رواية الماسة المكسورة 2 الفصل العاشر 10 ج 2 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل العاشر 10 ج 2 
بقلم ليله عادل



هز سليم رأسه ايجابا: أيوه طبعا، ولو عايزة تروحي أنتِ، روحي.

ماسة بخفوت: لا مش عايزة أروح.

رفع سليم حاجبيه باستغراب: غريبة.

نظرت له ماسة بتعجب: ليه غريبة؟

مد سليم وجهه بتعجب: أنا قولت هتفرحي، وتبقي عايزة تروحي.

هزت كتفيها، ووضحت ببساطه: لا عادى، أنا بس عايزه أشوف سلوى، وأتكلم معاها، بعيد عن ماما وأخواتي وكده.

ابتسم سليم بهدوء: براحتك، اللى يريحك اعمليه.

ثم نظر في عينيها، وتساءل بلهفه: طب واحنا هنتكلم إمتى؟ أنا كمان عايز أتكلم معاكي واحكيلك اللى حصل معايا في ال ٦شهور دول.

تنهدت ماسة بتعب: هنتكلم يا سليم بس شوية.

نظر سليم في ملامحها بقلق واستعجال: شوية إمتى يا ماسة؟ فات أربع أيام، ولسه مش عايزه تسمعيني!؟

رفعت ماسة عينيها نحوه وقالت موضحه بنبرة متأثرة: حاسة لو اتكلمنا دلوقتي هيحصل مشكلة، أنا تعبانة، مش قادرة أتكلم، عايزة أتكلم وأنا هادية.

امسك سليم يدها، وضغط عليها: كده كده الكلام هيبقى فيه وجع يا ماسة، عشان احنا هنتعاتب.

هزت ماسة رأسها نافيه، وقالت بنبره مكتومه: لو على الوجع فكده كده موجود، بس اقصد العصبية، عايزة لما أتكلم معاك أتكلم معاك من غير عناد ولا زعيق، عشان حتى أبقى عارفة قرارى كويس، اصبر عليا شوية يا سليم من فضلك.

تنهد سليم ، وقال برفق وهو يتأملها: أنا ساكت وسايبك براحتك اهو، مش هتتعشي؟

ابتسمت ماسة بخفة: اه، هخلي سحرت تحضرلنا العشاء.

تحرك سليم بجانبها، نظرت ماسة إلى قدميه: على فكرة مشيتك بقت أحسن من اليومين اللى فاتوا.

سليم بابتسامه: آه، الحمد لله، علشان بقالي يومين مريحها  زى ما الدكتور قال، لحد اما ابقي اروحله.

نظرت له ماسه بابتسامه صافيه، وقالت باهتمام: ألف سلامة عليك، إن شاء الله هتبقى كويس.

سليم وهو ينظر لها بحب: أنا كويس طول ما أنتِ معايا.

ساد الصمت لحظات، تبادلا خلالها نظرات مشبعة بالعشق والشوق، حتى بدت الكلمات بلا معني في تلك اللحظة، أمام دقات قلبيهما التي تتصارع بين الوجع والحنين والحب.

كان هو يتأملها بعينين مفعمتين بالشغف، وكأن لسان حاله يقول: «سأنتظرك مهما طال الزمن».
أما هي فقد حملت نظراتها اعترافا خفيا: 
«أحبك، لكن جراحي مازالت تنزف، أحاول أن أنسى، لكني لا أستطيع، فصبرا».

ظلا هكذا لحظات، حتى عجز سليم عن مقاومة شوقه لتلك العيون، فاقترب منها ببطء، حتى وقف أمامها مباشرة، أنفاسهما تتلاحق كأنها تحمل ما كبت لسنوات طويلة.

لم تستطع ماسة أن تبتعد، ارتجفت يدها، واختلطت أنفاسها بقشعريرة عجزت عن كبحها.

غاصت في نظراته، وتلاقت أعينهما على شفتي بعضهما البعض بشوق أذاب أفئدتهم؛ هي الأخرى كانت تشتاق إليه مثلما يشتاق إليها، وأنفاسها تعلو مع دقات قلب متسارعة تكاد تسمع من قوتها. 

لم يستطع سليم التحمل، فمال أكثر، حتى كاد ينهي المسافات بينهما بقبلة تبدد الوجع والشوق، وقبل أن تلمس شفتيه شفتيها، سقط الهاتف من بين يديها فجاة، فانكسر سحر اللحظة.

انحنت تلتقطه بسرعة، ثم نهضت بعينين مضطربتين، وقبل أن يمسك بها اندفعت هاربة، تاركة خلفها صدى أنفاسه المضطربة ونظراته المذهولة تلاحقها.

ركضت إلى غرفتها، وأغلقت الباب خلفها بالمفتاح، ثم سقطت على الأرض تبكي، تضع يديها على فمها من الصدمة؛ كيف سمحت لنفسها أن تضعف لهذه الدرجه!؟ انسابت دموعها بلا توقف..

بينما ظل سليم في مكانه غارقا في وجع وصمت، ثم رفع هاتفه واتصل بطبيبه النفسي، كان يمسك الهاتف بغضب وأنفاس متسارعة، وعندما تأخر الطبيب في الرد، ضغط على أسنانه، وأعاد الاتصال بعصبية، وحين أجاب صاح بغضب: مبتردش عليا ليه؟

الطبيب بهدوء: اهدى، في ايه؟!

قاطعة سليم بانفعال: متقوليش اهدي! أنا كلمت ماسة زي ما قولتلي، وقربت منها وكانت متقبلة، لدرجه كنت هبوسها! وفجأة جريت مني وهي بتعيط، أعمل إيه دلوقتي؟

الطبيب بهدوء: سيبها يا سليم واهدى.

صرخ سليم بضجر: أسيبها أزاى؟!

الطبيب محاولا تهدئته: اسمع كلامي، وسيبها تستوعب اللى حصل وتفكر فيه، الخطوة اللي عملتها النهاردة كبيرة، ومادام هي سمحتلك تقرب منها بالشكل ده، حتى لو تراجعت في الآخر، فدي علامة كويسة، اديلها وقتها، وبكرة أو بعده، اعمل اللي اتفقنا عليه.

سليم بتنهيده: ماشي سلام.

أغلق سليم الهاتف وألقى برأسه إلى الخلف يتنفس بعمق، عادت إلى ذهنه ملامح اللحظة؛ نظراتها، رائحتها، أنفاسها المتسارعة، ابتسم رغم الوجع، وقد شعر بأمل يتسرب إلي قلبه، أنها بدأت تلين وأن العفو بات قريبا، ثم اتجه إلى المطبخ وطلب من سحر أن تحضر العشاء وتقدمه لماسة

منزل مصطفى الثامنة مساء 

الشرفة
وقف إيهاب في الشرفة، والشرود يكسو ملامحه، بينما تغرق عيناه في صور ماسة؛ ضحكتها، نظراتها، والمواقف التي جمعتهما، تتبدل ملامحه بين ابتسامة عابرة وحزن ثقيل..

دخلت عائشة تحمل صينية عليها كوب شاي، ولم تمنع خفة خطواتها مفاجأته، فانتفض إيهاب، ثم تناول الكوب بسرعة، وهو يقول بامتنان: تسلم إيدك يا شوشو.

وقفت عائشة تنظر إليه بتركيز، عينيها تفحصه كأنها تريد اختراق شروده: مالك؟ سرحان في إيه؟ واتخضيت كده ليه؟

حرك إيهاب الكوب بين يديه، في محاولة لإخفاء ارتباكه: مفيش عادي.

ضيقت عائشة عينيها، وتساءلت بشك: عادي ازاى؟ أنت من ساعة ما ماسة مشيت، وأنت مش طبيعي!؟ ودايما شارد! فيه إيه؟!

تنهد إيهاب، وأصابعه تتخلل شعره بتوتر: بفكر إزاي نوصلها، بعد الحريقة اللي حصلت في الفيلا، وإننا لسه لحد دلوقتي مش عارفين عنها حاجة.

عائشة: بس مصطفى قال إنه راح لسليم، وإن سليم مصدقش كلام ندى، وطمنه على ماسه.

أطرق إيهاب برأسه: عارف، بس أنا مش مطمئن.

تقدمت خطوة حتى وقفت أمامه مباشرة، وتساءلت بتوجس: أوعى تكون حبيتها يا ايهاب؟ 

رفع إيهاب رأسه بسرعة، وقال بملامح مرتبكة: 
حبيتها إيه بس يا بنتي؟

ابتسمت عائشة ابتسامة ساخرة ممزوجة باليقين: إيهاب، أنت لو هتكذب على الدنيا كلها، مش هتعرف تكذب عليا.

أطبق إيهاب شفتيه للحظة، ثم زفر بعمق: كنت بقول لنفسي إنها زى أختي، بس لما مشيت، اكتشفت إن اللي جوايا مكانش أخوة، كان حب وأنا اللي مكنتش عايز أصدق، لكن ماما كان عندها حق ووقعت في الفخ.

اتسعت عينا عائشة بالحزن، وهزت رأسها بأسف:
بس يا إيهاب، مينفعش، مفيش حتى ربع فرصة.

انخفض صوت إيهاب وهو يطرق برأسه: عارف، وعارف كمان إنها بتحب جوزها، بس القلب ملهوش سلطان، اكيد شويه وهنساها، بس أنا فعلا قلقان عليها..
ثم رفع عينيه إلي عائشه، وهو يضيف برجاء:
بس أوعى تقولي الكلام ده لحد، ده بيني وبينك وبس.

مدت عائشة يدها تضعها على كتفه بحنان، وابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها رغم القلق: متقلقش، هو الكلام ده ينفع يتقال أصلا؟ بس لازم تنساها يا ايهاب، وربنا يستر وميكونش شك ماما في مصطفي كمان صح ويكون حبها زيك.

رفع إيهاب عينيه إلى السماء، وابتلع غصته في صمت، بينما تلاشى أثر سيجارته مع نسيم الليل.

مزرعة الراوي، الساعة العاشرة صباحا

هبطت لوجين من سيارتها عند بوابة المزرعة، وهي ترتدي فستانا رقيقا، وتحمل بين يديها أكياس الهدايا، وكان ياسين في انتظارها مع نالا، وما إن رأت نالا حتى ركضت نحوها كالطفلة الصغيرة واحتضنتها بشدة.

لوجين بصوت طفولي: إيه الجمال ده ما شاء الله! أحلى من الصور كمان!

نظرت إليها نالا بتردد، وهي تتساءل: أنتِ مين؟

ضحكت لوجين وهي تداعب شعرها: أنا اسمي لوجين، وممكن تقولي چوچا.

نالا بابتسامه طفولية: ماشي يا چوچا.

أخرجت لوجين من شنطتها الهدايا، وعيناها تتلألأ بالفرح: بصي أنا جبتلك إيه، عروسة حلوة زيك، بس أنتِ أحلى،وكمان جبتلك شوية ألعاب، كل دول عشانك أنتِ بس.

ابتسم ياسين، وهو يحدث ابنته بهدوء: احنا بنقول إيه يا نالا؟

نالا بخجل: ميرسي يا طنط!

اعتدلت لوجين ونظرت إلى ياسين بابتسامة: عامل إيه؟

ياسين بمزاح لطيف: تمام، أخيرا شوفتيني.

لوجين بمرح وهي تداعب شعر نالا: أصل أنا قدام الأطفال ببقي عبيطه أوى، وبنسى نفسي.

ضحك ياسين، وقال مازحا:أنا مش عايز أصدمك، بس، أنتِ عبيطه علطول.

نظرت له لوجين بتحذير مرح: مش قدام البنت طيب، اديني برستيجي!

أومأ ياسين برأسه ضاحكا: هحاول.

نظرت له لوجين متسائلة:مستنتش نيجي مع بعض ليه؟

ياسين موضحا: أنا هنا من امبارح، قولت أفصل من الدوشه وأجي اقعد مع نفسي في هدوء شويه، والصبح بعت جبت البنت.

هزت لوجين رأسها بتفهم، ثم تلفتت حولها وتقول بابتسامة وانبهار: بس المزرعة تحفة.

ضحك ياسين باستنكار: هو أنتِ لسه شوفتيها؟

لوجين بابتسامه: طب تعالي فرجنى عليها يلا..
ثم نظرت بعينيها إلى نالا، وأمسكت يدها: تعالي يا نالا، نتفرج مع بعض على المزرعة الحلوة دي.

هزت نالا رأسها وهي تسير برفقة لوجين، وبدأوا التجول في أرجاء المزرعة، وهم يتفقدون كل زاويه فيها، كانت المزرعة واسعة للغاية، تضم برجا للحمام وأشجارا متنوعة، وتطل على بحيرة قارون، وفيها طاحونة جميلة.

علقت لوجين بانبهار: لا ما شاء الله، المزرعه تحفة بجد.

اثناء ذلك وقعت عينيها على حمار متوقفا على مقربه منهم.

لوجين بدهشة طفولي: إيه ده هو هنا في حمار؟ عايزة أركب!

ضحك ياسين مشيرا بيديه: روحي اركبي.

ركضت نحوه وصعدت عليه برفقة نالا، بينما كان ياسين يلتقط لهما الصور في أجواء مرحة ولطيفة، بعدها تناولوا الفطور الريفي معا، وكانت لوجين تطعم نالا بيديها، وقضوا وقتا ممتعا معا.

كانت لوجين تلعب مع نالا معظم الوقت، تاركة ياسين يراقبهما أو يلتقط لهما الصور، كانوا يركضون ويمرحون ويتناولون السناكس والحلويات التي أحضرتها لوجين، كانت نالا سعيدة، وضحكاتها تملأ المكان بهجة، حتى شعرت بالتعب، فأخذتها المربية لتنام.

نظرت إليها لوجين بحنان: خدي بالك منها.

صعدت بها المربيه إلى غرفتها، بينما ابتسم ياسين بخفة: أنا لو كنت أعرف كده، مكنتش جيت، أنا حاسس إني جاي النهارده مصور بس.

لوجين بابتسامه رقيقه: أنا نقطة ضعفي الأطفال، خصوصا لو أطفال حلوين ودمهم خفيف مش رخمين.

ياسين ضاحكا: 
ماشي يا ستي، جاهزة عشان نعمل السباق؟

لوجين بتحدي: طبعا جاهزه، بس عايزة أغير هدومي.

أشار لها ياسين: اطلعي أي أوضه فوق، وغيري.

وبالفعل، صعدت إلى إحدى الغرف وابدلت ملابسها فارتدت بنطالا وتيشيرت مناسبين لركوب الخيل، ثم نزلت، وما إن رآها ياسين حتى قال ضاحكا: إيه ده، أنا كنت متخيلك هتلبسي لبس فرسان!

لوجين بابتسامه مرحه: متكبرهاش في دماغي، والله أروح اشتري.

ياسين ضاحكا: لا وعلى ايه، كده كويس أوى، يلا تعالي

توجهوا إلى الإسطبل، نظرت لوجين حولها بانبهار، وهي تردد: ما شاء الله، عندكم أحصنة عربية أصيلة! حد يبقى عنده حاجات بالجمال ده ويقضي وقته بعيد عنهم؟

ياسين ضاحكا: لا بالعكس، أنا باجي هنا كتير، هبقي اخدك معايا بعد كده.
ثم تساءل بحيرة: تركبي أيه؟

أخرجت شفتيها للخارج، وهي تفكر: مش عارفة، أختار أنت؟

ياسين بحماس: أركبي زينة، وأنا هركب أدهم.

أخرج السايس الأحصنة، ثم صعدت لوجين التي بدت وكأنها فارسة حقيقية، تعرف تماما ما تفعل، نظر اليها ياسين بانبهار: لا ده احنا طلعنا جامدين فعلا.

نظرت له بثقة: قولتك خاف على نفسك.

ابتسم وأشار إليها بالاستعداد، فاصطفا جنبا إلى جنب، وضعت لوجين المنديل على فمها إيذانا بالانطلاق، وبدأ السباق بمرح وحماس، كانت لوجين تشجع فرسها حتى فازت بجدارة، وبعد أن ترجلا، وقفا متقابلين، والفرحة تملأ وجهيهما، والحماس يلمع في عيونهما.

ابتسم ياسين بفخر وهو يشير لها بحركة إعجاب: برافو عليكي، مكنتش متخيل إنك شاطرة كده في ركوب الخيل.

ضحكت لوجين بخفة: أنا قولتلك هبهرك.

تأمل ياسين ابتسامتها لحظة، وغرقت هي في نظراته الامعه، ثم ما لبثت أن غيرت اتجاه الحديث بخفة: بس بجد الجو عندكم هنا يجنن.

لوح ياسين بيده مشيرا إلى الممرات الخضراء: تعالي نتمشى شوية.

سارا جنبا إلى جنب، والنسيم يداعب شعرها، والعصافير تغرد بين عبير الزهور والأعشاب، فامتلأ صدراهما براحة غامرة.

دارت لوجين بعينيها في المكان، وهي تقول ببهجة طفولية: المكان هنا تحفه، كل حاجة مريحة للعين والروح.

ابتسم ياسين، وهو يتابعها أكثر مما يتابع المناظر: قولتلك الجو هنا مختلف وهيعجبك، من أول دقيقة يحسسك بالراحة.

واصلا السير قرب البرج الحمام والحدائق، يتبادلان الضحكات والنظرات الخفيفة، وكأن الزمن توقف لحظة ليمنحهما صفاء نادرا، وبعد قليل استيقظت نالا وشاركتهما ما تبقى من اليوم، بين اللعب والمرح وتناول الغداء، فقضوا معا يوما جميلا.

فيلا سليم و ماسة الرابعة مساء.

دخلت سيارة الأجرة من بوابة الفيلا، فتوقف السائق للحظات عند نقطة الحراسة، اقترب "مكي"، وانحنى قليلا ناحية الشباك، وقال للسائق: أنت مين؟ وا..

وقبل أن يكمل حديثه، وقعت عينه على سلوى الجالسة بالمقعد الخلفي، فرفع جسده، وأشار للحراس: 
افتح البوابة.

لم يتبادلا كلمة واحدة ولا حتى نظرة، ظلت سلوى تراقبه بدهشة كأنه يتعمد تجاهلها.

ومع مرور التاكسي من البوابة، توقف عند المدخل، رفع مكي يده وأشار للسائق: بعد إذنك، التاكسي مينفعش يدخل جوه.

فتحت سلوى باب السيارة بهدوء، مدت يدها وأعطت النقود للسائق، وعدلت حقيبتها على كتفها، ثم بدأت تتحرك إلى الداخل.

أما مكي، فظل واقفا مكانه، كأنه وجودها لا يعنيه، كانت خطوات سلوى بطيئة يعتريها الاستغراب؛ فقد كانت تتوقع أن يلحق بها، لكنه لم يفعل !

دخلت الفيلا، وهناك كانت ماسة تنتظرها بفارغ الصبر،
ومجرد أن رأتها، قفزت من مكانها وركضت نحوها تعانقها بحرارة.

ماسة بشوق: وحشتيني، رغم إني لسه شايفاكي أول امبارح!

سلوى بشوق: وأنتِ كمان، أنا أصلا مشبعتش منك.

شدتها ماسة من يدها بحماس: تعالي، نقعد على النيل، القاعدة هناك تجنن!

وبالفعل تحركوا معا، إلي الحديقه المطله على النيل، وعندما وصلت سلوى هناك نظرت من حولها بابتسامه واسعه وهي تقول بانبهار: الله المكان يهوس!

ماسة بابتسامة: المكان ده بقى عشقي تعالي نقعد.

سلوى باعتراض ممزوج بحماس: لا تعالي نقعد على النجيله احسن، وخلي سحر تعمل لنا شاي، فاكره الشاي اللي كنا بنعمله على اولح الدورا وسط الغيطان.

ابتسمت ماسة بحنين وقالت: كانت ايام جميلة والله.

جلسوا على النجيلة.

بادرت سلوى تتساءل بجدية: احكيلي بقي، أنتِ فعلا سليم معملكيش حاجه؟ ولا كنتي بتمثلي قدام أبوكي وامك؟

هز ماسة رأسها بتوضيح: لا فعلا معملش حاجه، ورجع زي زمان، سليم اللي حبيته واتجوزته..
اضافت بتوتر ودمعه تلمع في عينيها: بس خايفة، خايفة يكون بيعمل كده علشان يطمني وبعدين يوجعني، مع إنها مش من أخلاقه.. 

ثم ابتسمت بمحبه وشوق: بس عارفه هو وحشني جدا، امبارح كنت هضعف وأبوسه، بس في آخر لحظة بعدت، في حاجة جوايا بتقولي: "انسي وسامحي"، بس في نفس الوقت، كل ما أشوفه قدامي، بفتكر التهديد ونظراته ليا في الليله أيها، مش قادرة أتخطها خالص يا سلوى، حاولت أكرهه، بس معرفتش، قلبي مش عارف غير إن يحبه وبس.

اطرقت سلوى رأسها لحظة، ثم رفعت عينيها: مش عارفة أقولك إيه، بس أنتِ عندك استعداد تسامحي بعد كل اللي عرفتيه عنه؟!

عادت ماسة بشعرها للخلف، وقالت بهدوء: أنا معنديش مشكلة في اللي عرفته، مشكلتي في اللي عمله معاكم ومعايا.

ثم تنهدت بتعب وتساءلت بقلق: بقولك إيه خليكي في اللى جيباكى علشانه، طمنيني رشدي عملكم حاجة؟

هزت سلوي رأسها بنفي: خالص مشوفتش خلقته من ساعة ما هربتي، هو جه قابل بابا مرة وقال "ممكن أساعدكم"، وبعدها اختفى.

هزت ماسة رأسها، كأنها تفكر بصوت عالي: أنا حاسة إن في لغز.

حاولت سلوى  تغير الحديث: طب وأنتِ ليه رافضة تشوفي صافيناز  وتخلينا تعتذلك زي ماسليم قال؟

ماسة بنبرة مرتجفة: خايفة، خايفة أشوفهم بعد ماعرفت إنهم قادرين يعملوا أي حاجة، أو يمكن أنا مش قد المواجهة دلوقتي، مش عارفة.

زمت سلوى شفتيها بضيق: هما فعلا قادرين.

تنهدت ماسة بتعب: بقولك يا سلوى، أنا مش عايزة أتكلم في الموضوع ده، أنا كنت جايباكي عشان أطمن إن محدش عملكم حاجه، لأن أنتِ الوحيدة اللي عارفة، غير كده أنا مش عايزة أتكلم، عايزة أرتاح ودماغي تهدى شويه.

ربتت سلوى على قدميها بحنان: ماشي يا ستي، مش هنتكلم في حاجة

ماسة بحماس واهتمام: بقولك إيه، متحكيلي بقى على حوار شغلك الجديد بتاع الإكسسوارات.

سلوى بابتسامه: هحكيلك.

وأخذتا تتبادلان الأحاديث بخفة وألفة.

وأثناء ذلك دخل سليم الفيلا، وبالطبع تساءل عن ماسة، قالت له سحر أنها تجلس مع شقيقتها في الحديقة، أخذ يفكر هل يرمي عليها السلام أم لا، لكنه أراد ذلك فقط من أجل ماسة ليطمئنها، فاتجه بالفعل إلى الحديقة.

سليم بابتسامه لطيفه: عرفت إنك هنا، عاملة ايه؟

سلوى باقتضاب، وهى تشيح بوجهها بعيدا عنه: الحمد لله.

تفهم سليم أسلوبها في الرد، وقال بتهذب: يارب ديما، ياريت لما تفضي ابقي تعالي اقعدي مع ماسة بدل ما هي عنيده وبتقعد كتير لوحدها كده.

سلوى بسخافه: هبقي أشوف.

سليم بلطف: طب اسيبكم على راحتكم بقي، وطبعا هتقعدى تتغدى معانا.

سلوى برخامه: لا معلش عندى شغل، هقعد مع ماسة شويه وبعدين امشي.

سليم بابتسامه: على راحتك، أنا جوه لو احتاجتم حاجه.

ثم تحرك سليم إلى الداخل، بينما أكملت سلوى وماسة حديثهما لوقت طويل، وعندما أرادت سلوى الذهاب، كان سليم يقف مع مكي يتحدثان في أمور تخص العمل، فاقتربت سلوى ومعها ماسة.

ماسة بتهذب: مكي، من فضلك عايزة عربية عشان توصل سلوى.

سلوى بارتباك: مش مهم، أنا هركب تاكسي.

سليم بتمثيل: تاكسي ليه؟ طب ما عشري يوصلك، اه صح دى في أجازه! طب مكي، وصلها ولما تيجي نبقى نكمل كلامنا.

ثم تحرك مبتعدا، بينما نظر مكي إليه بضجر، فهو يفهم صديقه جيدا، فجز مكي أسنانه بغضب، وقال بنبرة هادئه يحاول بها الحفاظ على ثباته: اتفضلي يا آنسة سلوى.

هزت سلوى رأسها بصمت وارتباك ودخلت السيارة.

داخل سيارة مكي
ظل يقود السيارة بصمت، وكأنه لا يراها، متجاهلا وجودها تماما، بينما هي كانت تسترق النظر إليه من حين لآخر، حتى وصلوا إلى الفيلا، فترجلت من السيارة، ثم انطلق مكي مبتعدا كأنه مجرد سائق ليس إلا، بينما نظرت سلوى لابتعاد السياره باستغراب لطريقته التي لم تعتدها من قبل.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل.
وخلال باقي اليوم، لم يتحدث سليم وماسة معا كما أمر الطبيب، كان الصمت يخيم على أرجاء الفيلا، كأنه جدار يفصل بين قلبين يشتعلان بما لا يقال.

جلس سليم طويلا في مكتبه، يحدق في شاشة اللابتوب دون أن يرى شيئا، يطرق بأصابعه على المكتب بملل متوتر، وكل ما يدور في رأسه هو انتظار الغد، اليوم الذي سينفذ فيه ما أوصاه الطبيب به، عساه يكون بداية النهاية لكل هذا الارتباك الذي يسكنه.

أما ماسة، فبقيت في غرفتها بعد مغادرة سلوى، تتقلب بين السرير والكرسي، تمسك هاتفها ثم تضعه، تفتح الستارة ثم تغلقها، خائفة من نفسها أكثر من أي شيء، كانت تخشى أن تضعف مرة أخرى، أن تنجرف خلف مشاعرها التي تحاول كبتها منذ البداية، فتنهار أمامه كما فعلت من قبل.

في اليوم التالي 

الدرج، الخامسة مساء

كان الدرج يتلألأ بإضاءه خافته، تزينه الورود البيضاء المنثورة، وتحتضنه الشموع الصغيرة التي تنشر دفئا في المكان، والمصابيح الموزعه بعنايه تنثر بريقا كأنها نجوم أسرجت خصيصا لهذه اللحظة، كل درجة بدت كدعوة صامتة لرحلة من القلب إلى القلب.

في آخر الممر انتصبت طاولة صغيرة، مغطاة بمفرش ناعم، يتناثر فوقها أوراق من الورد الأحمر، فتبدو كأنها وجدت لتشهد سرا لا يعرفه أحد.

كان سليم يقف عند الطاولة، مرتديا بدلة كاجوال أنيقة تزيده هيبة ووسامة، عيناه تتأملان التفاصيل بترقب، يداه تتحركان في توتر محسوب، وهو يضع الأطباق هنا، ويعدل موضع الشموع هناك.

بجواره سحر تساعده في الترتيب، بينما هو يكرر النظر إلى الطاولة، كأن قلبه يخشى أن يفوته شيء.

ابتسمت سحر بخفة: شكلك متوتر اوي يا سليم بيه.

رفع عينيه نحوها، وابتسامة صغيرة تسللت رغما عنه: هو أنا بعمل حاجة لحد تاني غيرها؟ لازم كل حاجة تبقى مظبوطة. 

أمالت سحر رأسها وغمزت: واضح إنك عايز تبهرها على الآخر.

تنهد سليم وهو يضبط وردة خرجت عن مكانها، وقال بنبرة عاشقه:ما هو لو مبهرتش ماسة، أبهر مين؟

توقف لحظة، نظر للطاولة ثم للممر، وابتسامة أمل ارتسمت على شفتيه، بدا كأنه يضع قلبه كله في هذا المكان، ينتظر فقط أن تأتي اللحظة، وأن تفتح الأبواب على حضورها.

سليم بهدوء وهو ينظر لسحر: خلاص يا سحر، شكرا ممكن تروحي أنتِ.

ابتسمت سحر وقالت بدعاء صادق: ربنا يسعدكم يا رب ويصلحلكم الأحوال.

غادرت سحر، بينما أخذ سليم نفسا عميقا، يمرر يده في شعره، محاولا تهدئة توتره، تقدم بخطوات بطيئة حتى توقف أمام غرفة ماسة، أغمض عينيه، وأخذ نفسا عميقا، ثم فتح عينيه وطرق الباب بخفة.

داخل غرفة ماسة

كانت ماسة جالسة على الأريكه، ترتدي بنطال وتيشرت منزلي، غارقة في أفكارها بعينين شاردتين، ولا تدري بما يحدث في الخارج، وحين سمعت طرق الباب، رفعت رأسها وقالت بنبرة مكتومه: اتفضلي يا ماما سحر.

جاءها صوت الهادئ من الخارج: أنا سليم مش سحر.

تنهدت ومسحت وجهها بكفيها، فكانت تلك أول مرة يتحدثان منذ ليلة أمس، قالت بصوت متعب: معلش يا سليم أنا مش قادرة أتكلم دلوقتي.

رد من الخارج بإصرار رقيق: بعد إذنك يا ماسة، عايز أتكلم معاكي في حاجة مهمة.

تنهدت ماسة مجددا، ثم وقفت واتجهت نحو الباب، فتحته بتردد، وقبل أن تنطق بكلمة، وحين وقعت عيناها على الممر المزين بالشموع والورود، فعقدت حاجبيها بدهشة، وخطت خطوة إلى الخارج.

تحركت عيناها ببطء بين الورود والشموع، وهى تردد باندهاش: إيه ده؟

ابتسم سليم وهو يتابعها، بتوتر: كنت متأكد إنك مستحيل تنزلي معايا تحت، ولا حتى تقبلي دعوتي اننا نخرج نتعشا برة، فقولت اجبهالك لحد عندك.

سارت ماسة ببطء، ويدها تمر على بتلات الورود، وقالت بنبرة مريرة: تفتكر إني لسه صغيرة وبيضحك عليا بالحاجات دي زي زمان؟

هز سليم رأسه سريعا، وشرح بهدوء: أنا معملتش كده عشان أضحك عليكي؟! ولا عشان عندي نية لأي حاجة؟! أنا كل اللي محتاجه، إننا نتكلم، نتكلم وبس.

التفتت له بعينين متسائلتين بتعجب: هنتكلم في إيه؟

اقترب خطوة صغيرة، وقال بصوت محمل بالرجاء: في أي حاجه وفي كل حاجه، هنفضل ساكتين لحد إمتى؟

أشارت ماسة حولها بتعجب: والأجواء دي هي اللي هتخلينا نتكلم؟

ابتسم سليم بتوتر: الدكتور قالي إن الأجواء دي هتساعدنا نتكلم بهدوء ومن غير عصبيه زي كل مرة.

تساءلت ماسة باستغراب: دكتور مين؟

سليم بابتسامة صغيرة: الدكتور النفسي بتاعي.

اتسعت عيناها بدهشة: أنت بتروح لدكتور نفسي؟

أومأ برأسه مؤكدا: أيوه، أنا قولتلك في حاجات كتير حصلت، أنتِ متعرفيهاش ولازم نتكلم فيها.

ضيقت ماسة عيناها بتعجب:حاجات غير الدكتور النفسي؟؟

ابتسم سليم بخفه: آه غير الدكتور النفسي.

نظرت له للحظات ثم نظرت من حولها، وقالت بنبرة مزاح خفيفة: أنا مش فاهمة ليه كل مرة تعملي مفاجأة، ابقي أنا بالبيجامة وأنت قمور ومتشيك كده.

اقترب منها سليم بنظرة غزل، وابتسامة دافئة:أنتِ جميلة في كل حالاتك، مش محتاجة تلبسي وتتزوقي عشان تبقي حلوة.

ابتسمت له في صمت، قلبها ينبض بشيء من الدفء

أصبح صوت سليم أكثر رقه وهو يتساءل: هتقعدي وتسمعيني؟

ترددت للحظة، ثم أجابته بنبرة مهتزة: هو أنا لو رفضت هتحترم رأيي؟!

أجابها بهدوء: أكيد هحترم رأيك.

تنهدت، وعيناها تلمعان ببقايا ضحكة: وتضيع كل المجهود اللي أنت عملته ده؟

التفتت نحو الطاولة تتأمل الطعام، وأضافت بابتسامة: شكلك أنت اللي عامل الأكل، أنا عارفة طريقتك في التقديم، حتى ريحة أكلك مميزة.

ابتسم سليم بخفة: مش مشكلة يضيع النهارده، هفضل أعيد كل دى تاني وتالت ورابع ومليون، لحد ما توافقي.

ساد الصمت للحظات، وهم يتبادلون النظرات بصمت، شعرت بتغيير واضح فيه، تغير يريح قلبها قليلا، ويجعلها تصدقه، لكن في نفس ذات الوقت شعرت بالخوف ان يكون ذلك فخا.

تنهدت، حائرة: لا متعيدش، أنا أصلا جعانة، فعقهد أكل معاك.

ابتسم سليم إبتسامة واسعه؛ فموافقتها تعني له أملا كبيرا، ثم تحرك وسحب لها المقعد برقي فجلست عليه، وجلس بجانبها، وضع لها الطعام في الصحن.

سليم بابتسامه: دوقي الفراخ دي هتعجبك.

قطمت قطعة صغيرة، وقالت بابتسامة وهى تتذوقها: طعمها جميل فعلا، تسلم إيدك.

سليم بابتسامه دافئه: بالف هنا.

مدت ماسة يدها تلمس الورود، وارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة يخالطها حزن دفين ممزوج بحنين لتلك الأيام.

انحنى سليم بجسده نحوها، وتساءل باهتمام : مالك؟

هزت رأسها ببطء، وخرج صوتها مبحوحا: مفيش.

سليم بهدوء: طب ممكن ناكل وبعدها نتكلم.

هزت رأسها برفض: أنا مش عايزة أتكلم، هقعد آكل وبس.

رمش سليم بعينيه بيأس، وتنهد وهو يتناول ما في الشوكه: زي ما تحبي.

أكملا طعامهما في صمت يثقل المكان، لا يُسمع سوى صوت الملاعق الخافتة، وبين الحين والآخر كان كل منهما يختلس النظر إلى الآخر، وكأن العيون تبحث عما عجزت الكلمات عن قوله، فكان سليم يرفع عينيه إليها كل بضع ثواني، يتأمل ملامحها بشغف مكتوم، بينما هي ترد بنظرات يغلبها الضعف والتردد.

مرت الدقائق كالدهر، وكاد سليم أن يختنق من الصمت المسيطر على المكان، لم يعد يحتمل الانتظار أكثر؛ أراد أن يتحدث، أن يقول أي شيء، أن يخبرها كيف تغير، وما الذي جرى معه خلال الأشهر الستة الماضية.

فوضع شوكته ونظر إليها، وهمس بنبرة موجوعه:أنتِ ليه مش عايزة تتكلمي معايا؟ فات خمس ايام؟!

رفعت ماسة عينيها نحوه ثم عادت إلى صحنها وقالت ببرود متألم: الكلام مش هيفيد في حاجة، إحنا قولنا كل حاجة خلاص.

سليم باعتراض واصرار: لا، لسه في كلام كتير متقالش، وحاجات كتير اتغيرت ول....

قاطعته وعيناها تكاد تدمع: عشان روحت لدكتور نفسي يعني؟

تنهد باستهجان وضعف: ليه مستهونة بالموضوع كده؟

هزت ماسة رأسها، وقالت بضعف: مش قصه مستهونه بس أنا متأكدة مفيش حاجة هتتحل و..

قاطعها بنبرة عقلانية ورجاء: ماسة من فضلك خلينا نتكلم بهدوء، من غير عصبية ولا عناد، تعالي نفتح الجرح، وكل واحد فينا يقول كل حاجه مزعلاه، عشان لما نيجي نقفل الجرح نقفله على نضافه، أنتِ بتحبيني وأنا بحبك، تعالي ندور على المشكلة ونحلها، ونشوف ليه وصلنا للي وصلناله، بعد كل الحب اللي كان بينا!؟ ولو معرفناش نحاول تاني وثالث لحد منوصل..

صمت لحظه، ثم ابتسمت بضعف وكأنه يذكرها: فاكره يا ماسة لما قولتيلي قبل كده هنفضل نفكر لحد منلاقي حل!؟ عشان احنا بنحب بعض ومنقدرش نعيش من غير بعض..

اشاحت ماسة بوجهها إلى الجهة الأخرى، وعيونها مغرورقة بالدموع، كان الوجع يتملكها فهي لم تستطع أن تواجه عينيه؛ تخشى أن تضعف أمام ذلك العشق الذي مازال يسكنها رغم كل شيء، هي تعلم أنها مازالت تحبه، بل تعشقه، لكن الغفران صعب، وتجاوز ماحدث أصعب، كانت تستمع إلى صوته وقلبها يعصف بها، ويضج بألم يعجز عن احتماله.

بينما هو مازل يتحدث دون انقطاع بنبرة مرتجفه بين الرجاء والخوف، وأضاف بعشق يخرج من عينه:  ماسة، أنا بحبك، وعمري ماحبيت حد غيرك، ومستعد أخسر الدنيا كلها علشانك، عارف إني ظلمتك كتير، وعارف إنك استحملتي فوق طاقتك، يمكن مسحت لحظات كتير حلوة بينا بسبب اخطائي، رغم إن هي ممكن تكون عددها صغير بس جرمها كبير، لكن ربنا بيسامح حتى لو الإنسان كفر بيه ورجع تاب بعدها توبه حقيقه وصادقه ربنا بيسامحه، ليه أنتِ مش عايز تسامحيني؟!

صمت للحظة، يترقب منها كلمة واحدة، لكنها كانت غارقة في صمت يشبه الوجع، ملامحها تحكي أكثر مما قد تقوله

فتابع كأنه غريق يستنجد بقشه  بنبرة أمل: طب بلاش تسامحيني، انا بس عايزك تديني فرصة، فرصة تشوفي فيها سليم اللي اتغير، وياستي لو زعلتك تاني وقتها يبقي حقك تسيبيني، بس أدى نفسك فرصه تشوفي التغيرات دي، عشان تقدري تسامحي، تعالي نروح للدكتور هو عايز يشوفك، لأن أنتِ كمان محتاجه تتعالجي زيي، انا عارف اللي حصل في الليله الملعونه دي صعب تنسيه، بس احنا مع بعض هنتخطاه، انا هعرف اداوى جرحك، وبعدين يعني المفروض علاقتنا وحبنا لبعض أكبر من أي أخطاء..

تمتمت ماسة بمرارة: حبنا أكبر من أي أخطاء؟! اهي هي دي خزعبلات الحب إللى دمرتنا.

سليم بنبرة موجوعه وخائفه: وهو أنتِ كرهتيني؟!

صمتت نظرت لاسفل، فأعاد السؤال بنبرة أكثر وجعا: ردي عليا كرهتيني؟

رفعت ماسه عينيها المغرورقتين بالدموع ببطء، والوجع يفتك بقلبها، وقالت بصوت متقطع ضعيف: لا مكرهتكش، حاولت لكن معرفتش، لدرجه إني قاعده باكل معاك وقادره أكل من ايدك بعد كل اللي عملته فيا، حاولت أنساك وأخرجك من قلبي معرفتش، كأني ملعونه بيك..

وأضاف بنبرة مريرة، ودموع تتساقط بلا توقف: مكرهتكش، ولسه بحبك، بنفس القوه والجنون والضغف، مش بعرف غير أني أحبك، مهما ظلمت وقسيت، مهما عملت فيا بحبك، قلبي مبيعرفش غير إنه يحبك...

وتابعت بضعف شديد وهي تهز رأسها، وتضع يديها على قلبها: بس لحد هنا مش قادرة، والله ما قادرة..

ارتجف جسدها، وقالت بنبره مهزوزة، ممتلئة بالكسره: كل مرة بقعد أقول لنفسي أنا مستحيل أسامحه وارجعله، بس بلاقي قلبي وعقلي الاتنين بيتفقوا عليا ويدورولك على حجج عشان يسامحوك بيها، احنا فعلا حبنا لبعض أكبر من أي أخطاء، لأن برغم كل حصل منك لسه بحبك بنفس القوة والشدة!؟

غطت وجهها بيديها لحظة، ثم رفعت رأسها، وأضافت بنبرة مرتجفة ببكاء: حاولت أكرهك حاولت أطلعك من قلبي الملعون، معرفتش، كنت بصلي وأقول يا رب خليني أكرهه، بس لقيت نفسي بدعي يا رب خليه يبقى كويس؛ عشان منبعدش عن بعض..

وتابعت بنبرة مكتومه، ووجع قطع نياط قلبها: بس لحد هنا كفايه، احنا فعلا بنحب بعض أوى، ومنقدرش نعيش من غير بعض، لدرجة اننا بسبب حبنا الكبير لبعض وجعنا بعض، وأنا استكفيت وجع، مش هقدر أتوجع تاني..

اخذت أنفاسها، وأضافت بنبرة محشرجه: زمان كانت فكرة إني أبعد عنك مستحيلة، أموت ولا تبعد عني، بس دلوقتي بعد اللي حصل، فهمت إن مش كل اللي بنحبه لازم يفضل معانا؟! ممكن نفضل نحبه حتى وإحنا بعيد لأن ده الأصلح، إحنا صحيح بنعشق بعض، بس مش عارفين نعيش مع بعض، خلينا نبعد، ولسه في قلبي حب ليك.

كان سليم يستمع إليها وقلبه يعصف به الألم، دموع ساخنة ملأت عينيه، والغصات تتراكم في صدره، تضخ وجعا في قلبه بصمت قاتل كاد أن يرد عليها.

لكنه توقف حين أشارت ماسة بإصبعها، اعتدلت في جلستها، وقد اكتسبت نبرتها قوة ممزوجة بالمرارة، وقالت: عايز تتكلم بهدوء وعقلانية من غير عند؟ تعالى نتكلم بهدوء وعقلانية، هنتكلم في ايه بظبط؟! هنتكلم على حبسك ليا واسلوبك وشك فيا اللي وصلني اني افكر ابعد عنك بسببه؟! ولا لا بلاش دي، خلينا في السنه اللي حبستني فيها وضربت اخويا بالنار، ولا بلاش دي كمان، نتكلم مثلا أنك ارغمتني اني اقطع علاقتي بسلوى وعمار عشان عملوا حاجه مش على هواك؟! عشان دافعوا عن اختهم، برغم انك لو كنت مكانهم كنت هتعمل كده واكتر؟! بس لا لا ازاي عمار يدافع عن أخته ويقف في وشك، فتحرمني منه هو وسلوى، وتقولي هجبلك امك وابوكي ويوسف لما يجيني مزاجي، ولو عملوا حاجه كده أو كده، انا مش عارف ممكن اعمل ايه؟! 

مسحت دموعها وهزت رأسها، وهي تلوح بيديها امامه، وواصلت بانين: ولا اقولك سيبك بقى من السنه دي عشان أنا كان عندي استعدادا انساها واخلقلك حجج زي مبعمل علطول واسامح، عشان قلبي ده ملعون بيك وبيحبك، بس خد بالك أنا وقتها كنت لسه بشوف فيك سليم حبيبي "كراميل"، عشان كده قولتلك آخر ليلة أنا حاسه اني خلاص بدأت احن بس اصبر عليا شويه، بس أنت مصبرتش.

ذات صوتها وجعا وقهرا، وهى تركز النظر داخل عينه: هو أنت فاكر إن المشكلة بينا هتبقى الليلة دي وبس؟! تبقى غبي، لأن مشكلتنا أكبر من الليلة دي واللي حصل فيها؟!

تابعت بوجع خنق نبرة صوتها: حتى لو كنت تحت تأثير مخدر، أنا هنسى كل ده واتعامل معاك كزوج تاني ازاي؟!
هنسي ازاى ضربك ليا!؟ هنسي ازاى كسرتي لحظه ما حاولت تاخدنى بالعافيه!؟ هنسي ازاى نظرة عينك وأنت بتخنقني وانا بتوسلك ترحمني ؟!

مسحت دموعها، وقالت بصوت متحشرج: طب لو هتقدر تنسيني كل ده؟! هتقدر تنسينى لحظه الجري في الشارع بقميص النوم في عز الليل وأنا مضروبه وخايفه؟! ولولا إني قابلت مصطفى الله أعلم كان حصلي إيه؟! بلاش دى، طب الثلاث أيام اللي نمتهم في الشارع، ولحظه أن في واحد اتهجم عليا، واني كنت هقتل إنسان حتى لو دفاع عن النفس، قولي أزاي هتقدر تنسيني ليالي مبتروحش من بالي لحظه، بقيت جزء مني ومحفوره في ذكرياتي زي الوشم ؟!

رمش سليم بعينيه في صمت، ودموعه تترقرق بألم يمزق القلب، لكنه لم ينطق، اكتفى بأن يصغي لوجعها في صمت موجع مثله.

انسابت دموعها، وصوتها صار أثقل: ولا إني قعدت سنه ونص مشوفتش أهلي، وبكلمهم بالعافية عشان خايفة عليهم منك، ولا إني عشت سنة كاملة مستنية منك وعد إنك مش هتأذيهم، ومقدرتش تقوله، هنتكلم في ايه ولا في ايه قولي؟!

مسحت دموعها، وأخذت أنفاسها، وأضافت بنبرة مليئه بالخذلان: طب لو اتكلمنا في كل ده؟! وحصلت معجزه وقدرت تنسيني، هتعرف ترجعلي الراجل اللي حبيته، اللي زمان وأنا صغيرة أول ماضربني بالقلم قولتله أنا مزعلتش على القلم، أنا اتوجعت لإنك طلعت زيهم، بس أنت طلعت أسوأ منهم يا سليم.

أخذت نفسا عميقا، واقتربت بجسدها أكثر، وارتسمت على وجهها ملامح الصراع بين الحب والخذلان، وقالت بصوت مخنوق بالدموع: أنت عارف أنا حبيتك ليه؟ علشان كنت بحس بالأمان اللي معرفتش معناه غير وأنا في حضنك، كنت بقول حتى لو أنا في قفص مليان أسود، طول ماسليم معايا مش هتهز.

صمتت لحظة، قبل أن تضيف بوجع أشد: لكن دلوقتي؟! أنا مش هخاف من الأسود، أنا هخاف منك أنت.

رفعت رأسها تحدق في عينيه، والدمع يلمع في وجنتيها: أنا رسمتلك صورة كبيرة جوايا، صورة راجل بيحمي ويطبطب، بس أنت اللي كسرت الصورة دي وكسرت قلبي معاها، أنا مكنتش بدور غير على الحنان والأمان، وأنت في الأول إديتهملي وخلتني أصدقك، وفجأة خطفتهم مني من غير رحمة.

قربت وجهها من وجهه، وصوتها إزداد ثقلا وإصرارا: قولي، هتقدر ترجعلي الراجل ده؟ هتقدر تحسن صورته تاني قدامي؟

رفع عينيه إليها وهز رأسه بإصرار، وقال بنبرة مكتومة: هقدر، بس أنتِ اديني فرصه

هزت رأسها بنصف إبتسامة خذلان، وهي تأخذ انفاسها بيقين: استحاله هتقدر، وهي دي مشكلتنا، مشكلتنا فيك أنت، اللي حصلي ده، هيحصلي تاني وثالث والف بس بشكل مختلف، لأن أنت المشكلة، سليم هيفضل سليم استحاله يتغير. 

اسندت ظهرها على المقعد، وهي تمرر عينيها الحمراء عليه، وارتسمت على وجهها نصف ابتسامه مقهورة: أنا مصدقة إن صافيناز حطتلك الحباية والله، ومش هنكر، إني بعد كل اللي قولته وعشته بسببك، لسه بحبك، ونفسي أسامحك، بس مش قادرة، ولا عارفة.

اختنقت نبرة صوتها بانين: الكام يوم اللي فاتوا دول حاولت أتخطى وجعي، وأفتكر كل الحاجات الحلوة عشناها سوا، وأقول لنفسي يا بت، ده مش هو! يا بت، ده أخته الحية السبب، سليم استحالة يعمل كده، بس أنا كل مابشوفك، مبشوفش غير نظرة عينك ليا في الليله دى، لقيت إني مش عارفة أتعامل معاك كزوج تاني، كل ماهتقرب مني هفتكر وهتوجع، أنا أصلا بقيت بخاف منك، في حاجات بتعلم في القلب، ولما بتتكسر مستحيل تتصلح.

كان سليم يصغي إليها بصمت، وعيناه مغرورقتان بالدموع، كلماتها تنهال عليه كسياط يشق صدره حتى العظم، كل جملة تنطق بها لا تفتح جرحا جديدا فقط، بل تقتلع ماحاول دفنه داخله، فما حدث بينهما لم يعد مجرد ذكرى، بل لعنة تطارده وتحول دون غفرانها، فالحمل صار أثقل من أن يمحي، حتى لو كان مظلوما، فتلك الليلة لم تترك ندبة فحسب، بل نزيفا لا يتوقف، وما تلاها جعل الألم يتوحش بداخله، يأكله قطعة بعد أخرى.

نهضت ونظرت له، وقالت بنبرة موجوعه: خلاص، اتكلمنا بالعقل من غير خناق ولا عناد!؟ فتحنا الجروح زى ما أنت عايز، بس الجروح مش هتتقفل بسهولة ولا هتشفى ابدا.

تحركت بعض الخطوات مبتعدة لكنها توقفت حين استمعت لصوت سليم.

كان واقفا، ينظر إليها بعينين مغرورقتين بالدموع، وهو يقول بوجع يقطع نياط القلب: بس أنا لسه متكلمتش، أنا سمعتك، بس أنتِ مسمعتنيش يا ماسة.

التفتت له بوجع، وقالت بنبرة متكسرة: هدافع عن نفسك، هتقول إيه؟!

أخذ سليم نفسا عميقا، ومرر يده على وجهه المثقل بالوجع: أنا مش هدافع عن نفسي، أنا عارف إني غلطت، وعارف إنك عشان تصدقيني أو تقبلي اعتذارى وتسامحيني، لازم تشوفي بعينك إني اتغيرت المرة دي بجد ومش فترة وهرجع تاني للصفر.

تقدم حتى وقف بالقرب منها، وقال بابتسامة أمل حزينة: أنا المرة دي مروحتش للدكتور عشان أبطل غيره مجنونة واضربك لما انفعل؟! واغمض عيني عن باقي المشاكل أو انكرها، أنا روحتله، علشان أكون إنسان كويس، واتجرد من تعاليم الراوي الفاسدة اللى بتجري في دمي.

ارتجف صوته، وأضاف وهو يركز النظر في ملامحها: عارف إن أخطائي صعبة، بس لازم تبقي عارفة إني عمري ماكنت قاصد أجرحك، ولا أوجعك ولا كنت أحب ابدا إنك تعيشي كل دي بسببي يا ماسة.

خفض رأسه لحظة، ثم رفعها بعينين غائرتين: أنا بعد الحادثة فعلا صحيت واحد تاني، مبقيتش سليم اللى أنتِ حبتيه، فوقت واحد تاني خايف ومكسور وموجوع، حاجات كتير عقلي مكانش قادر يتحملها، واكتر حاجه كانت قتلاني، اني كنت خايف يحرموني منك، صور اليوم ده مفارقتش خيالي لحظه، والكوابيس مكانتش رحماني، لا وأنا نايم ولا وأنا صاحي، أنتِ كنتي ديما تقولي إني بخرج وبشتغل وعايش حياتي! بس أنا كنت مسجون في سجن أصغر بكتير من سجنك يا ماسه..

ثم أشار نحو عقله بنبره مهتزه: مسجون جوه أفكارى وخوفي اللى بقي ملازمني زى ضلي، كنت كل ما أغمض عيني ثانيه بشوف الحادثه كأنها بتحصل قصاد عيني من تاني، ولما افتحها خيالي مكانش بيرحمني، كنت فجأه بشوف صورتك قصاد عيني بتصرخي، بتطعني، بتدبحي، الف سيناريو وسيناريو ابشع من بعض، حتى وأنتِ نايمه جوه حضني كنت بشوفهم بيقتلوكي، كنت بقوم مفزوع وأفضل ابصلك علشان اتأكد إنك كويسه وبخير، أنا كنت بتمنى ليلة واحده أنام فيها مرتاح، ليلة واحده من غير خيال ولا وجع، هما عرفوا ازاي يكسروني فعلا..

ثم أضاف بصوت حزين باكي وهو ينظر داخل عينيها: ماسة أنا شوفتهم وهما بيموتوكي أنتِ وبنتنا، وأنا واقف متكتف مش عارف اعمل حاجة؟! شايف مراتي بتموت قدام عيني هي وبنتي ومش عارف ادافع عنهم ولا احميهم، كل اللي كنت عايزه بس إني أوصلك وأموت جنبك، يمكن تطمني ومتموتيش وأنتِ خايفه، ولما صحيت وعرفت إن محدش وصل لحاجة، ولسه في خطوره على حياتك، الخوف أتملك مني وبقى هو المسيطر على كل تصرفاتي، ولقيت نفسي بقفل عليكي عشان احافظ على حياتك، مكنتش اقصد اخنقك ولا افرض سيطرة، قد ما كان نفسي احميكي، بس أنا خوفي موقفش لحد هنا يا ماسة؟!

رفعت عينيها نحوه بتمعن، نظراتها مليئة بالأسى والحزن، وهي للمرة الأولى تدرك عمق الألم الذي عاشه بمفرده.

وواصل وهو يهتز من الألم والخوف كأنه يشرح اوجاع قلبه الذي كان يخبئها لسنوات ولا أحد يعلم عنها شيء: خوفي بدأ يكبر ووصل اني بدأت اخاف منك؟! خوفت تسيبيني بسبب عجزي وبسبب الخلفة لأني مش هقدر احققلك امنيتك؟ كنت بتزعليني منك أوى لأنك لأول مره مكنتيش فاهمه خوفي، وكنتي شيفاه فرض سيطره وبس، برغم اني حاولت كتير افهمك بس أنتِ مفهمتيش.

تجمدت كلماته في صدرها، اتسعت عيناها كمن تلقى صفعة، لم تفهم في البداية، أكان ما سمعته وهما أم حقيقة نطقها بشفتيه المرتجفتين؟، فلم يخطر ببالها يوما أنه يشعر بذلك العجز، وهي التي أحبته بكل ما فيه، فرفعت عينيها إليه ببطء، ونظرت له نظرة امتزج فيها الذهول بالشفقة، والعطف بالحب، وتساءلت بصوت خافت، مبحوح يتخلله الذهول والصدمه: أنت أزاى تفكر إني ممكن أسيبك علشان كده؟ سليم أنا عمرى ما..

فقاعطها باشارة من يده، وتابع بصرامه متعزعزه، وصوته يهتز بين التساؤل والعتاب: لو سمحتي يا ماسة سبيني أكمل كلامي، لأن أنا خوفي منتهاش لحد هنا؟! أنا كمان مكونتش حاسس بالأمان زيك، مش أنتِ بتقولي إن تهديدي ليكي ولأهلك خلاكي متحسيش بالأمان؟!

رمشت بعينين تلمعان بالحزن والوجع، فصمتت لتفسح له المجال ليكمل حديثه.

فتابع بمرارة متزايدة، وكأن الكلمات تختنق في حلقه: أنا كمان مكنتش حاسس بالأمان بسبب ردود أفعالك الغريبه، أنتِ اتغيرتي فجأه من غير سبب وبعدتى، حسيت إنك ممكن تسيبيني وبقي عندك استعداد تعيشي من غيري.

رفع سليم يده المرتجفة نحو صدره، وأضاف بخذلان وقهر: لما هربتي أول مرة من غير سبب، برغم إن قبلها كنا متفقين نبقى كويسين مع بعض ونبطل خناق، لكنك اخدتي قرار ومشيتي فجأه، وعرضتي نفسك للخطر، وبرغم كده عدتها وفضلت أوجدلك ألف عذر وعذر، وقولت كفايه عليها الموقف اللي اتحطت فيه.

ثم أرتفع صوته قليلا، والحزن يلتف حول كلماته: بس لما هربتي تاني مره، وقتها أنتِ متعرفيش أنتِ خلتيني أحس بإيه، وأنا بسأل نفسي أنا عملت ايه غلط علشان تهربي تاني؟ هو أنا للدرجة دي مستاهلش حد يحبني ويفهم خوفي ويتحملني شويه؟!

تنفس بعمق، وظهرت على وجهه مرارة قبول مؤلم: لحد ماوصلت لإجابة مقنعة، إن أمي نفسها محبتنيش ولا اتمسكت بيا، أنتِ هتحبني وتتمسكي بيا ليه؟ فبصراحة شكلي فعلا مستاهلش حتى المحاولة !!

وحين استمعت ماسة لتلك الكلمات، غص قلبها من الألم، وانهمرت دموعها بوجع، هزت رأسها بلا، وكادت هذه المرة أن تنطق لتدافع عن نفسها، وتروي له مع حدث من تهديدات رشدى لها، ولكنه قاطعها باشارة من يده، لكي يكمل حديثه، فآثرت الصمت لتستمع لكل ما يختلج في صدره.

واصل سليم وصوته يختنق بين القهر والانكسار: كسرتيني وقتها أوى يا ماسة، فقدت السيطرة بشكل كامل، وكنت زي الطير الجريح اللي اتطعن وعمال يتقلب ويصرخ من كتر الوجع، ودمه بيلطخ المكان حواليه، بس الحقيقة إنه مكنش بيصرخ من وجع الطعنه، كان بيصرخ من خذلانه لما رفع عينه وشاف مين اللى طعنه الطعنه دى.. 

ارتعش وجه ماسة، ورفعت عينيها نحوه، تشاهد كل ما يبوحه به قلبه الممزق من الوجع، وكأن كلماته تطعن قلبها بشدة.

ركز النظر في ملامحها، وهو يشير باصابع يديه باتهام:  انا مكنتش السبب لوحدي إن الامور توصل بينا لكده؟! أنتِ كمان كنتي سبب يا ماسة، لاني رغم وجعي وكسرتي منك، جيتلك وقولتك كفايه بس أنتِ عاندتي. 

ثم احدت نبرته: بتلوميني علشان مقدرتش اديكي وعد بالأمان لأهلك، طب أوعدك ازاى وأنا نفسي مكنتش حاسس بالأمان، فاكره لما كنتي بتطلبي الوعد دى كنتي بتطلبيه أزاى؟! كنتي بتقولي" افرض جت في دماغي فجأة امشي هتعمل ايه؟" كلامك لوحده كان بيأكد لي إنك عندك استعداد تمشي، فخوفت وكرامتي اتجرحت، عشان كده عملت اللي عملته.

قلبت وجهها بضجر ورفعت حاجبها ووضعت يدها على خصرها، وكادت أن ترد، لكنه لم يمنحها الفرصة، وتنهد موضحا بألم، وهو يثبت النظر في عينيها: أنا مش ببرر أنا معترف إني غلطان، وغلطتى ملهاش تبرير، أنا بس بفهمك انا عملت كده ليه؟! صحيح كان ممكن اتصرف بشكل تاني، بس..

صمت لحظة، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة حزينة، وقال بمرارة وهو يحدق في الفراغ، وكأن الكلمات تكافح لتخرج من صدره: بس أنا ماتربيتش غير كده، فايزة وعزت قالولي لما تحب تسيطر على حد، امسكه بأكتر حاجة بيحبها، من نقطة ضعفه، فعملت كده.

نظر إليها بصدق مؤلم، ثم تابع بنبرة أخف، محاولا التبرير: معملتش كده عشان أخوفك او امتلكك، أنا عملت كده عشان أحافظ عليكي، عشان تفضلي معايا ومتسبنيش، عارف إن الطريقة غلط، بس اعمل ايه لسه دم الراوي الفاسد بأفكاره الفاسده القذره عايشه جوايا.

اقترب اكثر وامسك يديها وهو ينظر داخل عينيها بوعد صادق: بس خلاص يا ماسة كل ده هيتغير صدقيني، أنا بتعالج دلوقتي، والدم الفاسد ده أنا هخلص منه مهما كلفني الامر.

ثم قف أمامها مباشرة، ووضع كفه على خدها برفق، وصوته يفيض صدقا ممزوجا بالعشق، وعيناه تلمعان بالدموع. بينما رمشت هي بصمت، وشعرت بقلبها يضعف ويهتز، واستمعت لكل كلمة كما لو كانت موسيقى تخترق أعماقها: صدقيني كل اللى عملته لإني مكنتش عايزك تروحي مني، كنت عايز أحافظ على حبك، لإن إنتِ الوحيده اللى حبتني حب صادق من غير شروط أو مقابل، فاكره يا ماسة لما قولتلي اوعى في يوم يا سليم اجي اقولك طلقني توافق، اتمسك بيا حتى لو انا اتعصبت متسمعنيش؟! أنتِ هادي عني وأنا مجنونة؟ وأنا وعدتك وادينى اهو بنفذ وعدى وبتمسك بيكى.

سحب يده من علي خدها، ثم أمسك يدها بقوة، وقال بصوت مليء بالندم: يمكن لو كنت سمعت كلامك وكملت علاجي وقت ماقولتيلي ارجع لمروان مكناش وصلنا لكده، كنت غبي وقتها، ومكنتش مقتنع إني مريض، كنت شايف إن خوفي طبيعي بالنسبه للى اتعرضناله، لكن دلوقتي اهو روحت للدكتور، وبدأت أتعالج، وهنكمل الرحلة سوا ايدينا في ايد بعض، وهننجح، لأننا بنحب بعض.

واصل وعيونه تلمع بالأمل والخوف معا: والله يا ماسة، لو مكنتش ماشي في الطريق الصح، كنت هقولك عندك حق، لكن المرة دي مختلفة صدقيني، يعني أنتِ صبرتي عليا عشر سنين؛ وجايه دلوقتي تبعدي عني لما أخيرا مشيت صح؟ صدقيني الست شهور اللي فاتوا، كسروني وعرفت فيهم معني الوحده والوجع، عارفه، كنت برجع كل يوم اتخيلك قدامى واقعد احكيلك عملت ايه علشان اتونس بيكي في وحدتي، مش قادر أقولك إحساس قاسي قد إيه إنك تعيشي الوهم وأنتِ عارفة إنه وهم ولما تفوقي منه هتتوجعي أكتر، فصدقيني الفترة اللى أنتِ بعدتي عني فيها فهمت حاجات كتير مكنتش فاهمها، فهمت إن كل رد فعل غلط كان بدافع الحب، بس حب غلط، دلوقتي اتعلمت أزاى أحبك صح، معقوله مش شايفة أي تغيير؟

كانت ماسة تصغي إليه والدموع تنحدر من عينيها كأنها تغسل وجع السنين، دموع حارقة تترك على روحها ندوبا لا تمحى، وقلب يتمزق بوجع المسامحة.

قلبها يصدقه ويؤمن أنه تغير حقا، أما عقلها فكان يهمس في أعماقها؛ ليست المشكلة فيما كان، بل في كيف ستبدئين من جديد مع رجل كسر شيئا في أعماقك، ثم عاد يطلب أن يكون زوجك مرة أخرى.

أمعن سليم النظر في ملامحها، وفهم من تعبير وجهها أنها عالقة بين الغفران والرفض، بين قلب يريد أن يسامح، وعقل لا يستطيع.

فاقترب منها ببطء، وضم كفها بين كفيه، وقال بنبرة يملؤها الشغف والحب: بصي أنا عارف إننا مرينا بحاجات صعبة، بس أحنا هنتخطي كل دى مع بعض، تعالي نروح للدكتور سوا، واللي يقول عليه ننفذه بالحرف، ووعد يا ماسه لو غلطت تانى أو عملت حاجه تضايقك هسيبك وأنتِ عارفه سليم مبيرجعش في وعوده.

تراجعت ماسة خطوة إلى الخلف، سحبت يدها ببطي وهي تحاول الثبات، وهزت رأسها بيأس، وخرج صوتها أخيرا بنبرة مبحوحة: لا في دي بالذات سليم هيخلف وعوده عادي.

امسك يديها ووضعها على قلبه برجاء: جربيني، ماسة عشان خاطري كفايه بعد ووجع، خلينا ندي بعض فرصه أخيره.

سحبت ماسه يديها ببطء، واشاحت بوجهها بعيدا عنه، وخرجت كلماتها بنبرة متقطعه: مش هقدر، أنت هترجع تعمل نفس الأخطاء تاني، سليم هيفضل سليم، روحت للدكتور؟ طيب ما أنت روحت لمروان قبل كده وفضلت كويس لفتره ورجعت تاني، ودلوقتي هتبقى كويس فتره، بس مع أول غلطة منى ..

ثم تابعت وهي تنظر إليه في مرارة: هترجع لنفس الأسلوب والتهديد، وهرجع أعيش نفس الوجع والخذلان من تاني، وهتيجي تقولي آسف أصلي متربي كده ومبعرفش أعمل غير كده.

رفع يده وضم كتفيها بكفيه، وهو ينظر داخل عينيها بإصرار ووجهه محمل بالرجاء واليقين:المرة دي مختلفة، والله المرة دي مختلفة صدقيني، علش...

قاطعته ماسة بحده واستنكار: مختلفة؟! عشان أنت روحت للدكتور؟ ما أنت روحت قبل كده إيه المختلف المره دى؟!

سليم بصوت متلعثم لكنه جاد:مختلفه علشان عملت العملية. 

ساد الصمت للحظات، نظر سليم إليها بتوجس، يترقب رد فعلها على كلماته، وعيناه تبحثان في صمتها عن أي إشارة تطمئنه.

رفعت ماسة عينيها ببطئ، تحاول جاهدة أن تستوعب ما سمعته، رمشت بعينيها وتساءلت بصدمه ونبرة مكتومه: عملية؟! عملية إيه؟ 

ابتلع سليم ريقه، وامسك كفيها يضغط عليهم بحنان، وهو يقول بصوت هادئ في محاولة للسيطره علي العاصفه التي على وشك الانفجار: العمليه، شيلت الرصاصه. 

تلعثمت، وعيناها تتنقلان بينه وبين الفراغ، خرج صوتها مبحوح، يملؤه الارتباك: رصاصة إيه؟ مش فاهمة!؟

وفجأة، اتسعت عيناها بذهول، كأن الحقيقة انغرست في قلبها مباشرة، تجمدت ملامحها، بدأت تستوعب أن سليم أجرى العمليه دون وجودها بجانبه، وكان من الممكن ألا تراه مرة أخرى.

ماسة بصدمة، بصوت متقطع يخرج بصعوبه: أنت ... أنت عملت العملية بجد؟

ابتسم سليم ابتسامه خافته، وقال بنبرة هادئة لكنها نفذت إلى قلبها كسكين: أيوه عملتها، أمال أنا كنت مسافر ليه كل الشهور دي؟

ارتفع صوتها فجأة، خليط بين الغضب والوجع وكأنه طعنها بخنجر مسموم: يعني أنت كنت مسافر كل الشهور دي، عشان بتعمل العملية؟

مد سليم كفه محاولا تهدئتها، وهو يقول بصوت منخفض: اهدي طيب هفهمك.

لكن ماسة لم تعد تسمع كلماته، اتسعت عيناها، وصراخها انفجر كالمطر الغزير الذي لا يرحم، وصاحت بصراخ مشحون بالمرارة: اهدي ايه وتفهمني اييييه؟! هو أنت بتعمل فيا كده ليه؟! أنت بجد بتعمل فيا كده ليه؟! ليه مبتعملش حاجة غير إنك توجع ماسة وبس؟!

انهارت فجأة، كأن كل أوجاع السنين تتسارعت للخروج دفعة واحدة، فرفعت كفيها تضربه صدره بغضبٍ جارف، كل كلمة تصاحبها ضربة، وكل ضربة تحمل وجع دفين: إزاي تعمل فيا كده؟ إزاي تعمل العملية وأنا مش معاك؟! افرض حصل لك حاجة؟! كنت هعمل إيه وقتها؟! كان ممكن يحصل لك حاجة ومشوفكش تاني؟! ازاي مفكرتش فيا وفي اللي هيحصل لي لو كان جري لك حاجه؟ ازاي تحرمني إني أكون جنبك في لحظه زى دى؟!

كان سليم واقفا يتلقى غضبها بصمت، جسده يترنح قليلا للخلف تحت وقع يديها المرتجفتين، لكنه لم يرفع يده ليمسكها أو يمنعها، الدموع انزلقت من عينيه ببطء، كأنها تعترف بذنب لا يستطيع إنكاره، متفهما عمق خوفها وجرحها.

واصلت ماسة دون توقف، وهي تصرخ بمرارة هستيريه، وصوتها يتقطع وكأنه ينزف: أنت مبتعملش حاجة غير إنك توجعني وبس! سليم هيفضل سليم، أنت مبتتغيرش وإن اتغيرت بتتغير لأسوأ.

أخيرا، رفع يده ليمسك بكفيها المرتعشتين، جذبها نحوه، ونظر في ملامحها المرتبكة بنظرة تفيض بالصدق والعشق، وقال بصوت متقطع: كان كل هدفي لما ترجعي تلاقيني فعلا سليم حبيبك

هبطت يدها ووضعتها على قلبها، تشعر أنها تفقد توازنها بين غضبها وحبها، وانفجرت تبكي بمرارة، والكلمات تخرج من بين شهقاتها بصعوبة، بنبرة مكتومة: مش مرضك السبب يا غبي، مش العملية اللى هتخلينا كويسين، أنت السبب، أنت!

بكت بانهيار، فجذبها سليم إلى صدره، ضمها بحرقة، كأنه يريد أن يمحو كل لحظة غابها عنها بعينين اغرورقت بدموع، دموعها انسكبت على كتفه، وصوتها المرتجف يذوب في العتاب: إزاي؟! هان عليك تعملها وأنا بعيدة عنك؟! إزاي تحرمني أشوفك وابقي جمبك؟!

ابتعدت عنه قليلا، تتفحص ملامحه بقلق، وتلمس وجهه بأناملها، وهي تردد بصوت متقطع باكي: طب أنت كويس؟

هز سليم رأسه، ورد بخفه: أنا كويس اهو، أومال عرفت أجرى وراكي ازاى!؟

صاحت بضجر، وهى تلوح بكفها: أنت بتهزر !!

امسك سليم كفها، وهو يركز النظر في عينيها، وقال بنبرة حانيه: مكانش اختياري يا ماسة، كنت مضطر، الرصاصه اتحركت كان ممكن اموت 

صدمت ماسة للمرة الثانية، عيناها اتسعت وكأن الهواء شبه انقطع من صدرها، سحبت يديها من بين يديه، ووضعت يدها على قلبها الذي كاد يتوقف من قوة نبضاته

ماسة بنبرة متقطعة: تموت ازاي؟

رفع سليم عينه، وقال بحسرة: الدكتور قالي قبل هروبك بسنه، إن الرصاصة مكانها اتحرك ولازم أعمل العمليه.

صاحت بكلمات تخرج من جوفها ببكاء: سنة عايش معايا وممكن تموت في اي لحظه ومتقوليش؟ أنت بتفكر ازاي؟! ازاي بجد؟! ازااااي.

مدت يدها، ودفعته بقوة: بكرهك!

ثم انهارت أكثر، وبكائها تحول إلى ضربات متتاليه، تضربه بكفيها الاثنين على صدره وهي تنهار من الألم، وتردد باختناق وبحزن قاتل: مش هسامحك ياسليم، مش هسامحك عند دي بالذات، وخلي بقى قراراتك اللي بتاخدها من دماغك يا صاحب الصوت الواحد تنفعك؟ أنا مش هقعدلك هنا، وهمشي، وهتطلق منك.

حاولت الإبتعاد، لكن سليم أمسك يدها بإحكام، وجذبها نحوه، وهو يردد ببحه رجوليه: تعالي هنا، واهدى بقي، بلاش جنان، وخلينا نكمل كلامنا ،مش معقول يعني هنعدي كل ده وهنمسك في دي؟

سحبت يدها بعنف، وصاحت بغضب: آه همسك في دى، وهتطلقنى ومش قاعده معاك لحظه واحده.

واندفعت نحو الدرج بخطوات سريعه، تحرك سليم خلفها يحاول اللحاق، وهو يقول: طب أهدى طيب نكمل كلامنا وخليني اشرحلك.

صاحت ماسه بغضب، وهى مستمره في سيرها نحو الدرج: لا عايزه اتكلم معاك ولا اسمعك، أنت هتفضل زى ما أنت مي
مبتتغيرش.

استطاع اللحاق بها عند مقدمه الدرج فأمسك يديها، وقال يحاول تهدئتها: يا ماسة اهدى بقي وبطلي جنان، قولتلك كنت مضطر، وادينى بقيت كويس قدامك أهو.

وققت أمامه، ووجهها محمل بالغضب، وقالت بقسوة ودموع: وكان ممكن متبقاش كويس، وكان ممكن مشوفكش تاني، كنت تقدر تقولي طول السنه وتعملها وأنا جمبك.

واضافت بنبره صارمه وهي تتك على كلماتها بضجر: بس زي ما قولتلك سليم هيفضل سليم، مبيعرفش يعمل أي حاجه غير إنه يوجعني وبس، وأنا هعمل فيك اللي كنت عايز تعمله فيا وهمشي ومش هتشوف وشي تاني.

شدت ماسة يدها فجأة من قبضته، بعنف وغضب عارم، وصوتها يعلو بضجر: أوعى أيدك دي

فانفلتت ذراعه من بين يديها، وفي لحظة خاطفة اختل توازنها، فانزلق كعب قدمها عن حافة الدرج، إذ اندفعت إلى الخلف، وانزلقت ساقاها على أولى الدرجات، فيما تلوحت ذراعاها في الهواء، كأنها تحاول الإمساك به.

تجمد سليم في مكانه، عيناه متسعتان وهو يشاهد سقوطها بصمت كالأموات، عاجزا عن الحراك، كانت ماسة تهوي على الدرج، تتدحرج بظهرها درجة بعد أخرى، وصراخها يخترق قلبه كسكين غائر، تابعها بعينين مذهولتين تتحركان مع كل سقوط، كأنهما تسقطان معها، أنفاسه تتلاحق، ويداه ترتجفان، لكن جسده بقي متجمدا، لا يقوى على الحراك، كأن عقله توقف للحظة، ظل هكذا لثواني، حتى جاء السقوط الأخير، وارتطم رأسها بالرخام بقوة أفزعت روحه، عندها فقط انكسر الجمود داخله، فاندفع نحوها بجنون، يهتف بصوت مبحوح مرتجف يخنقه الرعب: مااااااسة!

كأن الزمن تحول إلى كابوس مرعب، هرول سليم دون أن يشعر بقدميه وهما تهويان به إلى الأسفل، ولم يدرك كيف اجتاز الدرجات، كل ما رآه كان جسدها الممدد أمامه بلا حول ولا قوة، وملامحها الخافتة التي تتأرجح بين الحياة والموت.

أخذها بين أحضانه، وصوته يتهدج وهو يهزها بيدين مرتعشتين، والدموع تغسل وجهه، وهو يتمتم بخوف: ماسة! ماسة حبيبتي، افتحي عينيكي، أنتِ سامعاني؟!

اقترب بفمه من وجهها، أنفاسه تتلاحق، وكأنه يخشى أن تتوقف أنفاسها: متسيبنيش، بالله عليكي متسيبنيش!

فتحت عينيها نصف فتحة متألمة، ثم أغمضتهما من جديد، وحين أبصر الدماء تتدفق، وضع يده على موضع النزيف محاولا إيقافه بضغط مرتعش على رأسها، بينما كانت يده الأخرى تجذبها أكثر إلى صدره، وكأن حضنه قادر على أن يعيد الحياة إلى جسدها النازف مرة أخرى.

حملها بين ذراعيه، بدا وكأنه يحمل عمره كله على كفيه، كانت دماؤها تتساقط على ثيابه، والذعر ينهش ملامحه، ركض مسرعا نحو الباب وهو يصرخ بأعلى صوته: هاتوا عربية بسرعة.

ركض مكي نحوه، بوجهه شاحب من الخوف، يتساءل بفزع: إيه اللي حصل يا سليم؟! فيه ايه؟!

أجابه سليم وهو يضغط بكفه المرتجف على رأسها النازفة، ودموعه تنهمر بلا توقف: وقعت من على السلم، الدم مش راضي يقف، هات العربيه بسرعه.

لم تمضِ إلا لحظات حتى توقفت السيارة أمامهم، ساعده مكي في فتح الباب، فأدخل سليم ماسة إلى الداخل، وجلس في المقعد الخلفي وهو يضمها إلى صدره، كأنه يخشى أن تختفي من بين يديه، بينما جلس مكي على المقعد الامامي بجانب السائق.

اقترب سليم من وجهها الشاحب، يحاول سد النزيف بيد مرتعشة، وهمس برجاء يائس: ماسة خليكي معايا، عشان خاطري.

حاول مكي أن تهدئته، رغم صوته المرتجف: اهدى يا سليم، متقلقش، إن شاء الله بسيطة.

لكن سليم لم يكن يسمع سوى أنفاسها الضعيفة، ودموعه تهبط فوق وجهها الشاحب بلا توقف، وصوته يخرج بين البكاء والرجاء: افتحي عينك يا ماسة بالله عليكي متغمضيهاش.

ثم صاح ببحه رجوليه جهوره وهو يوجه كلامه للسائق: أنت ماشي بالراحه كده ليه، دوس على أكبر سرعه عندك، بسررعة

كانت السيارة تشق الطريق بجنون، وكل ثانية تمضي عليه كأنها دهر كامل.

في أحد المستشفيات الخاصة.

اندفع سليم من باب الطوارئ، وهويحملها بين ذراعيه ويصرخ بجنون: دكتور! عايز دكتور بسرعة!

اقترب الأطباء ومعهم الترولي، وسأله أحدهم بعمليه:
إيه اللي حصل؟

سليم متلعثما: وقعت من على السلم ونزفت كتير!

أخذها الفريق الطبي وبدأوا بإجراء الفحوصات ومحاولات إيقاف النزيف، بينما وقف سليم في الخارج يتابع ما يجري بعينين يملؤهما الرعب، يراقب حركة الأطباء المضطربة دخولا وخروجا من غرفتها، ودموعه تنهمر بصمت كأن قلبه يذوب، ثم صاح بضجر: هم طولوا كده ليه؟ وعاملين يدخلوا ويخرجوا ليه، أنا عايز حد يطمني عليها.

ربت مكي على كتفه: اهدى يا سليم ، إن شاء الله هتبقي كويسه.

ظل سليم ينتظر في ممر الطوارئ، يتحرك ذهابا وإيابا في خوفٍ وذعر وتوتر.

وبعد دقائق، خرج الطبيب فركض اليه سليم يسأله بصوت مرتجف يملؤه الخوف: طمنى عليها يا دكتور ، قولى إنها كويسه.

الطبيب بابتسامة مطمئنة: الحمد لله ، مفيش حاجة خطيرة، عندها ارتجاج بسيط في المخ، وشويه كدمات من أثر الواقعه، وجرح في الرأس عملنا له ست غرز، وكمان جزع بسيط في دراعها.

سليم بتوتر: متأكد يا دكتور؟ يعني هي كويسه؟ مفيش حاجه خطر ؟

الطبيب بهدوء: أيوه متأكد، إحنا عملنالها أشعه علشان نتأكد إن مفيش نزيف داخلى والحمد لله الأشعة بتاعتها كويسه، هى فقدت الوعي بسبب الخبطه بس شويه كده وهتفوق وتبقي كويسه، وادينها مسكنات علشان الكدمات متسببش ليها ألم لما تفوق، وعلقنا لها محاليل علشان الدم اللى نزفته، ممكن بس لما تصحي تحس بشوية صداع ودوخه ودى حاجه طبيعيه وفي خلال كام يوم هتبقى زي الفل، وبكرة إن شاء الله تخرج.

سليم بلهفه: طب ممكن أشوفها؟

الطبيب آه طبعا هي شويه كده وهتفوق، ألف سلامة عليها.

تنهد سليم براحة، وهو يهمس: شكرا يا دكتور.

ثم اتجه نحو الغرفة التي ترقد فيها ماسة، وعيناه ما تزالان غارقتين بالدموع، وقلبه يرتجف خوفا من أن تفارقه.

في الغرفه التي نقلت إليها ماسه.

دخل سليم  الغرفة فوجدها ترقد على الفراش، يلف الضماد رأسها، وملامحها هادئة لكنها شاحبة.

جلس بجانبها بحذر، يمرر يده على شعرها بحنان، ودموعه تتساقط: ألف سلامة عليك يا روح قلبي، يا ريت اللي حصل ده كان حصل فيا أنا وأنتِ لا، ربنا يحفظك ليا وميحرمنيش منك ابدا، مش عارف هتبطلي جنان امتى بقى؟

انحنى يقبل يديها المعلق بيها المحلول بحب، وهمس: إن شاء الله هتبقي كويسة، ونرجع نعيش أحلامنا سوا.

دخل مكي بهدوء، وضع يده على كتف سليم: إن شاء الله هتبقى بخير، ألف سلامه عليها.

تمتم سليم دون أن يرفع عينيه عن وجهها: يا رب .

وبعد مرور نصف ساعه بدأت ماسة تتحرك عينيها ببطء،وتعود لوعيها تدريجيا، فتأوهت بصوت خافت: ااااه.

انتفض سليم سريعا: مكي! روح هات الدكتور بسرعة.

ثم انحنى نحوها، وصوته يرتعش، يحاول أن يزرع الطمأنينة فيها بابتسامة حزينة: حمد لله على سلامتك يا عنيدة، إن شاء الله هتبقي كويسة متقلقيش، حاجة بسيطة.

حاولت أن تفتح عينيها ببطء، واخذت ترمش بعينيها حتى اعتادت على إضاءه الغرفه، فاخذت عينيها تدور في المكان بنظرات متعبة وغريبة، بينما سليم يتأملها بلهفة.

وفي نفس تلك اللحظه، دخل الطبيب الغرفة بابتسامة مطمئنة وقال: حمد الله على السلامة.

فخرج صوت ماسة ضعيفا، مرتبكا، لكن لهجتها كانت مختلفة، تتحدث بلهجتها القديمه: هو أني فين؟

لم ينتبه سليم بعد إلي طريقة تحدثها، فأمسك يدها برفق، وجهه غارق في القلق، وهو يوضح لها بابتسامة مطمئنة: أنتِ في المستشفى يا عشقي، وقعتي من على السلم، وجبتك هنا، بس متخافيش أنتِ كويسه.

رفعت يدها المرتجفة إلى رأسها، تتألم، ثم همست بصوت مرتبك: ااااه، دماغي وجعاني أوي.

ثم سحبت يديها من بين يد سليم، ودققت النظر فيه باستغراب: هو .. هو أنت مين؟

تجمد سليم في مكانه، عيناه اتسعتا بذهول، وصوته خرج متقطعا: أنا مين إزاي يعني؟!

وضعت كفيها على رأسها، وكأنها تحاول السيطرة على ألم يفتك بها: ايوه مين حضرتك؟! أني منعرفكش، ولا نعرف حد هنا هو إيه اللي حصل؟ وسلوى فين؟!

اقترب منها سليم، وملامحه ممزوجة بالصدمة وعدم التصديق، أمسك بيديها المرتجفتين وهو يهمس: ماسة أنا سليم! بعدين أنتِ بتتكلمي كده ليه؟! بطلي هزار بقى.

فهو ما زال غير مستوعب ما حدث لها، غير أن القلق كان يتملكه على نحو غريب.

تدخل الطبيب الذي كان يراقبها بعين فاحصة وتساءل بهدوء: قوليلي يا ماسة، آخر حاجة فاكرة إيه

أجابت بصوت واهن، لهجتها عادت كما لو كانت عالقة في زمن مضى، ببراءة ماسه التى كانت تبلغ خمس عشر عاما: أني آخر حاجه فاكرها، إن رشدي بيه قريب سيدي منصور بيه طلب مني قهوة، دخلت أعملهاله؟! وبعدين مش فاكرة  ايتوها حاجة، هو إيه اللي حصل؟

التسعت عين سليم، وتجمد من الصدمه، يبدو انه بدأ أن يستوعب الأمر، فاقترب منها أكثر و تساءل بصوت مرتعش، يدعي الله أن يكون ما يفكر به غير صحيح: ماسة، هو أنتِ عارفة إحنا في سنة كام؟

نظرت إليه باستغراب وارتباك، وقالت: إحنا في 2004، قولي مين حضرتك يا بيه؟! وفين أمي وأختي.
تسمرت العيون جميعها عليها، الطبيب يحدق بدهشة، سليم يكاد قلبه يتوقف والصدمة تجمد الدم في عروقه، أما مكي فكانت عيناه تتسعان وكأنهما تخرجان من محجريهما..
ياتري ايه حصل مع ماسة؟!



تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة