رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الحادي عشر 11 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الحادي عشر 11 
بقلم ليله عادل

 
             
              [ بعنوان: بين دفتي النسيان ]

نظرت له ماسة باستغراب: إحنا في 2004 يا بيه، هو مين حضرتك؟!

تجمدت العيون عليها: الطبيب بدهشة، وسليم أصابه الصدمة. ومكي بعينين واسعتين.

وضعت ماسة يدها على جبينها، تتلفت حولها بعينين مرتجفتين خائفتين اضافت متسائلة: آني فين؟! إيه اللي حصل؟! وسلوى فين؟!

هرول سليم فجأة، نحو الطبيب بخطوات متوترة وقال بنبرة هامسه: دكتور هي مالها؟ مستحيل يكون اللي في بالي.!

أمسكه مكي من ذراعه، يحاول تهدئته: اهدى يا سليم.

الطبيب بصوت هادئ لكنه حذر وهو يشير بيديه: اهدى يا سليم بيه، اديني فرصه افحصها علشان اقدر أقيم الحاله.

تنهد سليم تنهيدة مثقلة بالوجع، وهز رأسه ببطء، والقلق ينهش ما تبقى من صموده.

التفت الطبيب لماسة مرة أخري وتابع بنبره هادئه ليطمئنها: أنا عايزه أسألك شويه اسئله وتجاوبي عليها ماشي؟ 

ماسة بصوت واهن، ونظرات ضائعة ممزوجة بالتوتر: آني مش فاهمه حاجه، انتم مين؟ وآني فين؟ 
ثم ارتفع صوتها قليلا: حد يرد عليا.

حاول الطبيب تهدئتها وهو يشير بيديه: طيب اهدى، مفيش أى حاجه، أنت بس وقعتي من على السلم وسليم بيه جابك هنا، وإحنا دلوقتي في المستشفى، وحابين نطمن عليكي، يلا ردي عليا، أنت اسمك ايه؟ وعندك كام سنة؟

تنهدت ماسة وخفضت رأسها، ثم همست: آني اسمى ماسه، وعندي 15سنه. 

امسك الأشعه الخاصه بها التى كانت موضوعه بجانبها وقام بتدقيق النظر فيها، ثم تابع اسئلته: طب أنتِ عايشه فين ومع مين دلوقتي؟

ماسه بهدوء: آني شغاله خدامه في مزرعه سيدى منصور بيه، وعايشين عنده أنا وأمي وأبويا وأخواتي.

اتسعت عينا سليم، كأن العالم توقف للحظة، رفع كفيه يغطي بهما فمه، ودموعه تتجمع في صمت موجع، غير مصدق لما يسمعه الآن، أما مكي، فكان في حالة صدمة لا تقل عن صدمته.

وضع الطبيب الاشعه جانبا بعد أن قام بفحصها وأشار بيده تجاه سليم وقال: طب أنتِ عارفه مين اللى واقف هناك ده؟

رفعت ماسة عينيها نحو سليم، تحدق النظر فيه بارتباك يختلط بالرهبة، وأجابت بصوت مرتجف بالكاد يتسلل من بين شفتيها: آني معرفوش، آني أول مره أشوفه!

وقف سليم يستمع للحديث بعينين مصدومتين، وقلب يعصف بداخله كإعصار هائج لا يرحم، فماسة البريئة عادت، لكنها عادت إلى زمن لم يكن هو فيه، زمن يسبق حتى لحظة لقائهما الأولى.

اومأ الطبيب بتفهم وتابع: طيب أنتِ حاسه بايه دلوقتي

ضغط ماسة بيديها على جبينها بصوت متعب: حاسه إني دايخه ودماغي وچعانى ومصدعه، وايدى كمان وچعانى، وچسمى كله مكسر.

الطبيب بهدوء: معلش دى من أثر الوقعه بس، ارتاحي شويه والممرضه معاكى اهى هتديكى مسكن ومش هتحسي بوجع.

ثم التفت إلى سليم وقال بعمليه: ممكن تتفضل معايا خمس دقايق يا سليم بيه.

تحرك سليم مع الطبيب بخطوات متعثرة، يترنح كمن أثقلته صدمة لا يطيق حملها، فيما لحق بهم مكي، وقبل أن يغادر سليم الغرفه، التفت بعجلة نحو ماسة، وقال بصوت مبحوح: دقيقة واحدة وجايلك تاني.

أخفضت ماسة رأسها، ثم أمالت وجهها بخفة، وملامحها تنكمش ببراءة كما كانت تفعل قديما، وهمست بصوت مرتبك يحمل لمحة مزاح طفولي: هو آني نعرفه علشان نستناه!؟

توقف سليم عن الحركة حين استمع لجملتها، ارتسمت على شفتيه ابتسامة حنين دافئة، ثم التفت إليها ببطء، عيناه تلمعان وهو يغرق في تأملها، يرى فيها  الآن تلك الطفلة الصغيرة التي سكنت قلبه يوما، وخطفت صلابته ببراءتها ونظراتها الطفولية، كان يعرفها جيدا، ويحفظ كل تعابير وجهها عن ظهر قلب.

رفعت صوتها بضجر وهى تنظر له واصلت: آني عايزة أمي.

ابتسم سليم بصوت يفيض حنانا، كأنه يهمس لطفلته:
حاضر هجيبلك مامتك وأختك وكل اللي بتحبيهم، بس خدى العلاج وارتاحي.

تركها مع الممرضه، وقال وهو يغادر الغرفه: بعد اذنك خدى بالك منها.

ثم غادر الغرفه، فاقتربت الممرضه منها، وقالت بلطف: اجبلك عصير؟

هزت ماسة رأسها بإيجاب.

في الممر

تساءل سليم بتوتر، وصوته يخرج متقطعا: فهمنى بقي ايه الوضع؟! أنا مش فاهم حاجه؟

الطبيب بعمليه: لأسف الشديد حصل لها فقدان جزئي في الذاكرة، الأشعه بتاعتها كويسه مفيهاش أى حاجه عضويه خطرة، فعلى الاغلب فقدان الذاكره دى نفسي أكتر ما إنه عضوى، والخبطه اكيد ساعدت في ده، لكن مفيش أى حاجه عضويه نقلق أو نخاف منها.   

مكي بقلق: يعني كده خلاص، نسيت كل حاجة؟

الطبيب بتوضيح: لا، مش بشكل دائم، دى فقدان مؤقت في الذاكره، ورجوع الذاكره فيه مش بياخد وقت كبير ممكن أيام أو شهور وترجع تفتكر كل حاجه عادى، بس أهم حاجه متضغطوش عليها علشان تفتكر، وكمان لازم تتعرض على دكتور نفسي وهو هيساعدها بشكل كبير إنها تستعيد ذاكرتها بشكل صحي، وكمان هيقدر يمهد لها الخبر، وطبعا وجود أهلها معاها شيء مهم، وهيخليها تطمن أكتر لأنك بالنسبه لها دلوقت حد هى متعرفوش يا سليم بيه.  

مسح سليم وجهه في محاولة لاستيعاب الأمر: بس دى رجعت لسن 15سنه، يعنى أكتر من 10 سنين راحوا !!!

الطبيب بمواساه: حاول تهدى يا سليم بيه وتتمالك أعصابك شويه، لأن وجودك معاها مهم حتى لو هي مش فكراك، وإن شاء الله فتره وتعدى وألف سلامه عليها. 

سليم بتنهيده: طب أنا بتابع مع دكتور نفسي، ايه رأيك اكلمه يجي ينقلها الخبر، ويتابع معاها.

الطبيب مؤيدا: فكره كويسه جدا، لو حضرتك بتابع مع دكتور وعارف التاريخ المرضي لحضرتك، فاكيد بالتبعيه هيبقي عارف بعض جوانب شخصيتها، فهو الانسب فعلا، وكلمه يجي حالا.

هز سليم رأسه إيجابا، وهو يردد: شكرا يا دكتور.

تحرك الطبيب مبتعدا.

انهى سليم حديثه مع الطبيب، ثم تحرك بخطوات هادئة ومتثاقلة حتى جلس على أحد المقاعد بانهاك، ويده لا تزال ترتجف قليلا من القلق، ثم رفع هاتفه واجري اتصال بطبيبه النفسي: ألو إزيك يا دكتور؟ أنا بخير، أنا بس كنت عايز حضرتك تيجيلي دلوقتي في مستشفى المعادي، ماسة وقعت من على السلم والدكتور قال إنها فقدت الذاكرة بشكل مؤقت، وانها لازم تتابع مع دكتور نفسي، وهو اللي ينقل لها الخبر، وأنا حسيت إن الأفضل حضرتك اللي تيجي وتتابعها وتنقل لها الخبر، لأنك عارف كل حاجة، … لا مش هينفع لازم دلوقتي ... خلاص تمام .. التقارير الطبيه! اه حاضر هجهزهم لحضرتك على ما توصل...متشكر جدا، مع السلامة.

أغلق سليم الهاتف وأسند ظهره إلى المقعد، مغمضا عينيه لثواني وأنفاسه تتقطع من شدة الضغط، بدا عاجزا عن الاحتمال، ارتخت كتفاه وكأن ما حوله ينهار ببطء، ثم فتح عينيه من جديد يبحث عن ذرة قوة يتشبث بها وسط هذا الانهيار.

اقترب منه مكي، ووضع يده على كتفه هامسا بدعم ومواساه: فتره وهتعدى يا سليم، هي محتاجك جنبها هادي ومتماسك مش خايف ومتوتر، مينفعش تشوفك مهزوز كده.

هز سليم رأسه بالإيجاب، والدموع مازالت عالقه بعينيه: اكيد يعني مش هبين لها كل ده، بس مش قادره استوعب يا مكي، مش عارف ليه بيحصل لنا كده !؟ احنا مش بنلحق نرتاح خالص، كل ما بنتقدم خطوه تحصل حاجه ترجعنا 100 لورا.

مكي بعقلانية: مايمكن اللي حصل ده يكون في صالحك !

نظر له سليم باستغراب وضجر: ايه الصالح في إن ماسه تنساني، دي حتى مش فاكره الفتره اللي عرفتني فيها قبل الجواز!!

مكي بهدوء وحكمه: ربنا بيعمل كل شيء بحكمه وقدر، يمكن تكون فتره هدنه  ربنا بيديهالك علشان تستغلها صح وتقدر تستعيد ثقتها وتحسن صورتك اللى اتهزت في عينيها ! تعالى بس ندخلها دلوقتي ونتكلم بعدين، كمان الدكتور النفسي لما يتكلم معانا اكيد هنفهم اكثر.

هز سليم برأسه بالموافقه وزفر بتعب وهو يمسح على وجهه: طب كلم عشرى يروح يجيب أهلها وأول ما يوصلوا المستشفي يكلمنى وياريت ميعرفهمش أى حاجه.

ثم تحرك مع مكى ودخلا الغرفه مع أخرى.

كانت ماسة جالسه على السرير تحتسي العصير الذى اعطته لها الممرضه، وفور أن لمحت سليم ومكى يدخلان، رفعت وجهها إليهم، وتساءلت بارتباك: هو حضرتك مش هتقولي بقى أنت مين يا بيه؟

تنهد سليم قبل أن يقدم نفسه بهدوء: أنا سليم، أنا ابن فايزة هانم وعزت باشا. 

هزت ماسة رأسها بارتباك: آني منعرفكش، آني نعرفهم كلهم ... استنى استنى، أنت بقى اللي كنت مسافر اديلك ياما امريكا؟! ومكنتش بتحب تيجي كتير صح؟

ابتسم سليم بابتسامة اختلط فيها الألم بالحنين، فهي تكرر نفس الكلمات التي قالتها قبل سنوات، عاد إلى ذاكرته ذلك المشهد حين نطقت اسمه بالفصحى للمرة الأولى، فابتسمت ذاكرته قبل شفتيه، ورد مثلها بصوت خافت يفيض حنينا: أيوه أنا سَلِيم، يا ماسة.

ماسه بغضب طفولي: آني حاسه إنك بتتنقور عليا.

امسك سليم ضحكته المريرة: مقدرش.

ماسه بتساؤل واستغراب: طيب وآني ازاي يعني أمي وأختي سابوني معاك كده لوحدي!؟

طمأنها سليم: هما جايين دلوقتي، متخافيش.

ثم وجهت نظراتها لمكي بتساؤل: وأنت مين أنت كمان؟! آني منعرفكش برضو. 

حاول مكي أن يلطف الأجواء، فرد مازحا بنفس لهجتها الفلاحي معرفا نفسه: آني ابقى صديق سليم والحارس الشخصي بتاعه.

زغده سليم في جنبه وهو يحاول كتم ضحكته: يابني بس، هو ده وقته. 

ماسة بغضب وحزن: أنت كمان بتتنقور عليا. 

مكي بابتسامه: لا والله مش بتنقور، بهزر معاكي بس.

هزت ماسه رأسها بصمت، ثم وضعت يدها خلف رأسها عند محل الخبطة، وكان الألم واضحا على ملامحها، وتساءلت بارتباك وعيناها معلقتان بالباب: هو أمي وأختي هيتأخروا ولا إيه؟!

ابتسم مكي بلطف ليطمئنها: لا مش هيتأخروا، أنتِ عارفة منصور جاحد إزاي، مرضيش يخليهم يجوا غير لما يخلصوا اللي وراهم.

هزت ماسة رأسها إيجابا ببراءه، وتساءلت بإبتسامة رقيقه وهي تنظر لسليم: وأنت بقى اللي انقذتني لما وقعت وجبتنى هنا !؟

هز سليم رأسه ايجابا بإبتسامة.

ابتسمت ماسة برقه، وقالت ببراءه:  شكرا يا ... 
ثم توقفت فجأه وضيقت عينيها بتساؤل: هو أنت قولت أسمك ايه؟!

سليم بإبتسامة: سليم.

ماسة بامتنان: شكرا يا سليم بيه.

ثم ساد الصمت في الغرفه، جلس سليم متصلبا، عيناه تائهتان وقلبه يعصف بألم لا يعرف له عنوانا، لم يدري أيفرح لأنها نسيت كل المشاكل والأوجاع التي جمعتهما، أم يحزن لأنها نسيت كل شيء وتعرضت لما تعرضت له، كل فكرة تصطدم في عقله، وكل ذكرى تلسع قلبه، لكنه حاول الحفاظ علي ثباته، وهو ينظر إليها بابتسامة صغيرة تكاد تخفي موجة التوتر والألم معا.

ظل ينظر إليها بابتسامة صغيرة، دون أن يحاول فتح أي حديث معها، اكتفى فقط بالجلوس أمامها الغرق في تأملها، يرى فيها الآن تلك الطفلة البريئة التي عشقها، ها هي تعود تدريجيا إلى شخصيتها التي أحبها، ربما تغيرت بعض ملامحها، لكن البراءة مازالت تتلألأ في عينيها، فهي الآن طفلة بريئة في جسد أنثى، يفكر في كيفية التعامل معها، وكيف سيكون تأثير الخبر عليها.

أما مكي، فظل يراقب بصمت، عيناه حائرتان بين القلق والدهشة.

أما ماسة، فلم تتبادل معه كلمة واحدة؛ فهو بالنسبة لها رجل غريب، فالزمن الذي ربطهما أصبح مفقودا، وحتى الفترة التي عرفته فيها قبل زواجهما، فقدت من ذاكرتها كأنها حلم بعيد.
💞______________بقلمي_ليلةعادل。⁠◕⁠‿⁠◕⁠。

منزل مي، الثامنة مساء

كان والد مي وأشقائها يقفون عند المدخل ليستقبلوا عزت وفايزة ورشدي الذي كان يحمل بين يديه باقة من الزهور.

ابتسم راشد بترحاب وهو يمد يده لمصافحتهم: أهلا وسهلا، نورتونا، اتفضلوا.

دخلوا الصالون، فجلس عزت بجانب فايزة على الأريكة، بينما جلس رشدي على مقعد منفصل، وإلى جواره راشد ثم حاتم، أما حازم فذهب يستدعي مي، التي دخلت بعد لحظات تحمل صينية القهوة بخطوات مترددة، وهي ترتدي فستان أوف وايت أنيقا وحجابا زادها رقة وجمالا، قدمت القهوة للضيوف، ثم توقفت عند رشدي الذي ناولها باقة الورد بابتسامة ودودة، فتناولتها بخجل وجلست في مكانها بجوار والدها.

ابتسم عزت برضا: حقيقي يا باشمهندس، مي بنت حضرتك في منتهى الاحترام، وأنا مش هلاقي لابني أحسن منها.

راشد بهدوء: شكرا يا عزت بيه، أهم حاجة عندي إنه يحافظ عليها ويكون صادق في وعوده ليها.

ابتسم رشدي بثقة: متقلقش يا عمي، في عنيا.

عزت بعملية: طبعا أكيد مش هنختلف في التفاصيل، بس لازم تبقى عارف إن مي هتقعد معانا في القصر، كل ولادي ليهم جناح في القصر، وصحيح بيكون ليهم فيلا منفصلة، لكن وجودهم في القصر شيء أساسي.

ابتسم راشد بدبلوماسية: الموضوع ده يرجع لمي، هي اللي تقرر، اذا كانت حابه تقعد معاكم في القصر او تحب يبقي لها بيت منفصل.

تدخلت فايزة قائلة بنبرة الاستقراطيه: أكيد يا باشمهندس، بس أظن برضو عروستنا مش هتكره تعيش في قصر الراوي، ومتقلقيش يا مي، إحنا مش زي العائلات التانية اللي بتتدخل في الخصوصيات، هو مجرد تقليد عندنا.

أجابت مي بخجل: مدام هو تقليد، أنا معنديش أي مشكلة.

عزت بحسم: خلاص مادام كده نقرا الفاتحة.

وبالفعل بدأ الجميع في قراءة الفاتحة، وكانت مي تشعر بخجل ممزوج بالفرحة، وكذلك رشدي الذي لم تفارق الابتسامة وجهه، وبعد الانتهاء، أطلقت كريمة زغرودة عالية، وهي تردد بفرحه: ألف مبروك يا حبيبتي.

أخرج رشدي خاتم ألماس، ونظر إلى مي وهو يقول: مدي إيدك يا عروستي.

مدت له يدها بخجل، فألبسها الخاتم وسط دهشتها:  الله شكله حلو خالص، ميرسي.

رشدى بابتسامه: مش أحلى منك.

ثم اقترح بحماس: إيه رأيكم نخلي الخطوبة اخر الاسبوع جاي؟

حاتم بمداعبه: مستعجل كده ليه يا عريس؟

رشدي بحماس: ونتأخر ليه، ما دام كل حاجة جاهزة؟
إيه رأيك يا مي؟

مي بخجل: معنديش مانع، إيه رأيك يا بابا؟

مد راشد وجهه بموافقه: معنديش مانع برضه، اتفقوا مع بعض على اليوم المناسب وبلغوني.

فايزة بارستقراطيه: خلاص ممكن بكره تشرفونا على العشاء، وهنكلم حد من الجواهرجيه الخاصة بينا يجيب مجموعة من الألماسات المختلفة، تشوفيهم وتختاري شبكتك، إيه رأيك يا مي؟

ابتسمت مي بخجل: أنا معنديش مانع، بس الرأي الأخير لبابا طبعا.

عزت موجها كلامه لراشد: إيه رأيك يا باشمهندس، بكره تكونوا معانا على العشاء؟ كمان تشوفوا القصر.

هز راشد رأسه بإيجاب: مفيش أي مانع.

تردد رشدي قليلا قبل أن يقول: بعد إذنك يا عمي، ممكن آخد مي نقف شوية في البلكونة ونتكلم؟

ابتسم راشد موافقا: اتفضل.

في الشرفة المطلة على الحديقة.

كانت مي تشعر بخجل شديد، عيناها مثبتتان إلى الأسفل وابتسامة صغيرة ترتسم على وجهها، بينما تلعب بخاتمها الجديد بين أصابعها.

ظل رشدي يتأملها وابتسامة صغيرة لا تفارق شفتيه، ثم قال بنبرة مازحة: هو أنت فيه حاجه ضايعه منك على الأرض وبتدورى عليها؟! 

رفعت إليه مي نظراتها باستغراب: لا !!

رشدى بمرح: أومال من ساعه واقفنا وأنت عينك في الأرض ومش بتتكلمي ليه، مهو متقوليش أنك مكسوفه مني؟!

ابتسمت بخجل، وقالت بخفوت: أيوه مكسوفة، متكسفش ليه مش عروسه ومن حقي اتكسف!؟ 

ضحك بخفة وهو يهز رأسه: كسوف ايه بس يا مشمش، دي إحنا بقلنا شهرين رايحين جايين، أكلين، شاربين، قاعدين مع بعض.

تنفست مي بعمق وهي ترفع عينيها نحوه مرة أخرى وقالت بتلعثم خجول: عارفة إن المفروض أكون واخدة عليك، بس برضو حاسة إني مكسوفة.

اقترب منها خطوة صغيرة، صوته يملؤه صدق غريب: أنا حاسس بشعور غريب، عارفة يعني إيه آخد خطوة زي دي معاكي!؟ حاسس بإحساس حلو اوي، مش عارفله وصف.

صمت لحظة، ثم أضاف وهو يشيح بنظره ناحية الحديقة: أحساس إن أنا هخطب، وهتجوز، واستقر، وهيبقى ليا حياة وشخص مسئول مني وابقي أنا كل حياته!؟ احساس غريب عليا، بس حلو.

ابتسمت مي بهدوء، قلبها يخفق وهي تهمس: وأنا كمان حاسة بكده، يمكن عشان دي البداية.

ابتسم رشدى ومد يده في جيبه وأخرج علبة صغيرة مخملية، فتحها بهدوء أمام مي، لتظهر سلسلة رقيقة يتدلى منها قلب من الألماس، وقال بابتسامة واسعة: ممكن بقى أقدم لست البنات، الهدية المتواضعة دي، أنا اللى عاملك تصميمها بنفسي، تصميم مخصوص للأميرة مي، أميرة قلبي.

ابتسمت مي بخجل وهي تمد يدها وتأخذ السلسلة:
الله حلوة اوي، بس شكلها غاليه يا رشدي، كان كفايه الخاتم؟ قولتلك أنا مش بيستهويني الهدايا الغالية.

ضحك رشدي بخفة وهو يرمقها بعينين عاشقتين: ولا حتى مني؟

أطرقت رأسها قليلا، ثم همست بابتسامة رقيقة: منك هقبل أي حاجة.

اقترب منها قليلا وقال بحماس صادق: طب ممكن تلبسيها وأشوفها عليكي؟

أومأت مي برأسها: حاضر ثانية واحدة.

بدأت ترتدي السلسلة بأناملها المرتجفة، بينما عينا رشدي لا تفارقها، يتأملها وكأنه يراها لأول مرة، وما أن انتهت حتى ابتسم وهو ينظر إليها بإعجاب: شكلها حلو عليكي، هي كده بقت في مكانها الصح.

خفضت مي رأسها بخجل شديد، حتي احمرت وجنتيها وقالت ابتسامتها مرتبكة، وهى تنظر لأسفل: بس بقي.

ضحك رشدي، ووضع يده على قلبه كأنه يتألم بدلع: أموت أنا في الخجلان يا ناس! 

ضحكت مي بخفة، والهواء العليل يمر بينهما، يحمل معه فرحة لحظة لن تنسى، ظل رشدي ينظر إليها طويلا، ثم تنهد بعمق واقترب منها خطوة إضافية، وصوته خرج دافئا وصادقا: مي، أنا بحبك، يمكن مقولتهاش قبل كده، علشان كنت مستني الوقت اللي أكون فعلا حاسسها ومتأكد منها، مش عارف حبيتك إمتى وإزاي وليه!؟ بس لقيت نفسي فجأه بحبك ومش متخيل يومي يعدى من غيرك، بقيتي شيء أساسي في حياتي.

ارتجفت أنامل مي وهي تمسك السلسلة على صدرها، ورفعت عينيها إليه ببطء، بينما أكمل رشدي بنبرة أقرب للرجاء: كل اللي بتمناه من قلبي إني أقدر أسعدك، وأكون الإنسان اللي يستاهلك ويقدرك، كل اللي بطلبه منك تصبري علي لحد ما أكون فعلا رشدي اللي أنتِ عايزاه.

شعرت مي بمزيج من السعادة والخجل، ولم تستطع النظر في عينيه طويلا، فخفضت بصرها تعبث بسلسلتها وقلبها يخفق بشدة، فأي فتاة تسمع مثل هذا الحديث لا بد أن يطير قلبها فرحا، فاكتفت بالتحديق في الحديقة أمامها، والخجل يزيد وجهها جمالا ورقة واحمرارا.

اسند رشدى يديه على السور بجانبها، ثم نظر إليها مبتسما وهو يقول بمرح: طب إيه، الكلام الحلو ده محركش جواكي أي حاجه، هتفضلي ساكته كده، مفيش أي رد؟

رفعت مي عينيها إليه بخجل شديد، وتلعثمت الكلمات على شفتيها قبل أن تقول بصوت منخفض: شكرا.

ضحك رشدي بعلو صوته، ورد مازحا: شكرا؟ دى اللى ربنا قدرك عليه يا مفتريه، ماشي يا ستي الشكر لله.

نظرا أمامهما بابتسامة خفيفة، كأنهما يريان في الأفق بداية جديدة، ثم التفتا إلى بعضهما وتبادلا الابتسامة ذاتها، كأنهما يتعاهدان بصمت على المضي معا دون حاجة إلى كلام.
💞________________بقلمي_ليلةعادل 

المشفي التى تمكث بها ماسة التاسعة مساء.

مازالت ماسة ممددة علي الفراش تحاول الاستيعاب، وسليم يجلس أمامها صامتا، ومكي خلفه، حتى فتح الباب فجأة ودخل عشري بخطوات سريعة قائلا بصوت خافت: الأمانه وصلت يا ملك.

نهض سليم، ثم نظر اليها وقال بنبرة حانية: ثواني وجايلك تاني

غادر الغرفه ومكي خلفه، وبقيت ماسة وحدها 

في الخارج.

اجتمعت العائلة، والقلق ظاهر على وجوههم، وبعد لحظات، خرج سليم، فاقترب مجاهد منه يتساءل بقلق: هو في ايه يا ابني، بنتي حصلها حاجه؟

صاح عمار باتهام: أختي فين؟! عملت فيها أيه؟!

سليم بهدوء متعلثم: وقعت على رأسها وجالها فقدان ذاكرة مؤقت، بس الحمد لله مفيش خطورة.

رفعت سعدية يدها إلى صدرها وصرخت بارتباك: يعني إيه؟ مش فاهمة؟! بنتي مالها؟!

سليم بتوضيح، وهو يضغط على كل كلمة بمرارة، كأن الألم الذي يعتصر قلبه تسلل من بين كلماته: يعني نسيت كل الفترة اللي كنا متجوزين فيها؟! آخر حاجة فاكرها إنها دخلت تعمل القهوة لرشدي يوم الحفلة.

رمقه مجاهد بنظرة تحمل مزيجا من عدم الفهم والخوف، واقترب منه يتساءل بقلق: هو في حد يقع على نفوخه ينسى؟ متفهمني يا ابني، متقلقنيش على البت.

أجاب سليم بنبرة يغلفها الأسف: أه بس الحالات دي نادرة، بس الدكتور طمني وقال إنها كويسه، وهترجع تفتكر تاني.

تقدم يوسف نحوه بعينين مشتعلة، صوته يعلو وهو يقذف الاتهام: انطق وقول الحقيقة! عملت في أختي ايه؟! أنا مش مصدقك.

رفع سليم رأسه ببطء، ونظر في عينيه بثبات ثقيل بعينين تشتعلان بنبرة رجولية: أنا معملتش حاجة، كنا بنتكلم، واتعصبت، فوقعت من على السلم.

عندها انفجر عمار غاضبا، صوته يخترق الممر كالرعد باتهام لازع: يعني وقعت لوحدها؟! أكيد أنت السبب، أنت اللي وقعتها!

غص قلب سليم واشتدت ملامحه، قبض كفه محاولا كبح غضبه، ورد بصوت جهوري حاسم، كمن يحاكم ظلما ويحاول نفي التهمة عنه بقوة: قولتلك أنا معملتش حاجة! وقعت لوحدها.

تدخلت سلوى بسخرية مرة، وقالت بضجر: كل مصيبة بتحصل لماسة بتبقي أنت السبب فيها! حرام عليك، حتى عقلها خليته يهرب منك، نسيتك عشان تخلص من وجعك.

اشتعل صدر سليم غضبا، وغامت عيناه بالسواد، مسح وجهه ببطء، وصمته كان أبلغ من أي انفجار، حاول كبح العاصفة داخله، لكن الاتهامات كانت كالسياط على قلبه، يعلم أنهم محقون في جزء من  غضبهم، فماضيه معهم لم يكن بريئا، يدرك شعورهم، لذا عجز عن الرد أو الدفاع عن نفسه خوفا من أن يفعل ما يندم عليه، ومع ذلك كانت مرارة الظلم تمزقه الآن.

وهنا ارتفع صوت سعدية محاولة تهدئة التوتر، بنبرة خائفه: اصبروا شوية، خلونا نفهم، هي وقعت إزاي؟ فهمنا ايه اللي حصل.

رفع سليم رأسه ببطء، وعيناه تتنقلان بين الجميع واحدا تلو الآخر، وهو يضغط على كفي يده بصمت، قبل أن يقول: كنا بنتكلم، ولما عرفت إني عملت العملية ومقولتلهاش، اتعصبت وقررت تمشي، حاولت أمسك إيدها، سحبت إيدها مني جامد، كانت واقفة على السلم فاختل توازنها ووقعت، لما جبتها هنا، الدكتور قال إنها نسيت آخر عشر سنين، خلاص فهمتوا اللي حصل، أكيد أنا مستحيل أذي ماسة، وياريت لما تدخلوا جوه تتعاملوا معاها بهدوء عشان متخافش.

أطلق يوسف ضحكة ساخرة وقال بتهكم: أنت بتتكلم معانا كده ليه؟ يعني بهدلت أختنا، وعايزنا نصدق الكلام العبيط دى، ونسمع كلامك كأنك اشتريتنا؟  
ثم أضاف  مستنكرا: وبعدين ماسة هتزعل ليه سواء عملت ولا معملتش العمليه، هي اصلا طيقاك؟!

ارتفعت أنفاس سليم، وعض على خده من الداخل في محاولة يائسة لكبح غضبه، فقد طفح الكيل من اتهاماتهم وأسلوبهم، رفع عينيه بثبات، وحدق في وجه يوسف بنظرة قاسية، ثم قال بصوت رجولي هادئ لكنه حاسم: أنا مش هفضل أبرر كل شوية!

تحرك مكي بسرعة، مد ذراعه على صدر سليم، وهو يهمس برجاء متماسك: اهدى يا سليم، متوقعش نفسك في الغلط.

التفت سليم نحوه بعينين مشتعلة، وصوته خرج بحشرجة رجولية مخنوقة: أنت مش شايف؟!

هز مكي رأسه، وربت على صدره بهدوء، محاولا أن يطفئ نيرانه: حقك عليا، اهدى عشان خاطري.

ثم شد قامته قليلا، وصوته صار أكثر حزما وهو يوجه كلماته نحو يوسف وعمار: لو سمحتوا، لازم نهدى، سليم ملوش أي علاقة باللي حصل، واللي قاله هو بالظبط اللي حصل.

لكن عمار انفجر مقاطعا، بوجه متشنج وصوته يجلجل بغضب أعمى: والمفروض نصدقك بقى؟! ما أنت زيه، وكلب من كلابه.

اشتعلت ملامح مكي، عيناه انقلبتا بحدة، وقال بنبرة لاذعة تقطع الهواء: أنا مش هرد عليك احتراما للموقف اللي إحنا فيه، بس احترم نفسك، احسنلك.

رفعت سلوى حاجبيها بحده قالت بتهكم: اه واحسنلك دي بقى معناها ايه؟! هتعمله إيه يعني؟

التفت إليها مكي ببطء، رمقها من أعلى لأسفل بنظرة باردة كأنها لا تستحق الرد، ثم أدار وجهه للجانب الآخر ينفخ أنفاسه بضيق.

في تلك اللحظة، ضرب سليم الهواء بيده كإشارة قاطعة، ملامحه مشدودة وعروقه بارزة من عنقه، قال بنبرة حاسمه: اسمعوا بقى، اللي أنتم بتعملوه ده مش فارق معايا! اللي فارق معايا اللي جوه دي.

اقترب خطوة للأمام، ونظر في وجوههم بعينين تلمعان من الغضب: أنا قولت إنها وقعت لوحدها، تصدقوا متصدقوش ميفرقليش! بس عايز منكم حاجة واحدة؛ لما تدخلوا تبقوا هاديين، وتنفذوا اللى الدكتور هيقولكم عليه بالحرف، عشان والله لو حصلها حاجه بسببكم، لأور....

صمت فجأة، كأن الكلمات علقت في حلقه، أطبق جفنيه بقوة، ودار في رأسه همس خانق: "اهدأ، لا تخطئ مره أخرى، لا تهددهم." رمش بعينيه بسرعة، وأخذ يعد بأصابعه المرتجفه، محاولا السيطرة على عاصفته وبعد ثواني..

ثم فتح عينيه ببطء، ونظر لهم نظرة ثابتة بعيون لا ترمش، صدره يعلو ويهبط بقوة، ثم تنهد بعمق، وخرج صوته رجولي أجش، لكن منخفض: ماسة ممكن تتعب من اللى بتعملوه ده، أنا متفهم غضبكم وخوفكم، بس اللي أنتم بتعملوه ده ممكن يأذي ماسة وأنا واثق إنكم متحبوش تأذوها، اللي حصل قولته وأنا مستحيل أكون سبب في أذاها.

ثم التفت نحو سعدية، وصوته اكتسب صرامة قاطعة: عقلي عيالك يا سعدية.

ثم حول عينيه فجأة نحو عمار، بنظرة حادة، وهو يشير له بإصبعه:أول وآخر مرة تغلط في حد يخصني، فاهم؟!

كاد أن يرد عمار في تلك اللحظة، لكن رن هاتف سليم، كان الطبيب النفسي يبدو أنه وصل الآن.

رفع هاتفه وأجاب بهدوء: أيوه يا دكتور، إحنا في الدور الثالث، غرفة 402.

أغلق الهاتف ونظر إليهم بنظرة حادة، وقال بنبرة هادئة: الدكتور جاي دلوقتي، تسمعوا كلامه وتنفذوا اللى هيقوله بالحرف، ماشي؟

نظروا له بصمت دون رد، بعد دقيقة تقريبا، خرج الطبيب من المصعد، انتبه له سليم واقترب منه بخطوات سريعة، وتوقف أمامه وقال بامتنان: شكرا يا دكتور إنك جيت بسرعة.

ابتسم الطبيب متعجبا: خير يا سليم حصل إيه؟ إحنا آخر حاجة اتكلمنا فيها قولتلي إنك النهارده هتنفذ اللي اتفقنا عليه.

سليم بهدوء، مستعيدا الأحداث بنبرة متأثرة: وفعلا نفذت، وكنا بنتكلم بهدوء، وكل واحد خرج كل اللي جواه، بس لما قولتلها إني عملت العملية،  اتجننت وكانت عايزه تمشي، فأنا مسكت أيدها بحاول أوقفها.
توقف لحظة، ثم تابع: وفجأة سحبت إيديها ووقعت من على السلم، ولما جبتها هنا وعملوا لها اللازم وفاقت، نسيت كل حاجة.

الطبيب بعملية: طب وريني التقرير الطبي بتعها.

سليم بهدوء: أنا جهزته لحضرتك زي ما قولتلك. 

أشار سليم بيديه للخلف، فجاء أحد الحراس وأعطاه الملف: اتفضل يا دكتور.

أخذ الطبيب يقرأ بتركيز، ثم ابتسم: تمام، الحمد لله، مفيش أي حاجه نقلق منها، هي لسه متعرفش الخبر، صح؟

هز سليم رأسه، وقال بنبرة مكتومه: لا، متعرفش أي حاجة لسه مستنين حضرتك علشان تمهد لها الخبر.

الطبيب وهو يضيق عينع بتساؤل: طب احكيلي بقى من أول ما فتحت عينيها لحد دلوقتي إيه اللي حصل.

هز سليم رأسه بالإيجاب، وبدأ يروي له ما حدث مع ماسه منذ لحظة استيقاظها.

هز الطبيب رأسه بتفهم، ثم نظر نحو عائلتها بتساؤل: دول عيلتها؟!

هز سليم رأسه إيجابا بصمت، فابتسم الطبيب، واقترب منهم بخطوات هادئة، وقال بهدوء: مساء الخير.

تقدمت سعدية بخطوات متعثرة،وقالت بصوت مرتجف: طمني على بنتي يا دكتور الله لايسيئك.

ابتسم الطبيب ابتسامة مطمئنة، وقال بصوت واثق يهدف لتهدئة القلوب: متقلقيش خالص يا حاجة، ده فقدان ذاكرة مؤقت، هي بتنسى بعض السنين من عمرها، بس هترجع تفتكرهم تاني، توقيت رجوع الذاكرة مش هنقدر نحدده غير لما نبدأ الجلسات، بس مفيش داعي للقلق خالص، الموضوع بسيط، ولازم لما ندخل جوه نفهمها بهدوء، حضرتك هتقعدي جنبها علشان تطمنيها.
ثم تساءل: مين أقرب حد  ليها من أخواتها؟

رفعت  سلوى يدها، فأضاف الطبيب: تمام، أنتي هتكونوا جنبها وهنبدأ نشرحلها بالراحة واحدة واحدة ونفهمها الوضع.

تساءل عمار بقلق وتردد: طيب هي هتفتكر يا دكتور ولا خلاص كده؟

هز الطبيب رأسه بهدوء مطمئن: لا، هتفتكر، لإن تقرايرها الطبيه كويسه جدا ومفيش أي تأثير عضوى على مركز الذاكره في المخ، هي بس من الضغط النفسي الكبير اللى اتعرضتله الفتره اللى فاتت عقلها حب يفصل شويه؛ وأنا هتابع معاها وإن شاء الله اساعدها إنها ترجع  تاني تدريجيا.

تساءل سليم بقلق: طب هي مش محتاجة تاخد مهدئ مثلا عشان نوصل لها الخبر بهدوء؟

الطبيب بعملية: أنا محضر حقنة مهدئة، لكن إن شاء الله مش هنحتاجها، هي طبيعة شخصيتها أصلا بتنهار تحت الضغوط؟!

قبل أن يرد أحد، بادر سليم بسرعة وكأنه يطمئن الجميع من واقع ملاحظته: لا هي المرحلة دي من عمرها كانت هادية وبتسمع الكلام، وبتهون أي حاجه.

ابتسم الطبيب، وأومأ برأسه: تمام، يبقي سليم يدخل الأول ويقولها أنا عاملك مفاجأة، بعد كده أنتم تدخلوا، وأنا هدخل وراكم بدقيقه على ما تكون استوعبت وجودكم.

سمع الجميع وكان الرد جماعيا: تمام.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل

غرفة ماسة

دخل سليم أولا، حاول رسم ابتسامة على وجهه وهو بيقول بنبرة هادئة: أنا عاملك مفاجأة.

رفعت ماسة عينيها ببراءة، ورأسها يميل بخفة: مفاجأة إيه؟

أشار سليم بيده نحو الباب، وفجأة دخلت عائلتها.

ماسة بلهفه: أمي، أنت كنتى فين وسيباني كل ده! 

اندفعت سعدية تجاهها، وضمتها بقوة وهي تبكي وتقبل يديها: أنا جمبك اهو ياضنايا المهم طمنيني، أنتِ كويسة؟

ابتسمت ماسة بخفة، ثم نظرت لسليم: آه، سليم بيه بيقولي إن آني وقعت وچابني هنا.

مسحت سعدية دموعها: آه يا بنتي، الحمد لله عدت على خير.

بدأت ماسة تدقق النظر في وجوههم باستغراب، ثم رفعت حاجبيها وضحكت بخفة: أنتم شكلكم عامل كده ليه؟! وإيه اللبس الحلو اللي لابسينه ده؟!

دخل الطبيب بهدوء، وابتسامته ودودة: إزيك يا ماسة؟

أجابت بهدوء: الحمد لله.

فاقترب منها وهو يعرف نفسه: أنا اسمي دكتور ياسر، وهبقي الدكتور بتاعك لحد ما تخفي إن شاء الله، بس كنت عايزه اسألك هو أنتِ عارفاهم كلهم صح؟

انقبض وجه ماسة بملامح طفولية غاضبة: هو إيه حكايتكم معايا النهارده؟! كل شوية حد يسألنى اسئله غريبه! مره اسمك ايه وعايشه فين، وأنت دلوقت تقولى عارفاهم ولا لا، هو حد قالكم إني متخلفه ولا أيه؟

ابتسم الطبيب بهدوء: لا طبعا، بس بنطمن عليكى، أنتِ قولتي لدكتور إسلام إن عندك 15 سنة صح؟

رفعت كتفيها ببساطة: اه، آني عندي 15 سنة.

مال بجسده قليلا للأمام، وتساءل بصوت جاد: آخر حاجة فاكراها إيه؟

نفخت ماسة بتذمر طفولي، فمسح مجاهد بلطف على قدميها: ردي على الدكتور يا بنتي عشان يعرف أنتِ عندك ايه؟!

ماسة ببراءة: حاضر.

تنهدت ثم أجابت: كنت بعمل قهوة لرشدي بيه.
ثم أشارت بيدها  نحو سليم: أخو سليم بيه ده، وبعدها مش فاكرة ايتوها حاچة غير إني صحيت هنا وقالولي إني وقعت.

تنحنح الطبيب، ونظر لها مباشرة: بصي يا ماسة، أنتِ لما وقعتي في حاجات نسيتيها، في حاجات حصلت بعد موضوع القهوة، إحنا هنحاول نخليكي تفتكريها.

رفعت حاجبيها بتعجب ثم ضيقت عينيها: يعني ايه حاجات نسيتها؟ آني مش فاهمة حاجه؟

ابتسم الطبيب وقال بلطف: يعني أنتِ دلوقتي مش عندك 15 سنة، أنتِ عندك 25 سنه، وسليم بيه مش بس ابن عزت باشا وبس،  ده كمان جوزك، واللبس والملامح اللي شايفاها على أهلك متغيرين، دي طبيعية، السنين عدت، حتى أنتِ كمان ملامحك اختلفت.

أمالت رأسها، وضحكت باستخفاف: أنت بتتنقور عليا يا بيه؟ سليم بيه ابن الهانم والباشا جوزي؟! ههههه عبيطه آني بقى.

اقترب الطبيب أكثر، وقال بهدوء: دي الحقيقة يا ماسة، بعد موضوع القهوة أنتِ وسليم بيه اتعرفتوا على بعض واتجوزتوا، صح يا سليم بيه؟

أومأ سليم برأسه، ورد بصوت مكسور لكنه حاول الثبات: أيوه، دى كانت أول مره نتقابل فيها، وبعدها بشهر اتجوزنا.

عقد ماسة حاجبيها، وقالت بنبرة رافضة غير مصدقه: أنتم كدابين، آني أصلا مشفتوش في الحفلة.

تنفس سليم ببطء وقال بنبرة حنونة وكأنه يحاول ان يذكرها ويفهمها ما حدث: ما هو أنا دخلت عليكي وقتها وكانت أول مره تشوفيني، كنتي بتعملي القهوة، ورشدي حاول يتحرش بيكي وأنا انقذتك؟!

نظرت ماسة حولها بتركيز مرتبك، عيناها تتنقلان بين الوجوه، ثم التفت بسرعة لأمها وقالت بصوت مرتجف، والدموع تتلألأ في عينيها: يا مااا هما بيقولوا إيه؟!  أنتم بتضحكوا عليا صح.

ضمتها سعدية بقوة إلى صدرها، يدها تمسح شعرها بحنان مرتعش: متخافيش يا حبيبتي، كل حاجة هتبقى زي الفل، وهترجعي تفتكري كل حاجة إن شاء الله، اللي بيقولوه صح، سليم بيه جوزك، وأنت دلوقتي عندك 25 سنة.

اتسعت عينا ماسة أكثر، وشفتيها ترتعشان بصدمه وارتباك: يعني إيه؟! آني، آني مش فاهمة حاجة؟! 

بدأت أنفاسها تتسارع، والدموع تنهمر بغزارة وهي تهز رأسها بعنف، ووضعت يديها على رأسها كأنها تحاول أن تستعيد ذاكرتها بالقوة: آني مش فاكرة حاجة خالص من اللى بتقولوه دى! آني مش فاكره حاجه!!

تقدم يوسف بخطوات متوترة، وصوته يتهدج بحنان:
طب اهدى طيب يا حبيبتى ، متعيطيش.

اقترب سليم بحذر، وعيناه مليئتان بالقلق، جلس بجانبها وأمسك يدها برفق، ونبرة صوته ممزوجه بين الرجاء والألم: متخافيش يا عشقي، إحنا كلنا جنبك، وهتفتكري كل حاجه، بس حاولي تسمعي كلام الدكتور.

رفعت عينيها الغارقتين بالدموع، ببطئ ونظرت اليه نظره مليئة بالانكسار والضعف، وقالت بصوت متهدج: ازاى بس وآني مش فاكراك خالص، حاسه إني دي أول نوبة نشوفك

هز سليم رأسه، وابتسامة صغيرة موجعه ترتسم علي وجهه يحاول بها تهوين الأمر رغم دموعه: هتفتكريني، متخافيش..

ثم انحنى بخفة، ووضع قبلة طويلة مرتجفة على يدها، لكنها سحبت يدها بسرعة، وابعدتها عنه بعفوية مرتبكة وخجل، فأعاد سليم جسده إلى الخلف قليلًا، متفهما رد فعلها، ساد الصمت للحظات، والكل ينظر إليها بعيون يملؤها التأثر والعجز، إنها ماسة، لحما ودما أمامهم، لكنها فقدت من ذاكرتها ما جعلها كالغريبة بينهم.

أما سليم، فظل يحدق فيها، قلبه يتفتت وجعا، عاجزا عن فعل أي شيء سوى أن يصبر وينتظر ما سيقوله الطبيب.

رفع الطبيب يده بهدوء محاولا تهدئتها: واحده واحده يا ماسة، كل حاجة هتفتكريها بالراحة، بس حاولي تفتكري تفاصيل آخر حاجه حصلت معاكي في الحفله.

عدلت ماسة من جلستها وعيناها تحدقان في سقف الغرفة، ثم أمالت رأسها وكأنها تحاول استحضار صورة ضائعة، وهمست بصوت خافت متقطع: مش فاكرة حاجة غير إني كنت في الحفلة بتاعة عيد ميلاد الست لارا، رشدي بيه، ابن فايزة هانم قريبة سيدي منصور بيه طلب مني أعمله قهوة، دخلت عملتهاله وبعدين…

صمتت للحظة، وكأنها تحاول أن تتذكر، اغمضت عينيها بعنف ثم فتحت عينيها الدمعتين مره أخرى: هو فعلا رشدى بيه دخل عليا؟ بس، بس مش فاكرة حاچة تاني! 

أضاف سليم وهو يحاول أن يساعدها علي التذكر، فقال بنبرة هادئة وهو يربت على يديها: بعدها، رشدي حاول يغازلك وقرب منك، وانتي صرختي، وأنا دخلت أنقذك، وحصل بينا مواقف حلوه واتجوزتك بعدها بشهر، وعشنا مع بعض أكتر من 10سنين.

ماسة بزهول: يعني أحنا متجوزين من 10سنين؟! 

هز سليم رأسه بإيجاب: ايوه. 

رفعت ماسة بصرها فجأة، عيناها تلمعان بارتباك، نظرة طفل يواجه حقيقة غريبة عن نفسه، وتمتمت بصوت مرتعش: آني مش فاكرة أيتها حاچة من اللى بتقول عليها دى خالص، آني أصلا أول مرة نشوفك.

ارتجف قلب سليم، حاول أن يمنع دموعه من الهبوط، فابتسم ابتسامة واهنة، وخرج صوته دافئا داعما: ما قولتك، هنفتكر كل حاجه سوا، متقلقيش.

تقدم الطبيب خطوة للأمام، وابتسم ابتسامة مليئة بالأمل، وصوته هادئ مطمئن: متقلقيش ده طبيعي جدا، الذاكرة ساعات بتلخبط بالشكل ده، متقلقيش، ممكن في أي وقت تصحي تلاقي نفسك افتكرتي كل حاجة.

تنهدت ماسة وأغلقت عينيها كأن النوم سيكون مشهدا يفتح لها باب الذاكرة وقالت ببراءتها المعتادة: خلاص آني هنام، علشان لما أصحى افتكر.

ابتسم الطبيب ثم رد بصوت عملي وهو يشرح بتركيز: لا ماهو مش بالضرورة لو نمتى دلوقتى تصحي فاكره، إحنا لسه هنبدأ ناخد أدوية وجلسات علاجية علشان نساعد على تنشيط الذاكره وتفتكري كل حاجة..
ثم قف الطبيب أمامها وركز النظر في عينيها وقال بصوت هادئ ليمنحها الشجاعة: بس قوليلي، أنتِ قوية مش كده؟

هزت ماسة رأسها نافية، ودموعها تتساقط في صمت، وكتفيها يهتزان بخوف مكتوم وضعف.

اقتربت سلوى وجلست بجوارها، وأمسكت يديها ومسحت عليها بحنان، وهمست بصوت محمل بالرجاء: حبيبتي، متخافيش أحنا معاكى، وكل حاجة هتفتكريها بس متعمليش في نفسك كده واهدى.

رفعت ماسة عينيها تحدق في ملامح سلوى بدقة، كأنها تقارن صورة قديمة بأخرى جديدة، ثم امعنت النظر في كل الواقفين أمامها بعنايه، كانت عيناها تلمعان بدهشة، فاشارت بيدها المرتعشه نحوهم وقالت بصوت خرج متقطعا: إيه ده شكلكم بقي عامل كده ليه؟ كأني بقالي ياما مشوفتكوش، حتى يوسف! إزاي بقى طويل كده؟!

اتسعت عيناها أكثر، والدموع انهمرت بسرعة، ومسحتها بكفيها المرتجفين وهي تهمس بصوت مختنق: آني عايزة أشوف شكلي بقى عامل ازاي.

كان سليم واقفا، كأن الأرض تسحب أنفاسه، عيناه مشبعتان بالدمار، وألمه يختنق في صدره، يتشبث بآخر خيط يمنعه من الانهيار، التفت نحو الطبيب بنظرة استغاثة، فهز الأخير رأسه ببطء وهدوء، كإشارة بالموافقة.

مدت سلوى يدها إلى حقيبتها، أخرجت مرآة صغيرة وناولتها لماسة، ارتجفت أصابع ماسة وهي تأخذها، ورفعتها ببطء نحو وجهها، لحظة صمت خانقة سادت المكان، وكأن الأنفاس توقفت.

ثم شهقت بحدة، ويدها الأخرى امتدت تتحسس خطوط وجهها: إيه ده آني ! شكلي بقى عامل كده ليه؟

اقترب عمار بخطوات حذرة، وابتسم ابتسامة واهنة وصوته خرج رقيقا: أنتِ زي القمر يا ماسة، بالعكس دى أنتِ زدتي حلاوه.

لكنها هزت رأسها برفض، والدموع تنهمر من عينيها بغزارة: بس شكلي اتغير، آني نمت بشكل وصحيت بشكل تاني، حتى أنت يا عمار وكلكم متغيرين عليا! آني عايزة أفتكر، عايزة أفتكر كل حاجة!

غطت وجهها بكيها، وانفجرت في بكاء حارق، شهقاتها المتقطعة تكتم صرخة ممزقة.

اهتز سليم، الذي كان على حافة الانهيار، وضغط قبضته حتى احمرت أصابعه، التفت إلى الطبيب بصوت مبحوح، كأنه يستنجد: يا دكتور… هي مش محتاجة مهدئ؟

الطبيب بنبرة هادئة مطمئنة، وهو يراقب ماسة بعين يقظة: لا طبيعي جدا ردة فعلها، بصراحة أنا كنت متوقع انهيار أقوى من كده.

انحنت سعدية عليها واحتضنتها بقوة، وهي تهمس بحنان: يا ضنايا كفايه عياط، إحنا كلنا جنبك، لا إله الا الله كان مستخبيلك كل ده فين يابنتي مش مكتوبلك تفرحي.

مد يوسف يده المرتبكة، وربت على كتفها بصوت خافت: خلاص يا ماسة إحنا حواليكي، مش هتكوني لوحدك.

مسحت سلوى دموع أختها، وقبلت جبينها وهي تهمس: وحياتي عندك خلاص.

حتى مجاهد قرب كرسيه وأمسك كفها للحظة، وقال بصوت عميق مطمئن: أنتِ قوية يا بنتي، وهتعدي من دي إن شاء الله.

جلسوا حولها كحائط حماية، كل واحد منهم يمد لها لمسة أمان في بحر خوفها.

بينما الطبيب كان يتابع المشهد بعين خبيرة، ثم التفت بهدوء نحو سليم، وأشار له أن يقترب قليلا، وقال بصوت منخفض: أنا محتاجك معايا بره دقيقة.

أومأ سليم برأسه إيجابا وتحرك مع الطبيب لخارج الغرفة.

في الممر 
نري سليم والطبيب متوقفا امام بعضهما، الطبيب بدعم: أنا محتاجك تمسك نفسك شوية، وتهدى أعصابك أكتر من كده، لأن هي محتاجة تشوفك ثابت، لو شافتك منهار كده، هتخاف أكتر.

أومأ سليم برأسه ببطء، يبتلع غصته بصعوبة، ومرر كفه على وجهه في محاولة لإخفاء ارتجافته، ثم تنفس بعمق.

تابع الطبيب، وعينيه مركزتان في عيني سليم، بنبرة هادئة لكنها حازمة: بص يا سليم، دلوقتي أهم حاجة تحافظ على هدوءك، هي هتفضل تحت الملاحظة النهارده، بس بكرة ممكن تخرج وترجع البيت عادى، أنت دورك معاها إنك تديها الأمان، متضغطش عليها إنها تفتكر، إحنا هنشتغل مع بعض خطوة بخطوة،جلسات وأدوية بسيطة تساعدها.

شد سليم يده بعزم: أنا معاك في أي حاجة، أهم حاجة ماسة ترجع زي الأول.

هز الطبيب رأسه بهدوء: هترجع، بس بالراحة من غير استعجال.

رمش سليم بعينيه قليلا، وقال بعين دامعه بنبرة متوترة: طب إيه الخطوات اللى ممكن نعملها، أنا خايف عليها يا دكتور 

أشار الطبيب بيده بهدوء ليهدئ من روعه: أول حاجه لازم تتحكم في توترك شويه واعمل التمارين اللى متفقين عليها علشان تساعدك تبقي اهدى، وبعدين خلينا متفقين إن أنت بالنسبه لها دلوقتي إنسان غريب "سليم بيه" يعنى طبيعي تكون متوترة وخجلانه منك كأنها رجعت عذراء خاصة مع أى تلامس بينكم حتى لو كانت بريئه، فلازم تكون حذر، ويفضل لو مامتها قعدت معاكم يومين لحد متاخد عليك شويه وتطمن، وهأكد عليك تانى بلاش تضغط عليها علشان تفتكر خلى ديما هى عندها سؤال وأنت مجرد إجابه، وممكن لو رجعتم فيلتكم الأولي اللى كان ليكم فيها ذكريات جميله ده يساعدها على إنها تفتكر حاجه، وديما خلى قدامها الصور اللى بتجمعكم سواء البومات أو صور علقها على الحيطه.  

نظر له سليم، متسائلا بتردد: طب افرض مسألتنيش؟

الطبيب بهدوء: أكيد هتسألك، وأول حاجه هتسألهالك "أحنا حبينا بعض أزاى" ، وأكيد هيبقي فيه اسئله كتير في دماغها عايزه تلاقي لها إجابات، فأنا مش حابك تفرض عليها أنت الذكريات سيبها هى اللى تبادر بالسؤال الأول، ومتقلقش هى كل ماتشوفك هتصدعك أسئله.

نظر سليم لأسفل وهو يشبك أصابعه في بعض وقال بنبره مهزوزه: طب ولو سألتني عن الذكريات التانيه؟ هجاوب عليها ازاى؟ أنا مش عايز أكدب ولا أخبي عليها نص الحقيقة واقولها النص التانى زى ما كنت بعمل زمان.

الطبيب بهدوء: قولها الدكتور طلب منى أحكيلك قصه تدريجياً.

تردد سليم لحظة، ونظر للأرض ثم رفع رأسه ببطء، وقال بصوت منخفض: تفتكر يا دكتور، ممكن تكون نسيتني عشان كرهاني للدرجة دي؟ دى حتى الفترة اللي كنا فيها كويسين مع بعض،نسيتها؟

تنحنح الطبيب، ووضع يده على كتف سليم بدعم: مش شرط تكون كرهتك، هي ببساطة مش قادرة تتحمل الضغوط النفسية اللي اتعرضتلها في الفتره دى، أنتم معظم حياتكم تقريبا كانت كلها ظروف صعبه، فعقلها الباطن اختار إنه ينسى ويرجع لوقت كان مرتاح فيه أكتر، والوقت دى أنت مكنتش في حياتها فيه، لكن هى مش كرهاك ولا عايزه تنساك شخصيا، بس أنت ظهورك في حياتها كان بدايه فترة الضغط اللى عاشته علشان كده نسيتك، بعدين مس سبب وقوعها واللى هى فيه كان ليه؟ مش لإنها زعلت منك، لأنك عملت العمليه من غيرها، فتفتكر دى كان رد فعل واحده كرهاك لدرجه إنها قاصده تنساك؟  

اهتز سليم قليلا، ونظر إليه بعينين اغرورقت بالدموع، وقلبه يعصف به من الألم، يحاول أن يصدق حديث الطبيب، لكن الطمأنينة لم تتسلل بعد إلى صدره، فمازال الخوف يسيطر عليه.

ركز الطبيب النظر في ملامحه، ثم ابتسم باطمئنان: متقلقش، الموضوع بسيط، وإحنا لسه في البداية، ولسه هقعد معاها تاني.

تنهد سليم بعمق ومسح وجهه ونظر للطبيب متسائلا: طب أنا المفروض لما ادخل جوه، اتعامل معاها ازى دلوقتى

لوح الطبيب بيديه: اتعامل عادى جدا، وهزر، زى مابتتعامل مع أى حد، وخلى مامتها تبات معاكم اليومين دول عشان نشعرها بلامان والراحه، بلاش أخواتها علشان العلاقه مابينكم متوترة ومش حابين إن يحصل أى مشادة قصادها، وأنا هستناكم بعد بكره في العياده الساعه6. 

هز سليم رأسه وشكره بامتنان: شكرا جدا يا دكتور.

ثم التفت إلى عشرى: وصل الدكتور يا عشرى.

غادر الطبيب بخطوات هادئة، فيما تجمد سليم في مكانه غارقا في دوامة أفكاره، يحاول إسكات ضجيج عقله المرهق، متشبثا بثباته بكل ما يملك من قوة، كان عليه أن يرسم ابتسامة واهنة ليطمئن ماسة، رغم نيران الخوف المشتعلة في أعماقه، مسح وجهه بكفيه، استجمع ما تبقى من قوته، ثم فتح الباب وخل، وعلى شفتيه ابتسامة واسعة تخفي صراعه الخفي.

غرفة ماسة.

دخل سليم الغرفة، والابتسامة تزين وجه بينما كانت ماسة لا تزال تبكي.

سليم بنبرة غزل: الجميل لسه بيعيط؟!  مش حرام العيون الزرق الحلوين دول يبقوا كدة..

رفعت رأسها نحوه بعينين دامعتين بصمت

اقتربت سليم، وأضاف بنبرة هادئه: أنا كنت مع الدكتور، وقالي إن بكره هتخرجي، كمان ماما هتبات معاكي النهارده، وقال إن كلها كام يوم وهتخفي.

اتسعت عينا ماسة بسعادة، ومسحت دموعها: بجد؟!

هز سليم رأسه بابتسامه حزينه: أيوة بجد.

ثم رفع نظره إلى سعدية وأشار إليها بهدوء: سعدية، من فضلك دقيقة.

نهضت سعدية اقتربت منه بخطوات مترددة، ثم توقفت على مقربة منه، تتساءل بقلق: خير فيه ايه؟ الدكتور قالك حاجه؟!

حدق سليم في عينيها وهو يتحدث بصوت خافت موضحا بجدية: الدكتور قال إنك هتباتي معاها النهارده، وهي بكره إن شاء الله هتخرج، وهتيجي معانا الفيلا وتقعدي معاها يومين لحد ما تطمن..
ثم أضاف بتحذير وهو يشير بيده بهدوء: بس خلي بالك، متحاوليش تخليها تفتكر غصب عنها، ولو سألت على حاجة، ردي عليها ببساطة، والأهم إنك تفهمي إخواتها يتعاملوا معايا كويس قدامها، هم للأسف مش هينفع يكونوا متواجدين معانا كتير، رغم إن ده كان هيبقى أفضل، بس هما مش عارفين يحطوا كنترول على غضبهم، وأنا مش هغامر بيها، فهحاول أخلي الاحتكاك بينا قليل علشان متحصلش اي مشكله قدامها وتتعب، وبالنسبه للمشاكل اللى حصلت مش هنحكيلها عليها دلوقت، إحنا هنحكيلها بس عن الذكريات الحلوة، فاخرجي كأنك بتطلبي من سلوى تجيبلك لبس أو أي حاجة، وفهميهم بره اللي أنا قولته عشان مش عايزين اي غلط.

ابتسمت سعدية ابتسامة باهتة وأومأت برأسها: حاضر يا سليم، أنا مصدقة إنك مأذيتش بنتي، عشان عارفة قد إيه بتحبها.

ثم التفتت نحو أولادها، وأشارت بيدها بحزم: بقولكم إيه يا عيال يلا روحوا، وأنتِ يا سلوى، روحي مع إخواتك وابعتيلي غيار مع حد من رجالة سليم.

تعلقت سلوي بماسة، وقالت رجاء: أنا عايزة أبات مع ماسة النهارده.

تشبثت ماسة بيد سلوى، وقالت بصوت مبحوح: أيوه يا ياما، خليها تبات معايا.

هزت سعدية رأسها بصرامة: لأ الدكتور قال واحدة بس، وأنا اللي هبات، يلا بقى، مش عايزة وجع دماغ، اسمعوا الكلام.

هز الجميع رؤوسهم في استسلام، وبدؤوا يودعون ماسة واحدا تلو الآخر، يقبلونها بحنان.

مجاهد وهو يقبلها: هجيلك بكره يا حبيبتي.

خرجوا جميعا، وبقي سليم بجوار ماسة، جلس علي المقعد أمام فراشها، ونظر إليها بحنان، وتساءل باهتمام: إنتِ مش جعانة؟

مسحت ماسة، دموعها بباطن كفها وقالت ببراءة: أه آني جعانة أوى، بس مكسوفه أقول.

ابتسم سليم بحنو: لا يا حبيبتى متتكسفيش، تحبي تاكلي إيه؟

ماسة بهدوء: اي حاجة.

سليم بلطف: مش نفسك في حاجة معينة؟

رفعت ماسة عيناها لاعلى بتفكير قصير ثم ابتسمت وقالت ببراءة: خلاص، عايزة سندوتشات همبرجر.

ضحك سليم بخفة: هجيبلك برجر، وكمان  لايون بالكاتشب.

اتسعت عينا ماسة بدهشة، وارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهها: إيه ده؟ أنت عارف إني بحب اللايون بالكاتشب؟

ابتسم سليم، وكاد أن يلمس يدها لكنه تراجع متذكر حديث الطييب: أيوه عارف، هجيبلك كل اللي إنتِ عايزاه، حاضر.

ثم نادى على مكي بصوت عالي: مكي! خلي حد يوصل الجماعة، وهات سندوتشات البرجر اللي ماسة بتحبها، وشيبسي لايون بالكاتشب.

مكي: حاضر.

نظرت ماسة إليه بعينين متسائلتين: هما العيال فين؟

ضيق سليم عينيه، لم يفهم قصدها: عيال مين؟!

قالت ببراءة، ودمعة محبوسة في عينيها: عيالنا، مش أنت قولت إننا متجوزين من يجي 10سنين؟ أكيد عندنا أولاد، هما فين؟ ولا أقولك لا، متجبهمش، آني مش فاكرة أسماءهم، وهيزعلوا مني إني نسيتهم، وريني صورهم كده.

تجمد سليم في مكانه، رمش بعينيه لحظة، وابتلع ريقه؛ لم يكن يتوقع سؤالا كهذا، قال بهدوء وثبات، غير أن صوته خرج مبحوحا، يغلفه ألم عالق في حلقه: إحنا معندناش أولاد يا ماسة.

اتسعت عيناها بصدمة،وقالت بدموع: آني مبخلفش؟ زي أحلام؟

تجمد سليم ورد بسرعة: لأ، مش كده! بس، مين أحلام؟

ماسة وهي تمسح دمعتها: أحلام، أخت هدير صاحبتي، إزاي متعرفهاش؟ مكنتش بتخلف وجوزها طلقها.

ابتسم سليم ابتسامة هادئة ليطمئنها: لأ، أنتِ كويسة، كل الحكاية إني لما اتجوزتك كنتي صغيرة، واتفقنا ساعتها نأجل الحمل لحد ما تكبري.

ماسة بحزن: بس آني كبرت اهو، قولي الحقيقة، آني مش بخلف صح؟!

هز سليم رأسه مؤكدا: والله بتخلفي، وحملتي مرتين، بس حصل إجهاض.

انكمش وجهها بالألم، وانحدرت الدموع من عينيها،
اقترب منها سليم، ومسح دموعها بحنان: ليه دموع؟! إحنا مع بعض اهو وهنخلف إن شاء الله، ونجيب أطفال كتير، ولدين وبنتين، ولو عايزة أكتر، أنا معاكي.

ارتسمت ابتسامة بريئة على وجهها: وهنسمي حور.

ارتعش قلب سليم مع الاسم، كأن سكينا انغرس فيه، تجمدت أنفاسه، واهتزت دمعة في عينه كادت تخونه، لكنه تمالك نفسه بعد لحظة صمت ثقيل: آه، طيب يا عشقي، كفاية أسئلة دلوقتي، وارتاحي شوية لحد ما الأكل ييجي..

ماسة بشغف وحماس: بس آني عايزة أفتكر.

أجابها بلطف، وقال بمهادة كأنه يحدث طفله: هتفتكري، بس لازم نسمع كلام الدكتور، يلا قولي حاضر.

ماسة ببراءه، وملامحها تنكمش بألم: حاضر، بس جسمي واجعني أوي.

سليم بهدوء: معلش يا حبيبتي ده من أثر الوقعة، هخلي الدكتور يديكي مسكن، يلا ارتاحي.

نهض عدل لها الوسادة، فاستسلمت للنوم، وأغمضت عينيها كالملاك، جلس سليم يتأملها، وعيناه تلمعان بدموع مكتومة، وقلبه يتعصر ألما.

في تلك اللحظة دخلت سعدية، وحين رأت ماسة نائمة اقتربت وهمست لسليم: أنا كلمتهم، وفهمتهم كل حاجة، بس هما عايزين يجوا يشوفوها.

أجابها بصوت خافت وإيجابي: يجوا بس أهم حاجة زى ماقولتلك يتعاملوا معايا قصادها كويس،ومحدش يفتح سيرة عن اللي حصل آخر فترة لحد ما نشوف الدكتور هيقول ايه.

طمأنته سعدية: متقلقش..
ثم نظرت إلى ماسة بحزن: يا حبيبتي يا بنتي، كان مستخبيلك فين كل دى، بس الحمد لله على كل حال.

وبعد قليل 

جاء مكي يحمل الطعام، وقف عند الباب يناول لسليم أكياس الطعام، وهو يتساءل بلطف: هي عاملة إيه دلوقتي؟

هز سليم رأسه بحزن: الحمد لله.
ثم أضاف بهدوء: بقولك إيه، روح أنت بقى، أنا هبات.

هز مكي رأسه بإصرار: لا، أنا هقعد معاك.

أخذ سليم منه شنطة الطعام وقال وهو يلمح سعدية: طب عملت حساب سعدية؟

أجاب مكي بسرعة: آه، عملت حساب الكل، وحسابك أنت كمان، أنا هقعد بره، لو احتاجت حاجة ناديني.

ابتسم سليم، وربت على كتفه بأخوه: ماشي يا حبيبي، ربنا ميحرمنيش منك.

ابتسم مكي وغادر الغرفه، والتفت سليم إلى سعدية يقدم اليها بعض الطعام، ثم اقترب بخطوات هادئة من الفراش، وجلس إلى جوار ماسة، ومد يده يمسح برفق على شعرها، هامسا بلطف: ماسة، يلا يا عشقي الأكل جه.

فتحت عينيها بتثاقل، حدقت فيه قليلا، مد يده ليساعدها على الجلوس، فوضعت يديها على رأسها وأنفاسها متقطعة بوجع: راسي وجعاني أوي.

سليم بحنو: معلش كلي يلا، وبعدين هخلي الدكتور يديكي مسكن قوي.

أخرج ساندوتش ومده لها برفق، ثم فتح كيس شيبسي، وابتسم ابتسامة مشجعة وقال: يلا كلي يا قلبي.

أمسكت ماسة الساندوتش بخجل وسألت: هو احنا بكرة هنروح البيت؟

أومأ سليم برأسه: آه.

قالت بنبرة هادئة: طب بكرة هتحكيلي كل حاجة عشان أفتكر؟

هز سليم رأسه: إن شاء الله، بس اتفقنا النهارده مفيش كلام كتير، النهارده ترتاحي وبس.

هزت ماسة رأسها موافقة: ماشي.

بدأت ماسة تتناول طعامها ببطء، وسليم يراقبها وهو يشاركها الأكل، فيما تابعتهم سعدية بصمت، بعد قليل دخل الطبيب، ألقى نظرة سريعة وأعطاها مسكنا، فأومأ له سليم شاكرا، سكنت الغرفة، فغفت ماسة، وأرخى سليم جسده على الكرسي فغلبه النوم، وكذلك سعدية على الكنبة، حل الصباح، وما زال سليم نائما على الكرسي، رأسه مائل ويده تستقر على بطن ماسة، فتحت عينيها تدريجيا، وشعرت بحرارة يده، فاحمر وجهها وسحبتها برفق وخجل.

شعر سليم بها تحرك ببطء، فتح عينيه وابتسم بخفوت، وقال بصوت مبحوح بنبرة ناعسه: صباح الخير.

ابتسمت ماسة بخجل: صباح النور.

فرك سليم عينيه، وهو يتساءل: عاملة إيه دلوقتي؟ لسه جسمك ودماغك واجعينك؟

رفعت ماسة يدها تشير: شوية.

اعتدل سليم واقفا، تأوه من التعب: هروح أكلم الدكتور.

فتح الباب بهدوء وخرج، فرأى مكي ممددا على المقعد بجوار الباب، رأسه مائل وذراعه متدلية، بينما كان الحارسان يتبادلان نظرات عابرة، رفع أحدهما رأسه ليكلم سليم، فأشار إليه واضعا إصبعه على شفتيه: هس

لكن مكي تحرك فجأة، فتح عينيه ومسح وجهه: إيه يا سليم؟ في حاجة؟

سليم ضاحكا: إيه يا ابني نوم الديابة ده؟

تمطع مكي وقال: أنا أصلا مش عارف نمت إزاي.

ربت سليم على كتفه: ماسة صحيت، هشوف الدكتور عشان نتحرك، حضرت الفيلا زي ما قولتلك؟

هز مكي رأسه بحماس وهو ينهض: آه، كلمتهم امبارح، ونفذنا كل اللى طلبته، وكمان بعت سحر هناك.

ابتسم سليم باطمئنان: تمام بس عملت اللي قولتلك عليه؟ لازم أول حاجة تشوفها الصور.

لوح مكي بيده: أيوه، خليت سحر تطلع الصور من الألبومات، وكده كده فيه صور متعلقة على الحيطة.

ثم تابع بهدوء: ادخل أنت خليك معاها وأنا هنادي الدكتور.

وبعد قليل دخل الطبيب الغرفة واطمأن على ماسة، ثم كتب لها الأدوية المناسبة، ساعدتها سعدية في تبديل ملابسها، هبطت ماسة إلى الأسفل متعجبة مما يحدث حولها، لكنها حاولت التماسك، وهي تمسك يد والدتها بقوة كأنها تستمد منها الأمان، فتح السائق باب السيارة، فصعدت ماسة في المقعد الخلفي، وجلس سليم إلى جوارها. 

رفعت عينيها نحوه، تتساءل بتعحب: امي فين؟

ابتسم سليم ابتسامة هادئة: ماما هتركب في العربية التانية، خايفه تركبي معايا اجيبهالك؟

هز رأسه بنفي موضحه: لا مش خايفه، بس اتخضيت.

تبسم سليم بتفهم، تحركت السيارات معا، والصمت يخيم على الطريق.

فيلا عائلة هبة، السادسة مساء

كانت الحديقة هادئة، تتداخل أصوات العصافير مع ضحكة نالا الصغيرة الجالسة على العشب بين ألعابها، تمسك تابلت والدتها وتتصفح إنستجرام من حساب والدها ياسين، تفتح صفحة لوجين، وعيونها تلمع فضولا وهي تضغط الإعجابات المتتاليه.

اقتربت هبة وسحبت التابلت منها برفق: يلا يا نونو سيبيه بقى، قعدتي عليه ساعتين.

نالا بتوسل: بليز يا مامي، شوية كمان.

هبة بحزم حنون: اتفقنا ساعتين بس في اليوم.

نالا بإلحاح: طب خمس دقايق بس أشوف آخر صورة.

نظرت لها هبة باستغراب: أنتِ أصلا بتتفرجي على إيه؟

نالا ببراءة وحماس: على صور چوچا.

نظرت هبه للصور، وتساءلت بتعجب: چوچا؟ وأنتِ تعرفيها منين؟ مش دي السكرتيرة بتاعة بابي؟

نالا بعفوية: آه عرفاها، دى صاحبتي، جت معانا المزرعة يوم الجمعة، قعدت تلعب معايا كتير، وجابتلي حاجات حلوة، شوكولاتة وعروسه، وقطعتلي الفراخ في الغدا عشان متعورش بالسكينة، أنا بحبها أوي، كانت بتحكيلي قصص حلوة، وقالتلي إنها هتجيبلي هدية أكبر المرة الجاية.

جلست هبة أمامها بسرعة، وتساءلت بعينان متسعتان: إيه؟ كانت معاكم يوم الجمعة؟ قعدت اليوم كله ولا جت تمضي ورق للشغل ومشيت؟

نالا ببراءة: معرفش يا مامي، بس هي فضلت معانا طول اليوم، وبابي صورنا صور كتير حلوه، بصي.

مدت نالا التابلت، فأخذته هبة بيد مرتعشة، تتأمل صور لوجين المبتسمة إلى جوار نالا وأحيانا إلي جوار ياسين، توقفت عيناها عند بعض اللقطات، وقد لمحت في نظراته إلى لوجين شيئا مألوفا، نظرة قديمة كانت يوما لها وحدها.

تساءلت هبة باستفسار: طب يا حبيبتي، بابي كان بيعمل إيه معاها؟

ابتسمت بعفوية، وقالت ببراءه: كانوا بيتكلموا ويضحكوا سوا وهو بيفرجها على المزرعه، وبعدين ركبوا سوا على الحصان، أنا كنت نايمة وچوچا صحتني وقالتلي إنها كسبت بابي في السباق.

تجمدت ملامح هبة، ارتجف قلبها بقوة وهي تبتلع ريقها، وعيونها تلمع بخليط من الصدمة والغيرة.

سحبت التابلت فجأة، وقالت بحزم: خلاص يا نونو، روحي العبي بألعابك كفاية تابلت النهاردة، بكره ابقي كملي فرجه على الصور.

هزت نالا رأسها إيجابا، وطبعت قبلة على خدها ثم ركضت نحو ألعابها، فيما بقيت هبة ساكنة كأن الكلمات عالقة في صدرها كحجر ثقيل، بدأت تقلب الصور مجددا، ثم فتحت صفحة لوجين على إنستجرام، فلم تجد صورة إلا وياسين قد وضع إعجابا أو تعليقا رقيقا، وهي بدورها تبادله الإعجابات والكلمات، فجزت هبة على أسنانها بضجر وغيرة.

فيلا سليم ماسة القديمه الثانية مساء.

دخلت السيارة بوابة الفيلا القديمة، تلك التي حملت أجمل ذكرياتهم، كانت ماسة تحدق من النافذة بعينيها الواسعتين، وفجأة ارتجف جسدها، وضعت يديها على رأسها واغمضت عينيها بقوة، ثم تشبثت بذراع سليم فتحت عينيها 

التفت إليها سليم بقلق: مالك يا ماسة؟

تنفست بسرعة، وصوتها خرج متقطعا: مش عارفة، حاسة إني شوفت حاجة!

أشار سليم للسائق أن يتوقف، ثم قال بحنو وهو يحاول تهدئتها: بالراحه، دي فيلتنا القديمة، عشنا هنا سنين كتير في أول حياتنا، وعملنا فيها ذكريات كتيرة حلوه، ممكن تكوني افتكرتي حاجة منهم، تعالي ننزل.

هبط مكي أولا، وفتح لهما السائق الباب، هبطت سليم  ثم هبطت ماسة وعينيها تمسح المكان بخوف واستغراب، بدأت تخطوا خطوات مترددة، وسعدية خلفها  وثناء تحركها، وضعت ماسة يديها على أضلاعها:

انتبه سليم: مالك يا ماسة؟

تنهدت بوجع: الحتة دي وجعاني خالص، وظهري ورجلي، حاسة إني كلي متفشفشه.

ابتسم سليم بهدوء طبيعي: الحمد لله إنك ماكسرتيش من الوقعة اللي حصلتلك على السلم.

هزت راسها بإيجاب: الحمدلله.
اكملا سيرهما في الحديقة حتى وصلت الى باب الفيلا.

استقبلتهم سحر بابتسامة دافئة: حمدالله على سلامتك يا حبيبتي.

نظرت اليها ماسة باستغراب، وتساءلت بصوت متردد: مين دي؟

سليم بهدوء: دي سحر، الدادا بتاعتك. 

عقدت ماسة حاجبيها ببراءة: زي اللي عند لورين ولارا؟

ابتسم سليم، وهو يومئ برأسه بصمت.

أخذت ماسة تتأمل المكان، فوقعت عيناها على صور كثيرة تجمعها بسليم، توقفت فجأة، واشتد تنفسها، تتلاحق الصور في رأسها كومضات، فوضعت يديها على رأسها وأغمضت عينيها وجسدها يرتجف.

اقترب سليم بسرعة وهو يقول بقلق: مالك يا ماسة؟

لكن ماسة ظلت مغمضة العينين، وتلك الصور تهاجمها بلا رحمة، رفعت رأسها فجأة، فتحت عينيها بأنفاس متلاحقة، وصوتها خرج مرتجفا: مش عارفة، آني أول ما دخلت حسيت إن في حاجات بتضرب في دماغي صور ناس وأصوات بس مافيش حاجة باينه! كأنهم أشباح.

سليم بحنو في محاولة لتهدئتها: ده طبيعي يا حبيبتى متخافيش، بالعكس ده مؤشر حلو إنك إن شاء الله هتفتكري.

ترقرقت دموعها في عينيها، وهي تهمس برجاء: آني نفسي أفتكر، حاسة إني ماشية وراكم ومش فاهمه أيتوها حاجه، حاسه إني تايهه.

اقتربت سعدية بخطوات قلقة، مدت يدها وحاولت أن تربت علي كتفها بمواساه: يا بنتي متعمليش في نفسك كدة، هتفتكري  باذن الله، قولي يارب وبس.

قالت ماسة بصوت متهدج، وهي ترتمي في أحضان والدتها، ويعلو صوتها بدعاء ممزوج بالبكاء: يارب، يارب كلام الدكتور يطلع صح، يارب خليني أفتكر كل حاجة يارب، آني تعبت.

كان سليم ينظر إليها بحزن، وعيناه تترقرقان بالدموع، يتمنى لو يستطيع احتضانها وطمأنتها، لكنه بات غريبا في نظرها، ولا يحق له ذلك.

بدأت ماسة تصعد الدرج بخطوات مترددة، وسعديه تساندها، بينما كان سليم يسير خلفهما بصمت حتى وصلوا إلى غرفتها القديمة في الطابق الثاني.

الغرفة

فتحت الباب ودخلت ببطء، تتأمل المكان بعينين حائرتين؛ الصور على الجدران، والفراش الذي رتبته بيديها قديما، وركن جلوسهما، والخزانة، كل شيء بدا غريبا كأنها تراه لأول مرة، اغمضت عينيها ووضعت أصابعها على جبينها تحاول استرجاع أي ذكرى، لكن عقلها ظل فارغا.

تنهد سليم واقترب منها برفق: أنا عندي كام مكالمة لازم أعملهم، غيري هدومك وارتاحي، وخدي حمام، وأنا هخلي سحر تجهزلك الأكل اللي بتحبيه، مش هتاخر عليكي.

هز ماسة رأسها بإيجاب بإبتسامة صغيرة.

خرج وأغلق الباب خلفه، تاركا ماسة مع والدتها.

اقتربت سعدية منها بابتسامة: يلا يا حبيبتي، تعالي أساعدك تستحمي وتغيري هدومك.

احمر وجه ماسة بخجل، وهمست: لأ يا اما، آني هستحمى لوحدي.

سعدية باعتراض: مش هتقدري علشان الجرح اللى في راسك، وجسمك اللى كله ازرق ده، يلا بلاش عناد.

وبالفعل تحركت ماسة معها للحمام، ساعدتها للجلوس، في البانيو بعد أن نزعت عنها ملابسها، وبدأت تغسل جسدها برفق بعيدا عن جرح رأسها، وضعت لها مرهم الكدمات، ثم تركتها لترتدي بيجامة قطنية مريحة، وبعد لحظات، دخلت سعدية وهي تحمل بين يديها قميص نوم قصير وجرئ.

سعدية: بصي يا حبيبتي، بعد ماتاكلي البسي ده حلو، أنا فاكرة انك قولتلي إن سليم بيحب الألوان دي.

حدقت ماسة في القميص أمامها بدهشة، واتسعت عيناها بين الاستنكار والخجل:  إيه ده يا ياما ! ده قصير وعريان قوي، ألبسه إزاي يعني؟

ضحكت سعدية بخفة: إيه المشكلة يا بنتي؟ ده جوزك، هي أول مره تلبسي كده قدامه.

شهقت ماسه بخجل، وتساءلت باستغراب: يعني إيه أول مرة؟ هو آني لبست كده قدامه قبل كده؟!

سعدية وهى تربت على كفيها: يا حبيبتي، أنتِ كنتي متجوزاه 10سنين يعني كل ده بينكم عادي، البسيه.

ازدادت وجنتاها احمرارا، فابتسمت سعديه وربتت على كتفها: وبعدين انتم كدة كدة هتناموا جنب بعض النهارده، ميصحش الست تنام بعيد عن جوزها، فامسكى يا حبيبتى البسي واسمعي الكلام وبلاش مكسوفه والكلام الفاضي ده، ده جوزك..

اتسعت عيناها بخجل شديد: انام جنبه ايه يا ياما، ده آني بتكسف لما يمسك أيدي؟!

ضحكت سعدية وهزت رأسها: يا حبيبتي، ده جوزك، اسمعي الكلام بقى، أنا هقوم اريح في الأوضه اللى جمبك شويه؛ علشان تعبت، طول الليل صاحيه ونومه الكنبه واجعه لى ظهرى،  وهنادى لسليم كمان يجى يريح جسمه شويه، فضل قاعد جنبك على كرسي طول الليل مداقش طعم النوم ولا عينه غفلت عنك لحظه وكل ما اقوله قوم يا ابنى ريح جسمك شويه يقولى لا أنا هفضل جمبها علشان لو احتاجت حاجه، فخليه ينام ويستريح شويه وأنت كمان استريحي وبطلي شقاوة علشان متتعبيش.

تركتها وغادرت الغرفة، بينما بقيت ماسة تحدق في القميص بارتباك، قلبها يخفق بخجل لا تعرف سببه.

وعلى الجانب الآخر، في الحديقة، كان سليم واقفا مع مكي يتحدث معه بجدية.

سليم بجذيه وحزم: مكي، أنا مش عايز أي حد يعرف اللي حصل أو إنها فقدت الذاكرة، اللى يسأل يتقاله ماسة تعبانة وبس وأكد على سحر.

أومأ مكي بثقة: متقلقش، مفيش مخلوق هيعرف غيرنا، لحد ما تخف بالسلامه.



تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة