رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الحادي عشر 11 ج 2 بقلم ليله عادل


رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الحادي عشر 11 ج 2 
بقلم ليله عادل


غرفة سليم وماسة.

كانت ماسة تتحرك في الغرفة ذهابا وإيابا بتوتر واضح، تشبك أصابعها تارة وتفكها تارة أخرى، وتلملم شعرها من وقت لآخر؛ كأنها تبحث عن شيء تخفي خلفه خجلها، قلبها يخفق بسرعة، والخوف يتصارع مع الحياء في ملامحها، لم تكن تعرف كيف ستنام معه اليوم بذلك القميص الذي أعطتها إياه والدتها، تلمس أطرافه بيدها وتتنهد: كيف سترتديه أمامه؟!

وفجأة طرق الباب، ودخل سليم بخطوات هادئة، ووقف عند باب الغرفة يراقبها بإبتسامة مطمئنة.

رفعت ماسة عينيها نحوه تتفحصه بعينين يختلط فيهما الخوف والحرج، فارتجفت ملامحها، وابتعدت خطوة صغيرة إلى الخلف.

ابتسم سليم بهدوء، وقال بصوت يملؤه الطمأنينة، وهو يضع يديه في جيبه: عاملة إيه دلوقتي؟

ماسة بارتباك، وهي تضع شعرها خلف أذنها: كويسة الحمد لله.

أقترب سليم منها يتساءل باهتمام وحنان:مفتكرتيش أي حاجة؟ يعني الصورة إللي شوفتيها وأنتِ طالعة على السلم، مشوفتيش حاجة شبها تاني؟

هزت رأسها نافيه بصمت.

ابتسم سليم ليطمئنها، وقال بحنان: متقلقيش بكرة هنروح للدكتور، وإن شاء الله واحده واحده هتفتكرى.

رفعت عينيها إليه ثم خفضتها سريعا بخجل، وتساءلت وهي تشد طرف جاكيت البيجاما بارتباك: هو، آني ممكن أطلب منك حاجة؟!

اومأ برأسه بابتسامة مشجعه: طبعا.

رفعت عينيها ببطء، وقالت بخجل شديد وتلعثم: بص آني لسة مش عارفاك ومكسوفة منك، ومش هعرف أنام جنبك النهاردة، ممكن تقول لأمي تيجي تنام جنبي، وكأنك أنت إللي عايز كدة؟ متقولهاش إن آني إللي طلبت، علشان متزعقليش وتضربني، ممكن!؟

ابتسم سليم بحنان: بس كدة!؟ حاضر.

اتسعت عيناها بدهشة: إيه ده يعني أنت بجد مش متضايق؟!

هز رأسه نافيا، وهو ينظر إليها بعينين دافئتين: لا خالص.

ابتسمت ماسة بخجل، وخفضت رأسها: شكرا يا سليم بيه.

اقترب منها أكثر، وقال بابتسامه: لا إحنا متجوزين، سليم بس.

ارتسمت، وابتسامة صغيرة على شفتيها:ماشي، شكرا يا سليم.

تحركت ببطء نحو الحائط المعلق عليه صور زفافهما، مدت أصابعها المرتجفة تلامس إطار  صورة زفافها، ثم تساءلت وعينيها تلمعان بالدهشة: هو إحنا دول صح؟

اقترب سليم منها، ويتأمل الصورة بإبتسامة دافئة: آه فرحنا.

نظرت ماسة للصورة بدقة، ثم إلى سليم، ثم مرة أخرى للصورة، وهي تلمس الإطار بخفة: بس أنت شكلك متغير شوية.

ابتسم سليم  بخفة موضحا: آه ما أنا هنا كان عندي 25 سنة، دلوقتي 35.

ثم ضيق عينه وسألها بمزاح محبب، وهو يراقبها بإبتسامة: بس قوليلي، إيه أحلى دلوقتي ولا الصورة؟

نظرت الى الصورة، ثم نظرت له مرة أخرى، وقالت بابتسامة خجولة:  الاتنين حلوين، أنت أصلا أمور أوي..
وفجأة تجمد وجهها، وضعت يدها على شفتيها، بخجل شديد وخوف: آني آسفة، مش قصدي حاجة والله.

هز سليم رأسه، بإبتسامة متعجبا: بتعتذري ليه؟

أطرقت بنظرها نحو الأرض، تعبث بأطراف جاكيت البيجاما: علشان عيب أقول على راجل أمور.

مال سليم قليلا نحوها بإبتسامتة رقيقة، وصوته يحمل دفئا: لا مش عيب، أنتِ مش بتقولي راجل قمور لحد غريب، أنا جوزك، قولي كل إللي أنتِ عايزاه براحتك متخافيش.

سحبت شعرها للخلف بخجل، ثم نظرت ثانية إلى الصور: صورنا دي حلوة أوي، أنت إللي كنت عامل كده؟

نظر سليم إلى الصور وهز رأسه بنفي، موضحا بنبرة دافئة: لا، أنتِ إللي كنتي عاملة كده...
ثم أضاف وهو ينظر لها بعينين دفئتين عاشقتين:أنا مكونتش بفكر بالطريقة دي، لكن أنتِ إللي كنتي بتحتفظي بصورنا وتعلقيها، كل دي أفكارك، وأنا بقيت زيك لما اتعلمت منك إزاي أحتفظ بالصور ويبقى عندي ذكريات.

نظرت له ماسة بعينين تترقرق بالدموع، وهي تلامس الصور بأناملها بنبرة مريرة: آني نفسي أفتكر كل الذكريات الحلوة دي.

أقترب سليم خطوة للأمام، لكنه لم يلمسها، يعرف جيدا أنها تخجل من لمساته، فحاول أن يواسيها بنظراته وصوته، فقال بنبرة هادئة وحنونة: إحنا هنفتكر كل حاجة سوا، أنا ممكن دلوقتي أسهر معاكي وأحكيلك،لكن الأفضل نستنى الدكتور بكرة، عشان يقولنا إيه الحاجات إللي ممكن نتكلم فيها وإزاي.

ثم أمال وجهه من وجهها، بإبتسامة خفيفة، مد أصابعه  على أنفها وكأنه يقصها بمداعبة: كله هيبقى تمام، يا قطعة السكر.

ابتسمت ماسة برقه، وتساءلت بإستغراب: إيه قطعة السكر دي؟

ابتسم سليم، وهو ينظر لها بحنان: أنا كنت بقول عليكي قطعة سكر، وأنتِ كنتي بتقوللي كراميل.

قهقهت ماسة، وهي تميل بجسدها للخلف بخجل طفولي: بجد؟ وأنت وافقت إني أقولك كراميل؟

هز سليم راسه بإيجاب: آه طبعا، أنتِ بتدلعيني كراميل، وأنا بدلعك بقطعة السكر الحلو إللي محلية حياتي.

نظرت ماسة لأسفل بخجل: أنت طيب أوي يا سليم بيه.

مال سليم برأسه بإبتسامة معترضا بحنان: إحنا اتفقنا سليم بس.

ماسة بابتسامه: حاضر.

تنهد سليم، وهو يهم بتحرك: هروح أقول لسعدية تيجي تنام جنبك، تصبحي على خير.

رفعت ماسة عينيها له بإبتسامة رقيقة: وأنت من أهله.

تحرك سليم وعندما وصل إلى الباب، توقف للحظة، والتفت إليها بعينين جادتين، وصوته عميق محمل بالصدق والحب: لازم تعرفي إن طول ما أنا موجود، محدش هيقدر يجبرك على حاجة تاني ولا يضربك، حتى لو أنا.

ثم غادر وأغلق الباب بهدوء، بينما ظلت ماسة واقفة تحدق في أثره، شفتيها ترتعشان بإبتسامة صغيرة، وعيناها تمتلئان بطمأنينة.
         💞_______________بقلمي_ليلةعادل 

فيلا عائلة ماسة، الثالثة مساء

جلس أفراد العائلة فى غرفة المعيشة، عيونهم شاردة وقلوبهم مثقلة بالقلق.

شبك عمار أصابعه بقوة: أنا مش قادر أنسى شكلها وهي نايمة على السرير، عينها تايهة، ومش فاكرة حاجة!

سلوى بصوت مبحوح: لما مسكت إيدي وقالت اسمي، حسيت إن ربنا نجاني من مصيبة أكبر، حمدت ربنا إنها فاكراني.

ضرب يوسف كف بكف بعصبية: طب حد يصدق إن إللي حصل ده طبيعي؟! وقعت لوحدها إزاي؟ أنا مش مقتنع خالص.

ألتفتت له سلوى، تتساءل بتعجب: تقصد إيه؟ إن سليم ليه يد في إللي حصلها؟

يوسف بضجر: أيوه، هي أصلا مش طايقاه، فايه اللى هيزعلها يعنى لو عمل العملية من غيرها؟ الكلام مش راكب.

مال عمار بجسده للأمام: بصراحة، أنا مع يوسف فيه حاجة غامضة.

عضت سلوى شفايفها: يعني هو إللي…؟!

تدخل مجاهد الذي كان يستمع اليهم بصمت، وقال بحزم: كفاية كلام ملوش لازمة، أنتم كده بتحاكموا بني آدم من غير دليل، سليم يمكن غلط في حقنا، بس مش معقول توصل لإننا نتهمه إنه أذى أختكم.

يوسف بصوت عالي: بس يا بابا، أنت شايف إن إللى حصل دى طبيعي!

مجاهد بهدوء شديد: أنا فاهم قلقكم، وأنا أكتر واحد موجوع على أختكم، بس دلوقتي إللي يهمني إن ماسة تخف وترجع لها ذاكرتها، وبعدين متنسوش إن سليم عمل العملية وهو عارف إنها خطر على حياته، فطبيعي تتضايق إنها مكانتش معاه، ويمكن شدت معاه بكلمتين وهما واقفين على السلم زى ما قال ووقعت.

وأضاف وهو يشير بيده بحزم: فبلاش الكلام الفارغ بتاعكم دى، واسمعوا الكلام الدكتور، ومحدش يجيب سيرة قدامها عن أي حاجة من إللي حصل، وتتعاملوا مع سليم كويس قدامها، والا أنا اللى همنكم أنكم تروحولها، أنا مش مستغني عن بنتي.

عمار بإنفعال: بابا، إحنا بس خايفين على ماسة منه.

تنهد مجاهد بحكمة: عارف يا ابني، وأنا مش ببرر لسليم غلطه، هو غلطته كبيرة، بس برضه أختكم غلطت.

سلوى بضيق: وحضرتك شايف إنه عادي زوجة تتهدد بأهلها من جوزها إللي المفروض يكون أمانها!؟

نظر لها مجاهد بهدوء موضحا: أنا مقولتش إن سليم ماغلطتش، أنا قولت إن غلطته كبيرة وضيعتله حقه، بس أختك كمان غلطت، الاتنين غلطانين، بس بعيد عن غلطة سليم دي، عمره ما أساء لينا.

ثم أضاف بحكمة وهو يشير بسبابه: أوعوا تستهونوا إن ست تهرب من جوزها، دي كبيرة وبتكسر الراجل، وبتخليه مش عارف هو بيعمل إيه؟! فنفتكرله الحلو ومنعلقلوش المشانق علي غلطه علشان خاطر اختكم،  أنا عن نفسي سامحته، وكل إللي عايزه إن بنتي تعيش مرتاحة في بيتها.

ثم نهض وهو يلوح بيده: يلا كل واحد يروح يشوف شغله، وأنا هتصل على أمكم أطمن على ماسة.

ساد الصمت، غير أن العيون ظلت تفيض بالشك، تبادل يوسف وعمار نظرة طويلة، كأن حديث أبيهما لم يقنعهما، وكأن قرارا ما بدأ يتكون في أعماقهما.

قصر الراوي 

غرفة صافيناز الجديدة د، الخامسة مساء

جلست صافيناز على الفراش وقد ارتسم الضجر على ملامحها، بينما كان عماد يقف أمامها يرتدى ثيابه المنزلية.

قالت بحدة وهي تتابعه بنظراتها: هتفضل كل شوية تسافر وتسيبني باليومين والتلاتة كده؟

ألتفت إليها وهو يرتدي تيشرت منزلي: كنت في شغل، بخلص شغل لأبويا عشان ناكل يا ماما، بعد ما كل حاجة راحت مننا.

رفعت حاجبيها بإستياء: هو إيه إللي كل حاجة راحت مننا؟! ما أنا لسة مشروعي موجود، غير الفلوس إللي أنت واخدها باسمك.

أقترب منها ببطء وجلس إلى جوارها، قال بصوت هادئ: أرجعهملك عادي.

هزت رأسها بضيق: مش بقول كدة عشان تقولي الكلام ده، أنا عايزاك جنبي، عايزاك معايا، نفكر سوا في أي حل.

تنهد عماد بعجز: والله يا صافيناز، أنا شايفها اتقفلت وخلاص خسرنا.

شدت على يده بعزم: لأ أنا قولتلك ممكن، نساومه على ماسة وبعدين نسافر.

عماد باعتراض: دي محتاجة تكتيك وتركيز.

في تلك اللحظة، طرق الباب بخفة، ودخلت إحدى الخادمات تحمل صينية عليها فنجانين من القهوة، وضعتها على الطاولة وغادرت في صمت.

مد عماد يده إلى الفنجان وهو ينظر إليها بخبث: خلينا نفكر بهدوء من غير استعجال، إحنا لوحدنا دلوقتي، حتى رشدي والهانم خسرناهم..
ثم تساءل بتعجب: الا صحيح، هو رشدي الشمام ده خطب بجد؟

ارتشفت صافيناز رشفة صغيرة من قهوتها: آه راح يتقدم لواحدة إمبارح، البنت إللي كانوا عزموها.

وضعت الفنجان من يدها، وعيني عماد تتنقل بين الفنجانين وبين وجهها، بينما فكرة مظلمة تختمر في ذهنه.

صافيناز بجدية: أنا عايزة أروح الشركة أشوف الحسابات الأخيرة.

اشاح عماد ببصره عنها: تعالي، أنا كتير قولتلك وأنتِ إللي سايبة كل حاجة عليا.

رن هاتفها فجأة، فنهضت مسرعة لتلتقطه من على الكومود، في تلك اللحظة، مد عماد يده بهدوء إلى جيب بنطاله، وأخرج حبة صغيرة أخفاها بين أصابعه، ثم أسقطها في فنجانها، فحرك الملعقة ببطء كأنه يذيب سرا، ثم ارتشف من قهوته متظاهرا بالهدوء، وابتسامة خبيثة ترتسم علي وجهه.

عادت صافيناز وهي تقول في الهاتف: خلاص بكرة هبقى موجودة.

جلست بجواره من جديد، غير مدركة أن شيئا آخر كان يذوب في فنجانها.

كان عماد يتجنب النظر إليها، أنفاسه تتسارع، وأصابعه تنقر على حافة الطاولة، في داخله نار صامتة وغيظ مكتوم خلف ملامحه الجامدة، ثم رمقها بإبتسامة باردة طويلة، كأنها تمهد لشيء أثقل من الكلام.

الجيم، الخامسة مساء

كان ياسين يقف إلى جوار فتاة يضحك معها بصوت عالي، ومن بعيد، وقفت لوجين تراقبه، ملامحها متضجرة، وفي عينيها بريق غيرة حاولت إخفاءها، تنفست بعمق، ثم تقدمت نحوه بخطوات محسوبة.

لوجين بغيرة مبطنة: هاي

ألتفت إليها متسائلا بخفة: اتأخرتي ليه؟

لوجين بحدة خفيفة: هيفرق معاك، ما أنا شايفاك لاقي إللي يسليك؟!

رن هاتف الفتاه، فلوحت اليه بابتسامه: طب ياسين أنا ماشية، باي

غادرت الفتاه، بينما ألتفت ياسين إلى لوجين واقترب منها قليلا وهو يحاول تفسير ملامحها: مالك قالبة وشك ليه؟

اشاحت لوجين بعينيها بعيدا عنه وهي تزفر بعنف: مفيش

 وجهه بعدم اقتناع: أوكي براحتك.

صمت للحظه، ثم تساءلت بلامبالاه مصطنعه وهي تلعب في شعرها: هي مين اللى كانت واقفه معاك دى؟

ياسين ببساطه: دي جومانا.

تساءلت بحده: مش بسأل على اسمها، أنا بسأل مين دى!؟

ياسين بهدوء: زميلتي من أيام الجامعة، مالك عصبيه النهارده كده ليه؟

أشاحت بوجهها بضيق: مفيش، أنا هدخل اغير هدومي علشان أتمرن.

قالت كلماتها وغادرت، فاكتفى بهز رأسه بعدم فهم، ثم استأنف تمرينه، ورغم انشغال لوجين برفع الأثقال، كان يتابعها بعينيه، يقرأ غضبها في شد عضلاتها، لم يستطع الانتظار أكثر، فتقدم نحوها بخطوات هادئة ممسكا بزجاجة مياه.

اقترب وأخذ الحديد من يديها بابتسامة: متعصبه ليه مالك؟

هزت لوجين رأسها نافيه بضيق: مش متعصبة، أنا عادي.

حاول ياسين تغير الموضوع: خطوبة رشدي كمان ثلاث أيام، مش محتاجه عزومه طبعا أنتِ ومامتك ونغم.

لوجين بابتسامه: ألف مبروك.

ياسين بلطف: الله يبارك فيكي، عقبالك.

ابتسمت وتساءلت بفضول:  عملت إيه مع هبة؟ صالحتها؟!

تنهد ياسين وهو يهز كتفيه: لا لسة.

 لوجين بهدوء: فكر كويس، علاقتكم تستاهل فرصة، أنتم بتحبوا بعض.

ابتسم ياسين بخفة، مع لمحة من الحيرة في عينيه: عارفة يا لوجين، الاشتياق بحسه علامة للحب، لو يومك مبيعديش من غير شخص معين، يبقى بتحبيه، لكن لو عدى عادي، يبقي أكيد مبتحبيهوش، ودى اللى بقي يحصلي مع هبة مبقتش اشتاقلها، بكلمها علشان بنتي بس.

نظرت له بارتباك، وعضت شفتها السفلى: مش عارفة يا ياسين، بس حاسة إنك مفكرتش كفاية.

في تلك اللحظة، ظهرت جومانا من بعيد تلوح له: ياسين، أشوفك في خطوبة رشدي!

ابتسم وهو يلوح بيده: أكيد يا جوجو، باي.

قلبت لوجين عينيها بغيظ مكتوم، وضغطت على قبضتها قليلا: جوجو كمان؟ ما شاء الله.

ضحك ياسين بخفة: يا بنتي صاحبتي، عادي.

هزت لوجين رأسها بغيره مبطنه: اممم واضح، طب يلا خلينا نمشي علشان عندى معاد دكتور مع ماما.

ياسين بلطف: ألف سلامه عليها.

لوجين باقتضاب: الله يسلمك.

ثم غادرت بخطوات غاضبه، تحاول إقناع نفسها بأنها لم تغار، بل ما أثارها فقط هو مظهر تلك الفتاة وأسلوبها المبتذل، ثم تساءلت في داخلها: وعلى ماذا أغار؟! فهي وياسين لا يربطهما سوى صداقة لا أكثر.

وقف ياسين يراقبها وهي تغادر، ملامحه تظهر استغرابا ودهشة، ثم هز كتفيه وعاد يكمل تمرينه كأن شيئا لم يكن.

قصر الراوي، السادسة مساء

كانت تجلس؛ مي وفايزه ورشدي وراشد وزوجة حازم شقيق مي الأكبر حول الطاولة الصغيرة في الصالون، وكان الجواهرجي أمامهم يعرض قطع الألماس المتنوعة؛ خواتم وأساور وعقود تلمع تحت ضوء المصابيح.

تساءل رشدي وهو يتأمل القطع: مفيش أي حاجة عجباكي!؟

مي بحيرة: بالعكس كلهم حلوين.

رشدي بإبتسامة: خديهم كلهم.

ضحكت مي: مش للدرجة دي.
ثم تناولت أحد الخواتم وارتدته قائلة: الخاتم ده حلو بس مش عارفه ده بردو عجبني.

فايزة بتهذب وارستقراطية: تحبي أرشحلك حاجة؟

هزت مي رأسها موافقة.

مدت فايزة يدها وأشارت إلى سوار ألماس رقيق مع عقد متناسق: دول حلوين، ده زمرد خالص والخاتم الاول افضل الحجر فيه اكبر وارق.

زوجة حازم بإبتسامة: فعلا، أنيق ورقيق زوقك هايل يا هانم.

فايزة بالتركي: تشكرات.

مي بعد تردد قصير: خلاص تمام، هاخدهم.

رشدي بجديه: لو مش عاجباك، قولي، متتكسفيش.

مي بابتسامة: لا والله بجد عاجبني، هاخدهم.

هز رشدي رأسه بإيجاب.

ابتسمت زوجة حازم وهي تنظر لمي: مبروك يا ميوش.

مي بخجل: الله يبارك فيكي.

فايزة بارستقراطيه: طب اتفضلوا على السفره العشاء جاهز.

نهض الجميع متجهين إلى المائدة، وانضم إليهم أفراد عائلة الراوي وأشقاء مي الذين كانوا ينتظرون في الحديقة، جلسوا يتناولون العشاء في أجواء مبهجة جمعت معظم العائلة، ما عدا سليم الغائب عن المشهد،ط.

وبعد العشاء، خرج رشدي مع مي إلى الحديقة العلوية للقصر، حيث كان الجو لطيفا والنسيم العليل يمر بين الأشجار.

الحديقة العلوية 

جلسا مي ورشدي على الأرجوحة يتبادلان الحديث لكن بينما مسافة معقولة.

تساءل رشدى بابتسامه: عجبتك الشبكه؟

مي بسعادة: آه جميلة جدا والدتك.

صمت رشدى لحظه، ثم قال مقترحا وهو يتلفت بعينيه حول المكان: إيه رأيك نعمل خطوبتنا هنا؟

رفعت مي عينيها تتأمل المكان حولها، ثم قالت بإبتسامة: جميل، معنديش مشكله.

رشدي باهتمام: لو حابة نعملها في مكان تاني، قولي، متقوليش ماشي على حاجه وأنتِ مش حباها.

مي بابتسامه رقيقة: لأ والله المكان هنا جميل، نعملها هنا.

صمتت لثواني، ثم تذكرت شيء، فألتفتت إليه بحماس: بقولك إيه، أنا عندي مشوار بكرة وكنت عايزاك تيجي معايا، هستناك الساعة11.

رشدي مازحا وهو يتفحصها من أعلى لأسفل بإستنكار مصطنع: لأ لو سمحتي متعطلنيش، أنا دلوقتي رجل أعمال وعندي مشروع مهم، ووقتي مش ملكي.

مي بإبتسامة: بجد يا رشدي مش بهزر، عايزاك تيجي معايا، وأوعدك هتتبسط.

رشدي ممازحا: طب اتحايلي عليا شوية.

صاحت مي بضجر طفولي: أنا أصلا مش باخد رأيك، أنا بعرفك، هتيجي معايا يعني هتيجي معايا.

رشدي بخضة مصطنعة: خلاص يامحمود أنصرف! بتتحولي في ثانيه، حاضر هاجي أنا قولت حاجة؟!
     💞____________بقلمي_ليلةعادل.
فيلا سليم وماسة، السابعة صباحا

كانت ماسة تقف أمام غرفة سليم، تتحرك ذهابا وإيابا وهي تهمس بصوت منخفض: هو ليه نايم للوقت ده؟ شكله بيصحى متأخر.

شدت طرف جاكيت البيجاما وجلست على السلم لدقائق تعض شفتيها، ثم نهضت لتطرق الباب، لكنها ترددت وسحبت يدها بخفة.

شعرت بالجوع، فتنهدت بضيق ونزلت إلى المطبخ، أعدت إفطارا خفيفا وتناولته سريعا، وكانت الساعة تقترب من الثامنة.

ثم عادت إلى الطابق العلوي مرة أخري، ووقفت أمام باب غرفته، تارة تمشي في الممر وتارة تجلس على السلم تراقب الباب بقلق وفضول؛ تتمنى أن يستيقظ لتسأله عن كل شيء، عن تعارفهما وزواجهما وذكرياتها الضائعة، ثم جلست أمام الباب مسندة ظهرها إليه.

حتى دقت الساعة العاشرة.

فجأة، سمعت صوت مقبض الباب، فانتفضت واقفة، ارتسمت السعادة على وجهها، عيناها تتلألآن وهي تتطلع إليه.

فتح سليم الباب، وهو مازال يتثاءب، شعره مبعثر وعيناه نصف مغمضتين، نظر إليها بإستغراب وهو يحك عنقه، يحاول أن يستوعب الموقف.

سليم بخضة وهو يفتح عينيه قليلا: ماسة؟ في إيه؟

ابتسمت ماسة بإبتسامة واسعة: صباح الخير.

مرر سليم يده على وجهه بنعاس: صباح النور، إيه إللي موقفك كده؟

اعادت ماسة شعرها للخلف بحركة سريعة: كنت مستنياك تصحى، كل ده نوم؟ بتصحى متأخر أوي.

عقد سليم حاجبيه متسائلا: ليه هي الساعة كام دلوقتي؟

ماسة بجدية طفولية: الساعة عشرة.

سليم وهو يتثاءب بشدة ويمد ذراعيه: عشرة! ده متأخر؟!!

لوحت ماسة بيدها وقالت بإنفعال طفولي: أيوه، آني صاحية من الفجر، صليت وقاعدة مستنياك.

حك سليم رأسه: طب مدخلتيش صحتيني ليه؟

نظرت ماسة إلى الأرض بخجل: اتكسفت.

ثم فجأة أمسكت بيده وسحبته بحماس طفولي، وهي تبتسم ابتسامة واسعة: يلا بقى، تعال أحكيلي، أنت اتجوزتني إزاي؟ وعرفتني إزاي؟ وكل حاجة، أنت قولت هتحكيلي النهارده.

سليم وهو يتمطى ويتكاسل عن الحركة: أصبري بس أفطر وأفوق وأشرب مشروبي.

مالت ماسة برأسها بفضول: طيب أنت بتفطر إيه؟

تنهد سليم رافعا كتفيه: عادي أي حاجة، بس قبل ما أفطر بلعب رياضة وبشرب مشروبي.

وضعت ماسة يديها على خصرها وهي تقول بتذمر طفولي: يعني لسة هستنى كل ده!

ضحك سليم، ومال بجسده على الباب: معلش، بعدين إيه الطاقة دي كلها على الصبح؟

رفعت ماسة حاجبيها بإهتمام: طب المشروب بتاعك ده بيتعمل إزاي؟

لوح سليم بيده: مية دافية عليها ليمون ومعلقة عسل نحل.

كرمشت ماسه وجهها بامتعاض: إيه المشروب الوحش دى؟؟ أنت عيان!؟

ضحك سليم بصوت عالى: لا، أنا متعود عليه، وهو صحي جدا.

تنهدت ماسة بملل ثم قالت بحماس: خلاص، هعمللك المشروب والفطار، وأنت شوف هتعمل إيه بسرعة، علشان تحكيلي.

هز سليم رأسه بابتسامه: ماسة أصبري، إيه الطاقة دي يا حبيبتي؟ طب زمان كنت أقدر أتحملك، كنت ساعتها لسه25سنة، لكن فرط الحركة ده مقدرش عليه دلوقتي.

رفعت ماسة يدها وهي تلوح بإستهزاء: طب يا راجل يا عجوز خلص، وسيبني أروح أعملك إللي أنت عايزه.

ضحك سليم ورفع أحد حاجبيه متسائلا: أنا راجل عجوز؟

رفعت ماسة حاجبيها مقلدة له: مش أنت اللي قولت إنك مش قد الفرهدة بتاعتي؟ تبقي عجوز.

إنحنى سليم للأمام ضاحكا: آه، ده إحنا رجعنا تاني للماضة زمان بقى!

اخرجت ماسة لسانها مازحة وتدير وجهها: إذا كان عاجبك!

خطى سليم خطوة ناحيتها بإبتسامة ماكرة: لا ما إحنا لو رجعنا للماضة زمان، أنا كمان ممكن أرجع للي كنت بعمله زمان.

فتحت ماسة عينيها بدهشة: كنت بتعمل إيه زمان؟

ابتسم سليم بخفة، مد يديه فجأة وامسكها ليدغدغها: بعمل كده.

صرخت ماسة وهي تضحك وتحاول الإفلات: لا، بس عيب! عيب ..خلاص بقي.

ابتعت سليم خطوة، وهو يضحك: يبقي تبطلي لماضة وتسمعي الكلام. 

أشارت ماسة بأصبعها وهي تلهث من الضحك: حاضر، بس يلا بسرعة بقى، أنى هستناك تحت.

بعد قليل

نرى سليم في الحديقة يقوم بعمل التمارين التي أوصى بها الطبيب، اقتربت ماسة منه تتأمله وهي تتقدم نحو المكان وهي تحمل المشروب في يدها، وقف يتصبب عرقا بعد جولة من التمارين، وما إن رآها حتى ابتسم وتقدم نحوها.

سليم بإبتسامة ممتنه وهو يأخذ الكوب: شكرا، تسلم إيدك.

تساءلت ماسة بحيرة: آني محتارة أعملك فطار إيه.

سليم وهو يحتسي رشفة: أعملي إللي إنتِ عايزاه، أي حاجة من إيدك بتبقى حلوة.

مالت ماسة برأسها بفضول: المشروب ده طعمه حلو؟!

مد سليم يده لها بالكوب: خدي دوقي.

تراجعت ماسة بخجل: إزاي يعني؟!

سليم بإبتسامة دافئة: عادي

ابتسمت ماسة بخجل: مش هتقرف مني؟!

ابتسم  سليم برقة: أكيد مش هقرف منك يا ماستي الحلوة.

أخذت الكوب بخفة من يده، ارتشفت منه، ثم أغلقت عينيها لحظة وقالت بدهشة: الله، ده طعمه طلع حلو!

ضحك سليم:خلاص كملي أنتِ الكوباية

لوحت ماسة بيدها رافضة: لا لا، آني مش عايزة، هعمل لنفسي نسكافيه وأحضرلك الفطار، يلا خلص بسرعة بقى.

هز رأسه مبتسما وعاد ليكمل تمرينه، بينما غادرت ماسة بخفة إلى المطبخ، وبعد قليل، دخل سليم إلى الحمام ليستحم، فيما كانت هي مشغولة بتحضير الإفطار بإستمتاع.

الحديقة بعد نصف ساعة

جلس سليم أمام المائدة في الحديقة، الهواء العليل يحرك أوراق الشجر، وبدأ يتناول فطوره بشهية.

سليم وهو يلوح بالخبز: بجد الأكل من إيدك حاجة تانية

ماسة بإبتسامة خجل وهي تلعب بشعرها: شكرا يا بيه قصدي يا سليم.

سليم بابتسامه: متاكلي معايا.

رفعت ماسة عينيها نحوه: أكلت.

وضع سليم جبنه على قطعة خبز، ومد يده اليها: لا كلي دي من إيدي

كادت أن تمسكها بيدها، لكن مد سليم وجهه برفض: تؤ أفتحي بوقك

اخفضت ماسة رأسها بخجل: بس..

سليم بلطف: بس إيه أنا جوزك، يلا عشان تفتكري

ماسة ببراءة: حاضر.

فتحت فمها وتناولتها بخجل: كفاية بقى آني والله شبعانة.

سليم وهو بيمضع الطعام: ماشي.

عدلت ماسة من جلستها، عيناها تتلألأ بغضول: طب متحكيلي وأنت بتاكل، عرفنا بعض إزاي؟ واتجوزنا إزاي؟ أصل مش مصدقه إن سليم بيه ابن الباشا والهانم، اتجوزني آني ماسة بنت سعدية ومجاهد؟ أهلك وافقوا إزاي؟

أخذ سليم القليل من الماء، وكاد أن يتحدث لكن فجأة
رفعت يدها وهي تقول بحماس: استني، في حاجة أهم.

ضيق سليم عينه بإستغراب: إيه هي؟!

اقتربت ماسة وجلست بجواره، وتساءلت بحماس: هي لورين عرفت؟

ضحك بخفة قبل أن يجيب: أيوة أكيد عرفت.

فتحت ماسة فمها بصدمة صغيرة: يا نهار أبيض! بجد نفسي أفتكر شكلها.

ضحك سليم: ومش بس كده أنتِ كمان ضربتيها بالقلم وخليتيها تغسلك رجلك؟

اتسعت عينا ماسة فاغرة فمها بدهشة: قول والله العظيم!

رفع سليم يده ضاحكا: والله العظيم.

قفزت ماسة من مكانها بحماس ودهشه: آني عملت كده في لولو بنت سيدي منصور بيه؟!

هز سليم رأسه بإيجاب: أيوة هي عملت حاجة ضايقتني وزعلتك، فده كان عقابها.

صفقت ماسة بيديها بمرح طفولي: الله! لا لا، أحكيلي، أحكيلي!

ثم أمسكت بيضة من الطبق ووضعتها في فمه وهي تقول: يلا كل وأحكيلي.

اتسعت عينا سليم من فعلتها وضع يديه على فمه يحاول ان يبتلع البيضه ثم قال: يا بنتي أصبري، يخرب بيت الشقاوة، بطلي فرهدة!

أطرقت ماسة برأسها وقالت بصوت خافت: آني آسفة.

مد سليم يده يربت على كتفها مطمئنا: مش بقول كده علشان تتأسفي، أنا بهزر معاكي، أعملي إللي أنتِ عايزاه.

رفعت ماسة رأسها، تتساءل: يعني أنت مزعلتش مني؟

هز سليم رأسه بإبتسامة حنونه: لا مزعلتش، بصي يا فرهودة، أنا عارف إني مش هخلص من زنك.

تنهد، ثم اعتدل في جلسته وقال: أنا شوفتك أول مرة، لما رشدي حاول يقرب منك.

قاطعته ماسة بسرعة: وأنت ضربته صح؟ أنت حكيتلي في المستشفي.

سليم بإبتسامة واثقة: أيوة، أكيد ضربته، وجبتلك حقك

ضحكت ماسة بمرح: أنت شطور يا سليم، كمل.

تنهد سليم وهو يستعيد الذكريات: بعدها بقى، قعدت في المزرعة، مش عارف ليه، بس كان نفسي أتعرف عليكي، حسيت إني عايز أتكلم معاكي، وعايز أعرف مين البنت الحلوة دي.

نظرت ماسة له بخجل، وقالت بنبرة مرحة: يعني عجبك شكلي؟

هز سليم رأسه مؤكدا: أيوة، كنتي زي القمر، بس مش شكلك إللي شدني، إللي شدني أكتر شخصيتك.
ثم قلدها بمرح: وطريقتك وأنتِ بتقولي متستصغرنيشي يا سليم بيه.

ارتبكت ماسة، فشبكت أصابعها بحياء، فيما أكمل سليم: وعدت الأيام في المزرعة، واتكلمنا كتير، وحصل بينا مواقف اكتر، وكل يوم كنت بحبك أكتر، لحد ما اتجوزتك.

ضربت ماسة على الطاولة بخفة وقلبت وجهها بتكشيرة: هو إيه سلق البيض ده؟! أنت بتضحك عليا؟! هو آني فهمت حاجة؟ أنا عايزاك تحكيلي تفاصيل،يعني مثلا؛إزاي أنقذتني من اخوك؟ وإيه إللي حصل؟ وحبتنى إزاي؟ والمواقف دي.

ابتسم سليم مازحا: اه أنتِ عايزة تفاصيل التفاصيل! لا كده اعمليلي قهوة بقى.

أدرت ماسة وجهها بتذمر طفولي: ييييوه

أمسك سليم يدها وهو يضحك: متقلبيش وشك، خلاص هحكيلك، تاني يوم بعد الحفله قولت لنفسي: أنا هقعد في المزرعة، وساعتها طلبت منك تيجي توريني الاستراحة...

وبدأ سليم بسرد ما حدث، كانت ماسة تضع يدها على خدها، تحدق فيه بإنتباه، تستمع له بتركيز وكأنها تريد أن تبتلع كل كلمة، بينما بدأ هو يحكي لها كل شيء حدث بينهما خلال وجوده في المزرعة.

وبعد الانتهاء، مال سليم على مقعده وهو يحتسي آخر رشفة عصير، وارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة، ثم قال بحماس وهو يرفع حاجبه: بس يا ستي وبعدها سعدية دخلت علينا وطلبت إيدك للجواز.

تلألأت عينا ماسة بإبتسامة خجل، أمسكت كوب النسكافيه بكلتا يديها، وقالت بصوت رقيق: يا رب أفتكر كل الحاجات الحلوة دي، طب وبعدين، أهلك وافقوا إزاي؟

حك سليم رأسه، وأسند ظهره إلى الكرسي وهو يقول بهدوء: لا، هما موافقوش، وحصلت مشاكل كتير.

رفعت ماسة الكوب إلى فمها، ارتشفت رشفة صغيرة، وظلت عيناها معلقتين بوجهه: أيه اللى حصل؟!

بدأ سليم بسرد الحكاية، بصوت هادئ وإشارات يده تعكس المشاهد التي يصفها، كانت ماسة تميل برأسها على كفها، تتأمله بانبهار، وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها كلما أزداد حماسه.

وبعد الانتهاء، قالت بصوت مبحوح وهي تنظر في عينيه مباشرة بنبرة متعجبه: يعني أنت سبت أهلك وفلوسك وكل حاجة علشاني آني؟

مد سليم يده، وضعها فوق يدها بحنو، وأجاب بإبتسامة دافئة: أيوه، عملت كل ده علشانك، ومستعد أعمل أكتر من كده كمان، هو إحنا عندنا كام ماسة؟! هي قطعة سكر واحدة بس.

ارتعشت أنفاسها، ابتسمت بعين يغمرها الدمع، ثم همست بخجل: أنت حبيتني اوي كده؟ أنت طيب أوي يا سليم، أنا يا بختي بيك بجد،  طب أحكيلي بقى شهر العسل كله كان عامل إزاي؟ أو السنة العسل دي؟

ضحك سليم، وتساءل مستنكرا: دلوقتي؟

ضحكت هي بدورها، وإنحنت نحوه بخفة: وحياتي؟ أنت مشغول؟ آني معطلاك يعني؟!

تنهد متصنعا الإرهاق، وضع يده على بطنه وقال: لا يا ستي، أنا واخدلك أجازة الأسبوع ده كله، بس أعملي كوباية قهوة يا ماسة ياشقية وسبيني أكمل فطاري إللي مكملتوش، وبعدين احكيلك كل إللي نفسك فيه اليوم لسه طويل.

نهضت واقفة وهي تضحك وتغمز بعينيها: ماشي، خلاص أنا هسيبك تكمل فطارك عقبال معملك القهوة،
أنت قهوتك إيه؟

سليم بإبتسامة لطيفة: قهوتي مظبوطة!

قالت بحماس: عيوني هعملك أحلى فنجان قهوة شربته في حياتك. 

ظل سليم يتناول فطوره بهدوء، بينما ابتعدت هي بخطوات خفيفة، تتلفت إليه بين الحين والآخر، عيناها تلمعان بإعجاب، وابتسامتها لا تفارق شفتيها، تابعها هو بعينيه، والفرح يفيض من ملامحه، وبعد دقائق، عادت وهي تحمل صينية عليها فنجان القهوة وكوب ماء، ووضعتها أمامه 

جلست بجواره، متحمسة كطفلة تنتظر الحكاية: يلا كمل بقي.

سليم وهو يتعدل: عايزة تعرفي إيه بالظبط؟!

قلبت ماسة وجهها: كل حاجة، أنت هتختار ولا إيه!؟

سليم بابتسامه: طيب يا لمضة.

رفع سليم الفنجان، شرب أول رشفة، وألقى نظرة عميقة عليها: بصي يا ستي، أول بلد سافرناها كانت سويسرا، علشان كان نفسك تشوفي البحر إللي فيه شلال أو جبل بينزل ميه زي ما كنتي مسمياه.

صفقت ماسة بكفيها بمرح: الله! آني شوفته بجد؟
ثم عدلت جلستها على المقعد، وأشارت بيديها وهي تقول: استني...
ثم اقتربت منه أكثر، وأسندت كفيها على خديها بعينين متشوقتين:  يلا أحكي.

أخذ يسرد تفاصيل تلك السنة، وملامحه تمتلئ بالذكريات، وهي تضحك أحيانا حتى تغطي وجهها بيديها من شدة الفرح، وأحيانا تترقرق دموعها من التأثر.

وبعد ساعات، مسحت دمعة ناعمة على خدها وقالت بصوت متهدج: أنت عملت كل ده عشاني؟ وقفت قصاد لورين وجبتلي حقي منها، واتجوزتني ووقفت قصاد أهلك، وسبت الفلوس، وعيشتني زي الملكة، وسفرتني البلاد الحلوة دى، حتى ابوك إللي كنت بخاف منه، خليته يعتذرلي!؟ يا نهار أبيض، آني بجد نفسي أفتكر كل الحاجات الحلوة دي يا سليم أنت حنين أوي أنا حبيتك خالص.

أمسك يدها برفق وقال وهو يبتسم بتاثر: هتفتكري يا حبيبتي إن شاء الله.

مالت برأسها بخجل وهمست: مش كنت بتقولي يا عشقي؟

اقترب منها وضحك: آه كنت بقولك عشقي، بس أنتِ حبيتي كلمة حبيبتي أكتر.

أغمضت عينيها بخجل: قول عشقي كده.

مد يده ومسح على شعرها بحنان: يا عشقي وحبيبتي ها أنهي أكتر؟!

ضحكت بخجل: الأتنين طالعين منك حلوين أوي، قولي الاتنين..
ثم قالت بحماس: كمل يلا بعد مارجعنا، إيه إللى حصل؟

سليم بمهاودة وكأنه يحدث طفله: حاضر بس مش نروح نصلي الظهر الأول؟ العصر خلاص فاضله نص ساعة ويأذن، نصلي ونرتاح شوية، علشان الدكتور قال مينفعش تعرفي كل حاجة مرة واحدة، واتفرجي على الصور هتساعدك أكثر. 

تنهدت ماسة ببراءة: حاضر.

ساد صمت قصير، قطعه صوتها الحزين وهي تنظر إلى الأرض: بس قولي، آني أصلا وقعت ونسيت إزاي؟ إيه إللي حصل؟ 
أضافت ببراءة والحاح: آخر سؤال والله.

تنهد سليم بعمق: كنتي متعصبه وعايزه تمشي، والكلام ده كان عند السلم، مسكت أيدك علشان اوقفك، بس شديتي إيدك جامد، فوقعتي.

رفعت عينيها بإستغراب: وآني ليه أعمل كده؟!

أجاب بهدوء وصدق: علشان عرفتي إني عملت العملية وأنتِ مكنتيش معايا.

تجمدت ملامحها وقالت بعدم تصديق: وآني إيه إللي يزعلني في كده؟ هو أنت أصلا عيان؟!

أطرق برأسه بنبرة مكتومة: آه من سنين، بعد الحادثة، كان عندي رصاصة في ظهري مهددة حياتي.

أنهارت دموعها من الصدمة، فتابع سليم بصوت منخفض:عملتها وأنتِ مكنتيش معايا، فزعلتي وكنتي عايزه تمشي.

أومأت برأسها وهي تمسح دموعها بسرعة: حقي أزعل منك، أنت ليه تعملها وآني مش معاك؟ مش إحنا متجوزين وبنحب بعض؟

صمت سليم لحظة، ثم تنهد وقال: مكنتيش موجودة.

نظرت له بعدم فهم: أزاى يعنى؟!

ألتزم سليم الصمت لحظات، ثم أدار وجهه بعيدا، كان عقله يتخبط بين الرغبة في أن يصارحها بكل شيء، والخوف من أن يرهقها بما لا تحتمل، تردد طويلا، فقد أقسم مع نفسه أن يتخلى عن الأساليب القديمة التي اعتادها معها؛ أنصاف الحقائق والصمت عن بقية الحكاية، كان صوته الداخلي يذكره بكلام الطبيب: "متحكيلهاش أحداث سيئة دلوقتي، دي لسة يومها الأول.

عاد بنظره إليها، وحاول أن يوضح لها بصدق: بصي هتعرفي كل حاجة، بس بالترتيب، خليني دلوقتي أقولك بعد مارجعنا القصر إيه إللي حصل، ماشي؟

عضت ماسة شفتها بعناد طفولي، وقالت وهي ترمقه بعين غاضبة: لا، آني عايزة أفهم، كنت فين وليه مكنتش معاك؟

ابتسم رغم التوتر، وصوته خرج هادئا كأنه يحدث طفله صغيرة: ماسة، أسمعي الكلام وقولي حاضر.

زفرت بضيق، وأسندت ظهرها إلى المقعد: حاضر، بس آني عايزة أفهم.

ربت على يدها برفق وهو يبتسم: هتفهمي يا عشقي، بس نمشي بالترتيب زي ما الدكتور قال.

هزت رأسها بإستسلام، وصوتها صار أكثر هدوء: ماشي.

وقف لحظة، ثم مد يديه إليها، ترددت، ونظرت إليه بخجل لثواني، ثم وضعت كفيها فوق يديه، ووقفت  أمامه.

سليم بنبرة حانيه: هنصلي دلوقتي وبعدها تستريحي شوية، ونتغدى وبعدين نروح للدكتور، وهو يقولنا نعمل إيه، اتفقنا؟

ابتسمت ابتسامة صغيرة، وأومأت برأسها: اتفقنا.

وبالفعل، ذهب كلا منهما ليتوضأ، ثم صلى في غرفته الظهر والعصر، إذ كان الأذان قد رفع.

بعد أن انتهت ماسة من الصلاة، جلست في مكانها وهي ماتزال ترتدي الإسدال. 

لمعت في ذهنها القصة التي حكاها سليم، فارتسمت على شفتيها ابتسامة خجولة، قامت بخطوات مترددة نحو الحائط المليء بالصور، توقفت أمامه طويلا، كانت تلك الصور بالأمس كالغرباء عنها، لكنها اليوم شعرت أنها تقترب منهم أكثر، وكأن الحكايات التي سمعتها من سليم فتحت لها نافذة صغيرة على الماضي.

مدت يدها تلمس إحدى الصور، وفجأة ضربت الذكريات عقلها كعاصفة، وضعت يديها الاثنتين على أذنيها وأغمضت عينيها بقوة، وأنفاسها تتسارع، كانت ترى أطيافا سوداء، أشباحا غير مكتملة الملامح، أصواتا متداخلة بلا وضوح، لحظات قصيرة لكنها ثقيلة، جعلت قلبها يخفق بقوة غير معتادة.

ثم، كما ظهرت فجأة، تلاشت فجأه، ففتحت عينيها ببطء وهي تلتقط أنفاسها، ثم تنهدت كمن ينجو من غرق داخلي.

في تلك اللحظة، اقتربت سعدية التي خرجت من البلكونة، جلست على الفراش ونظرت لها بحنان: خلصتي صلاة؟

نظرت لها ماسة وهي مازالت ترتجف قليلا، وقالت بصوت منخفض: آه، بس فجأه ضربت في دماغي صور وحسيت إني هفتكر بس مفتكرتش.

سعدية بهدوء: متستعجليش يا حبيبتي، الذكريات بتيجي واحدة واحدة تعال ادهنلك المراهم 

هزت راسها بإيجاب، وخلعت ماسة الإسدال وجلست بجانبها وبدأت سعدية ان تضع المرهم على مختلف جسدها
ماسة بإبتسام: عارفه ياما سليم، حكالي حاجات ياما، دي عمل حاجات حلوة أوي علشاني ياما.

ربت سعدية على كتفها بإبتسامة: آه سليم ما شاء الله عليه، بيحبك أوى، وعمل حاجات كتير حلوة عشانك، كفاية إنه قعدنا في بيت حلو، وكان حنين علينا وعليكي.

ابتسمت ماسة بصوت متأثر: آني حبيته أوي، بس لسة بتكسف منه.

ضحكت سعدية بخفة وهى تدهن لها المرهم: بتتكسفي من أيه يا ماسة؟ دى جوزك! أنتِ كنتي بتموتي فيه، وهو كمان بيموت فيكي، إن شاء الله شوية وتلاقي نفسك خدتي عليه، وأنتِ يا بنتي، نامي جنبه النهاردة حتى لو قالك هنام لوحدي، قوليله: لأ، أنا هنام جنبك علشان افتكر.

همست ماسة بخجل والتفتت لها: آني بتكسف ياما، كل ما يحط إيده علي أيدى أو حتى على شعري، بحس جسمي كله بيتكهرب.

سعدية بحنان وهي تضع يدها على خدها: يا حبيبتي عادي، ده جوزك، هي يعنى أول مره؟ وبعدين أنتِ هتروحي للدكتور امتي.

ماسة بهدوء: قالي هنروح النهاردة للدكتور.

سعدية بابتسامه: خلاص، هو هيقولك تعملي إيه.

ماسة بحماس: طيب، آني هنزل أعمل لسليم الغدا، هعمله الأكل إللي بيحبه 

سعدية بابتسامة: ماشي بس خدى الدوا الاحمر ده الاول..

حاضرين وبالفعل خذت ماسة الدواء وخرجت وأثناء تحرك ماسة للخارج، رفعت رأسها لأعلى وهي تقول بدعاء: ربنا يشفيكي يا بنتي ويهديكي.

خرجت ماسة من الغرفة، وفي نفس اللحظة كان سليم يخرج هو الآخر من غرفته، تبادلا نظرات سريعة، ارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة، اقتربت منه وهي تعبث بأصابعها.

ماسة بابتسامه خجولة: تقبل الله.

سليم بابتسامه هادئه: منا ومنكم.

ماسة بنبرة عتاب رقيقة: هو إحنا ليه مصليناش سوا؟

حك سليم رأسه بتردد: مش عارف، محبتش أضايقك.

ماسة ببراءة: المفروض أنا وأنت نصلي سوا، آني كنت بنشوف أمي وأبويا بيعملوا كده.

سليم بإبتسامة صغيرة: خلاص، المرة الجاية نصلي سوا.

ابتسمت ماسة بحماس: طب آني هروح أعملك الغدا، هعملك طاجن خضار باللسان عصفور واللحمة، مش أنت بتحبه؟

سليم بعينين تلمعان من الحنين: آه، أنا محبتوش غير لما أكلته من إيدك.

ماسة بحماس: هعملهولك، وهعملك أكل حلو أوي.

سليم بهدوء: متتعبيش نفسك، أنتِ لسة تعبانة.

ماسة بحزم طفولي: لأ، آني خدت الدوا وأمي دهنتلي المرهم، فمش حاسه بتعب.

تنهد سليم مستسلما: ماشي، بس لو حسيتى أنك تعبانه اطلعي ارتاحي وخلى سحر تكمل.

اومأت برأسها، وابتسمت له برقة، وتحركت إلى المطبخ، هناك وجدت سحر منشغلة بالترتيب.

ماسة بخجل: بقول لحضرتك إيه، آني عايزة أعمل الأكل لسليم النهاردة.

سحر بابتسامة: لأ متقوليليش حضرتك، قوليلي ماما سحر زي زمان.

ماسة بإبتسامة صغيرة: حاضر.

سحر بقلق: بس أنتِ تعبانة ياحبيبتي، ارتاحي وقولي عايزه تعملي ايه وأنا اعمله.

هزت ماسه رأسها رافضه: لأ، آني خدت الدوا بتاعي وبقيت كويسة.

دخل سليم في تلك اللحظة وقال بإبتسامة: سيبيها يا سحر تعمل إللي هي عايزاه، وروحي أنتِ أرتاحي، أنا هساعدها.

ابتسمت سحر ودعت لها وهي تخرج: ربنا يشفيكي يا حبيبتي.

أقترب سليم من ماسة، أخذ مريلة ولبسها، ثم أمسك أخرى وساعدها في ارتدائها وربطها من الخلف.

ماسة بخجل: اقعد أنت، وآني هعمل كل حاجة.

سليم بإبتسامة دافئة: يا ستي أنا عايز أساعدك.

أومأت برأسها بابتسامه، ثم تساءلت بنبره قلقة: سحر طيبة خالص، بس هي هنا لوحدها؟! المفروض تجيب حد يساعدها ! البيت كبير أوي.

سليم بهدوء: هجيب أكيد حد يساعدها، متقلقيش.

ثم بدأ الاثنان بتجهيز الطعام معا في جو مليء بالمرح، لكن مع لمسات حميمية تخفيها الضحكات، بدأت ماسة بفتح الثلاجة وأخذت تخرج الخضروات واللحوم، بينما مد سليم يده ليأخذ الدقيق، لكنها لم تنتبه حين سقط بعضها على يده،ضحكت ماسة عليه بصوت عالي، فنظر لها سليم متأملا ضحكتها للحظات ثم قال بمشاكسة ووعيد: أنتِ بتضحكي عليا !؟ طيب 

ثم أخذ يرش عليها من الدقيق، فتصرخ هي بمرح وتضحك أكثر، وعيناها تتلألأن ببهجة طفولية.

ماسة وهي تضحك: أنت قدها!

أقترب منها بإبتسامة مفعمة بالتحدي: أكيد.

أقتربت منه ببطء، وضيقت عينيها بمرحة، ثم فجأة أمسكت بكيس الدقيق وألقته عليه بالكامل، وامتلأ المطبخ بأصوات ضحكاتهما.

سليم، وهو يمسح الدقيق عن وجهه: لا لا خلاص، أنتِ ما بتصدقي تلعبي؟ أنا أسف، أنا أعلن انسحابي من دلوقتي.

رفعت كتفها بإنتصار: أيوة كدة!

استمرا بالمزاح اللطيف، بينما يقطعان الخضار ويجهزان المكونات، كل لمسة أو نظرة، حتى لو كانت صغيرة، كانت تحمل شحنة من المشاعر؛ أحيانا يخفي هو الملعقة عنها، وأحيانا تخبئ هي شيء يحتاجه لتضحكه، ومع كل لحظة كان الجو يزداد دفئا وحميمية.

بعد ساعة، انتهيا من الطهي ورتبا السفرة معا، وضعا الطاجن في وسط المائدة، وأطباق صغيرة بجانبه، وكل شيء مرتب بعناية صغيرة تجعل المكان يبدو دافئا ومليئا بالحب.

نادت ماسة على سعدية لتأكل معهم، لكنها ابتسمت قائلة: لأ يا حبيبتي، كلي أنتِ وجوزك، أنا هاكل بعدين، مش جعانة دلوقتي.

كانت ترغب في تركهما بمفردهما، لتمنحهما فرصة للاقتراب أكثر، فماسة تحتاج إلى سليم الآن أكثر من أي وقت مضى.

جلسا الأثنان بمفردهما، وكأن العالم كله اختزل في تلك اللحظة، مد سليم الملعقة، وأخذ قطعة من اللحم، ورفعها إلى فم ماسة.

سليم بنبرة دافئة: دوقي كده، الأكل طلع إيه؟

ترددت لحظة، ثم فتحت فمها بخجل، وأكلتها وهي تقول: الله! الأكل طلع حلو أوي.

سليم وهو يهز رأسه برضا بنظرات غزل: بس مش أحلى من أكلك يا قطعة السكر.

أمسك يدها للحظة وقال بهدوء: أنا مبسوط أوي، ونفسي متشيليش هم، إن شاء الله مع الوقت هتفتكري كل حاجة.

تنهدت بإبتسامة دافئة: يا رب، أنا متأكدة إننا عملنا حاجات زي دي قبل كده، صح؟

اومأ برأسه، وأقترب أكثر، وهو يرفع قطعة خضار بالملعقة ويقربها من فمها: متقلقيش هتفتكرى كل حاجة، يلا كلي.

فتحت فمها بخجل وأكلت، بينما وجنتاها تحمران.

ضحك برقة وهو يراقبها: لسة بتتكسفي مني؟

ابتسمت بخجل وهي تنظر في الطبق: يعني شويه، بس مش زي أمبارح.

ضحك بخفة، ثم أكملا طعامها في هدوء، والابتسامة لا تفارق وجهيهما، لكن هذه المرة، كانت قلوبهم تتحدث بصمت أبلغ من أي كلام.

بعد أن أنهى سليم وماسة طعامهما، رن هاتف سليم، كان الطبيب النفسي على الخط، أعتذر عن عدم قدرته على حضور الجلسة اليوم بسبب ظرف طارئ، تفهم سليم وحكي له إنه تحدث مع ماسة عن جزء كبير من فترة زواجهما الأولى، ثم طلب الطبيب أن يتحدث مباشرة مع ماسة، جلس سليم بجوارها وهو يراقبها بإهتمام بينما وضعت الهاتف على أذنها.

بصوت هادئ، أوصاها الطبيب ألا تجهد نفسها في الحديث، وألا تحاول استرجاع أي تفاصيل جديدة اليوم، يكفي ما استمعت له، كما نصحها أن تستمتع بيومها، وتترك الباقي للجلسة القادمة، أومأت ماسة أكثر من مرة، ورددت كلمة حاضر قبل أن تغلق المكالمة.

وضعت الهاتف على الطاولة، ونظرت إلى سليم بإبتسامة صغيرة.

ابتسم بدوره وقال: إيه رأيك نروح نعمل شوبينج النهاردة؟ كان نفسي أوديكي الملاهي، بس الدكتور قال لا علشان الخرج اللى في رأسك والكدمات.

رفعت ماسة حاجبيها بدهشة طفولية، ثم قالت وهي تضحك بخجل: آني بحب اللعب أوى، وعمري ماروحت الملاهي، قصدي يعني أنت حكيتلي، إنك وديتني، بس آني مش فاكره.

ضحك سليم بخفة وهو يلوح بيده: لما الدكتور يسمح هوديكي الملاهي، بس النهاردة نخليها شوبينج وأكلك آيس كريم؟ إيه رأيك؟

اومأت ماسة برأسها ببراءة: موافقة!

ثم قفزت من مكانها بحماس وصفقت: آني هروح ألبس بسرعة!

ركضت علي السلم بخفة، لكن سليم نهض، وقال بقلق: بالراحة يا ماسة علشان الجرح اللى في راسك.

أومأت برأسها وهي تواصل صعودها بإبتسامة، وبعد قليل، عادت ترتدي جينز فاتح وتيشيرت ملون، شعرها مربوط ببساطة، فيما كان سليم ينتظرها بملابس كاجوال أنيقة.

تبادلا النظرات لثواني، فماسة بخجل: إيه رأيك؟ شكلي حلو؟

ابتسم سليم، وقرصها مداعبا من أنفها: زي القمر.

ابتسمت له ومد يديه لكي يمسكها، نظرت له للحظة ثم أمسكت يديه، وشبكت أصابعها بأصابعه، ابتسم سليم وشعر أن حاجز كبير تلاشي، خرجا معا بخطوات متناسقة، كأنهما يبدآن يوما عاديا، لكن مليئا بالاحتمالات.

فنظر اليها بابتسامته، وهو يهمس همس في سره: يارب اليوم يعدي على خير.

عمارة مي الرابعة مساء.

كانت مي تقف أمام باب العمارة في انتظار وصول رشدى، يحيط بيها العديد من شنط الهدايا، وهى تنظر في ساعتها بضيق، وبعد قليل توقفت سيارة رشدى أمامها، ولوح لها فأقتربت من السيارة.

مي بضجر: كل ده تأخير!!!

رشدى معتذرا: معلش الطريق كان زحمة.

مي بهدوء: طب أفتحلى شنطة العربية، وأنزل شيل الشنط دى حطها فيها. 

رفع رشدى حاجبه مازحا وهو يهبط من السيارة: هو أنتِ صدقتي إني السواق الخصوصي بتاعك بجد ولا إيه !!

مي بثقة وهى تتحرك نحو شنطة العربية: هو أنت تطول أصلا تبقي السواق بتاعي!

رشدى بسخرية وهو ينظر إليها من أعلى لأسفل في إشارة إلى قصر قامتها: والله بنظري كده أعتقد فيه بينا 15 سم فرق لصالحي، فأعتقد هطول عادى.

مي برخامه: اممم دمك تقيل، يلا تعالى شيل معايا علشان نحلق نوصل.

رشدى بإستفسار، وهو يأخذ منها بعض الشنط ويضعهم في شنطة العربية ويغلق عليهم: هو أحنا أصلا رايحين فين؟ أنتِ رايحة عيد ميلاد ولا إيه!

مي بغموض: يلا بس، وأنا هقولك تمشي أزاى. 

صعدوا السيارة وهو يقول بإستنكار: طب متقولى إحنا رايحين فين.

مي مازحة، بنظرة شر مصطنعة: خطفاك.

غمز رشدى بعينيه: ده محمود بقي مخربش على الأخر، هو أنا قعدتك معايا بهتت عليكى للدرجة دى!

مى بإبتسامة: بطل رغي وأطلع بقي عايزين نلحق نوصل.

فهز رأسه إيجابا وأنطلق نحو وجهة لا يعلمها! ظلت مي تصف له الطريق حتي وجد نفسه يتوقف أمام مبنى قديم تحيط به حديقة صغيرة تكسوها أشجار عتيقة.

هبطوا من السيارة، واتجهوا إلي شنطة العربية، وأخرجوا منها شنط الهدايا، ثم تحركوا صوب المبني، فألتقطت عيني رشدى اسم المكان الموضوع على اليافطة فوق البوابة الحديدية " دار أيتام الزهور"  

فألتفت نحو مي، وعينيه مملوءه بالأستفهام، وصوته يخرج مترددا: أنا مش فاهم حاجة، أنتِ جايباني دار أيتام أعمل إيه؟ هو حد قالك إني يتيم !! 

ابتسمت مي بخفة، وهى تعبر البوابة الحديدية:  تعالى بس ندخل وهتفهم كل حاجة.

وقفت مي في منتصف الحديقة ورشدى بجانبها، ثم قامت بالتصفير كأنها كلمة سر، فخرج عشرات الأطفال من كل ناحية، ركضوا نحوها بأذرع مفتوحة، ألتفوا حولها وأخذوا يضمونها بحب، وجوههم مضيئة بإبتسامات بريئة، وهي تضحك وتربت على رؤوسهم، والسعادة ترتسم على ملامحها وملامحهم في آن واحد، ورشدي يقف متسمرا مكانه، يراقب المشهد بذهول.

بدأت مي توزع عليهم الهدايا، وألتفت لرشدي وهي تشير بيدها: رشدي، يلا وزع عليهم أنت كمان من الأكياس إللى معاك.

تقدم بخطوات بطيئة، ومازالت معالم الاستغراب على وجهه: هو فيه إيه أنا مش فاهم حاجة!!

أجابته مي بإبتسامة: هتفهم دلوقتي، بس يلا وزع عليهم الهدايا إللى معاك.

انحنى وبدأ يوزع الهدايا عليهم، والأطفال يتسابقون نحو الهدايا بعفوية، والضحكات تملئ المكان، بعد قليل، وقفت مي إلى جانبه، تراقب الأطفال بعينين دافئتين، ثم ألتفتت نحوه وهي تقول بهدوء ونبرة تحمل الكثير: تعرف، أنا لما بحس إني مخنوقة أو ماما وحشاني، بحب أجي هنا، بفكر نفسي إن الأولاد دول معندهمش أب ولا أم ولا عيلة، وأنا عندي أب وأخوات و ناس بيحبوني.

رفع رشدى عينه بإستغراب وقال بتساؤل: هو أنتِ عايزة توصلي لإيه بالظبط.

رفعت كتفيها لأعلى، وقالت بهدوء موضحة وهى تنظر بشرود تجاه الأطفال: أبدا، بس أنا بحب المكان هنا علشان بيفكرني بقيمة النعم الكتير إللى موجوده في حياتى وأنا مش حاسة بيها ومركزة بس على الحاجات إللى نقصاني، مع إن الناس إللى هنا معندهمش ربع النعم إللى عندى وواصلين لدرجه رضا عمرها مافشلت إنها تبهرنى!

وتابعت بحماس: بس تعرف على قد ما ناقصهم حاجات كتير هنا، بس بيطلع منهم نماذج مشرفة جداا.

ثم أشارت بيدها على رجل يبدو في ريعان شبابه، يجلس على العشب ويحيط به العديد من الأطفال وهو يغمرهم بحنانه وضحكاتهم تملئ المكان من حوله، وأضافت بهدوء: شايف إللي هناك ده؟ في يوم من الأيام كان من أبناء الملجأ ودلوقتي بقي مهندس وإللى قاعد جمبه ده ابنه، يعنى على الرغم من إنه وهو صغير اتحرم من مشاعر الحنان والاهتمام إلا إنه لما كبر بقي يجى يزور الأطفال هنا ويحاول يعوضهم عن إللى اتحرم منه وهو صغير، ودايما بشوفه جايب ابنه معاه بيحاول يزرع فيه مشاعر الرحمة والعطف ويوريه الماضي بتاعه وهو مش خجلان ولا مكسوف منه. 

ثم ركزت النظر في عينيه، وهى تقول بنبرة تحمل في طياتها الكثير: يعنى على الرغم من مشاعر الحرمان إللى حس بيها، وإنه خرج من الملجأ من هنا شاب عنده 18سنة، بيواجه الدنيا بطوله ولا يملك شيء، ومع ذلك بنى نفسه بنفسه، ومدفنش راسه في الرمل، ولا حط مبررات كتير لنفسه بالحرمان إللى عاشه، إنه يسلك سلوك عدواني وناقم على المجتمع ويتجه لطريق الجريمة، مع إنه كان هيبقي حقه بصراحة، بس هو معملش كده، وغيره نماذج تانية كتير ... 

كانت كلماتها تخرج بصدق حقيقي، والهواء يملأ المكان بمزيج من روائح الشجر وضحكات الأطفال.

فتابعت وهى تنظر في عينيه بثبات: المقصود من كلامي ومن وجودنا هنا يا رشدى؛ اني عايزاك تشوف الناس دى وتتعلم منهم، مش عايزاك تفضل عايش جوه الماضي، لإنك مش هتتقدم خطوة واحدة لو فضلت مركز على المشاعر إللى اتحرمت منها وبتحطها مبرر لكل تصرفاتك، لإن أنت كدة بتأذى نفسك قبل ما تأذى أي حد تاني، فيه غيرك معندهمش حاجات كتير عندك، ومع ذلك صنعوا لنفسهم كيان من مفيش.

زمت شفتيها بأسف، وتساءلت وهى تشير بيدها تجاهه:
أنت بقي عملت أيه يا رشدى؟! أنت كان حواليك ناس كتير بتراعيك زى الدادات إللى عندكم، وناس تانية بتحبك زى فريدة وياسين، واتعلمت أحسن تعليم، وكان متوفرلك حياة كريمة متوفرش 1% منها لغيرك، وكان عندك سلطة وعيلة في ظهرك مهما أخطأت كانوا بيلموا وراك، ففتح عنيك يارشدى وبص على الحاجات الكتير الحلوة في حياتك بدل ما أنت حابس نفسك في الحاجة الوحيدة المحروم منها.

كانت كلماتها تسقط عليه كأنها دواء بارد، وصوتها أختلط مع ضجيج الأطفال من حولهم، فشرد رشدي قليلا، عيناه تائهتان خلف ضحكات الأطفال الذين يلعبون بلا هم أو مال أو عائلة، بلا ماضي يثقلهم أو حاضر يقيدهم أو مستقبل غامض يلاحقهم، شعر بغصة في قلبه، فـمي كانت محقة، كم أضاع من عمره وهو يتشبث بخيوط الماضي الواهية، ويبرر لنفسه ما لا يبرر، ويغرق في عتمة صنعها بيديه، كان عليه أن يلتفت إلى ما بين يديه من النعم التي طالما غفل عنها وهو يطارد أشباحه، أما آن الأوان أن يخلع عباءة الماضي الثقيلة؟ وأن يواجه حاضره بلا حجج أو أعذار؟ ففي النهاية، لم يجبره أحد على تلك الحياة، بل هو من اختارها بمحض إرادته، وهو وحده القادر على كسر قيدها.

وفجأة اقترب منهم أحد الأطفال، وسحب مي من جانب رشدي بحماس وهو يقول: يلا يا مي، تعالي ألعبي معانا!

ضحكت مي وركضت معه وجلست تلعب مع الأطفال، وظل رشدي واقفا شاردا، ينظر لها بإبتسامة، وهي تلعب بعفوية كطفلة مثلهم.

وأثناء اللعب أشارت مي بيديها إلى رشدي تدعوه أن ينضم اليهم ويشاركم اللعب، تردد في البداية، ثم أشارت له مرة ثانية بحماس، فتقدم نحوهم.

بدأ يلعب معهم، ويشاركهم الضحكات والمرح، لأول مرة يشعر بكل تلك المشاعر الجديدة، لم يكن يفهمها بالكامل، لكنه شعر بسعادة غير معتادة، أحتضنه أحد الأطفال فجأة، وأحس بإحساس لم يختبره من قبل، ضحك بصوت عالي وحرك جسده مع اللعبة مستمتعا باللحظة.

كانوا غرقانين في اللعب، وضحكات الأطفال تعلو من حولهم وتملىء المكان، وأثناء انخراطهم في اللعب، اقترب طفل نحيل يدعي فارس، وعمره حوالي ست سنوات، عينيه فيها لمعة فضول وغيرة دفينة، شد مي من طرف بلوزتها وقال بنبرة مستاءة: مي هو مين الواد إللى معاكي ده !؟

نظرت له مي بإبتسامة، أما رشدي فأرتفع حاجباه بدهشة، وألتفت ناحيته وقال وهو يضحك: واد؟

فارس بسخرية: أيوه واد، أومال  بت؟

اتسعت عينا رشدي من لماضة الطفل وقال بدهشة وهو ينظر لمي: مين ده؟

مي، وهى تنحنى وتحتضن فارس بحنان: ده فارس، عامل إيه يا فارس واحشني خالص.

بادلها الطفل الحضن: وأنتِ كمان وحشتيني يا مي 
ثم نظر إلي رشدى مرة أخرى وقال بإستنكار: بس برضو أنتِ مقولتليش مين الواد الرخم دى ؟ 

ضحكت مي وهي تضع يدها على فمها لتخفي ضحكتها: عيب يا فارس، دى عمو رشدي، خطيبي.

اتسعت عينا فارس وأنفجر بتمثيل طفولي غاضب: إيه ده يا مي؟ كدة تخونيني وتتخطبي للواد الوحش الطويل ده؟ ده وحش! يعني أنا مش عايز أكلم البت هنا ولا ألعب معاها عشان خاطرك وفي الآخر تروحي مع الواد ده! مش أنا قولتلك استنيني أكبر وهتجوزك؟

انفجرت مي ضاحكة، وإنحنى رشدي تجاه فارس وهو يمسكه من ياقه قميصه ويرد بإستنكار: تتجوز مين يا نص شبر أنت؟

رفع فارس رأسه متحديا: أتجوز مي.

ضحك رشدي وهو ينظر لمي: معلش بقي سبقتك.

رفع فارس كتفيه بلا مبالاة وقال بعناد طفولي: عادي، بكرة أكبر وتسيبك وتتجوزني، علشان هي بتحبني أنا ، صح يا مي؟

رشدى بنبرة مازحة وهو يميل ناحيه مي: هو أنتِ بتتشقطي منى، وأنا واقف، ولا أنا بيتهيألي!

نظرت إليه مى بتحذير: رشدى ألفاظك، ميصحش تقول الكلام ده قدام طفل. 

نظر رشدى ناحية فارس وهو يرفع حاجبيه بإستنكار: طفل مين؟! ده أنا إللى طفل!؟

ضحكت مي، ووجهت حديثها للطفل بحنان: فارس، بطل شقاوة وروح كمل لعب مع أصحابك. 

نظر فارس لها بنظرة حزن وهو يشير ناحية رشدى بإستنكار وقال بعتاب حزين:  كده يا مي، عايزة تمشيني علشان تقفي تلعبي مع اسمه إيه ده ...
ثم ألتفت إلي رشدى وهو يتسائل: أنت قولت اسمك إيه ؟ 

رشدي بسماجة: أسمي رشدي.

أومأ فارس برخامة: عايزة تقفي تلعبي مع رشدى وأنا لا يا مي؟

رفع رشدي حاجبه وضحك وهو يتمايل: رشدي حاف كدة !!

فارس بعناد طفولي: أمال رشدي بشرطة.

مد رشدى يده بخفة، وأمسك فارس من جانبه وأخذ يزغزغه: ولا أنت لمض كدة ليه؟ تعال هنا.

ضحك فارس وأنفجر يصرخ: يا مي حوشيه عني.

أخذ رشدي يدغدغه، ويلعب معه ويركضون خلف بعضهما، وفجأة نادى فارس أصدقائه وقال: ألحقوني من رشدي، فبدأ الأطفال يركضون نحو رشدي ويرشونه بالماء من مسدساتهم، فألتقط رشدى أحد مسدسات الماء وأخذ يرش عليهم أيضا، في حرب مشتعلة وقطرات الماء تتساقط هنا وهناك، الأجواء كانت ممتعة والضحك يملئ المكان، وكانت مي سعيدة لأنها لأول مرة ترى رشدى يعيش تلك الأجواء.

وأثناء اللعب، كلما اقترب فارس من مي يحتضنها ويشاركها اللعب، يمسكه رشدي من ياقة قميصه ويبعده عنها وهو يقول بنبرة مرحة: لا أنت بالذات تلعب من بعيد لبعيد، علشان أنا مش مرتاحلك بعد إللى قولته ده، أنا شاكك أصلا إنك راجل تلاتيني مسخوط في هيئة طفل. 

ضحكت مي بخفة: بطل يا رشدى بقي، هتعمل عقلك بعقل طفل!!

ضحك رشدي وهو يرمق فارس من أعلى لأسفل بإستنكار وتقييم: طفل آه، ما هي بتبتدي كدة! أسكتي أنا شايف نسختي أقسم بالله، بس في نسخة أكثر تهور ولماضة مني. 

هزت مي رأسها بمزاح: أه، ما أنت طول عمرك بتاع بنات.

ضحك رشدي ورفع إصبعه مصححا: لا معلش، دى معلومة مغلوطة، أنا قعدت لحد سن العشرينات بتاع بنات، لكن دلوقتي بقيت بتاع نسوان.

نظرت إليه مي بتحذير: بطل وقاحة، ولم نفسك يا رشدى، إحنا وسط أطفال.

رفع رشدي يده مقلدا قسما: ماخلاص بقي، إحنا توبنا إلي الله.

نظرت له مي بتركيز: أنا ليه حاسة إنك بتقولها وكأنك مش مبسوط!!!

ابتسم رشدي ومال نحوها، وقال بصوت خافت: مقدرش يا ست البنات.

رفعت مي حاجبها وضحكت: ماشي نبقي نشوف موضوع التوبة والبنات ده بعدين، شكلنا هنحتاج نعمل جرد لأكونتاتك.

فتح رشدى فمه بدهشة: إيه؟

رفعت مي حاجبها: الأكونتات بتاعتك يا رشدي، هاخدها وأعمل لها جرد.

مال للأمام وهو يضع يده خلف أذنه: إيه؟

ضحكت مي بصوت عالي: أطرشيت؟

ابتسم وقال وهو يرفع يده استسلاما: حاضر ياستى هديهملك.

ثم قاموا وواصلوا اللعب مع الأطفال مره أخرى، ظل رشدي يلعب معهم لساعات طويلة حتى أنتهى اليوم.

في السيارة

كان رشدي يجلس في مقعد القيادة ومي بجانبه، السعادة واضحة على ملامحه.

ألتفت إليها وقال بنبرة ممتنة: أنا مش عارف أقولك إيه بجد، أنا أول مرة أجي مكان زي ده، وأحس بمشاعر زي دي، أنا مش عارف أوصفهالك بس أنا مبسوط، القعدة مع الأطفال مريحة قوي، مكنتش متخيلها كده الصراحة، كنت بفتكر لما بشوف المشاهد دي في التلفزيون إنها حاجات أوفر، بس لما جربته على أرض الواقع لقيته أحساس جميل أوى.

ابتسمت مي وهي تنظر أمامها وقالت بهدوء: قولتلك هتنبسط، صدقني ده المكان الوحيد إللي هتحس فيه إنك بتتعامل بشخصيتك الحقيقية إللي اتولدت بيها، بعيدا عن أي حاجة تانية، لإنك بتتعامل مع أطفال كلهم نقاء زي الورد من غير شوك.

هز رشدي رأسه وأكمل وهو يبتسم بصدق: أنا مش عارف أشكرك إزاي يا مي، أنتِ بتخليني أعمل حاجات أول مرة في حياتي أعملها، وأحس بمشاعر أول مرة أحسها

أجابته مي بجدية هادئة: لا، أنا مش عايزاك تشكرني أنا عايزاك تتعلم منهم زى.

أومأ رشدي إيجابا: ماشي، بس أنا عايز أجي هنا تاني، بس المرة الجاية هجيب هدايا أحلى من الهدايا إللي أنتِ جايباها.

مي بسرعة:بس مينفعش تجيب حاجات غالية علشان ميتعودوش.

نظر لها رشدي ممتنا: ماشي، شكرا يا مي إنك في حياتي بجد، بس أنا كمان عايز أقدملك حاجة زى ما أنتِ بتقدميلى كتير. 

نظرت مى بإستغراب: إزاى يعنى مش فاهمة !

رشدى بهدوء وحذر وهو ينظر في عينيها: أنا عايز أعلمك السواقة، إيه رأيك؟

ضحكت بتوتر: شكرا جدا جدا جدا، إنسي

ابتسم مازحا: مش واثقة فيا؟

أجابته بتوتر: ياسيدى بثق، بس الموضوع بجد صعب.

ابتسم بثقة، وهو ينظر داخل عينيها بتشجيع: مفيش حاجة اسمها صعب، هتتعلمي وهنمشي بالراحة، علشان مينفعش نفضل نعيش في الماضي، ولا إيه!؟

نظرت إليه بإبتسامة، مدركة إنه يكرر عليها الحديث الذى قالته له، كان الأمر صعبا عليها، لكنها رغبت أن تتحرر من القفص الذي حبست نفسها فيه لسنوات، ولعل رشدي يكون الخلاص لها، فأومأت برأسها بصمت، من دون أن تمنحه قرار، أما هو فابتسم لها بحماس، ثم أنطلق متجها إلى منزلها.

المول الرابعة مساء

دخل سليم وماسة أحد المولات الكبيرة، الأضواء البراقة والمحال الممتدة أبهرت عينيها، كأنها طفلة تكتشف مدينة ملاهي للمرة الأولى، راحت تتنقل من واجهة لأخرى، وسليم يتابعها بصبر وابتسامة راضية، وفي أحد المحلات، بدأ يختار لها قطع الملابس بعناية، وكلما جربت قطعة كانت تدور أمامه بمرح كأنها تنتظر رأيه مثل طفلة تسأل أباها: كويس كدة؟

خرجت أخيرا تحمل عدة أكياس، وجهها يلمع بالفرحة، ألتفتت إليه بخجل طفولي: أنت جبتلي لبس ياما !شكرا يا سليم.

ابتسم وهو يهز رأسه: أهم حاجة إنك مبسوطة، وبعدين فيه واحدة تشكر جوزها؟

أحمرت وجنتاها وضحكت بخجل، فمد يده للحراس ليسلمهم الأكياس ثم قال بخفة:  يلا نكمل الجولة ونجيب آيس كريم 

توقفا أمام محل الآيس كريم، أختارت ماسة كوبا بطعم الشوكولاتة، بينما أكتفى هو بالفانيليا، خرجا يتمشيان في المول وهما يتناولان المثلجات، وبدت ماسة سعيدة كطفلة صغيرة، رفع سليم هاتفه ليلتقط لها صورة، فابتسمت بمرح ولم تعترض حين اقترب أكثر، يحيط كتفها مرة وخصرها مرة أخرى، وهما يضحكان معا، حتى إنه مسح بأصابعه طرف شفتيها من الشيكولاته، فازداد وجهها خجلا وفرحا في آن واحد.

بعد جولة المول، دخلا السينما، كان يمسك يدها، ولم تحاول أن تسحبها، جلست بجواره مع علبة فشار كبيرة بينهما، وكلما مدت يدها اصطدمت يداها بيده، فتضحك بخجل، بينما يضحك هو معها.

خلال الفيلم، كانت تلتفت إليه بين الحين والآخر، تميل بجسدها نحوه في مشهد مضحك أو مؤثر، وهو يترك يده تستقر فوق يدها، بدا عليها الارتياح وكأنها أخيرا سمحت للقرب أن يعود.

عند الخروج، ألتقط لها صورة وهي تحمل علبة الفشار الفارغة، فوضعت لسانها بخفة على شفتيها وضحكت بخجل، بينما هو جذبها قليلا نحوه بذراعه في الصورة التالية، كانت تضحك بصدق، كمن عاش لحظة لم يذقها منذ زمن طويل، تناولا عشاء خفيفا بعدها في أحد المطاعم، والضحكات لا تفارق وجهيهما.

فيلا سليم، الواحدة صباحا.

في غرفة النوم، انزل الحراس الأكياس ثم انصرفوا، بينما وضع سليم المشتريات على الأرض، وأغلق الباب، ثم التفت إلى ماسة التي كانت تعبث بخصلات شعرها بخجل. 

رفعت رأسها وقالت بصوت منخفض: شكرا على الحاجات الحلوة اللي عملتها معايا النهارده.

ابتسم وهو يقترب منها: أنا عايزك مبسوطة بس كده.

ماسة وهي تخفض بصرها: وآني مبسوطة أوى.
ثم ترددت قليلا قبل أن تسأله: هتنام في أوضة تانية؟

رد وهو يشيح بنظره: أيوه.

كاد أن يخرج لكنها نادته بخجل طفولي: لو تحب، نام هنا، آنى لسه مكسوفة شوية، بس حبه وهاخد عليك.

ابتسم بحنان: أنا هنام معاكى هنا على الكنبه، لحد ما تاخدى عليا، ماشي؟

اومأت برأسها، وذهب ليبدل ملابسه في غرفة الملابس، ليترك لها بعض الحريه لتبديل ملابسها في الغرغه، ثم عاد بعد قليل وتمدد على الأريكة، بينما صعدت هي إلى الفراش.

تنهدت بحزن وبراءة: هو أنت مرتاح كدة؟!

سليم وهو يشد الغطاء: آه متقلقيش

ماسة ببراءة: بس أنت صعبان عليا، الكنبه صغيره أوى عليك.

ضحك بخفوت، وحرك رأسه كأنه يهون عليها:متشغليش بالك، المهم أنتِ مرتاحه، يلا نامي.

وضعت ماسة رأسها على الوسادة، شدت الغطاء حولها، لكن عينيها ظلت مفتوحتين، تتحركان ببطء يمينا ويسارا، نظرت ناحية سليم، كان مستلقيا على الأريكة، ملامحه ساكنة لكنها مرهقة، وذراعه متدلي من الحافة.

زفرت بخفوت وقالت في سرها: هو آني لو خليته ينام جنبي يبقى عيب؟ لأ أمي قالتلي إنه جوزي وكده مش حرام ولا عيب، أصل حرام صعبان عليا، وهو طيب خالص.

ماسه بصوت ناعم: سليم، أنت نمت؟

فتح عينيه نصف فتحة، صوته مبحوح: لسه هنام، محتاجة حاجة؟

ترددت لحظة، ثم قالت بخجل: أيوه تعالى نام جنبي، بس نحط مخدة في النص.

رفع رأسه ببطء، رمقها بابتسامة صغيرة: عشقي، مش مشكلة، أنا مرتاح هنا والله.

زمت شفتيها بعناد طفولي: لا مش باين عليك، تعالى بس وحياتي، عشان آنى مش قادرة أشوفك نايم كده.
خفضت صوتها أكثر: حاسة إن قلبي اسود.

ضحك بخفة، وهز رأسه مستسلما: وأنا مقدرش أخليكي تحسي إن قلبك أسود.

نهض ببطء، ثم سحب المخدة ووضعها بينهما، تمدد بجوارها ونظر لها بإبتسامة، كانت ماسة تتابع حركته بعينيها، وابتسامة صغيرة تسللت لشفتيها.

سليم بصوت هادئ وهو يغلق عينيه: تصبحي على خير يا قطعة السكر.

ابتسمت بخجل: وأنت بخير ياكراميل.

نظر لها بسعادة: قولتي إيه؟

ماسة بخجل: قولت كراميل، مش أني كنت بقولك كده؟

هز رأسه بصمت بابتسامة واسعة، بينما غفت هي بهدوء، فيما ظل سليم مبتسما، يشعر أن مسافة كبيرة كانت تفصل بينهما بدأت تختصر أخيرا.

مجموعة الراوي، العاشرة صباحا

توقف تاكسي أمام المبنى الضخم، نزلت مي وهي تتأمل الصرح بعينين متلألئتين، سألت في الاستقبال عن مكتب رشدي، فأخبروها أنه في الدور الثالث، صعدت بالمصعد، وفي الممر ألتقت بفريدة.

فريدة بدهشه: مي!! إيه المفاجأة الحلوة دي جاية تشوفي رشدي؟!

مي بإبتسامة: اه عامله له مفاجأة، بس مش لاقية سكرتيرة استأذن منها.

فريدة موضحة: رشدي معندوش سكرتيرة، أفتحي الباب وأدخلي علطول.

مي ضاحكه: هو ده إللي هعمله.

اقتربت مي من الباب، يدها على المقبض.

في الداخل، جلس رشدي  خلف مكتبه، يفتح كيس البودرة، يسكب منه قليلا، ثم يقربه من أنفه ويسحب شمة عميقة، يغلق عينيه، يتنفس ببطء وكأنه في عالم آخر.
وفجأة، فتح الباب تجمد جسده، واتسعت عيناه، والكيس لايزال في يده،...
 


تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة