفسك لسه قايل إنه معملش حاجة وواثق فيها، وشوفته بعينك يوم ما جه خدها مأذاهاش ولا أذاك، كل ده ولسه مش مقتنع؟

أشاح مصطفي ببصره بعيدا، وقال بتوضيح فيه مرارة: اصلك مشوفتش اللي أنا شوفته، أنا بس اللي شوفت الجروح على جسمها والخوف في عينيها، محدش شافها زي يا محمد.

أطلق محمد تنهيدة طويلة ومسح على وجهه، وتساءل بترقب: أنت حبيتها يا مصطفي؟!

هز مصطفى رأسه، وابتسم بسخرية خفيفة: هتعمل زى ماما أنت كمان، أنتم ليه مصريين إني بحبها؟

ضيق محمد عينه، وتساءل بشك: عايز تفهمني؟ إن اللي بتعمله ده مش حب؟

اتكأ مصطفى على ظهر الكرسي، وقال بوجع ظهر في صوته: لا مش حب، ولو حب فهو حب أخوي، ماسة مغلوبه على أمرها وملهاش حد، أهلها ناس بسيطة وطول عمرهم عايشين سخره، شافوا ابنهم بيتضرب بالنار من جوز بنتهم وخافوا وسكتوا، هو نفسه هددها، عايزني أسيبها تعيش مقهورة وتحت التهديد؟ لو كنت عارف إنها عايشة معاه بإرادتها وسعيدة كنت سبتها، بس هي عايشة مرعوبة وخايفة على أهلها، وخايفة علينا أحنا كمان.

صمت للحظة، وصوته انكسر وهو يضيف: ماسة عاملة زي أمي بالظبط، أمي اتوجعت واتبهدلت كتير، ومحدش وقف جنبها، كنت بسمع بكاها طول الليل وأنا صغير، كنت بسمعها وهي بتكتم أنينها، وظهرها يوجعها من مسح السلالم ومن قعدتها على مكنه الخياطة عشان تعلمنا.

رفع عينيه لمحمد، وارتعش صوته قليلا وأضاف: أنا بحاول أنقذها من المصير اللي أمي عاشته، ولو أقدر أساعد كل ست جوزها بيهينها ويذلها ويفترى عليها، مش هتأخر.

صمت محمد لحظه، وعيناه تلمعان من التأثر، ثم حرك رأسه ببطء وقال بهدوء تام:سليم غير عبد الحميد يا مصطفي، في فرق كبير.

مصطفى بنبرة حاده مريرة: الاتنين واحد، بس كل واحد بيوجع وبيأذي بطريقته.

أطرق محمد للحظة، ثم رفع نظره بتساؤل: طب وأنت ناوي تعمل إيه؟

مصطفى بحزم متلبد: أنا عايز أتواصل مع ماسة وأفهمها إنها مش لوحدها، أنا جنبها ومش هتخلي عنها ابدا زى ما وعدتها، بس صدقني لو سمعت منها إنها رضية تعيش معاه، وهتكمل بإرادتها، هبعد فورا.

تساءل محمد بدهشة: ودي هتعملها إزاي بقى؟

ابتسم مصطفى بغموض: هلاقي طريقة، بس أنا عايز اقدم استقالتي مش هننفع اقعد تاني في المستشفى، أنا شديت مع سليم جامد، لدرجة كنت هضربه وهددته.

اتسعت عينا محمد، وظهر على وجهه غضب مختلط بدهشة: الله يخرب بيت عقلك يا مصطفي!
تنهد وأضاف بيأس: والله يا مصطفى أنا فاهم إنك بتحاول تصلح وجع قديم، بس أنا خايف عليك، سليم مش إنسان عادي، ده مافيا، وبعدين أنت ناسي الشرط الجزائي اللي مضينا عليه في تعينا؟!

ابتسم مصطفى بابتسامة بسيطة: وأنا مش خايف، لأني معايا ربنا، هتتحل إن شاء الله 

ثم خيم الصمت على المكان، ولم يدرِ مصطفى ما يقول، إذ تشابكت الأفكار في رأسه، ولم يبقَ فيها سوى أمر واحد يشغل ذهنه ويحركه الآن: كيف يصل إلى ماسة وينقذها من مصيرٍ يعرفه جيدا؟

فيلا عائلة ماسة، الرابعة مساء.

امتلأت الصالة بأصوات العائلة، اختلطت الضحكات بالأحاديث المتفرقة، وعم الجو دفئا رغم القلق العالق في أعينهم.

تنهدت سعدية بارتياح، ولمعت عيناها بدموع محبوسة وهي تردد: أخيرا اطمنت على بنتي، إنها نايمة في بيتها مرتاحة.

اتكأ مجاهد على الأريكة، وقال بصوت مبحوح: الحمد لله، ده فضل ونعمة من عند ربنا، امبارح قعدت أصلي وأشكر ربنا إنه حافظ على البنت، وأدعي كمان للناس اللي ستروا عليها.

مال عمار بجسده للخلف، وابتسم نصف ابتسامة: الحمد لله، الواحد كده قلبه يهدى.

اعتدلت سعدية في جلستها:  بس شوفتوا سليم اتغير خالص إزاي!؟

يوسف بضجر: أنتِ طول عمرك بتحبي سليم، يا أمي، وبتبرريله كل حاجة.

حرك مجاهد يده في الهواء كأنه يوقف الجدال: بس دي الحقيقة، أنا حاسس إنه رجع زي زمان سليم اللي عرفناه وحبيناه، حاسس إن ربنا هداه ورجع لعقله، وبعدين لازم نقول كلمة حق أختكم غلطت في حقه، عارف يعني إيه ست تهرب من جوزها؟ حتى لو اللي عمله معانا كان صعب، أنا قولتلها امبارح أنا مسامح، المهم يعيشوا مع بعض مرتاحين ويرجعوا زي زمان.

أومأت سعدية بسرعة، وقالت بتأيد: بالظبط! هو ده المهم، إن ماسة رجعت بالسلامه وهو معملهاش حاجه، واحنا مشوفناش منه حاجة وحشة من ساعة ما هربت، حتى امبارح سلم علينا باحترام وطلع، والبت بتقول إنه طول الوقت بيعتذرلها، فمش عايزين نفتري.. 
وأضافت وهي تشير بيدها في تحذير: وأنتم تبطلوا اللي بتعملوه ده، وبالذات أنتِ يا سلوى يا سوسة! أوعي تسخنيها عليه تاني، ملكيش دعوة، خليكي في نفسك يا أختي.

شبكت سلوى أصابعها في حجرها وقالت بصوت منخفض لكن واضح: أنا مش هتدخل في حاجة، أهم حاجة عندي إن أختي تبقى كويسة وفي أمان ويبعد عننا بشره، غير كده مليش دعوة.

تساءل عمار بتردد: بس هو هيسمحلنا نكلمها ونشوفها؟

تنحنح مجاهد وقال بهدوء: ماسة قالت إنه سابلها التليفون، احنا مش عايزين نكلمها دلوقتي، نستنى يومين، لو ماسة متكلمتش، نكلمها إحنا.

رفعت سعدية يديها للسماء، وقالت بدعاء ودموعها تلمع على وجنتيها: ربنا يهديك يا سليم ويصلح حالك، ينضف قلبك من كل ذرة شر، ويهديكي يا ماسة يا بنتي وتبطلي العند اللي أنتِ فيه دى، وترجعوا زى زمان وأحسن، ويرزقكم بطفل صغير يصلح لكم الحال ويقربكم من بعض أكتر يارب.

ضرب يوسف كفا بكف، وقال مستغربا: والعيل الصغير هيجي إزاي؟ أنت ناسيه إن سليم أصلا عنده مشكلة، بسبب الرصاصه اللي في ظهره.

رمقت سعدية ابنها بنظرة صارمة: ربك قادر علي كل شيء، وبعدين الحادثه دي من ٦سنين، وهو كان بيتعالج، ربك خلق الدنيا في ٦أيام! فقادر ربنا يشفيك يا سليم يا ابن فايزة ويهديك على البت، ويهدي البت عليك يارب.

نظر مجاهد لسعدية وتمتم: بقولك إيه يا سعدية، يومين كده، لو متصلتش، اتصلي أنتِ، واسأليها ينفع أجيلك ولا لا؟ لو ينفع روحي وانصحيها وخليها تدي له فرصة وتنسى، قوليلها إحنا مسامحين، وخليها تفتكرله الحلو، وتقوله أنا هسامحك وهعدي، بس أنت كمان صلح من نفسك ومتدخلش أهلي في اي مشكله ما بينا مهما كانت، ولا تهددني ولا تعمل اللي كنت بتعمله ده.

أومأت سعدية برأسها وقالت بعزم: متقلقش، هفهمها وأوعيها، امبارح معرفتش أكلمها، البت كانت لسه راجعة وكنت عايزه اشبع منها 
ثم أضافت بابتسامة وراحه: 
بس والله قلبي مرتاح اوي، ألف حمد وشكر ليك يا رب

منزل مي، التاسعة مساء

شقة تحمل طابعا عصريا وأنيقا، أثاثها المودرن يعكس المستوى الاجتماعي الذي تنتمي إليه أسرة مي، كل زاوية فيها مرتبة بعناية، تعكس ذوقا هادئا ورقيقا.

غرفة مي، كانت مختلفة قليلا عن باقي الشقة؛ بالوانها الهادئة وأثاثها الرقيق، بساطه تناسب شخصيتها الهادئة الرقيقة، جلست مي على المكتب الصغير قرب النافذة، ترتدي بيجاما منزلية، بين يديها كتاب تقرأ فيه بتركيز، وشعرها الطويل المنسدل جعلها تبدو أكثر جمالا وصفاءا.

دوى طرق خفيف على الباب، قبل أن يفتح بهدوء ويدخل والدها (راشد) راجل في اوخر الخمسينات.

رفع نظره نحوها بابتسامة دافئة: إيه يا مي عمال اخبطت بقالى كتير، كل دى مش سامعه؟!

رفعت عينيها من فوق الصفحات، وابتسمت بخجل خفيف: معلش يا بابا، الكتاب شدني.

اقترب منها بخطوات هادئة، ثم جلس على طرف الفراش ناظرا إليها، وقال بنبرة أبوية حانية: 
القرايه شيء جميل، بس متنسيش نفسك معاها، الدنيا مش كتب بس.

ضحكت مي بخفوت: متقلقش، أنا عايشة حياتي برضه.

ابتسم راشد وهو يهز رأسه: أنا واخد بالي الفترة دي بتخرجي كتير، مش عايزة تقولي حاجة؟

وضعت مي الكتاب بجانبها، وأخذت نفسا عميقا قبل أن تقول بصراحة: اه عشان كده طلبت أتكلم مع حضرتك النهارده.

نهضت من مكانها وجلست بجانبه، وتحدثت بهدوء: في واحد اتعرفت عليه بالصدفة، وهو حد كويس، وأنا حابة أتعرف عليه أكتر، لكن زي ما ربتني عارفه إن مينفعش يبقى في علاقة من غير إطار رسمي.

تساءل راشد بهدوء: والشخص ده أنا أعرفه؟

ترددت لحظة: لا معتقدش، بس هو معروف، رشدي الراوي.

ضيق راشد عينيه قليلا: رشدي الراوي! ابن عزت الراوي؟

هزت مي رأسها ايجابا بصمت.

مد راشد وجهه متعجبا: وده عرفتِيه منين؟

مي بتوضيح: بالصدفة، طلع صاحب شلة زيزي.

راشد متعجبا: بس أنتِ قولتيلي قبل كده إن الشلة دي مش شبهك.

ابتسمت بتردد: هما مش شبهي فعلا، بس كانوا لذاذ، وعمرهم مافرضوا عليا حاجة من اللي بيعملوها.

تأملها راشد للحظات، ثم قال ببطء وعقلانية: وبالتأكيد هو كمان من النوعية دي؟! طيب أنتِ شايفة إن ده حد هيناسبك مع قيمك وتربيتك؟

رفعت مي عينيها وتحدثت بعقلانية: لو هنفكر بالمنطق لأ، بس كل إنسان يستحق فرصة، هو قالي إنه هيتغير، وأنا حسيت إني ممكن أكون السبب في تغيره، هو مش وحش، بس حياته اتفرضت عليه، اتولد في بيت كل اللي فيه بيشرب، وعندهم البار، فطبيعي يطلع زيهم، بس قالي إنه هيتغير علشان يستاهلني.

تنهد راشد، وأسند ذقنه على قبضه يده: يا مي، الكلام سهل، لكن الفعل صعب، أنتِ شوفتي خطوة فعلية منه للتغير؟

ترددت مي، وهربت بعينيها بعيدا: لسه، بس هو وعدني!

تساءل بعقلانية: طيب، لو اتجوزتيه واكتشفتي إنه مبطلش؟ هتعملي إيه وقتها؟ هتقدري تتحملي؟

مي بصوت مكسور: معرفش، بس أنا مؤمنه بيه.

ابتسم راشد بمرارة حنونة: الإيمان حلو يا بنتي، بس الإيمان الأعمى ممكن يوجع صاحبه، الراجل لو مقدرش يتغلب على نقطة ضعف زي دي هيتعبك، ويمكن يكسرك، وساعتها مش هيكون هو الغلطان، لأن أنتِ اللي اخترتي بعين مفتوحة محدش ضربك على ايدك، أنتِ اللى اخترتي وأنتِ عارفه عيوبه وعارفه إن هو جاي من مجتمع مش شبهك ولا حتى عندك استعداد تبقي شبهه.

ظلت مي صامتة لحظة، ثم همست والدمعة تلمع في عينيها: أنا حبيته، وحابة أكون سبب تغيره، بحس إنه مظلوم، وملقاش حب من أهله.

مد راشد يده، وربت على كتفها برفق: بصي يا مي، أنا ربيتكم على الحرية والمسؤولية، والقرار في الأول والآخر ليكي، بس لازم تعرفي مش كل رحلة نهايتها سعيدة، أوقات اللي نحاول نغيره هو اللي بيغيرنا.

صمت راشد قليلا، ثم نظر بعيدا كأنه يستحضر صورة قديمة: زمان كان عندي صديق مقرب، شاطر وطيب جدا، بس غرق في السكة دي، مراته قالت نفس كلامك، قالت "هغيره" و"هقف جنبه"، وضحت كتير وصدقته، بس هو متغيرش، بالعكس، خدها معاه في دوامة ضلمة، وفي الآخر خسرته وخسرت نفسها.

نظر إليها: مبقولش إن كل الناس زي بعض، لكن التجارب علمتني إن التغيير لازم يطلع من جوه الإنسان، مش من وعوده للي بيحبوه.

همست مي بعقلانية وقوة: بس يا بابا، أنا حاسة إنه مختلف، بعدين أنا مستحيل اتغير، مستحيل اتجر للحياه دي، حضرتك ربتني على الحلال والحرام، أنا قوتي هتبقى في ديني وإيماني.

ابتسم راشد ابتسامة حزينة، وربت على يدها: يا بنتي، الإحساس ساعات بيخدعنا، عشان كده لازم العقل يكون حاضر مع القلب.

تنهد وأكمل: القرار في الآخر ليكي، وأنا مش هقف ضد سعادتك، بس قبل أي خطوة لازم أشوفه وأتكلم معاه الأول.

مي بابتسامة ممتنة، وعينيها تلمع بالراحة: ماشي يا بابا.

تبسم راشد وهو يهمّ بالنهوض، وقال بهدوء: طيب أنا هسيبك بقي وهروح أصلي، عايزه حاجه تاني؟

هزت رأسها نافية بصمت، فانحنى ووضع قبلة دافئة أعلى رأسها، ثم غادر الغرفة.

ظلت مي تحدق في أثره بابتسامة، ثم مدت يدها نحو الهاتف الموضوع إلى جانبها على السرير، وتنهدت بخفة قبل أن تضغط على رقم رشدي، وحينما وصلها صوته، قالت بنبرةٍ يعتريها التردد والحماس: رشدي أنا كلمت بابا وهو عايز يقابلك.

اتاه صوت رشدي الهادئ، الذي كان يجلس على مقعد في غرفته: أخيرا، طب ماشي ممكن أقابله بكره

مي باستنكار: بالسرعة دي؟!

ابتسم بخفة وقال وهو يعدل جلسته: والله لولا إن الوقت متأخر، والحج أكيد بينام بدرى زيك، لكنت جيت وقابلته دلوقتي.

مي بابتسامة سعيده: خلاص، هقوله واعرفك تصبح على خير.

رشدي بابتسامة: وانتي بخير يا ست البنات.

ذهبت مي إلى والدها وأخبرته بما قاله رشدي، فابتسم بهدوء وأبدى سعادته بلقائه، وتم الاتفاق على أن تكون المقابلة غدا في أحد المطاعم عند الخامسة مساء.

فيلا، ماسة وسليم 

حديقة الفيلا الثانية مساء 

كانت ماسة تتحرك في الحديقة بخطوات متباطئة، وعيناها شاردتان بين الأشجار والزهور التي بدت وكأنها تهمس لها بأسرار الماضي.

اقترب منها عثمان بخطوات مترددة وهو يتلفت حوله، وقال بصوت يحمل حذرا ممزوجا بالود: حمد الله على السلامة يا هانم.

نظرت له باستغراب: الله يسلمك..

تردد لحظة، ثم قال وهو يحاول أن يقرأ ملامحها: هو أنتِ فكراني؟

هزت راسها بإيجاب: أه طبعا فاكراك.

انحنى قليلا نحوها، يخفض صوته بقلق واضح: طب بالله عليكي يا هانم، متقوليش لسليم بيه إن أنا اللى ساعدت يومها، لحسن يقتلني وأنا عندي عيال، أنا ساعدتك يومها علشان صعبتي عليا، بس الله يسترها عليكي متجبيش سيرتي. 

نظرت إليه ماسة بنظرة مطمئنة، وقالت بلطف: متخافش، مستحيل أقوله، ولو عرف إنك ساعدتني، مش هخليه يأذيك، متقلقش أنا هدافع عنك.

تنفس عثمان الصعداء، وقال وهو يخطو خطوة للخلف: شكرا يا هانم، وحمد الله على السلامة مرة تانية. 

ثم ابتعد قبل أن يراه أحد، وظلت ماسة تحدق في أثره بصمت للحظات، ثم تابعت سيرها بين الأشجار، وقد عادت ملامحها إلى شرودها الأول.

في أحد المطاعم، الرابعة مساءا

جلس رشدي على إحدى الطاولات في ركن هادئ ، أمامه كوب ماء لم يلمسه، بينما جلس راشد أمامه ينظر إليه بثبات، الجو مشحون بترقب وحذر.

شبك راشد أصابعه فوق الطاولة: مي كلمتني عنك كتير، أنا طبعا معرفكش شخصيا، بس أعرف العيلة أشهر من النار على العلم، بس صدقني الكلام ده مش بيفرق معايا، أنا أهم حاجة عندي بنتي تتجوز راجل محترم يصونها ويحافظ عليها.

ثم مال بجسده لأمام قليلا، وتابع بنبرة حازمه: في بعض الحاجات مي قالتهالي عنك استوقفتني لسببين؛ أول سبب إني عارف بنتي وعارف تقييمها للناس عامل أزاى، واستغربت جدا إزاي مي تنجذب لحد زيك؟! وتاني سبب إنك مش شبها خالص!! أنا هكلمك بعين العقل مش بعين القلب زى مي، اديني سبب واحد يخليني أقبل بيك زوج لبنتى وابقي مطمن عليها معاك يا رشدي!؟

أخذ رشدي نفسا عميقا، ووضع يديه بهدوء على الطاولة ونظر مباشرة في عينيه: أولا أنا بحترم مي وبقدرها جدا، هى حكتلى عن مواصفات شريك حياتها اللى كانت بتتمناه، منكرش إنه مختلف عنى تماما، بس بردوا أنا الفتره اللى عرفت فيها مي غيرت في نفسي حاجات كتير علشانها، يمكن مش بالشكل الكبير اللى يرضيك ويرضيها، بس مفيش حد بيتغير كليا بين يوم وليله، بس الأهم إن عندى نيه إني أتغير علشانها؛ علشان أكون انسان يستحقها، وبوعدك إني لو مقدرتش أكون الإنسان دى وحسيت إن في يوم هجرحها أو أكون مصدر ألم ليها هبعد، لأن حقيقي مي متستحقش مني دى.

ظل والد مي صامتا للحظة، ينظر إلى رشدي بعينين متفحصتين، بينما كان رشدي يلتقط أنفاسه ببطء، يده مازالت على الطاولة، ونبرة صوته الأخيرة خرجت كتعهد صادق.

تنهد راشد، وعاد بظهره على الكرسي وهو ينظر لرشدى من أعلي لأسفل بهدوء، ثم قال بنبرة عقلانيه: كلامك جميل، بس أنا عايز أشوفه أفعال على أرض الواقع، أصل الكلام مفيش أسهل منه، ومي بنتى الوحيده، ولو هسلمك أمانة زيها، يبقى لازم أشوف قدام عيني إنك راجل فعلا تستحقها.

وتابع بنبرة صارت أهدأ لكن ما زالت صارمة: أنا مش ضدك يا رشدي، بس أنا ضد أي حاجه توجع قلب بنتي، قدامك فرصة تثبتلي وتثبتلها إنك فعلا اتغيرت وبقيت جدير بيها، ساعتها أنا هقف في ضهرك.

وأكمل بنظرة جادة: أنا هوافق على الخطوبة بشكل مبدئي، بس اعتبرها فترة اختبار ليك، لو زعلت بنتي، أو مكنتش قد وعودك، أنا مش هتردد لحظه إني افسخ الخطوبه دى وامحيك من حياة بنتي لأبد، أنا معنديش أغلى من بنتي.

ظل صوته يتردد بثبات، وكلماته سقطت كتحذير صريح، بينما بقي رشدي ينظر له بعزيمة، كأنه يقبل التحدي.

شد رشدي ضهره، وركز النظر في عينيه، وصوته بدى واثقا: وأنا هبقي قد الثقه دى، وهخليك تشوف رشدي بعين محدش شافها قبل كده.

ابتسم راشد ابتسامة صغيرة، أخفى ورائها جديته: اتفقنا، هستناك الخميس الجاي، تيجي أنت وعيلتك تشرفونا الساعة تمانية بالليل.

اومأ رشدي بابتسامه، ثم نهض راشد يهم بالمغادرة، فوقف رشدى أمامه ومد يده يصافحه باحترام، في أجواء مشحونه بين التحدي والقبول.

رشدى بنبره مهذبه: ثانيه واحده هنادي حد من الحرس يوصل حضرتك لحد البيت.

لوح راشد بحزم: متشكر، أنا زى ما جيت لوحدى هروح لوحدى.

غادر راشد بخطوات هادئة وعيني رشدى تتبع خطواته بشرود، وهو يفكر في الحديث الذى دار بينهما، فالتحدى صار أصعب بكثير، ولابد أن يتخذ خطوات حقيقيه وواضحه للتغير لكي يفوز بها.

منزل مي السادسة مساء

الرسيبشن 
جلست مي مع شقيقيها حاتم وحازم، كانوا يتابعون مباراة من مباريات الدوري الإنجليزي بانفعال وضحكات، أما مي فكانت شاردة، يغمرها القلق من اللقاء الذي جمع والدها برشدي.

دوى صوت طرقات على الباب، أسرعت الدادة كريمة تفتحه، فدخل راشد بخطوات واثقة.

أسرعت مي تلتقط كتابا أمامها، تقلب صفحاته بتوتر وكأنها منهمكة في القراءة، لفت الأمر انتباه أخويها، وتبادلا نظرات سريعة ثم ضحكا بخبث.

راشد وهو يخلع معطفه: مساء الخير.

مي بصوت منخفض: مساء النور.

تقدم راشد أكثر إلى منتصف الصالون وهو يبتسم: كويس إنكم موجودين يا ولاد.

رفع حازم نظره عن شاشة التلفاز وقال بترقب: 
خير يا بابا؟

جلس راشد على المقعد المقابل وقال بنبرة حاسمة: أنا قعدت مع العريس اللي جاي لمي، شاب كويس، وكلامه موزون وذكي، وعيلته محترمة ومعروفة.

ثم وجهه نظراته لمي بهدوء: أنا وافقت يا مي، وهييجي يوم الخميس هو وعيلته يطلبوا إيدك، لكن فهمته إن الخطوبه دى يعتبرها فترة اختبار له، علشان أشوف هل فعلا يستحقك ولا لأ ؟!

واضاف بحكمه وهو يركز النظر بعينها: اسمعيني يا بنتي، الحب جميل، ومحدش يقدر ينكر ده، إنك تعيشي مع واحد بيحبك وكل تصرفاته نابعة من مشاعره مش واجب عشان زوجته إحساس عظيم، لكن الحب لوحده مش كفاية، لازم تختاري شريك حياتك بعقلك، لأنه مش بس زوج، ده هيبقى أب لأولادك، وقدوة ليهم وسند ليكي، وأنا شايف إن رشدي لحد دلوقتي لسه مش كامل، بس أنا مع إننا نديله فرصة ونشوف طالما قلبك ميال ليه.

ابتسم حاتم بسخرية وهو يلوح بيده: مش عارف إيه لازمة وجع القلب ده! مجالها عرسان أحسن من رشدي مية مرة.

ردت مي بهدوء وهي ترفع رأسها: بس أنا موافقة يا حاتم.

أضاف حازم بثقة وهو يربت على كتفها: خليها تجرب، مش هنخسر حاجة، وإحنا معاها في كل خطوة، ما يمكن يطلع كويس ويتغير فعلا، ما كلنا كنا اشقيه، ولما اتجوزنا عقلنا، والعالم دي برضو تربيتهم غيرنا خالص.

ضحك حاتم باستهزاء: شقي إيه! ده واحد بيشرب وبتاع بنات.

نظرت له مي بجدية، مدافعه عن رشدى، وهي تضغط على الكتاب بين يديها: صح، بس هو طلع كده لأن الوسط اللي اتربى فيه كله كده، واتعلم إن ده عادي، لكن هو بنفسه قال هيسيب كل دى، وبدأ فعلا يتغير، تعرف يعني إيه حد يتغير عشانك؟!

أشار راشد برأسه بثبات: أهم حاجة إن التغيير يكون حقيقي ودائم، عموما أنا كلمت الولد وهو جاي يوم الخميس.

أشرق وجه مي بسعادة لم تستطع إخفاءها، ووقفت وهي تتمتم بفرحة: طيب هروح اذاكر شويه..

ثم أسرعت إلى غرفتها، ووجهها يغمره البهجة، وقلبها يتراقص من الفرح.

في غرفة مي.

جلست على سريرها، تسند ظهرها إلى الوسادة الكبيرة، وتحتضن دبدوبها بقوة كأنها تستمد منه الطمأنينة، وضغطت على هاتفها بخفة، وما إن أجاب رشدي الذي كان ما زال يجلس في الكافيه يدخن سيجاره، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة خجولة.

رشدي بصوت مفعم بالحماس: خطيبتي، الحج وصل؟

ابتسمت مي وهي تهز رأسها: أيوه، وصل وقالي إنه وافق.

رشدي بلهفة: يعني يوم الخميس، هتبقي خطيبتي رسميا، هتبقي مي الراوي.

أطرقت مي رأسها إلى الأسفل، وشدت الدبدوب إلى صدرها أكثر بخجل، ولم تنطق.

أضاف رشدي متسائلا: بس قوليلي بجد، والدك رأيه أيه؟

تنهدت قليلا وقالت بتوضيح: يعني زي ما أنت عارف، لسه عنده تحفظات بسبب موضوع الشرب وحياتك اللي فاتت، بس هو مقتنع إن كل إنسان يستاهل فرصة .. 
ثم أضافت برجاء: رشدي أرجوك، أوعى تخذلني قدامهم، أنا قولتلهم إنك قد ثقتي وإنك هتتغير.

رشدي بصوت ثابت: متقلقيش، أنا قد ثقتك، ومش هخذلك ابدا.

ابتسمت مي ابتسامة ناعمه وهي تداعب أذن الدبدوب بين أصابعها: وكمان لازم تركز في شغلك زى ما اتفقنا، أنا مش عايزة وعود بس، عايزة أشوف تغيير حقيقي قدامي.

ضحك رشدي بثقة وقال: قولتك خلاص بقي، أوعدك هتشوفي بكرة رشدي جديد، بس بقولك إيه؟! ماتيجي نخرج نتقابل النهارده ونحتفل.

رفعت مي عينيها إلى سقف الغرفة بتنهيدة طويلة: مش هينفع، وبعدين هو دى التركيز في الشغل اللى قولنا عليه؟ المفروض تروح تنام بدرى علشان تعرف تصحي لشغلك فايق.

رشدي محاولا اقناعها بمزاح رقيق: ما احتفالنا ببعض شغل مهم برضو، أنتِ وحشتيني.

هزت مي رأسها بحزم، وقبضت على الدبدوب بقوة: قولتلك مش هينفع يا رشدي، أنا هقفل عشان بابا بينادي سلام.

ألقت مي الهاتف على الفراش، ثم احتضنت الدبدوب وأخذت تدور حول نفسها بسعادة، قبل أن تقف أمام المرآة تنظر إلى ملامحها بسعاده لا توصف.

هضبة المقطم الثامنة مساء.

نرى عثمان واقفا ينظر أمامه، وبعد لحظات اقتربت سيارة عماد، فترجل منها وتقدم ببطء حتى وقف إلى جانبه، ثم نظر كلاهما أمامهما في صمت ثقيل.

عماد بنبرة حادة، بها تلميح غاضب: مبقتش تشوف شغلك كويس يا عثمان، بس رغم إنك بعتلي المعلومة متأخر، أنا ديتك الفلوس زي ما اتفقنا.

التفت إليه عثمان بهدوء: 
كنت أجازة أعمل إيه يعني؟ وأول ما عرفت كلمتك.

رمقه عماد بضيق، ثم قال بخبث: 
أنا عايزك توصلي رسالة صغيرة للهانم، وقولها "صافيناز هانم" بتبلغك تحطي لسانك جوه بقك، بدل ما تترحمي على حد من أخواتك.

ابتسم عثمان بسخرية، وقال بهدوء: يا باشا، ده أنا حتي بقول عليك أذكى من كده؟! عايزني أروح أكشف ورقي قدامها؟ لأ يا عماد بيه، أنا لازم أفضل "الاعب الخفي"، العسكري اللي محدش يعرف عنه حاجه، خلي أي حد تاني يقولها الكلمتين دول، بعدين أنا لسه امبارح طالب منها متقولش حاجه لسليم بيه، وقالتلي حاضر متخافش، يعني معنى كده إني لسه في الامان.

تأمل عماد ملامحه لحظة، وكأنه اقتنع جزئيا، ثم تساءل بتعجب: إلا قولي يا عثمان، هو ازي سليم مشكش فيك كل السنين دى؟

ضحك عثمان بسخرية: يشك فيا إزاي؟ ده أنا فديته بحياتي مرتين، في رصاصتين في جسمي شاهدين على ولائي وإخلاصي ليه.

تساءل عماد لفضول: طب وأنت ليه بتعمل اللي بتعمله ده؟

التفت له عثمان ببرود ثقيل: ويهمك في إيه؟ المهم إني بساعدك وبس، إنما ليه وعشان إيه، ملكش فيه.

عماد بتعجب، ونبرة شك تتسلل إلى صوته: وأنا إيه يضمنلي إنك مش هتخوني زي ما بتخون ولي نعمتك؟

اقترب عثمان خطوة، وقال بصوت منخفض لكنه سام: استحالة أخونك طول ما هدفنا واحد، خليك واثق في ده، أنا مستني اليوم اللي أشوف فيه سليم والعيلة الكريمة مذلولين، وقلبهم مكسور بفارغ الصبر.

صمتت عماد للحظة، ثم قال وهو يهم بالمغادرة: طيب فتح عينك كويس، لو حصل أي حاجة بلغني فورا.

غادر عماد، بينما ظل عثمان واقفا، ينظر إلى الأفق بعينين مليئتين بالكره والشر، كأن في صدره شيئا أكبر حتى من الخيانة.

صعد عماد إلى سيارته وأغلق الباب بقوة، وقبل أن يشغل المحرك رفع هاتفه وأجرى اتصالا، منتظرا الرد وعيناه تتابعان عثمان الواقف على بعد أمام السيارة بظهره، تتقلب في عينيه نظرة خبث واضحة.

وحينما آتاه الرد من الجانب الآخر، قال بصوت منخفض لكن حاد: بقولك إيه، هبعتلك صورة واسم واحد، عايزك تعرفلي كل حاجة عنه، من ساعة ما اتولد لحد اللحظة دي، عايز المعلومات دى تكون عندى في أقرب وقت، سلام.

أنهى المكالمة وألقى الهاتف على المقعد، وعيناه تتابعان عثمان الذي بدأ يبتعد بخطوات ثابتة، فتمتم ساخرا وهو يطرق بيده على عجلة القيادة: خلينا نشوف إيه اللي وراك يا عثمان، شكل حكايتك حكايه.

فيلا سليم وماسة، الثامنة مساء

خرجت ماسة من المطبخ تحمل صينية عليها قطعة كعك تفوح منه رائحة البرتقال، وكوب شاي، وسارت نحو المكتب بخطوات هادئة.

في الداخل، كان سليم يجلس خلف مكتبه منشغلا بالعمل على اللابتوب، طرقت الباب بخفة، فرفع رأسه وقال بهدوء: ادخلي يا ماسة.

دخلت مبتسمة، عيناها تلمعان بخجل وقالت بتعجب:
عرفت منين إن أنا؟

ابتسم سليم وهو ينظر لها: من ريحتك وصوت خبطتك.

ابتسمت برقة، ووضعت الصينية على المكتب برفق وقالت بلطف: أنا عملت كيكة برتقال، وجبتلك منه، عارفة إنك بتحبه. 

أخذ سليم قطعة بالشوكة، تناولها بتلذذ وهو يقول: تسلم إيدك يا قطعه السكر.

ابتسمت ماسة بصمت، فتابع سليم وهو يضع الشوكة في فمه: أنا بكرة هروح المجموعة في اجتماع مهم، واخدت من الدكتور معاد كمان يومين علشان جلسة العلاج الطبيعي.

أومأت ماسة، وتساءلت بهدوء: ربنا معاك، هو أنا ممكن أروح معاك وأنت رايح للدكتور؟!

اومأ سليم برأسه سريعا، وهو يشعر بالسعاده لاهتمامها به: أيوه طبعا

ساد صمت قصير بينهم، لم يبقى فيه سوى صوت أنفاسهما الهادئة، كان سليم يتناول الكعكه بهدوء، بينما وقفت ماسة تتأمله، والشوق يرتسم على ملامحها، قلبها يخفق بقوة، ابتسمت بخفة وظلت هكذا للحظات، ثم قالت بتوتر: أنا هطلع أنام، عايز حاجه؟

هز رأسه نافيا، وقال بابتسامه عاشقه: تصبحي على خير يا قطعه السكر.

غادرت بخطوات سريعة، تضع يدها على صدرها تهدئ دقاته، بينما سليم أكمل تناول الكعكة بهدوء وابتسامة صغيرة تلمع في عينيه.

مجموعة الراوي، التاسعة صباحا.

في قاعة الاجتماع الكبيرة، كان أفراد العائلة مجتمعين مع بعض المديرين التنفذيين، والنقاشات مشتعلة حول المشاريع القادمة، وفجأة فتح الباب، ودخل رشدي وصوته الساخر يعلو في القاعة: صباح الخير يا راوي، كده تعملوا الاجتماع من غير رشروش؟ هو أنا مش عضو من ضمن أعضاء المجموعه؟

رفع عزت نظره ببرود: ما أنت بقالك فترة مبتحضرش.

اقترب رشدي بخطوات واثقة، وقال وهو يتجه لمقعده: خلاص، هحضر من النهارده، وهرفع شعار داعا " للسهر و السرمحه" وأهلا "الاحترام، والانتظام في المواعيد، والصحيان بدري".

جلس وهو يبتسم، ثم نظر لنانا: نانا هاتيلي ملف.

مدت له الملف، فتحه، قلب صفحاته بسرعة، ثم رمقهم: بتتكلموا علي ايه بقى؟

رد أحد المديرين بنبرة عمليه: عن المناقصة الجديدة اللي الدولة هتعملها الفترة الجاية، هيبدأوا يبنوا مجموعه من الكباري وهيجددوا بعض الطرق والمتاحف، وإحنا عايزين ناخد المناقصة دي ونقدم عرض قوي.

رشدي بحماس وهو يضرب كفه بالطاولة: خلاص، أنا اللى هشتغل على المشروع دى.

قاطعه عزت بحزم: لا طبعا، المشروع ده اللي هيشتغل عليه ياسين وسليم.

هز رشدي رأسه بعناد: لا، أنا اللي هشتغل على المناقصة دى ولوحدى.

نظر له عزت من أعلى لأسفل وهو يحرك قلمه، وقال باستنكار: لا مهي مش لعبه وحضرتك شبطان فيها، دى أهم مشروع في المجموعه الفتره الجايه، وأكيد مش هغامر بيه في ايد واحد مستهتر زيك.

ضحك طه باستهزاء: شوفلك مشروع على قدك تلعب بيه بدل ما أنت فاتح صدرك علينا في مناقصه مهمه زى دى، اقولك؟ استورد لعب أطفال، على الأقل لو معرفتش توزعهم تبقي تقعد تلعب بيهم أنت.

رشدى بسماجه: لو دمك مش خفيف يا طه متحاولش تخالف إراده ربنا.

فريده بهدوء: يا رشدى فعلا المناقصة كبيره، ممكن تشتغل مع سليم وياسين فيها، اهو على الأقل تتعلم منهم وبعد كده ابقي خد مشاريع كبيره لوحدك.

ضاق صدر رشدى بالحزن، رمش بعينيه للحظه وحاول الحفاظ على ثبات ملامحه، وقال باستنكار: هو أنتم مستقلين بيا كده ليه؟ 

تحدثت فايزه بارستقراطيه من طرف أنفها وهى تحرك المقعد: مش فكرة مستقلين يا رشدى، بس أحنا عارفين أنت على إيه، اسمع كلام فريده واشتغل مع ياسين وسليم واتعلم منهم.

قلب رشدى وجهه بعناد: ولا سليم ولا ياسين ولا التنين أنا اللى هشتغل فيها لوحدى.

عزت بضجر: هو عند وخلاص؟! 

رشدى برخامه: لا مش عند، ثقه بالنفس، أنا اللى هشتغل عليها لوحدى وهكسبها.

رفع عزت حاجبه وقال بنبره صارمه: طب ولو خسرتها؟ 

رشدى بثقه: هكسبها 

عزت باقتضاب، وهو ينظر في عينه: ولو خسرتها؟

نظر رشدى في عينه وقال بحزم وثقه: هكسبها.
ثم عاد بظهره على المقعد: وعموما لو خسرتها مع إن دى مش هيحصل يعني، هتنازل عن الأسهم بتاعتى في المجموعه وعن كل أرصدتى في البنوك، يعنى حرفيا هبقي مملكش الا الهدوم اللى عليا.

ضحك ياسين وهو يهز رأسه: بلاش بس العشم والحماس ياخدوك، دي مناقصه صعبة جدا، وداخل معانا شركات تقيلة وقديمة في المقاولات.

ابتسم رشدي بثقة: بس إحنا من أقوى شركات صناعة الحديد في الشرق الأوسط والعالم، اسمنا لوحده يكفي، المشروع ده بتاعي، وزي ما قولت لو خسرت هتنازل عن كل أسهمي وفلوسي في البنوك وحتى الورث.

تدخلت فايزة بقلق وهي تميل للأمام: رشدي، خليك في مشروع تاني، مش لازم دى.

ضرب رشدي الطاولة بخفة وأصرار: أقسم بالله ما حد شغال على المناقصة دى غيرى، خلصت.

كل ذلك كان سليم يجلس ويتابع المشهد بصمت بعينين مترصدتين؛ في محاولة لتقيم الموقف، وعند هذه النقطه شعر بأن عليه التدخل لإنهاء الأمر.

عدل سليم من جلسته ونظر لعزت بتركيز وقال بهدوء: باشا، خليه ياخدها.

التفت عزت بسرعة: بس يا سليم...

رفع سليم يده مقاطعا: أنا قولت خليه ياخدها، بس لو خسر، هو اللي حدد عقابه بنفسه.

رفع رشدي حاجبه بابتسامة جانبية: متقلقش أيها الأمير، لا أمير إيه! أنت بقيت الملك خلاص، مش هخسرها.

ثم ضحك بخفة: طيب، هل الاجتماع خلص ولا لسه؟

رد سليم وهو ينظر للمديرين: لا خلاص، اقعد معاهم وافهم كل حاجة بالتفصيل.

أشار رشدي للجميع بالخروج: بقولكم إيه، أي حد مش من العيلة يتفضل بره، عايز أقعد مع عيلتي الحبيبة.

غادر المديرون، وبقى رشدي مع عزت وفايزة وأشقاؤه، فقال بهدوء وثقة: أنا قررت أخطب مي، أنا قابلت باباها، واخدت معاه معاد الخميس الجاى الساعه ٨ علشان اتقدم لها، ياريت كله يبقي مفضي نفسه.

ابتسم عزت وقال: تمام يا رشدي، حاجة تاني؟

رشدي بطريقته: شكرا يا بوص منتحرمش.

نهض الجميع وبقى سليم وياسين مع رشدي.
وعندما هم رشدى بالمغادرة، ابتسم سليم بخفة: على فكرة، الخطوة اللي عملتها دي كويسة جدا، اتمنى تعقل بقى، وكمان لو أخدت المناقصه ده هتبقى بداية قوية ليك في المجموعه.

جلس رشدى مرة أخرى ورد ضاحكا وهو يشير له: طب خاف مني بقي، عشان الفترة الجاية هنافسك، واحتمال أطيرك.

ابتسم سليم بهدوء: يا سيدي طيرني بس وملكش دعوة، المهم تركز وبلاش اندفاع وتهور، المناقصة فعلا كبيره، ولو احتاجت اى حاجه ابقي تعالي اسألني.

وضع رشدي يده على كتف سليم: لو احتاجت منك معلومة هبقى أطلبها، أنا عارفك جدع ومش حربوق، يعني هتديني المعلومة صح.

ياسين بمرح: كويس اهو أترحم شوية والاقي حد يشيل معايا ضغط الشغل لما سليم بيختفي، بدل ما ببقي عمال أخرج من اجتماع لاجتماع كل ما أخوك يفعل وضعيه اللهو الخفي.

رشدي ضاحكا: وهطيرك أنت كمان، خاف على نفسك.

ياسين بمرح: يا سيدى أنا كنت طاير أصلا، وفرحان والله بطيراني دى، معرفش ايه اللى رمانى على الغلب!

ضحك سليم ساخرا: أنا حاسس إني قاعد مع شوية فشلة.

رشدى باعتراض مرح: لا، لو سمحت مسمحلكش، من النهارده أنا منافس ليك.

نظر ياسين لرشدي بجدية: طب بعيدا عن الشغل أنت أيه اخبارك مع مي؟ قولتلها كل حاجة عنك؟ ووافقت؟ يعني عرفت موضوع البنات، والإدمان؟

حك رشدي رأسه وقال بتردد: بصراحة حاجات وحاجات، هي عرفت عني كتير، بس موضوع الإدمان معرفتش أقوله.

نظر له سليم بحزم: لازم تقولها يا رشدي، مادام ناوي على الجد، هي كده كده عاجلا أم أجلا هتعرف، فتعرف منك أحسن متعرف من برا، لأن ساعتها هتحس إنك خدعتها وضحكت عليها.

نظر رشدي لأسفل، وهو يتمتم: بس أنا خايف تعرف ومتكملش معايا، وبعدين أنا مادمنتش زي ما أنتم متخيلين، وهتعالج.

أومأ ياسين بتشجيع: اتعالج، وخليها تعرف وتبقي معاك، بالعكس، كده هتحترمك أكتر وهتشجعك.

أضاف سليم: وده رأيي برضو، قبل ما تبدأ أي خطوة معاها لازم تتكلم معاها، وقولها كل حاجه عنك.

تنهد رشدي: بس أكيد مش هحكي لها يعني إني... 
صمت قليلا ثم تنهد وتابع بنبرة منخفضه: إني اغتصبت واحدة قبل كده.

زم سليم شفتيه: بص أنا معاك دي صعبة فعلا، وبلاش كده كده الموضوع ده مات، لكن الإدمان هيظهر.

نظر لهم رشدي وقال بصوت خافت متردد: تفتكروا لو قولتلها هتسبني؟

ياسين بهدوء: لو سابتك يبقى خلاص، احترم قرارها، هي ممكن تسامح في حاجات وحاجات لا، طبيعي هتتضايق في الأول، يمكن تقولك مش عايزة اكمل، بس حاول.

اومأ سليم بتأيد: بالظبط، طبيعي رد فعلها يبقى عنيف، بس لو لقتك مصر ومش عايز تسيبها ممكن ترجع، وإحنا معاك، بس البداية لازم تكون منك.

تنهد رشدي، ومسح على رأسه للخلف: بس أنا قلقان.

ربت سليم على كتفه بحنان أخوى: متقلقش لو بتحبك بجد، وشافت إنك فعلا بتتغير هتكمل، بس خلي بالك، لازم تتغير عشان نفسك يا رشدي مش عشانها.

رشدي بابتسامه وتساؤل: ماشي، هتيجوا معايا؟

هز سليم كتفه: أنا ممكن معرفش أجي لأسف، وبعدين مش لازم نروح كلنا، كفاية الباشا والهانم معاك، لكن الخطوات الجاية أكيد هنكون معاك كلنا.

نهض رشدي وهو يقول بنبرة مازحه: طيب أنا هقوم بقي، علشان عندي مشروع مهم، ومش عايز حد يشغلني.

خرج وهو متحمس، بينما تبادل ياسين وسليم نظرات صامتة وابتسامة خفيفة.

تنهد ياسين: تفتكر رشدي المرة دي فعلا هيتغير؟

نظر سليم للباب: أتمنى.
 💞________________بقلمي_ليلةعادل 
خرج رشدي من المجموعه والحماس يشتعل في ملامحه، استقل سيارته وقام بالاتصال بمي، انتظر قليلا حتى أجابت، فرد بصوت متحمس وصوته يعلو فوق الضوضاء: أنت فين يا ميوشي؟

جاء صوتها متقطعا بين أنفاسها من داخل الجيم: انا في الجيم.

رد بحماس: طيب خلصي بسرعة، أنا جاي أخدك، عندي موضوع مهم جدا جدا جدا.

ضحكت بسخرية، وهي تمسح عرقها بفوطة صغيرة: يا ابني بطل شغل فرقع لوز دى بقي؟ مش اتفقنا تركز في شغلك؟

رمى رشدي ضحكة قصيرة: مبلاش محمود اللي بيظهر فجأة دى، عشر دقايق وهبقى قدامك، بجد عايزك في موضوع مهم، باي.

أغلق الخط قبل أن تستمع الي ردها، فوقفت مي تنظر إلى شاشة هاتفها، وهزت رأسها مبتسمة بيأس: والله العظيم مجنون، بس عسل.

وبعد قليل غادرت مي الجيم بعد أن ابدلت ملابسها، وفوجئت به يقف بسيارته يلوح لها من النافذه بإشارة سريعة أن تركب، فتحت الباب وجلست إلى جانبه.

نظرت له باستهجان وهي ترتب جلستها: موضوع ايه بقي المهم جدا اللى كنت عايزني علشانه، خير؟

مال برأسه وهو يمسك هاتفه: استني دقيقتين بس أو خمس دقايق، يمكن عشره؟ بقولك ايه هشوف اللوكيشن، أنا مروحتش المكان ده قبل كده.

زمت شفتيها وقالت بضجر: أنا مش فاهمة حاجة.

ابتسم بمكر وهو يثبت عينيه على الطريق: اصبرى وهتفهمي، متبقيش رغايه.

رفعت حاجبها، وقالت بصرامة: لم لسانك يا رشدي.

ضحك رشدي بخفة:ما أنا عمال أقولك اصبري، وأنتِ عماله تلكي كتير.

أخذت نفسا عميقا واستسلمت: سكت، أما أشوف آخرتها معاك.

واصل القيادة حتى وصلا إلى منطقة ما، فتلفتت مي بعينيها في أرجاء المكان بدهشة، وأخذت تتنقل بنظراتها بين الباعة المصطفين على جانب الطريق والوجوه الغريبة عنها.

مي باندهاش: إيه المكان ده؟ إحنا فيه؟

أجاب رشدى، وهو يزفر بخفة: في العتبة.

اتسعت عينيها بدهشة طفولية:بجد!! أنا عمري مروحتها.

ضحك وهو يميل بجسده نحوها قليلا: مش مهم، كده كده شكلنا هنروحها أنا وأنت كتير بعد كده.

مي باستغراب: ازاى يعنى مش فاهمه!؟

رشدى موضحا: بصي يا ستي، أنا سخنت على كلامك لما قعدتي تقوليلي لازم تركز يا رشدي، لازم يبقى عندك مشروع يارشدى، وأنا هفضل جنبك لحد ماتوصل للبترول يا رشدى.

ثم ابتلع ريقه وأكمل بسرعة، والحماس يسبق كلماته:
فدخلت مشروع، بس في لحظة جنان، كنت واخد حبايه شجاعه وعملت فيها عنتر زماني وقولت لهم إني لو خسرت هتنازل عن كل حاجة، وحرفيا مش هيبقي حيلتى الا هدومي.

وأضاف بنبرة مازحه: وبما إنك مراتى المستقبليه، فحبيت أوريكي مستقبلنا الواعد مع بعض، هنشحت في الشوارع. 

رفعت مي يدها على فمها وهي تحاول كتم ضحكتها، لكنها لم تستطيع فانفجرت ضاحكة.

هوى بيده على عجلة القيادة بحماس: بكلمك بجد، أنا بوريكي مصيرنا لو خسرت، أنتِ اللى سخنتيتي، فأنا بقول نتفق من دلوقتي، أنتِ تقفي على طرح محجبات، وأنا أقف على بكسرات، فتفتكرى نفرش هنا ولا نخش جوه!؟

غرق المكان بضحكتها العالية، ثم التفتت إليه بعينين تلمعان بالثقة: أنت مش متفائل ولا واثق في نفسك ليه؟ أنا واثقه فيك، ومتاكدة إنك قدها.

ظل ينظر إليها بصمت، وابتسامة صغيرة مشوبة بالرهبة ترتسم على وجهه، كأن كلماتها هزت شيئا داخليا في أعماقه، فهي الوحيده التى راهنت على نجاحه بدون تفكير!

حاولت مى تمالك أنفسها، وأضافت بعقلانيه: 
بعيدا عن الهزار، ركز وأنا معاك وهساعدك، متنساش إني بدرس إدارة أعمال، أي نعم لسه معنديش خبره عمليه في السوق، بس متستهونش بيا بردوا أنا من أوائل دفعتى، فهفكر معاك ونحضر كويس ، وإن شاء الله هتنجح، أنا واثقه فيك.

نظر إليها رشدى بعينين تلمعان ببريق خاص، ورد بامتنان: تعرفي إن أنتِ الوحيده اللى مراهنه على نجاحي!

مي بهدوء: علشان زى ما قولتلك قبل كده أنت ذكى جدا يا رشدى وعندك طاقه كبيره، بس محتاج توجها صح. 

ابتسم رشدي بصمت، وهو يمعن النظر بها، فشعرت بالخجل من تلك النظرات حتى احمرت وجنتيها ونظرت لاسفل، وقالت بتلعثم: ممكن تروحني بقى، وتروح تشوف شغلك.

ابتسم رشدي على خجلها الذى راق له، ونظر إليها لحظه بصمت وشرود، وهو يتذكر الحديث الذي دار بينه وبين ياسين وسليم، وأن عليها أن تعرف حقيقة إدمانه، ترددت الفكرة في رأسه قليلا، ثم تنهد وقال بتردد: بقولك إيه، كنت عايز أقولك على حاجة.

نظرت له بحماس: إيه؟

اعتدل في جلسته، وكأنه كان على وشك أن يتكلم، لكن فجأة توقفت الكلمات في حلقه، كان من الصعب أن يواجهها بتلك الحقيقة المرة التي ابتليت قصته بها، فتراجع سريعا وقال: خلاص بعدين.

مي بإصرار: لا بجد، في إيه؟

نظر أمامه بحزن، وقال بشرود: دي فكرة تخص المشروع، بس لما أجهزها هقولك أحسن.

مي بابتسامة خفيفة: أوكي.

ثم ادار المحرك دون رد، وانطلق نحو منزلها.

مجموعة الراوي

الكافيتريا الواحده مساء

جلست لوجين إلى إحدى الطاولات، وأمامها كوب شاي وصحن طعام كانت تتناوله بهدوء، وفجأة ظهرت فايزة عند المدخل، وقفت لحظة قصيرة قبل أن تخطو بثقة إلى الداخل، وما إن رآها الجميع حتى نهضوا احتراما، فرفعت لوجين عينيها ونهضت بدورها.

أشارت فايزة بيدها بنبرة آمرة هادئة: اقعدوا مكانكم.

وتابعت سيرها بخطوات محسوبة، حتى وقفت أمام لوجين، وارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، وقالت: صباح الخير يا لوجين.

ابتسمت لوجين بخجل: صباح النور يا فندم.

جلست فايزة على الطاولة أمامها، ثم رفعت عينيها إليها وأشارت بيدها: اقعدي.

جلست لوجين على الفور، وهي تقول بابتسامة بسيطة: اتفضلي معايا، دي سندوتشات بيتي.

ضحكت فايزة وهي تزيح خصلة من شعرها للخلف: ثانكس، أنا بفطر قبل ما أجي، قوليلي يا لوجين والدك فعلا كان سفير؟

تنهدت لوجين، قبل أن تبتسم وتجيب:أيوه، بابا كان دبلوماسي وسفير لمصر في النمسا.

فايزة باستفسار: يعني اتولدتي في النمسا؟

لوجين موضحه: أيوه، بس اتنقلنا كتير من بلد لبلد، ومستقريناش في مصر غير من خمس سنين، وبابا توفي من سنتين.

تغيرت ملامح فايزة للحظة، وقالت بأسف: البقاء لله، طيب، ووالدتك بتشتغل إيه؟

أطرقت لوجين ثم رفعت نظرها: ماما كانت مستشارة، بس بعد وفاة بابا للأسف سابت شغلها، تعبت جدا، ومقدرتش تتحمل فراقه، كانوا بيحبوا بعض أوي.

أومأت فايزة بإعجاب وهي تحدق فيها: عظيم.ثم ضيقت عيناها قليلا باختبار واضح الكلام: بس بنوتة جميلة زيك، والدها سفير ومامتها مستشارة، وعيلتكم ليها مركز مرموق، ليه تشتغلي أسيستنت؟

ابتسمت لوجين بخجل، وهي تشبك أصابعها: 
أنا بشتغل مديرة مكتب ياسين الراوي، ابن واحد من أكبر مليارديرات العالم، ومش أي حد يوصل للمكانة دي وبصراحة، مهما اجتهدت، صعب ألاقي وظيفة أرقى من كده.

أمالت فايزة رأسها وهي تتمعن النظر في وجهها: بس في الآخر اسمك موظفة، ليه متعمليش مشروع وتبقي أنتِ السيدة؟

هزت لوجين كتفيها بابتسامة صغيرة: مجاش في بالي، وبصراحه أنا مرتاحة في مكاني، لو حسيت إني متضايقه أو مش حابه أكمل في الشغل مع مستر ياسين، ساعتها ممكن فعلا افكر في مشروع، وكده كده عندي المبلغ اللي يخليني اعرف ابدأ بيه مشروع صغير.

مالت فايزة للأمام باهتمام: مين رشحك للوظيفة دي؟

لوجين بثبات: خالتو، داليا حسين، مصممة الأزياء المشهورة، وزوجة أشرف القاضي.

ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي فايزة، وهي تومئ: مش بقولك إنك من عيلة مرموقة؟ طب ليه مشتغلتيش مع اشرف؟

تنفست لوجين بعمق وأجابت بنبرة هادئة: الصراحة، خالتو هي اللي قالتلي هوظفك مديرة مكتب ياسين الراوي.

أرجعت فايزة ظهرها إلى الكرسي، وعينيها لا تفارق لوجين: ومجبتش سيرة إنك تشتغلي في شركات جوزها؟

حركت لوجين المعلقة على الطاولة بابتسامة هادئة: 
لأ، وأنا محبش أكون متطفلة على حد.

ابتسمت فايزة، وقالت بصوت منخفض: اممم عظيم.

ثم نهضت من مكانها، فبادرت لوجين بسرعة: انبسطت جداا في الكلام مع حضرتك.

وقفت فايزة وألقت عليها نظرة طويلة: وأنا كمان، وأكيد هنتكلم تاني، أنتِ شاطرة وفهمتي الشغل بسرعة، وأنا هأمرلك بمكافأة.

ابتسمت لوجين بامتنان: ميرسي يا فندم، دي شهادة أعتز بيها.

استدارت فايزة بخطواتها الأولى، ثم التفتت فجأة، وهي تقول بخبث: صحيح، ياسين عنده حساسية من شوية أكلات، متخليهوش ياكل منها كتير.

أومأت لوجين بثقة: أيوه عارفة، الأسماك والفراولة والمانجا، متقلقيش يا فندم.

ابتسمت فايزة بخبث، وهي تهم بالانصراف: مش قلقانه، ياسين في مكتبه؟

أجابت لوجين بسرعة: لا عنده اجتماع. ثم نظرت في ساعتها، وأضافت: عشر دقائق وهيخلص.

هزت فايزة رأسها بصمت، ثم غادرت الكافيتريا بابتسامة واسعة، توحي أن هناك شيئا في خطتها لم يكشف بعد.

مكتب ياسين

جلس ياسين خلف مكتبه، عيناه مثبتتان على الملفات المكدسة أمامه، قطع تركيزه طرق علي الباب، تبعه دخول فايزة بخطوات ثابتة 

رفع رأسه بابتسامة، وتساءل متعجبا: خير يا هانم؟

تقدمت وجلست على المقعد الأمامي، وأسندت يديها على الطاولة، وقالت بهدوء: خلصت الشغل اللي وراك؟

رد بملل وهو يميل برأسه للخلف: هو الشغل بيخلص؟

هزت رأسها بابتسامة صغيرة، وقالت بنبرة جادة: أنت محتاجلك أجازة يومين تلاتة كده.

تنهد بتمنى: ياريت

فايزة باستنكار: مش سليم رجع، خليه يقعد ويركز في الشغل شويه.
ثم أضافت بنبرة ساخرة: ولا هو مش فاضي غير يدلع في مراته وبس!؟

ابتسم بخفوت: هظبط معاه.

تابعت وهي تشبك أصابعها معا: أنا عايزاك تركز مع رشدي، يعني لو احتاج حاجة أو متابعة تبقى وراه.

أومأ بهدوء: متقلقيش.

ساد صمت قصير، ثم قالت بهدوء يحمل في طياته الكثير: مراتك هتفضل عند أهلها كتير؟!

كاد ياسين أن يرد، فقاطعته بضجر: متقوليش عادي، لأنه مش عادي، اللي بينكم مبقاش طبيعي، وهي بقالها فترة مش طبيعيه، وأنا مش لاقية سبب يخليك متمسك بيها، وأوعى تقولي عشان البنت والكلام الفارغ ده.

مرر يده على وجهه، ثم قال بنبرة هادئة: احنا مديين نفسنا مهلة نفكر ليه حياتنا وصلت لكده؟! ونشوف حل.

فايزة بتعجب: وأنت إيه إللى مخليك متمسك بيها كدة؟

رد بهدوء وعقلانية: مش قصة تمسك، بس فيه حاجات مينفعش ناخد فيها قرارات سريعه؟! أكيد حضرتك جالك وقت وفكرتي تبعدي عن الباشا كتير، لكن قبل متاخدي القرار، فكرتي مية مرة، واستمريتي علشان خاطرنا، فإحنا دلوقتي في مرحلة التفكير.

فايزة بهدوء عقلاني: متقارنش علاقتي بعزت بعلاقتك بهبه، هبه من يوم ما دخلت القصر وهي واخده جنب جامد مننا، وأنت بنفسك قولت عرفت حاجات عن شغلنا القديم، ومن وقتها الحياه ما بينكم بقى فيها مشاكل، الست لو مكانتش دعم لجوزها يبقي لا تصلح تكون زوجه ليه، وأنا من رأيي تطلقها، البنت دي مش هتريحك، الحب مش كل حاجة يا ياسين، في حاجات أهم، زي التفاهم، وهبة من أول مشكلة بتمشي وتديك ظهرها، فلازم تفكيرك يكون أبعد من كده، اختيار القلب مش دايما في محله.

حرك يده ببطء على سطح المكتب: ما أنا بقول لحضرتك، لازم نفكر وندى نفسنا فرصة أخيرة، ولو لقيت إن مفيش فايدة، هاخد القرار، أنا عارف إنك مبتحبيش هبة.

ضحكت ضحكة قصيرة وقالت: هي مدتنيش فرصة علشان أحبها أصلا..
ثم تابعت بابتسامه خبيثه: بس صحيح الاسيستنت بتاعتك عسولة خالص، طلعت بنت ناس، ومن عيلة مرموقه.

ياسين بابتسامة هادئه: أه، باباها كان سفير الله يرحمه.

ابتسمت وهي تلعب بخصلات شعرها: بنت راقية جدا، كمان شوفت صوركم على الإنستا، حلوة خالص.

فهم ياسين تلميحها، فرد بابتسامه متعجبه: ماما، ده مش أسلوبك!؟

ضحكت بسخرية خفيفة، ووقفت بهدوء: إيه اللي مش أسلوبي؟ بقول بنت عسولة وصوركم حلوة، ليه فهمت إني أقصد حاجة تانية؟ عموما أنا هقوم بقى، عشان ورايا شغل، سلام

غادرت الغرفة بخطوات هادئة، فيما بقي ياسين يراقب الباب للحظات، قبل أن يعود ببصره إلى الملفات أمامه، ولكن عينيه لم تعودا تقرآن شيئا.

فيلا عائلة هبة، السادسة مساء.

كان ياسين يجلس على أرضية الحديقة يلعب مع ابنته بمرح، وضحكات الطفله تملىء المكان، اقتربت هبة بخطوات هادئة، وهي تحمل حقيبتها استعدادا للخروج.

هبة برتابه: ياسين، أنا عندي ميتينج مهم ومضطرة امشب، اقعد مع البنت براحتك، أوكي؟

توقف ياسين عن اللعب، ورفع رأسه إليها بنظرة مترددة: ماشي يا هبة، المهم فكرتي؟

هبه باستغراب: أنا لسه مبقاليش كم يوم هنا، وبفكر أسافر، علشان مش عايز ضغط من ماما؟

تنهد ياسين وهو ينظر بعيدا: اعملي اللي أنتِ عايزه، بس أنا هاجي أشوف البنت.

أومأت برأسها بصمت، ثم وضعت قبلة سريعة على جبين ابنتها، وخرجت مسرعة، بينما واصل ياسين اللعب مع ابنته مرة أخري، وبعد قليل استدعي المربية لتأخذ الطفلة، ونهض وذهب هو الآخر.

في الطريق
كان ياسين يقود السيارة بملامح شاردة وملل ظاهر على وجهه، أمسك هاتفه واتصل بلوجين وحينما اتاه صوتها، قال: انتِ فين؟ .....
طيب، بقولك إيه، هعدي عليكي بالعربية دلوقتي، يعني كمان عشر دقايق ربع ساعة بالكتير هكون عندك، ....
لا مفيش حاجة، زهقان بس، تعالي نشرب حمص شام وندردش شوية...
طيب مش هتأخر، سلام.

بعد قليل قصر النيل.
جلس ياسين ولوجين على مقعدين خشبيين، وأمامهما أكواب حمص الشام الدافئة يتصاعد منها البخار، والنسيم العليل يلامس وجهيهما.

مالت لوجين برأسها ونظرت إليه باستفهام: يعني امتى أخدتوا القرار ده؟ أنا مش فاهمة.

حرك ياسين كوبه بين يديه بملل، وقال: لما مامتك كانت تعبانة.

اتسعت عينا لوجين بدهشة: وأنت إزاي متقوليش؟

زفر ياسين، وهو يلوح بيده بضيق: وأقولك ليه؟ علشان تقوليلي لا ومينفعش، والعبط بتاعك ده.

ضحكت لوجين بخفة: أولا ده مش عبط، بس عموما الخطوه دي صح جدا، أحيانا لما اتنين بيحبوا بعض يبعدوا شوية، الشوق بيخليهم يقيموا العلاقة صح، بس أنت لازم تاخد أجازة كام يوم وتفكر بهدوء.

ياسين بملل: هعمل كده بس أخلص الشغل اللي عندي الأول، وبعدين أنا مش جايبك هنا عشان توجعيلي دماغي بالحوارات دي، غيري الموضوع.

ارتشفت لوجين من الكوب، ثم نظرت له بابتسامة عريضة: على فكرة أنا النهارده قعدت مع والدتك واتكلمنا، حبيتها خالص، وحسيتها عكس ما الناس بتتكلم عنها إنها شخصية متكبرة ومغرورة، بالعكس كانت لطيفة خالص وراقيه في كلامها، بس طبعا لا تخلو من الهيبه دى فايزه هانم برضو.

رفع ياسين حاجبيه باندهاش، وسأل متعجبا:بتتكلمي عن مين؟

ابتسمت لوجين بثقة: والدتك، فايزة هانم.

ضحك ياسين بخفة: والدتي أنا جميلة ولطيفة ومش مغرورة؟ وحبتيها كمان؟

غمزت لوجين بعينيها ممازحة: آه، هي حد جميل أوى وبيعجبني قوي شياكتها، بجد حاجة قمر.

ضحك ياسين بدهشه: معاكي إن أمي شيك، بس إن أنتِ حبيتي أمي، وشيفاها لطيفه ومش متكبره، اهي دى اللى غريبة؟
ثم أضاف وهو يضحك مستنكرا: مش بقولك أنتِ عايشه في اللالالاند؟ ويتخاف عليكي؟ ملكيش في الحكم على الناس.
صمت لحظه، وأضاف بمزاح: بس أنا دلوقتي فهمت ليه التلاتة اللي ارتبطتي بيهم فشلوا، اتأكدت إن اختيارك أكيد كان غلط، قال أمي مش مغرورة قال!!

ابتسمت لوجين باستغراب، وقالت برقه: هي معاملتنيش بغرور، أتبلي عليها يعنى؟ 

ياسين ضاحكا: أنتِ الوحيدة على الكوكب اللي قولتي عنها كده.

لوجين بهدوء وعقلانيه: بص، هي ست عارفة قيمة نفسها كويس، عارفة هي على إيه وبتتكلم مع مين وازاي، مش أي حد هتهزر وتضحك معاه.

هز ياسين رأسه موافقا، ثم تنهد وقال: معاكي، بس مينفعش الإنسان يبقى مجرد من المشاعر.

صححت له لوجين بهدوء ورقه: مينفعش تقول كده، دى مامتك، ممكن تقول هي مبتعرفش إزاي تظهر حبها ومشاعرها، بس أنا بحسها بتحبك وبتعاملك حلو.

ابتسم ياسين ابتسامة بخفه، وقال بنبرة لينه: مقدرش أنكر إن أنا الوحيد في إخواتي اللي شاف حنينة ماما واهتمامها، بس ماما صعبة، فبلاش تتعاملي معاها كتير علشان متضايكيش. 

لوجين بتوضيح: لا، أنا مبتعاملش معاها، بس هي شافتني في الفطار النهارده، سلمت عليا، وقعدت تسألني عن بابا الله يرحمه، ومين وظفني في المجموعة، وكده

هز ياسين رأسه، وابتسم بخفة:ماشي، المهم إحنا على معادنا.

لوجين بعيون تلمع من الحماس: أيوه أنا اتحمست أوى، وحضرت اللبس، بقولك ايه أنا نفسي أشوف بنتك، متجيبها معاك يوم الجمعة.

ابتسم ياسين بارتياح، ونظر لها: بجد؟

ضحكت لوجين وعيونها تلمع: والله بجد، متخافش عليها، أنا بعرف أتعامل مع الأطفال متقلقش.

تبادلا نظرات طويلة صامتة بابتسامة، وكأن النسيم الليلي يحمل ما تعجز الكلمات عن قوله.

فيلا ماسة وسليم الثامنة مساء.

هبط سليم من الدور العلوي مرتديا ملابس منزلية، مسح بعينيه المكان وكأنه يبحث عن ماسة التي لم يرها منذ عودته من العمل، عرف أنها ستكون في واحد من مكانين، إما غرفة المعيشة أو الحديقة، اقترب من غرفة المعيشة، وجدها جالسة هناك تشاهد التلفاز، أراد أن يلقي التحية ويجلس، لكن تذكر حديث الطبيب الذي دار في باله فانقبض صدره واستدار لينصرف.

لكنه تفاجئ بصوتها الناعم وهو ينادي عليه، توقف سليم، والتفت نحوها بسرعة بابتسامة واسعة.

ابتسمت هي بدورها وسألته: عامل إيه؟

سليم بابتسامة:الحمد لله، وأنتِ أخبارك إيه؟ مشوفتكيش النهارده!؟

وقفت أمامه موضحه: علشان لما أنت جيت، أنا كنت نايمة.
ثم نظرت إليه، وتساءلت بتردد: هو أنا ينفع اجيب سلوى تقعد معايا بكره



تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة