
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الثاني عشر 12 بقلم ليله عادل
{"ما أجمل تلك الدقائق التي تمر بيننا، تشبه ليالي مضت كأنها حلم قديم عاد يطرق الذاكرة، كم يتمنى القلب لو تدوم تلك اللحظات، لكنه في الوقت ذاته لا يرضى، فيجد نفسه يدعو أن تعود الروح إلى ما كانت عليه، وأن تستعيد الذاكرة دفئها"}
ليلةعادل✍️🌹
الفصل الثاني عشر🤫❤️
[بعنوان: ليالي لا تنسي]
وضع رشدي قليلا من البودرة على ظهر يده، ألقي بالكيس على سطح المكتب، إنحنى واستنشق بنهم، وعاد بظهره للخلف مغمضا عينيه في نشوة متلذذة، تنهيدة الانتعاش تفلت من صدره، مال برأسه ثانية ليستنشق الجرعة التالية...
انفتح الباب فجأة، وصوت مي يصدح بمرح: مفاجأة!
تجمد رشدي في مكانه، واتسعت عيناه، خيم صمت ثقيل على الغرفة، كأن الزمن توقف من حوله، حتى أن أنفاسه بدت حبيسة صدره، توقف عقله عن العمل لثواني لا يعرف ماذا يفعل؛ فهو في موقف لا يحسد عليه، ارتجف جسده وابتلع ريقه بصعوبه ثم نهض ببطء، لمح الكيس على المكتب، فأسند كفه ليحجبه، ثم سحبه بخفة وقبض عليه بيدين مرتجفتين.
تحركت مي بخطوات مرحة، غير منتبهة لما يجري، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عفوية وهي تقول بمرح: إيه رأيك في المفاجأة دي!
كان رشدي مازال غارقا في عالم آخر؛ عيناه شاردتان، وقلبه يكاد يخلع صدره من شدة خفقانه، والذعر يطوقه، فقد كان على وشك أن يضبط متلبسا بجرعة كادت تنهي قصته معها قبل أن تبدأ.
انعقد حاجبيها بإستغراب، اقتربت منه وهي تضحك بخفة: مالك؟ مخضوض ليه؟
ارتجف رشدي أخيرا، كأنه عاد من غيبوبة، ابتلع ريقه بصعوبة، خرج صوته مكتوما: لا بس مفاجأة.
قهقهت وهي تتجول بعينيها في المكان: قولت أعمل عليك كبسة، أشوفك شايف شغلك ولا لا.
كان قلبه لايزال يتخبط في صدره بعنف، كمن يطارد شبح لا يراه سواه، فيما تسلل الصداع إلى خلاياه، والكيس في يده يثقل عليه أكثر من ثقل الجبال.
اقتربت أكثر، ونظرت له بتركيز وهي تلوح بيدها أمام وجهه: مالك يا ابني؟
تمتم متلعثما: مفيش مش مصدق.
ثم انتزع ابتسامة باهتة وقال بصوت متماسك: بس حلوة المفاجأة دي أعمليها علطول، واقفة ليه؟ أقعدي.
جلست وهي تتفحص المكان بعينيها، قبل أن تعلق بخفة: مكتبك ظريف، بس ليه معندكش اسيستنت؟
ارتسمت على وجهه ابتسامة باهته: مكنتش باجي، كتير، فمكنتش محتاج، هبقى أجيب.
غمزت بعفوية وهي ترمقه: أشوفها الأول علشان بغير.
لم يجب، فهو مازال غارقا في صدمته، يقبض على الكيس بيد مرتجفه كأنه يقبض على جمره مشتعله.
رفعت عينيها إليه بدهشة: مالك يا رشدي، مش هتطلبلي حاجة؟
تنحنح وهو يهم بالمغادره: حاضر هروح أعمل حاجة وجايلك.
هزت رأسها بايجاب، فيما اندفع رشدي إلى الخارج بخطوات متعثرة وأنفاس متلاحقة، دخل المرحاض وألقى البودرة في الحوض دفعة واحدة،وانحنى يغسل أثرها عن أصابعه ووجهه، كان جسده يتأرجح وكأنه على وشك السقوط، وقلبه يخفق بعنف، غسل وجهه مرارا ومسح على رقبته، ثم تنفس بعمق،حاول رسم ابتسامة وهمية على وجهه قبل أن يعود اليها.
مكتب رشدي
فتح باب المكتب، توفف عند العتبة وهو يمرر عينه عليها بإبتسامة غزل، يبدوا أنه أخيرا أصبح قادر على التمساك.
رشدي بمرح: خطيبتي الحلوة منورة مجموعة الراوي.
تحرك وجلس على المقعد المقابل لها بإبتسامة تعلو وجهه بهدوء للمرة الأولى منذ أن رآها.
وتساءل بإبتسامة مزاح: إيه بقي سر المفاجأه الجامده دى؟
ضحكت مي بعفوية، وعيناها تلمعان بالمرح: لقيت نفسي فاضية، قولت أجي أعمل عليك كبسة وأشوفك بتعمل إيه؟! طلعت شاطر، وبتشتغل، وبصراحة عايزة أخطفك عشان ننزل نقابل المنظم بتاع الحفلة، وكمان لو فيه حاجة ناقصه نجيبها سوا.
رشدى بابتسامه: كل ده!! ماشي، نشرب حاجة، وأفرجك على المجموعة، وبعدها أخلص شوية أوراق، وبعدين نعمل كل اللى أنتِ عايزاه.
مي بخجل: أوعى أكون معطالك.
رشدي بإبتسامة غزل: لا يا حبي، أنتِ منوره المجموعه كلها.
تبادلا الابتسامات بخفة، وطلب رشدي لها كوبا من العصير، ثم جلسا يتحادثان وكأنهما في عالم يخصهما وحدهما، أخذ يحدثها عن تفاصيل المناقصة، يستشيرها برأي صادق، وهي تنصت باهتمام، تمنحه الثقة والدعم بابتسامة دافئة وكلمات مطمئنة.
وما إن أنهيا جلستهما حتى اصطحبها رشدي في جولة داخل المجموعة، كانت تتأمل المكان بإعجاب يلمع في عينيها، بينما كان يستمتع برؤية فرحتها، ثم اصطحبها لتصافح أفراد العائله في مكاتبهم واحدا تلو الآخر، عدا سليم الذي لم يكن حاضرا، وبعد الجولة، أنهى رشدي بعض الترتيبات في عمله ومي تتابعه باهتمام.
💞________________بقلمي_ليلةعادل
فيلا سليم وماسة، العاشرة صباحا
غرفة النوم
تسلل ضوء الصباح بخفة من خلف الستائر، يرسم خيوطه الأولى على أطراف الغرفة، كان سليم وماسة مايزالان غارقين في نوم هادئ، تفصل بينهما وسادة، استلقى سليم على جانبه، يده ممدة فوق الوسادة، ووجهه متجه نحوها في سكون مطمئن، بينما كانت هي تنام على ظهرها، وبعد قليل، بدأت تتململ ببطء وفتحت عينيها نصف فتحة، تحاول التكيف مع الضوء، وحينما تذكرت أن سليم يشاركها الفراش، ارتجفت بخجل، ثم التفتت نحوه تتأمل وجهه الساكن بابتسامة صغيرة رقيقة، كأنها تراه لأول مرة.
همست لنفسها بنغمة دافئة وعيونها لا تفارقه: بقى القمر ده چوزي، وبيحبني آني!! يالهوي.
ضحكت بخفوت، وهي تمرر عينيها عليه، وهمست: آني حبيتك أووي، يارب أفتكرك بقي.
رفعت يدها بتردد، ولم تستطع المقاومة، فلامست ملامحه برفق بأنامل مرتجفة، تتمتم بخجل: أنت قمور أوي.
اعتدلت ببطء، مسندة ظهرها إلى الوسادة خلفها، وعيناها الناعستين تتأملانه في صمت بابتسامة مشرقة وظلت هكذا لدقائق، اخذت نفسا عميقا، ثم سحبت الغطاء برفق فوقه، ولمست شعره بأطراف أصابعها، فارتجف قلبها دون وعي، ثم نهضت ببطء واتجهت إلى الحمام.
في المرحاض.
غسلت وجهها، ثم ابتسمت لنفسها في المرآة وهي ,تصفف شعرها، ثم بدلت ثيابها وخرجت بخفة من الغرفة.
كانت الفيلا لا تزال صامتة إلا من صوت خطواتها، فدخلت المطبخ، وبدأت بتحضر مشروب سليم المفضل بإهتمام وحنية واضحة، كأنها تصنع له شيئا يخص قلبها هي.
وفجأة سمعت صوت حركة تقترب، كانت سعدية فابتسمت وقالت بلطف: صباح الخير يا اما
جلست سعدية وهي تتاوب: صباح النور يا حبيبتي، عامله إيه دلوقتي؟!
ماسة وهي تضع الكوب على الصينية: الحمد لله، ممكن تعملي الفطار على ما أطلع لسليم المشروب بتاعه، مش عارفة سحر فين؟!
ابتسمت سعدية بمودة وهي تهز رأسها: عيني.
هنا ظهرت سحر وهي تحمل شنطة خضار يبدو أنها كانت في الخارج.
سحر بابتسامه: صباح الخير، إيه إللي صحاكي بدري كدة يا ماسة؟!
رفعت كتفيها لأعلى، وقالت ببساطه: ما آني واخدة على الصحيان بدري، معلش ممكن تحضري الفطار عقبال ما أصحي سليم.
سحر بلطف: حاضر ، وهعملك الفول بالزيت الحار إللي بتحبيه.
ماسة بامتنان: شكرا.
خرجت ماسة وصعدت الغرفة وهي تشعر بنوع من الحماس الطفولي، دخلت الغرفة بخفّة، وضعت الكوب على الكومود، ثم انحنت قليلا تتأمّل ملامحه بعشق؛ عيناه المغمضتان، شفتيه، لحيته، وشعره، مدت يدها برفق، وأخذت تمرر أناملها على وجهه بابتسامة يملؤها الحبّ والحياء، بعد لحظات، فتح سليم عينيه فجأة، وكأنه كان يشعر بها، توترت فحاولت سريعًا سحب يدها، لكنه أمسكها بابتسامةٍ دافئة قائلًا: متشليش إيدك.
تلعثمت بخجل وهي تبلع ريقها: أنى آسفة، والله ماقصدي حاجة وحشة.
ضحك بخفة: لا... ما هو لو فضلتي تتأسفي، أنا هزعل صباح الورد يا احلى وردة.
تبسنا بخجل وهي تعض اسفل: شفتيها صباح النور.
تبادلا النظرات في صمت، هي خجلى لا تجد الكلمات، وهو مستمتع باللحظة. قطع الصمت، ثم ابتسم ابتسامة دافئة وقال بنبرة ناعسة: إيه بس القمر ده؟ حد يصحي الجمال ده..
ضحكت ماسة بخجل واضح، فمد يده بلطف وقال بصوت خافت متهدج: هو أنا ممكن أطلب طلب؟ بس لو مكسوفة خلاص.
رفعت عينيها اليه بخجل: قول.
قال بابتسامه، بنظرة فيها رجاء طفولي: ممكن بوسة؟
ترددت للحظة وعضت أسفل شفتيها، ثم اقتربت منه على استحياء وطبعت قبلة رقيقة على خده، ابتسم بفرح صادق، وبحركة لا إرادية مد وجهه نحوها ورد القبلة علي خدها هو الآخر.
أحمرت وجنتيها، ضحكت بخفوت وقالت وهي تبعد شعرها عن وجهها: يلا بقى قوم عشان تفطر، آني عملتلك المشروب بتاعك.
ابتسم سليم بهدوء وجلس، فناولته الكوب، فتناوله منها وعيناه لا تفارقها لحظة، كانت نظراته مشبعة بالحب والشغف، كأن الكون بأسره قد اختصر في وجودها أمامه، وحتى هي، كانت تبادله النظرة ذاتها بصمت.
تساءلت ماسة برقة: هتعمل تمارينك النهاردة؟
هز راسه نافيا، بارهاق خفيف: لا، مش قادر النهاردة، هاخد شاور.
تساءلت برقه واهتمام: تحب أطلعلك حاجة على ذوقي؟ بس هدوم خروج ولا بيتي؟
سليم بابتسامه: أنتِ عايزة تلبسيني إيه؟
ردت بسرعة ببراءة: بنطلون وتيشرت مريحين زي إللي لابسه.
قال مبتسما: ماشي يا ماستي الحلوة.
أحضرت له ماسة ملابسه، وبعد أن أنهى مشروبه استحم وتعطر بعطره المفضل. كانت بانتظاره بابتسامةٍ هادئة، فتبادلا نظرات دافئة قبل أن يمسك بيدها وينزلا معًا. جلسا إلى المائدة حيث سعدية وسحر بانتظارهما، وتناولوا فطورًا هادئًا دافئ الأجواء. بعدها خرجا إلى الحديقة، وجلسا على الأريكة تحت ظل شجرة عتيقة، نسيم الصباح يداعب وجهيهما، وسليم يحتسي قهوته بهدوء بينما تبتسم له ماسة.
ماسه وهي تميل برأسها نحوه، وعيناها تلمعان بفضول طفولي: يلا بقى أحكيلي، بعد ماوصلنا القصر، إيه إللي حصل؟ فايزة هانم وإخواتك استقبلوني إزاي؟
أومأ برأسه ضاحكا: حاضر يا ستي.
بدأ يروي لها بصوت هادئ، كأن كلماته تحاول لملمة ما تبعثر من ذاكرتها، كانت تنظر إليه بإصغاء، وكلما أراها صورة أو مقطعا، أمسكت الهاتف بيد مرتجفة، تحدق بعينيها الواسعتين كأنها تبحث عن نفسها بين الوجوه، لكن بلا جدوى، واصل سليم حديثه بصوت أبطأ وأكثر حذرا، كأنه يخشى على قلبها من الحقيقة، فبدأ يروي عن كل شيء؛ عن ضربه لها، عن خوفه، وعن الإجهاض الأول.
تصلبت ملامحها، وارتجفت شفتاها قبل أن تخرج الكلمات بصوت مبحوح مرتعش: يعني آني كنت حامل وكان هيجيلنا نونو صغنن؟
هز رأسه ببطء، وقال بصوت خافت غارق في الأسى: أه، بس الحمل مكملش.
أطرقت بعينيها، وصوتها خرج واهيا كصوت طفلة خابت أمانيها: زعلتني أوي.
مد يده ولمس كفها بخفة، كأنه يخاف أن تنكسر بين يديه، وقال بهدوء حنون: زعلانة ليه، أنتِ كنتي صغيرة وكان متوقع يحصل كده، وبعدين أحنا مع بعض أهو إن شاء الله هنجيب أولاد كتير.
هزت رأسها بتأييد حزين، وساد بينهما صمت قصير، قبل أن يبدأ بسرد قصة علاجه، وكيف ذهب الطبيب ليحاول السيطرة على حالته، لكنه توقف فجأة قبل أن يكمل، وكأنه عجز عن المضي حين اقترب من ذكر حملها بحور.
مسح وجهه بكفه، وهو يزفر بتعب: حبيبتي كفاية كدة ولما نرجع من عند الدكتور نبقي نكمل، اتفقنا؟
هزت رأسها بإيجاب، ثم نظرت له بإمتنان يفيض من عينيها، وهمست بصوت رقيق مرتعش: يعني أنت روحت تتعالج علشاني آني؟
ابتسم، وملامحه امتلأت بصدق نادر: طبعا علشانك.
ضحكت بخجل وهي تحاول مسح دمعة تسللت من عينها: أنت طيب أوي، وآني مسمحاك على كل حاجة.
ارتسمت على شفتيه نصف إبتسامة حزينة: لسه القصة فيها شوية أحداث تانية.
قالت وهي تضحك وتضربه بخفة على كتفه: أصلا القصة كلها أكشن، خصوصا لما اتخطفت، بس برافو إنك انقذتني زي الفيلم! أنت شطور يا كراميل.
سليم بضحكة حزينة: وإللي جاي كمان فيلم جامد، بس كئيب، لكن زي ما اتفقنا لما نرجع هحكيلك.
نهضت وهي تفرد شعرها بإيدها وقالت بإبتسامة مجهدة: آني نفسي أعرف باقي الحكاية، بس خلاص، دماغي وجعتنى، هروح أحضر الغدا عشان نروح للدكتور.
هز راسه بإيجاب بإبتسامة، وتابعها بعينيه وهي تبتعد بخطوات هادئة، كان شعرها يتحرك مع النسيم بخفة دافئة جعلته يبتسم دون وعي، أغمض عينيه للحظة، واستند للخلف متنهدا، ثم همس لنفسه بإبتسامة حالمة وقال بوجع: ياااه يا ماسة، وصلنا لنقطة صعبة يمكن إللي جاي هو إللي أصعب وأصعب.
ثم مسح وجهه بتعب، نهض وبدأ يتحرك في الحديقة بخطوات بطيئة.
في الكافيه الواحدة مساء
جلست مي ورشدي مع منظم الحفلة، يناقشان تفاصيل يوم الخطوبة؛ ألوان الورود، الزينة، وطبيعة الأجواء التي يحلمان بها، وعندما انتهى اللقاء وغادر الرجل، بقيا وحدهما، يتبادلان الكلمات الصادقة والابتسامات.
نظر لها رشدي بإبتسامة جانبية وهو يميل إلى الأمام، قائلا بخفة: أهو كلها أيام وتتدبسي فيا رسمي.
ضحكت مي: ده؟! اشمعنا؟
رد بسرعة وهو يرفع حاجبيه مازحا: علشان خلاص هتبقي علاقتنا رسمية، وهتلبسي دبلتي في إيدك يعني ادبستي خلاص وروحتي في طريق ذهاب بلا عودة.
رفعت مي يدها في الهواء بإشارة اعتراض: لا على فكرة، دي خطوبة بس، وممكن أفسخها في أي وقت.
ضحك رشدي وهز رأسه في ثقة: متقدريش.
إنحنت للأمام تحدق فيه بدهشة مفتعلة: ودي ليه بقى إن شاء الله؟
رفع يديه متصنعا الدراما، كأنه يمثل مشهد على المسرح: هرمي بلايا عليكي، وأقولهم "ألحقوني يا ناس، اتغرغرت بيا! خدتني لحم وعايزة ترميني عضم
قهقهت مي وهي تهز رأسها بيأس: مفيش فايدة فيك.
ابتسم بخبث وأشار إلى نفسه: أيوه، مفيش فايدة، ولا مفر مني، خلاص هتدبسي.
أمالت رأسها، وقالت بنبرة واثقة: لا طبعا، فترة الخطوبة مجرد فترة تعارف بس بشكل رسمي، وأنت إللي هتحدد إذا كنا هنكمل ولا لأ، بتصرفاتك طول الفترة دي.
ضحك رشدي وهو يميل بكتفيه للخلف متظاهرا بالاستسلام: عاملة لي امتحان يعني؟
ابتسمت بمكر: حاجة زي كده.
أقترب منها أكثر، وخفض صوته بتوسل:طب متغششيني حاجة تنجحني! إللهي تنستري، وأنا أوعدك أشتغل على نفسي واذاكر.
ضحكت بخفه وهي تردد: يخرب عقلك، مفيش مرة تكمل فيها كلام جد أبدا.
أخذ نفسا عميقا، ثم نظر إليها بجدية لم تعهدها في عينيه وقال بهدوء: طب يا ستي نتكلم جد، إيه إللي ممكن يخليني أغلط لدرجة إنك تفسخي الخطوبة؟
نظرت في عينيه مباشرة، وقالت بنبرة هادئة لكنها محملة بثقل الكلام: أكتر حاجة بتوجعني يا رشدي هي الخيانة، وإنك تخبي حاجة عليا، أو تكذب عليا، أو متكونش قد الثقة ولا قد كلامك ووعودك، كل دي أسباب تكسر القلب.
حك مؤخرة رأسه بخجل، وقال بنبرة خافته محاولا التبرير لنفسه قبلها: بس مش ديما الإنسان بيخبي علشان يخدع الشخص إللى قدامه، ممكن يكون بيخبي بعض الحاجات علشان خايف يخسره.
مي بمزاح خفيف وهي تضيق عينيها: هو أنت مخبي عليا حاجة يا رشدى ولا إيه؟ أعترف.
ضحك ضحكة قصيرة وهز رأسه: لا خالص، بس بندردش يعني، بتعرف عليكي أكتر.
ثم مال بجسده للأمام، وأضاف بصوت صار أكثر دفئا: صدقيني أنا بحبك، ومقدرش أخبي حاجة عنك، بس بقولك لو، يعني أحيانا الواحد بيضطر يغلط أو يكذب مش لأنه أختار يخدع اللي قدامه، بس لإنه خايف يخسر إللي بيحبه.
اعتدلت مي في جلستها، أرجعت ظهرها للمقعد وأشارت بيدها في الهواء: أنا مش معاك في دي يا رشدي، أحيانا الحقيقة هي إللي بتنجي، لإنك من غيرها هتعيش خايف وقلقان علطول، لكن لما بتقول كل حاجة خلاص، وصدقني حتى لو الشخص مسامحش أو معداش الموقف، المهم إنك تكون عملت الصح.
نظرت له نظرة عميقة، ثم تابعت بلهجة مزاح وهي تفتش في وجهه عن الإجابه: أعترف بقي مخبي عليا ايه؟
ضحك بخفه، وهو يحرك كوب العصير بتوتر: لا يا بنتي، هخبي عليكي إيه يعني؟ المهم كملي إيه تاني ممكن يزعلك؟
خفضت عينيها لثواني، ثم رفعتهم له بثبات: إنك متحبنيش وتقدرني كفاية، إنك تكون قاسي ومش حنين عليا، أو متبقاش شخص أمين عليا ومش قد الثقه اللي وثقتها فيك، دي كلها حاجات ممكن توجعني، أنا نفسي تطلع زي ما أنا اتمنيتك و تخيلتك، لإن بصراحة عمرك ما كنت الراجل إللي أنا كنت بحلم بيه، بس فيه حاجة جوايا شدتني ليك وحسستني إنك تستاهل، فأتمنى تطلع كده، وتتغير فعلا، لإنه لو متغيرتش، مش هقدر أكمل معاك.
ظل رشدي صامتا للحظة، عينيه تلمعان بالإرتباك، ثم قال بصوت مبحوح: مي أنا مبحبش الأسلوب دى، مش كل شويه هتحسسيني إني مش فارق معاكي وسهل تخرجيني من حياتك، أنا من الأول كنت صريح معاكى وقولتك هتصبري معايا حبه، متحسسنيش إنك واقفالي على الواحده، لإن مش طبيعي أكون بحاول علشانك، وأنتِ لسه لحد دلوقتي شاكه ومش واثقه فيا.
ابتسمت ابتسامة هادئة تطمئنه، وصوتها صار أكثر رقة: أنا لو مش واثقه فيك عمرى ما كنت هعارض مبادئ واتخطبلك، أنا بس برد على كلامك، ومش معني كلامي إنك مش فارق معايا، بس بعرفك إنك عمرك ما هتلاقيني مش موجودة، إلا لو عملت حاجة من إللي أنا قولتلك عليهم دول.
رفع يده بقسم، وصوته خرج ثابتا: وأنا أوعدك عمري ما هعمل كده.
تبسّم لها محاولًا كسر الصمت وتغيير الحديث، وقال بلطف: هتجيبي فستانك إمتى بقى؟ احكيلي.
ضحكت بخجل خفيف، وأخذ الاثنان يتبادلان الحديث، تتسلل الضحكة بين جملهم كأنها موسيقى هادئة تملأ المكان دفئًا
العيادة النفسية، السادسة مساء
جلست ماسة إلى جوار سليم على المقاعد المقابلة لمكتب الطبيب، كانت الغرفة هادئة إلا من صوت ساعة الحائط، والأنفاس المتقطعة لماسـة التي بدت متوترة.
ابتسم الطبيب، بنبرة حانية وهو يوجه كلامه إليها: عاملة إيه النهاردة يا ماسة؟
خفضت رأسها، وقالت بصوت خافت: الحمد لله.
مال الطبيب بجسده للأمام متسائلا: لسة الصداع بييجيلك؟
هزت رأسها بالنفي وهي تبتسم بخجل: لا خلاص، الحمد لله بقيت كويسة.
سألها الطبيب بهدوء: طيب قوليلي أول مادخلتي الفيلا، إيه إللي حصل؟
رفرفت عيناها في توتر وهي تحاول التذكر، ثم تمتمت: شوفت صور ناس، بس كأنها خيالات سودا، أصوات جاية من بعيد، مش عارفة أفسرها، خوفت وحسيت كأن حد بيصفر جوا وداني.
رفع الطبيب حاجبيه متسائلا: شوفتي ده كام مرة؟
حركت أصابعها في حجرها وقالت: تقريبا أربع أو خمس مرات، آخر نوبة النهاردة الصبح، سليم كان بيحكيلي شوية عن جوازنا، وآني بتفرج على ألبوم الصور، شوفتهم، حتى إمبارح وآني بشوف الصورة شوفتهم برضو
الطبيب وهو يدون ملاحظة: يعني بتحصلك أكتر لما بتشوفي صور
هزت ماسة رأسها بايجاب: آه
رفع الطبيب عينه نحوها: ده طبيعي...
أضاف متسائلاً بنبرة حذرة: الظل ده، فيه شبه من سليم؟ أو الصوت قريب من صوته؟
رفعت عينيها نحوه قبل أن تنظر سريعا إلى سليم، وأجابت بخفوت: لا خالص مش شبه سليم.
عدل الطبيب جلسته وهو يضم يديه: تحبي نكمل الجلسة وسليم موجود! ولا تحبي يخرج؟
رفعت كتفيها بلا مبالاة: عادي.
أكد الطبيب: لو مش هتكوني مرتاحة، ممكن أخليه يخرج مفيش خجل.
ابتسمت ابتسامة رقيقة: عادي خليه موجود.
مال الطبيب برأسه قليلا، ونبرة صوته دافئة: طيب، ايه رأيك في سليم بعد ما اتعاملتي معاه؟
خفق قلبها بسرعة، وأطرقت برأسها للأرض وهي تعبث بطرف ثوبها: طيب وحنين أوي.
ابتسم الطبيب وهو يراقب أحمرار وجهها: ولسة بتتكسفي منه؟
ترددت لحظة ثم تمتمت: اممم، بس مش زي الأول، أمي قالتلي إنه چوزي، يعني، عادي أخليه يحط أيده عليا أو ينام چنبي مش عيب.
ارتسمت على ملامحها نظرة حزن وهي ترفع بصرها نحوه فجأة: بس يا داكتور، آني هفضل كده علطول؟! آني نفسي أفتكر، إمبارح لما سليم حكالي قصتنا افتكرت إني هفتكر كل حاجة؟!! لكن لقتني كأني بسمع الحكاية لأول مرة زي فيلم أول مرة أتفرج عليه، ولحد دلوقتي مش عارفة أفتكر.
تنهد وهو يشرح بهدوء: لا طبعا هتفتكرى، لأنه فقدان الذاكره دى محصلش بسبب تأثير الوقعه على المخ، بالعكس الأشعه بتاعتك كانت كويسه جدا، بس أنتِ اتعرضتي لضغوط نفسيه كبيره آخر فتره، فمخك مبقاش قادر يستحملها فقرر يستخدم آليه دفاع ذاتيه ويرجع نفسه لفتره كنتي مرتاحه فيها، ومشاكلك فيها كانت هينه، فأحنا اللى هنعمله دلوقتي، إننا نديكى دوا يعدلك مودك شويه، وكمان ينشط الذاكره ونساعدك تستعيدى ذاكرتك بشكل صحي، وبعد ماترجعلك الذاكره نبدأ بقي رحلة علاجك النفسي الحقيقيه، مع ماسة الأصليه اللى عندها المشكله وقررت تنسحب بشكل مؤقت من المشهد.
قاطعت حديثه بدهشة وهي تعقد حاجبيها: وآني إيه إللي كان مخليني تعبانة نفسيا؟ يعني إيه أصلا تعبانة نفسيا دي؟ ومين ماسة اللى مشيت دي؟! ما آني قاعده قدامك أهو؟؟
لم يستطع سليم كتم ضحكته، فرد عليها ضاحكا وهو يحاول تمالك أنفاسه: يا عشقي يقصد إنك كنتي زعلانة شويه، وماسة التانيه دى يقصد لما كبرتي.
سألته بفضول: وآني كنت زعلانة ليه؟
أجابها الطبيب بهدوء: علشان كان فيه مشكلة بينك وبين سليم.
تطلعت إلى سليم لحظة قبل أن تعود للطبيب وقالت ببراءة: آاه هو قاللي، عشان مقاليش إنه عمل العملية، وعملها من غير ميقولي.
أومأ الطبيب مؤكدا: بالظبط وفيه شوية حاجات تانية.
تساءلت بفضول: وإيه هي الحاجات التانيه دي، ده سليم طيب خالص وأكيد مزعلنيش أوى كده.
رد بإبتسامة مطمئنة: هتعرفي كل حاجه بس بلاش استعجال سليم هيبقي يحكيلك، وإن شاء الله مع الأدوية، ومع إن سليم يفضل يحكيلك، هتبدأ الذاكرة ترجعلك واحدة واحدة، الأهم دلوقتي، إنتِ مش حاسة بضيق من وجوده جنبك، ولا من كلامه معاكي؟
أجابت بسرعة وهي ترفع كتفيها لأعلي: تؤ مش متضايقة كلامه حلو، وهو طيب وحنين خالص.
ابتسم براحة: طب كويس جدا، دي مرحلة كنت قلقان منها.
مال سليم بجسده إلى الأمام وقال بنبرة متوسلة: ياريت تقنعها إنها لازم تعرف كل حاجة في وقتها، أنا عايز أحكيلها كل حاجة بالترتيب وهي بتسأل كتير جدا وبتضايق لما بقولها أصبري.
هز الطبيب رأسه نافيا وكأنه يتحدث لطفلة: لا كدة ماينفعش، بالراحة يا ماسة، سليم ماينفعش يحكيلك العشر سنين جواز في يوم واحد، إمبارح والنهاردة حكالك شوية، بكرة ممكن يحكي شوية تاني.
وأضاف وهو ينظر لسليم: ولو عندكم فيديوهات، وريهالها، وأحكيلها إن الصورة دي كانت في المكان الفلاني أو البلد الفلانية، وافتكروا الموقف سوا، كدة هتربط الذكريات أسرع، وأنتِ ماسة أسمعي الكلام عشان تفتكري، ومتتعبيش.
انفرجت شفتي ماسة بإبتسامة ممتنة: حاضر يا داكتور
سليم بتوضيح: أنا فعلا عملت كدة وأنا بحكيلها كنت بفرجها على صورة مرتبطة بالموقف.
تحرك الطبيب قليلا في كرسيه، مبتسما ابتسامة مطمئنة: طب بقولك إيه يا ماسة، ممكن تخرجي شوية وتسيبيني أتكلم مع سليم لوحدنا؟
رفعت حاجبيها بدهشة، وصوتها يحمل شيئا من الريبة: مش عايزني أسمع ليه؟ هو آني عندى حاجه خطيرة زى البطله بتاع الفيلم وأنت مش عايز تسمعهالي، قولي بصراحه آني عندى ايه؟
ابتسم الطبيب وهو يهز رأسه نافيا: لا خالص، مفيش حاجة أنتِ زى الفل، بس سليم بيتعالج عندي من زمان، وأنا عايز أسأله شوية حاجات عن الدوا والعلاج بتاعه.
قاطعاه بإصرار وهي تشبك أصابعها في حجرها: طب ماتقول له وآنى موجودة، ما آني مراته ومن حقي أعرف واطمن عليه.
نظر سليم إليها نظرة هادئة، ثم مال قليلا وهو يقول بصوت منخفض كأنه يحدث طفلته: ماسة إحنا إتفقنا نسمع الكلام ونقول حاضر، ومنبقاش أشقية..
ثم حاول أن يبتسم ليلطف الموقف، وأضاف بحنان: وبعدين عيب، أنتِ كبيرة على اللى بتعمليه دى.
أطرقت ماسة رأسها إلى الأرض في صمت، وأخذت تعبث بأطراف فستانها بخجل، ثم همست: حاضر، هستناك بره.
نهضت ببطء، وهي تتجه نحو الباب بخطوات هادئه، في الخارج كان مكي في انتظارها، وقف بجانبها فور أن رآها، وسألها وهو يرفع حاجبه: فيه حاجة؟
هزت رأسها نافية بضيق: الدكتور قالي أستنى برا لحد مايتكلم مع سليم.
هز مكي راسه بتفهم، ثم اتجهت الي الباب ووضعت اذنها عليه وهي تسترق السمع، فتعجب مكي ورفع أحد حاجبيه وتساءل باستنكار: بتعملي إيه يا ماسة؟ هي حصلت إنك تلمعي أوكر!!
نظرت إليه ببراءه وهى تحاول التبرير: لا والله بس آني قلبي حاسس إني عندى حاجه خطيره والداكتور مرضيش يقولها قدامي، آني لسه شيفاها في الفيلم إمبارح.
ثم زفرت بتذمر وهى تدبدب باحد قدميها على الأرض: أصلا صوتهم واطى أوى ومش سامعه منهم أيتوها حاجه.
ضحك وأشار بيده إلى المقعد المجاور: طب تعالي أقعدي.
في الداخل.
أخرج الطبيب نفسا عميقا وهو ينظر إلى سليم: أنا كان ممكن أسيبها قاعدة، بس أنا حابب أتكلم معاك لوحدنا علشان نتكلم براحتنا، طريقه تعاملك معاها ممتازة، خلي بالك، ماسة دلوقتي زي الطفلة، فخليك صبور معاها، وعاملها زى بنتك.
ابتسم سليم ابتسامة خفيفة وهو يشبك يديه: أنا بعرف إزاي أتعامل مع ماسة في المرحلة دي، وبعدين هي مكانتش طفلة أوي، يعني في العمر ده كانت بتحب تسأل كتير، بتعند أوقات، بس ببراءة، ماسة في الفترة دي كانت جميلة جدا.
أشار الطبيب بيده وهو يدون بعض الملاحظات: محتاج أفهم منك، إزاي تعاملتوا مع بعض من أول مادخلت الفيلا لحد النهاردة؟ وكمان إمبارح، أنا مجبتكش عشان أسيبلكم مساحة تعيشوا سوا.
هز سليم رأسه: هقولك.
وبدأ يسرد له ما حدث، ظل الطبيب ينصت بإهتمام، وعيناه تتحركان بين سليم وأوراقه، بعد أن أنتهى سليم من سرده، ابتسم الطبيب براحة قال بإنبهار: جميل جدا، أنكم تخطيتوا بسرعة مرحلة مهمة، مكنتش متوقع إن هي تسيبك تقرب منها بالسرعة دي؟! خطوة إنها تسيبك تزغزغها، وتنام معاها في نفس الأوضة، دي خطوة كبيرة برغم إنها أول ليلة رفضت إنك تنام جنبها، لكن تاني يوم تقبلت لمستك، وعرضت عليك تفضل في الأوضة حتى لو بينكم مخدة، دي كلها إشارات ممتازة، ممكن تخلي النهاردة مامتها تروح، بس خلي مامتها هي إللي تقول إنها عايزة تمشي لأي سبب، وطبعا أنت هتروح تنام جنبها زي إمبارح شوف هتحط مخدة ولا لا لو محطيتهاش يبقى تقدم هايل ولو حطيتها أعرض عليها تشيلها وشوف هتعمل إيه؟! بس دايما سيب لها حرية الأختيار .
أومأ سليم موافقا: تمام.
ابتسم الطبيب مشجعا: كمان شاركها في الهزار، والحاجات إللي بتحبها، خرجها في الأماكن إللي بتحبها، وياريت لو قدرت توفر نفس اللبس اللى رحتوا بيه قبل كده الأماكن دى، هتبقى حاجة كويسة جدا.
سليم بجدية: إن شاء الله هعمل كدة، بس هي بتسأل كل شويه ليه زعلنا؟! وليه مقولتلهاش على العملية؟! ومش عارف أعمل إيه؟!
رمقه الطبيب بنظرة فاحصة: واضح إن هي فضولية جدا.
ضحك سليم بخفة وهو يمرر يده في شعره: أيوة، فضولية وعنيدة، بتسأل كتير جدا؟! وأسئلتها بتكون مفاجأة وغير متوقعة، مش ببقي عارف هتقول إيه، إمتى ؟!
أشار الطبيب بقلمه: يبقى لازم تكون محضر نفسك.
تنهد سليم بتوتر: أنا بس خايف أوجعها أو أذيها، وفي نفس الوقت خايف متفتكرش خالص، وأكون كدة ضحكت عليها لإني مقولتلهاش أهم جزء في حياتنا الجزء إللي بسببه إنهارنا.
صمت لحظة ثم قال وهو يحرك أصابعه بعصبية اضاف: دكتور، إمبارح سألتني فجأة عن إزاي وقعت وليه زعلتها، وأنا معرفتش أرد، قولتلها نستنى أحكيلها بالترتيب، وصلت معاها لجزء قبل ماتحمل في حور، وقولتلها كفاية لحد مانرجع، أنا مش عايز أرجع أستخدم أسلوب نص الحقيقة، مش عايز أخبي عنها، ناوي أقولها كل حاجة، حتى إني منعتها من الخروج فترة، بس المشكلة في حاجة واحدة، لما هربت آخر مرة آخر سنة ونص في حياتنا، أنا مش قادر اتكلم فيها...
ثم عد بأصابعه وأضاف بأرتباك وحيرة: بس أنا محتار، أقول ولا مقولش؟ أخبي عليها الجزء ده كأنه محصلش، والقصة تخلص كده؟ ولا أتكلم بعدين؟ ولا متكلمش خالص؟
نظر الطبيب إليه بهدوء وقال: قولي أنت ناوي تعمل إيه؟! متسألنيش أنا، أنا عايز أعرف قرارك، وهقولك هل هو صح ولا غلط.
تنهد سليم بإختناق وهو يهز راسه: مش عارف، أنا تايه، علشان كده بقولك، قولي أعمل إيه؟!
ابتسم الطبيب ابتسامة صغيرة وقال بنبرة ثابتة: سليم، أنا هنا مش علشان أقولك تعمل إيه؟! أنا هنا علشان أوجهك للطريق الصح وأديك اختيارات؟! أنت شايف إنك لو قولتلها الحقيقة هترتاح؟ ولا لو سكت واستنيت شوية؟ ولا لو مقولتش خالص؟ قولي أنت حابب أنهي إختيار وليه؟!
ظل سليم ينظر إلى الأرض وقال بصوت مبحوح: حاسس لو سكت شوية وقولتلها مثلا إن الموضوع ده نفسي أنساه وبلاش نتكلم فيه دلوقتي، وإني زعلتها بس هنتكلم بعدين، حاسس ده إللي هيبقى أفضل والصح، لإني لو اخترت الأختيار الاول أو التالت إللي حضرتك قولتهم، هبقى بستخدم نفس الأساليب القديمة، ولو افتكرت هتعرف إني ضحكت عليها وهتزعل مني.
تطلع إليه الطبيب بنظرة فاحصة متسائلا: يعني أنت عايز تقولها عشان متظهرش كده في عينيها؟ ولا عشان ده الصح؟ ولا علشان ترتاح أنت؟
رد سليم فورا وهو يزفر: عشان هو ده الصح، هي من حقها تعرف كل حاجة، مش من حقي أحرمها من أهم لحظات حياتها حتى لو كانت مؤلمة، هي بقى تسامح أو متسامحش، دي بتاعتها هي، بس أنا حاسس إني مش جاهز أقولها دلوقتي، محتاج أستنى شوية وأحكيلها بالترتيب لحد مانوصل للنقطة دي.
ابتسم الطبيب بهدوء: بالضبط، هو ده إللي بحاول أقنعك بيه يا سليم، أمشي الأحداث بالترتيب، إحنا لسة في البداية، وهي مبقالهاش ٣ أيام، ولما نوصل للنقطة دي، هانحدد نقولها إيه؟! وإزاي ؟! وأنا مبسوط منك إنك مش عايز تخبي حتى التفاصيل المؤلمة، أنت كدة ماشي في الطريق الصحيح.
نظر له سليم بنصف ابتسامة حزينة: بس أنا قلقان مش مرتاح برغم إني بعيش معاها أجمل لحظات مفتقدها من سنين.
ابتسم الطبيب وهو يتكئ إلى الوراء، ويقول بنبرة هادئة ليطمئنه: صدقنى البنت إللي شوفتها من يومين وكانت تايهة وبتعيط ويائسة، غير البنت إللي شوفتها النهاردة، كلها حيوية، ومقبلة على الحياة، دى بيأكد تقدم ملحوظ وإن دي ماسة إللي أنت عارفها.
مسح سليم وجهه بكفه وقال بصوت مرتبك: أنا فاهم ولامس التغيير ده فعلا، كل الحكاية إني مش عارف أحكي لها إزاي؟! بس هحكي وخلاص.
صمت لحظة ثم نظر للطبيب بقلق وأضاف: بس يا دكتور، دي مفتكرتش حاجة خالص، كنت متوقع لما أوريها صور أو أحكيلها تفاصيل، تقول مثلا أنا حاسة إني شوفت ده قبل كده، أو سمعت الكلام ده قبل كده لكن مفيش خالص.
صمت الطبيب للحظة وكأنه يفكر في شيء وهو يمرر يديه أسفل ذقنه ثم قال: طبيعي متفتكرش، دى لسه أول ٣ أيام، بس هو فيه حاجه ممكن تساعدها تفتكر، العلاقة بينكم، ممكن يحصل بينكم علاقة زوجية، بس خليك فاهم، إنك هتتعامل معاها زي أول ليلة زفاف، كأنها عذراء.
عقد سليم حاجبيه للحظة بصمت وكأنه لم يخطر بباله ذلك، أطرق رأسه بقلق: بس هي ممكن مترضاش بنسبة كبيرة.
أجابه الطبيب بهدوء: لو مرضيتش خلاص، لكن ده ممكن يخليها تفتكر، القرب الجسدي، بالشكل القوى ده، أحيانا بيرجع الذاكرة.
هز سليم رأسه بإيجاب: تمام شكرا يا دكتور، طب إمتى الجلسة الجاية؟
ابتسم الطبيب وهو يلملم أوراقه: ليك أنت خليها الأسبوع الجاي، أما ماسة مش محتاج أشوفها، إلا لو حصل جديد.
توقف سليم لحظة وهو يمد يده مصافحا: شكرا.
خرج سليم من مكتب الطبيب، وعيناه تلمح ماسة جالسة في الانتظار، وما إن وقع بصرها عليه حتى وقفت بسرعة، خطواتها سبقت كلامها، والفضول ارتسم في ملامحها.
رفعت عينيها نحوه تسأله: الدكتور قالك إيه؟
ابتسم سليم وهو يحرك كتفيه بهدوء: كان بيوصيني عليكي.
ثم مال بجسده قليلا ليغير الجو وسألها بخفة: بقولك إيه تشربي حلبسة؟
ضحكت ماسة بعفوية، بملامح طفولية: آه أشرب حلبسة، آني بحبها أوي.
أشار سليم برأسه وهو يتجه نحو السيارة: طب يلا.
تحركا معا حتى السيارة، صعدا، وانطلقت بهما حتى وصلا إلى النيل، كان الليل ساكنا إلا من نسمة باردة ورائحة الذرة المشوي، والأضواء تنعكس على صفحة الماء.
أوقف سليم السيارة، ترجل أولا، فتبعته بخطوات مترددة حتى وصلا إلى عربة حمص الشام ينبعث منها بخار دافئ، جلسا على مقاعد خشبية صغيرة، وكل واحد يحمل كوبه الساخن بين يديه.
نظرت ماسة حولها بإنبهار: المكان ده حلو أوي، أنت جبتني هنا قبل كده؟
ابتسم سليم ابتسامة فيها أمل: افتكرتي حاجة؟
هزت رأسها بسرعة وهي تحتضن الكوب: لأ بسألك عادي.
أومأ باحباط، ثم تنهد وقال: آه جبتك هنا كذا مرة.
صمتت قليلا، ثم قالت بفضول وحماس: مش هتكمل بقى بعد ما روحنا القصر، إيه إللي حصل؟
مال سليم للأمام، صوته صار أخف: الدكتور قال نستنى يا شقية وترتاحي النهاردة.
أومأت ماسة: ماشي، طب أني عايزة أسألك حاجات عنك.
حرك سليم كوبه بين أصابعه: اسألي إللي إنتِ عايزاه.
قالت بخجل وهي تنظر في الكوب: قبل مانتچوز، كنت متجوز أوخاطب؟
تنهد سليم بنعومة: ارتبطت قبلك ببنت اسمها لورجينا.
رفعت ماسة حاجبها بدهشة: كانت حلوة؟
ابتسم وهو يقترب منها قليلا: بس أنتِ أحلى.
عضت ماسة شفتها بخجل وغيرة: حبتني آني أكتر ولا هي؟
أجابها سليم بسرعة وهو يرمقها بثبات: أكيد حبيتك إنتِ أكتر، أومال اتجوزتك ليه؟ لو كنت حبيتها، كنت اتجوزتها.
ابتسمت ماسة ببراءة: أيوة صح.
ارتشفت من كوبها، بينما سليم قال وهو يراقبها: لو عايزة تاكلي أو تشربي حاجة، قوليلي.
هزت رأسها نافيه: لأ مش عايزة حاجة، بس بقولك يا سليم، هو آنى كملت علامي لحد فين يعني اخر حاجة حكتها كنت لسه داخله الاعداديه؟
ابتسم بخفة:ووصلتي لحد الجامعة بس ما كملتش لسه حصل ظروف هتعرفي لما نكمل بس هتفهمي.
اتسعت عيناها بدهشة طفولية: بجد والله؟ أصل آنى طل عمري نفسي أتعلم أوي.
رفع سليم أصابعه يعد: وبقيتي كمان بتعرفي لغات كتير إنجليزي، وتركي، وفرنش مش مجرد كلمات بس لا بتعرفي تتكلميها زينا.
نظرت له بإستغراب: واللغات دي بتتنسي كمان؟ والقراءة والكتابة برضه؟
أطرق رأسه بأسف: آه يا ماسة كل حاجة هتتنسى، أي حاجة اتعلمتيها بعد ماتجوزنا أو بعد ماعرفتينى، راحت.
ظلت صامتة لوهلة، ثم قالت وهي تلمس طرف الكوب: أمم شكرا يا سليم، شكرا إنك علمتني وعملت كل الحاجات الحلوة دي عشاني.
ثم أضافت بطيبة وبساطة: بص اني خلاص معدتش زعلانة منك وسامحتك على الحاجات اللى الداكتور قال إنك زعلتنى وتعبت بسببها، وكمان مسمحاك علي العملية إللي عملتها من غيري، أكيد عملتها بعيد عني عشان فيه حاجة كبيرة حصلت وأنت وعدتني هتحكيلي لما نوصلها، صح؟
رفع سليم الكوب وهو يبتسم: إن شاء الله يا ماسة، يلا بقى أشربي الحمص قبل ما يبرد.
وتبادلا الأحاديث بهدوء، ثم عادا إلى المنزل.
المقبرة السادسة مساء
نزل عثمان من التاكسي بعد أن دفع الأجرة، تحرك وتوقف أمام أحد المقابر وعيناه فيهما شيء من الدموع الباهتة، بدأ يقرا القران ثم جلس على الأرض، وأمال جسده إلى الأمام كمن يهمس لسر دفين.
عثمان بصوت منخفض، حاد لكنه مكسور: أنتِ وحشتيني أوي، أنا لسة محافظ على وعدي ليكي،
صمت قليلا، وكأنه ينسق الكلمات ثم أكمل هو ينظر للحد: متفكريش إني كل السنين دى ساكت، أنا مش ساكت، وهجيبلك حقك بالطريقة إللي تريحك في نومتك.
عض على شفته بقوة قال بضجر: كنت فاكر من سنين إني هقدر أعمل ده، لكن للأسف معرفتش، حاولت كتير وكنت بفشل.
رفرفر بعينه، ثم رفع رأسه بنبرة فيها يقين: بس الأكيد إني مش هبطل أحاول لحد مانجح، وانتقملك منهم كلهم.
ظل عثمان جالسا لدقائق، ثم وضع قبلة على أنامله ثم لمس اللحد في صمت ثقيل، نهض ببطء وتحرك مبتعدا، ولا نعلم من الراقد في المقبرة، ولا من يخاطبه، فقط أن في صدره شيئا يطالب بالانتقام
فيلا سليم وماسة السادسة مساء
ترجلت ماسة من السيارة بعد أن فتح لها السائق الباب بإحترام، ثم هبط سليم بعدها، دخلوا الفيلا، فاستقبلتهم سعدية بإبتسامة واسعة وهي تفتح ذراعيها وتتساءل بلهفة: عملتوا إيه؟ طمنوني.
ابتسم سليم محاولا طمأنتها: كله تمام، هنستمر زي ما إحنا.
اقتربت سعدية من ماسة، وربتت على كتفها بحنان: خير يا حبيبتي، إن شاء الله هتفتكري وهتبقي زي الفل، بس أسمعي كلام الدكتور وبطلي شقاوة.
أومأت ماسة بطاعه: حاضر.
وقف سليم حائر وهو بيفكر كيف يطلب من سعدية أن تغادر وماسة تقف معهم، لكن في نفس اللحظة قالت ماسة: أنا هطلع فوق عشان أغير هدومي مش هتيجي يا سليم..
أقترب منها بخطوات هادئة، وصوته خرج وديعا: أنا هقف في الجنينة، محتاج أفكر في شوية حاجات.
نظرت له ماسة بإستغراب، وارتسمت على وجهها ابتسامة بريئة: حاجات إيه متقولي ونفكر سوا؟
ابتسم سليم بخفة، ومد يده يعيد خصلات شعرها خلف أذنها بدلال ناعم: أكيد هقولك، بس يعني شوية كده، ماشي؟
هزت رأسها بإيجاب، فأقترب منها أكثر، وطبع قبلة عميقة على عينيها، أرتبك وجهها بخجل واضح، وأحمرت وجنتاها، واهتز جسدها قليلا، ثم صعدت إلى غرفتها، تابعها بعينيه حتى أستمع لصوت الباب يغلق، فأقترب من سعدية وقال بهدوء: بصي، الدكتور قال إن الأفضل النهاردة إني أبقى أنا وهي لوحدنا، لو احتاجتك هكلمك تيجي تاني، يومين كده وممكن أنتِ وإخواتها ومجاهد تيجوا.
أومأت له سعدية بتفهم: ماشي عيني.
سليم بهدوء: بس قوليلها أي حاجة علشان تقتنع.
أجابته بحزم: ماشي متشغلش بالك، أنا هعرف أتعامل معاها.
سليم بتحذير: بس بالراحة عليها.
ابتسمت سعدية لتطمئنه: متخافش.
صعدت سعدية عند ماسة، بينما خرج سليم إلى الحديقة.
غرفة ماسة
دخلت سعدية الغرفة، واقتربت من ماسة التى كانت انتهت من تبديل ملابسها.
ابتسمت لها وقالت: بقولك إيه يا ماسة، أنا هروح أشوف أبوكي.
رفعت ماسة حاجبيها بإستغراب: مش أنتِ قولتي هتقعدي معايا يومين؟
ربتت سعدية على يدها: ما خلاص يا حبيبتي، أنتِ كويسة أهو ما شاء الله، وبعدين أبوكي مينفعش أسيبه لوحده، إخواتك كلهم بيشتغلوا وأختك من المكتب للورشة علطول، فمش هينفع أسيبه لوحده، وبعدين ما سليم معاكي.
أخفضت ماسة رأسها، وقالت بتردد: ماشي
سعدية: أنا هغير هدومي وأمشي، عايزه حاجه اعملهالك قبل ما امشي؟
هزت ماسه رأسها بنفي، فقالت سعديه:هاتي بوسة بقي.
قبلتها ماسة وتحركت سعدية للخارج، نظرت لها ماسة في صمت، شدت جاكيت البيجامة بتوتر وهي لا تعرف ماذا تفعل، همست لنفسها: هياكلني يعني؟ ده طيب خالص، وبعدين دى جوزي ولازم أقعد معاه لوحدي. يا رب أفتكره بقى.
على إتجاه آخر.
كان سليم يتحرك في الحديقة، بأنفاس ثقيلة، وصوته الداخلي لا يهدأ، توقف عند التلة يفكر كيف يكمل لها القصة؟ هو يعلم أن الحديث عن الحادثة لن يكون سهلا، فما حدث كان أكبر من احتمالهما، والأصعب منه كان فترة الزعل الطويلة التي حبسها فيها خوفا عليها، لكنه قرر أن يواجه، فتمتم بصوت خافت لا يسمعه أحد: "اللهم لا تجعلني سببا في أذاها، وإن كانت الذكرى وجعا، فأحفظها مني."
وأكثر ما زاد اضطرابه حديث الطبيب حين طلب منه أن يقرب المسافة بينه وبينها، وأن تنشأ بينهما علاقة زوجية، لعل القرب الجسدي يكون سبيلا لاستعادة ذكرياتها المفقودة، أطرق سليم برأسه، يحك عنقه بقلق؛ فهو لا يريد الاقتراب منها إلا إن رغبت هي بذلك، فدافعه ليس الشهوة بل الحب، لكنه يشتاق إليها، يشتاقها بكل ما تحمله الكلمه من وجع وحنين، يشتاقها شوق العطشان إلى الماء، والفاقد إلى روحه، فهو لم يلمسها منذ عامين تقريبا.
منذ تلك الليلة التي تصالحا فيها بعد شجار طويل، وتعاهدا أن يبقيا بخير دائما، لكن القدر لم يمهلهما، ففي اليوم التالي رأته بعينيها يطلق النار على الرجل الذي نصب له الفخ عن طريق العائلة، وعاد سليم تلك الليلة منكسرا، جلس عند قدميها ثم نام في حضنها كطفل يبحث عن أمانه الأخير، ظنا أن الغد سيحمل سلاما، لكنه حمل العاصفة؛ إذ علمت ماسة بما قاله رشدي والتهديدات التي غيرت مجرى حياتهما إلى الأبد، ومنذ ذلك الحين لم يلمسها.
واصل السير في الحديقة بخطوات متثاقلة، عيناه شاردتان نحو الأرض كأنه يخشى مواجهة ظلال أفكاره التي تطارده بلا رحمة.
أيفعل ذلك أم يمتنع؟ الشوق ينهشه من الداخل، لكن ضميره كان أشد قسوة من حرمانه، هو بالطبع يريدها، فهي حبيبته التي افتقدها بشدة، لكنه يريدها بالحب لا بالجسد؛ يعلم أن اقترابها الآن سيكون بدافع استعادة الماضي لا بدافع الشوق، وهنا كان صراعه الحقيقي؛ فهو لا يريدها خوفا أو لغرض طبي، بل أن تتذكره بقلب يعرفه، أن تشتاقه كما يشتاقها، أن تأتيه بقلبها قبل جسدها، يريد أن تأتيه طوعا، شوقا، كما كانت تفعل من قبل.
أخذت الأفكار تنهش في عقله كالصقور التي تنهش جسد رجل حي؛ هل ينقاد لشهوته، مستسلما لرغبة جسده وقلبه، مستندا فقط إلى أنها لن تمانع؟ أم ينتظر، محتملا لواعة الشهوة وعذاب الحب ومرارة الاشتياق، حتى تمنحه موافقتها الصادقة، بحرية من قلبها، لا من واجب؟
رفع بصره نحو السماء صامتا، يفكر كم يشبهها الآن؛ هادئا على السطح، بينما الأعماق تموج بالتيارات، أغمض عينيه، وترك تنهيدة طويلة تنفلت من صدره ببطء، كأنه يتنهد الصبر من نسيمه، ثم أدار جسده بتثاقل وتحرك بخطوات بطيئة بين الأشجار، حتى توقف مره أخرى ينظر أمامه.
كان مكي يراقبه من بعيد، فأقترب منه بخطوات ثابتة، وضع يده على كتفه، وقال بصوت خافت يحمل دفء الأخوة: مالك يا سليم؟ شكلك تايه، شاركني يمكن أساعدك، ولا لسة مبتسمعش غير دماغك؟
ابتسم سليم بخفة وهو ينظر له: أنت عارف إن أنت الوحيد اللى بسمع كلامه، أوعى تنكر.
ضحك مكي وهو يربت على كتفه: مش هنكر، بس أنت عنيد، ومش علطول بتسمع الكلام، مالك؟
تنهد سليم وهو ينظر أمامه ويزم شفتيه بضيق: بفكر، الدكتور طلب مني حاجة،ممكن تخلي ماسة تفتكر، بس متردد، مش عارف أعملها ولا لأ، ومتسألنيش إيه هي.
صمت مكي قليلا يفكر، ثم قال بعقلانية: طب لو الحاجة دي ممكن تخليها تفتكر، ليه لأ؟ ليه متردد كده؟
سليم بهدوء: قولتلك متسألش، مش هينفع أتكلم فيها.
أومأ مكي بتفهم، ثم قال بهدوء: تمام، بس أنا واثق إنك هتاخد القرار الصح، قولي بقى، هي أخبارها إيه؟
ابتسم سليم إبتسامة واسعة وقلبه ينبض بالفرحة: ممتعة، مذهلة، رجعت تاني زي زمان، ماسة قطعة السكر.
نظر له بحماس يخرج من عينه: ساعات بقول يارب تفضل كده علطول، بس وهي فكراني..
صمت للحظة ثم قال بنبرة مهتزة خائفة: بس بخاف نرجع تاني للصفر لما تفتكر.
ابتسم مكي بخفة وقال بثقة: بص يا سليم، أنا قولتلك قبل كدة، وهقولهالك تاني، ربنا مبيعملش حاجه وحشه، ويمكن حصل كده علشان لما ذاكرتها ترجع، تكون شافت بنفسها قد إيه تغيرك كان حقيقة مش مجرد كلام.
أومأ بخفة، ثم قال وهو يحاول تغير الموضوع: طب قولي أنت بقى، ايه أخبارك مع سلوى؟ محاولتش تكلمها؟
تنهد مكي بملل، وهو ينظر بعيدا بشرود: أكلمها أعمل بيها إيه؟ هي إللي بعدت يا سليم، واختارت طريقها، أنا ليه أتمسك بحد مش متمسك بيا؟
كاد أن ينطق سليم، لكن أشار مكي بأصابعه لكي يسكته وتابع بحسم: أوعى تقارن بين ماسة وسلوى، فيه فرق كبير، ومن فضلك متفتحش معايا الموضوع ده تاني.
رفع سليم حاجبه بخفة وقال بإبتسامة جانبية: طيب بالراحة متقلبش وشك زي ماسة كده، كفايه عليا ماسة، على العموم براحتك، أنا هقوم أطلع علشان مسبهاش لوحدها كتير.
غادر سليم بخطوات هادئة، فيما وقف مكي صامتا يتأمل الأفق، شارد النظرات، لكن فكره لم يذهب إلى سلوى لحظة واحدة؛ يبدو أنها غابت عن قلبه تماما، كأنها لم تكن يوما جزءا منه.
غرفة ماسة.
طرق سليم الباب ودخل، كانت ماسة تجلس على فراش تشاهد فيلم.
تساءل سليم بإبتسامة واسعة، وهو يقترب منها: بتعملي إيه؟
رفعت كتفيها: بتفرج علي فيلم، أمي قالت إنها هتمشي.
ابتسم سليم مطمئنا، وجلس جانبها: أيوة، هبعت العربية توصلها، أنتِ متضايقة ولا خايفة؟
أجابت بسرعة وهي تخفض رأسها: لا، آني مش خايفة منك ومش متضايقة، بس مستحية شوية.
سليم بإبتسامة: لا، متستحيش، أنا جوزك يا قطعه السكر و..
قاطعه رنين هاتفه فجأة، فنظر إلى الشاشة باستغراب لثواني، ثم ضغط زر الرد: إيه يا رشدي؟ معلش كنت مشغول، فعلا !! ألف مبروك، خلاص إن شاء الله هاجي؟! لا مفيش ماسة كانت تعبانة شوية، بس الحمد لله دلوقتي أحسن كتير، ممكن أجيبها الخطوبه كمان، أوكيه سلام.
أنهى المكالمة، بينما كان رشدي واقفا في غرفته ممسكا بهاتفه، وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة وهو يهز رأسه: أنا مش فاهم حاجه؟ ماسة مين اللى هيجيبها معاه!؟ هتفضل لحد إمتى تكذب علينا وتكذب على نفسك؟! والله شكلي هقولك مكانها من كتر ما أنت صعبان عليا، ثم ضحك بسخرية.
وبعد أن أغلق سليم الهاتف، سألته ماسة بفضول: هو أنت كنت بتكلم رشدي؟ إللي هو أخوك؟
أومأ برأسه: أيوة، كان بيعزمني على حفلة خطوبته يوم الخميس الجاي.
اتسعت عينيها بدهشة: رشدى أخوك هيتجوز؟ ده قليل الأدب أوي، هو لسة زي ما هو ولا بقى مؤدب؟
تنهد سليم وهو يضع الهاتف على الطاولة: بقاله فترة بيحاول يبقى كويس.
هزت كتفيها وقالت: ربنا يهديه، إخواتك كلهم متكبرين، مفيش غير ياسين بيه، هو إللي مكانش متكبر، وأنت كمان عسول.
ابتسم سليم وهو يقترب منها: سيبك منه، المهم ايه رأيك، أغير هدومي، وأخلي سحر تعملنا فشار ونقعد نتفرج على فيلم كرتون سوا؟
ابتسمت بخجل وهي تبعد عينيها: ماشي.
ثم أضافت بحماس: بس آني عايزة نشوف شكل إخواتك تاني، حاسة إني مش فاكرة شكلهم كويس.
أخرج سليم هاتفه من جيبه وبدأ يقلب في الصور، وأطلعها على صور العيلة، كانت عيناها تلمع وهي تركز النظر وتقرب الشاشة منها، قالت بابتسامة صغيرة: شكلهم اتغير خالص، آني عايزة صورة وآنى واقفة معاهم كده.
أخرج صورة تجمعهم مع ماسة، أخذت الصورة بيدها وركزت فيها طويلا، وفجأة شعرت بألم، ضغطت على رأسها بكلتا يديها، أغمضت عينيها بشدة، ومالت بجسدها إلى الأمام، كانت ترى نفس الصور المتقطعة، لكن تلك المرة كانت مختلفة كان هناك قضبان، قطار، سعدية ومجاهد مكبلين !!
نظر لها سليم بقلق وهو يمسك كتفها: ماسة مالك؟
فتحت عينيها والدموع تلمع فيها، وصوتها متقطع: مش عارفة، صور غريبة، المرة دي شوفت قطر بيجري، شوفت أبويا وأمي كأنهم في سجن، شوفت عفريت وسمعت صوت حد بيصرخ كأنه بيقول ألحقوني.
اقترب منها أكثر وصوته بيرتعش: شوفتيني معاهم؟
هزت رأسها بالنفي ودموعها تنهمر: لا يا سليم، أنت مكنتش معاهم.
ربت سليم على كتفها برفق وحنان: طب أهدي.
ثم التفت إلى دورق الماء، وسكب قليلا في الكوب، وقدمه لها بابتسامه مطمئنه: خدى أشربي، متقلقيش، كل حاجة هتبقى كويسة.
رفعت عينيها نحوه وهي تشرب رشفة صغيرة: طب إللي آنى بشوفه ده فيه حاجة حصلت منه؟
تنهد سليم وهو يجلس بجوارها: آه، بس مش بالشكل إللي أنتِ بتوصفيه، لما أحكيلك باقي القصه هتفهمي.
ثم ابتسم بخفة وهو يغير الموضوع: هروح بقي أخلي سحر تعمل لنا فشار وفاكهة، وأنتِ شغلي لنا فيلم على ما أجي.
أومأت برأسها موافقة، فشغلت أحد الأفلام، وجاءت سحر بالفشار، وجلسوا معا تملأ ضحكاتهم الغرفة، والسعادة ترتسم على وجوههم، وبعد قليل طلب سليم الطعام الذي تحبه ماسة، فأحضر لها برجر، وجلسا كأنهما في قاعة سينما، يتناولان الطعام ويمزحان، وسليم يمد اللقمة نحوها، فتضحك بخجل وهي تتناولها.
فيلا عائلة ماسة العاشرة مساء.
غرفة المعيشة
دخلت سعدية إلى غرفة المعيشة بخطوات متعبة كان مجاهد يجلس على الأريكة، وبجواره سلوى ويوسف، فرفعوا رؤوسهم نحوها بإستغراب واضح.
سلوى بتعجب: إيه يا ماما إللي جابك؟
مجاهد وهو يعتدل في جلسته: سبتي البت ليه؟
جلست سعدية على الكرسي المقابل، تتنفست بعمق، ثم خلعت حجابها وقالت بصوت متقطع من التعب: أصبروا عليا شوية آخد نفسي.
أخذت نفس وتابعت: الدكتور قال لسليم خليها تمشي، وأقعدوا مع بعض لوحدكم طالما بقيتوا كويسين.
تساءلت سلوى وهي ترفع حاجبها بدهشة: كويسين إزاي يعني؟
سعدية بفرحه حقيقه: يعني البت رجعت تاخد عليه، ومبقتش تخاف ولا تتكسف منه.
مجاهد وهو يميل بجسده تجاهها: طب الحمد لله، يعني أنتِ مش حاسة إنها افتكرت حاجة؟ فيه أي تحسن؟
تنهدت سعدية وقالت بنبرة فيها حزن: والله يا أبو عمار، البت زى ما هي، رجعت تاني كأنها عيله صغيره، وردة ياحبة عيني، مفتكرتش حاجة خالص، وسليم الصراحة بيعمل إللي عليه، بيقعد يفكرها ويحكيلها ويوريها صور، وهي تمسك دماغها كده وتقول "أنا شايفة شوية حاجات سودا مش فاهمها"، والدكتور بيقول عادي.
يوسف بقلق: طب والدكتور قالها إيه؟ يعني هتفضل كده؟
سعدية بتنهيده: هنعمل إيه يا ابني، مفيش قدامنا غير ندعي ربنا يفكرها ويرجع لها دماغها.
يوسف وهو ينظر إلى والده: طب إحنا عايزين نشوفها.
سعدية بهدوء: استنوا يومين كده، نسيبها مع جوزها شوية، وبعدين نروح نشوفها.
سلوى بإعتراض: وليه يعني منشوفهاش بكرة؟
مجاهد بنبرة حازمة: سلوى، الدكتور قال كدة، نسمع كلامه، يومين ونتصل بسليم نشوف هنروح ولا لأ...
صاح يوسف بغضب: إحنا كمان هنتصل نستأذن عشان نشوف أختنا العيانة؟!
سعدية بشدة: علشان يكون خد رأي الدكتور، وبعدين أنت هتروح هناك تتعامل معاه كده ؟؟؟ مش الدكتور قال نتعامل معاه كويس قدامها، لو مش هتعرف تمسك نفسك وهتضر أختك، يبقي بناقصه مرواحك.
وقفت سعدية تمسح على هدومها وقالت وهي تتجه نحو الغرفه: قوموا يلا حضروا الأكل، أنا جعانة، قومي يا بت بدل ما أنتِ قاعدة كده، وبعدين مروحتوش الشغل ليه؟
سلوى:وأنا هخلص شغلي هنا، كنت بعمل أكل لأبويا
يوسف: أنا عندي إجازة النهارده.
سعدية وهي تلوح بيدها وهي تتحرك: طب يلا قومي أغرفيلي أكل عقبال ما أغير هدومي.
وأثناء ذلك رفع مجاهد يديه وقال بصوت خافت متضرع: يا رب يشفيكي يا بنتي ويهديك يا سليم.
فيلا سليم وماسة الثانية عشر صباحا
مازل ماسة وسليم يشاهدون التلفاز ويتناولون السناكس، لكن بدأت ماسة تشعر بالنعاس، فتثاءبت وهي تقول بصوت متهدج: أنا هروح أنام بقى، مش قادرة، وأنت مش هتنام؟
ابتسم سليم بخفة: آه هنام، هاخد الدوا وأنام.
سألته بفضول ناعس: هو الدوا إللي بتاخده ده بتاع إيه؟ بتاع العملية؟
أومأ برأسه: آه، بتاع العملية.
تساءلت ببراءه: هتفضل تاخده وقت كبير؟
سليم موضحا: يعني لسه فاضل شهر كدة، وبعدها هسافر تاني أطمن.
تساءلت بإبتسامة: هتاخدني معاك؟
أبتسم وقرصها من خدها بدلع: أكيد، لازم آخدك معايا أي مكان بعد كدة.
ضحكت بخفة: طب تصبح على خير يا كراميل، وتعالى نام جنبي ها؟ أوعى تنام على الكنبة علشان ظهرك.
ابتسم بسعادة لاهتمامها به، واومأ برأسه: ماشي.
نهضت وتمددت على الفراش، بينما ذهب سليم ليحضر الدواء من غرفته، عاد بعد دقائق وتمدد بجانبها، وقد وضعت وسادة بينهما، فقال وهو يبتسم بتردد متأملا ملامح وجهها: إيه رأيك نشيل المخدة دي؟ لو مش حابة خلاص.
ترددت لحظة، فتابع بنبرة خفيفة: خلاص، لو مش عايزة عادي خليها.
قالت وهي تبتسم بخجل: لا، عادي، ما إحنا أكيد كنا بننام جنب بعض كده زمان، خلاص، آني موافقة.
ابتسم ورفع الوسادة، فقالت وهي تنظر له بنعاس: تصبح على خير يا كراميل.
سليم وهو يتمدد بجاورها: وأنتِ بخير يا قلب كراميل
نام الأثنين بجوار بعضهما في نفس الزاوية، وأخذت ماسة تنظر له بتأمل شديد، فتساءل سليم معلقا: بتبصيلي كدة ليه؟!
قالت بخجل: مش عارفة، بس بحب أبصلك أوي، أصلك قمور، هو أنت بتضايق؟
ابتسم وهو يرد: استحالة أضايق طبعا.
اقترب منها بتردد: بس بما إني قمور بقي أديني بوسة.
نظرت للأسفل، ثم اقتربت منه ببطء وطبعت قبلة على وجنته.
ماسة بإبتسامة خجوله: تصبح على خير بقى.
أغمضت عينيها، ولم يمر ثواني حتي غلبها النوم سريعا من شدة الإرهاق، أما سليم، فظل قلبه مغمورا بالفرح وهو يتأملها نائمة قربه، ابتسم في شوق كأنما عاد عشر سنوات للوراء، إلى أيام زواجهما الأولى.
همس لنفسه بصوت واهي"تعرفي، في لحظة اتمنيت تفضلي فاقدة الذاكرة، بس لأ، لازم تفتكري، من حقك تفتكري كل حاجة"
ثم مد يده برفق ليزيح خصله من شعرها عن وجهها، وظل يتأملها حتى غلبه النوم.
💞____________بقلمي_ليلةعادل
مجموعة الراوي العاشرة صباحا
مكتب عزت
في مكتب عزت، جلس الجميع حول الطاولة الكبيرة؛ عزت وفايزة، ياسين، رشدي، لوجين ونانا، ومعهم أحد المستثمرين وأحد المديرين، الأوراق كانت مبعثرة على الطاولة،والأحاديث تتقاطع بين الحسابات والتقارير، بينما يعلو صوت عزت من وقت لآخر ليحسم نقطة أو يوجه ملاحظة.
من حين لآخر، كانت لوجين وياسين يتبادلان ابتسامات ونظرات قصيرة، تلك النظرات الصامتة التي تقول ما لا يقال، فايزة لم تغب عنها التفاصيل الدقيقة، عيناها تتابع كل شيء كأنها تلتقط خيوط قصة خفية.
إنتهى الاجتماع أخيرا، فنهض المستثمر وصافح الجميع واحدا تلو الآخر بإبتسامة رسمية قبل أن يغادر.
مالت فايزة للأمام، وصوتها جاد وملامحها متحفزة:رشدي، وصلت لحد فين في المناقصه؟
رفع رشدي رأسه واتكأ على ظهر الكرسي وهو يمسح جبينه بيده: متقلقيش، كله تمام.
ثم ألتفتت إلي لوجين التي كانت ترتب بعض الأوراق على الطاولة يتساءل بنبرة هادئة: سألتي على موضوع الأسيستنت.
رفعت لوجين عينيها إليه: أيوة، وفي خلال ساعتين بالظبط هيكون في تلاتة مرشحين موجودين.
عقدت فايزة ذراعيها وسألت بتركيز: عن طريق الإعلانات ولا منين؟
أجابت لوجين بعمليه: واحدة منهم صديقة شخصية، هي حديثه التخرج لكنها ممتازة، والباقي من إعلان المجموعة، طبعا اتقدم كتير، بس التلاتة دول الأفضل، والقرار النهائي هيكون لمستر رشدي.
فايزة وهي تشبك أصابعها على الطاولة: أنا عايزة أشوفهم الأول.
ابتسمت لوجين بخفة: حاضر يا افندم، هجهز السي في وهيعدوا على حضرتك أكيد.
وقف ياسين وألقى نظرة على الجميع قبل أن يقول بهدوء: محتاجين مني حاجة؟
عزت بإبتسامة مقتضبة وهو يشير برأسه: لا، اتفضل يا ياسين، واستنى أنت يا رشدي، عايز أتكلم معاك شوية.
تحرك ياسين نحو الباب، وخلال خروجه ألتقطت فايزة بنصف ابتسامة حواره العابر مع لوجين في الممر.
ياسين وهو يضحك بخفة: عامله فطار إيه النهاردة؟
لوجين وهي تضع ملفا في يدها: سندوتشات جبنة بالزيتون.
ضحك قائلا: النهاردة نفسي نخرج في مكان شوفته بيعمل اللحوم بطريقة غريبة كده، وبيطبخها قدامك كمان.
ابتسمت وهي تعود إلى مكتبها: اتفقنا، بس نخلص الشغل اللي ورانا الأول.
في مكتب عزت
جلس عزت في مواجهة رشدي، الجو ساكن إلا من صوت الساعة على الحائط.
عزت بصوت منخفض ونظرة حادة: أنا ووالدتك اتكلمنا بخصوص موضوع الإدمان بتاعك، أنت خلاص، كلها كام يوم وهتخطب وهتدخل مرحلة جديدة، فلازم تبطل يا رشدي.
تنهد رشدي وأسند مرفقه على ذراع الكرسي وقال بصوت أقرب للندم: فكرت في الموضوع فعلا، وهعمل كده.
تساءلت فايزة بنبرة حادة لكن فيها قلق خفي: ومي عارفة؟
رشدي دون أن يرفع عينيه: لا، بس ناوي أقولها.
عقدت فايزة حاجبيها بإصرار واستنكار: لا طبعا متقولهاش، أكيد مش هتسامح، وهندخل في مهاترات مش عايزينها، وهتبقي فضيحه كمان، أنت هتتعالج في القصر، وهنجيبلك دكاترة على أعلى مستوى، السيف هاوس هيتحول لمصحة ليك لحد ما تتحسن.
نظر رشدي باستنكار: هو أنتم بتاخدوا القرارات بدالي، وأنا المفروض أقولكم أوامركم؟
وضح عزت بهدوء: مش كده يا رشدي، بس أنت لازم تبطل، مفيش مشكلة لو تتعالج في القصر، على الأقل محدش هيعرف حاجة.
ضيق رشدي عينه متسال متهكما باستخفاف: هو أنا بس مش فاهم هي القاعده دي كلها معموله عشان أنتم عايزين تعالجوني عشان أنا ابنكم ومش حابين تشوفوني كده وخايفين على علاقتي بمي فبتحافظولي عليها لا سمح الله بعد الشر عليكم يعني، ولا عشان شكلكم الاجتماعي قدام الناس، أصل لو على شكلكم الاجتماعي فاشمعنا دلوقتي !؟
ثم قلب عينه بذدراء، معقبا: عموما أنا هعمل كده بس عشان علي مزاجي وعلى كيفي، وهعمله بالطريقه المناسبه بالنسبه ليا، وقرار إن مي تعرف أو لا دى قرار يخصني أنا ومطلبتش رأيكم فيه.
ثم رمقهما من أعلي لأسفل بنظره مستاءه، وغادر الغرفه بخطوات غاضبه يطوي الأرض تحت قدميه، والضيق يخنق صدره، تاركا الصمت يخيم على المكان.
فيلا سليم وماسة العاشرة صباحا
غرفة النوم.
كانت ماسة نائمة على صدر سليم، ذراعها حول خصره، وذراعه يحتضنها، فتح عينيه بهدوء، وحين شعر بها على هذا النحو، ابتسم في صمت يغمره دفء وسعادة طالما افتقدهما، شدها برفق إلى صدره، وقبل جبينها قبلة طويلة، ثم مرر أصابعه في شعرها متأملا ملامحها النائمة، وبعد وقت قصير تحرك ليضع رأسها على الوسادة، لكنها شعرت به، ففتحت عينيها، واحمر وجهها خجلا حين وجدت نفسها بين ذراعيه.
ماسة بإبتسامة خجولة: صباح الخير.
سليم بإبتسامة دافئة: صباح الورد يا أحلى وردة.
تساءلت ماسة بخجل: صاحي من بدري ولا إيه؟
مرر يده على شعرها: يعني من حوالي ربع ساعة، كنت بتفرج عليكي وأنتِ نايمة زي الملايكة.
ابتسمت بخجل، وأرجعت شعرها خلف أذنها، وقالت وهي تنهض: طيب، آني هقوم أجهزلك المشروب بتاعك.
جلس سليم وقال مبتسما: ماشي، وأنا هنزل أعمل شوية تمارين.
ضحكت وهي تسأله: وبعد كده هتكملي باقي قصتنا؟
أقترب منها، ومرر يده على وجنتها بعينين لا ترمشان وقال بنبرة لطيفة: ماستي الحلوة الفضوليه، إحنا النهاردة هناخد إجازة، مفيش حكاوى ولا تعب زى ماالدكتور قال، إحنا النهارده نتفرج على التلفزيون، ونلعب كوتشينة، ونتمرجح شوية، وممكن كمان ننزل البسين، إيه رأيك؟
اومأت ماسه برأسها بابتسامه: ماشي، مع إن نفسي أعرف، بس هسمع كلام الدكتور، يلا قوم بقى يا كراميل.
سليم بإبتسامة: حاضر يا شقية.
وبالفعل هبطت ماسة إلى المطبخ بخطوات هادئة، أعدت لسليم مشروبه الصباحي الذي اعتاد عليه كل يوم، وضعته أمامه بإبتسامة صغيرة، تناول سليم المشروب وهو يبادلها نظرة دافئة، ثم نهض ليبدأ تمارينه اليومية.
جلست ماسة على الأريكة تتابعه بعينين لامعتين، تصفق له بين الحين والآخر وهي تضحك بخفة: برافو يا كراميل.
ضحك سليم بدوره، وتابع تمارينه بينما هي تشجعه بروح طفولية جعلت الصباح أكثر دفئا.
بعد انتهاء التمارين، جلسا معا إلى المائدة يتناولان فطورا بسيطا، تتلاقى بينهما نظرات تمتزج فيها المودة بالسكينة، لم يتبادلا الكثير من الكلام، لكن الصمت الذي جمعهما كان عامرا بما تعجز الكلمات عن قوله.
وبعد الإنتهاء من الفطور، خرج الأثنان إلى الحديقة، يسيران بين الزهور والنسمات الرطبة.
ضحكت ماسة وهي تشير إلى الأرجوحة: يلا نتمرجح شوية؟ بس مرجح جامد.
جلست ماسة على الأرجوحة، وبدأ سليم يدفعها برفق، تتعالى ضحكاتهما، والهواء يعبث بخصلات شعرها بخفة، وبعد قليل، افترشا العشب، فأخرج سليم أوراق الكوتشينة من جيبه، ولعبا معا، تتلامس أيديهما أحيانا، وتتقاطع نظراتهما في صمت يملؤه البهجة، بينما يعلو ضحكهما في أرجاء المكان.
وحين مالت الشمس نحو الغروب، عادا إلى الفيلا، وأعدا الغداء معا، يطبخان ويتبادلان المزاح بخفة وود، ثم جلسا لتناول الطعام، في لحظات بسيطة، لكنها مفعمة بدفء القرب وجمال الألفة.
وبعد الغداء، قررت ماسة النزول إلى حمام السباحة، دخلت غرفتها وارتدت المايوه دون أن تشعر بالخجل هذه المرة، ظهرت بخفة مفعمة بالبهجة، وقالت وهي تضحك: آني لبست ده عشان شوفت أخواتك لابسين كده ولارا ولورين كمان، وآني مراتك عادي ألبس كدة قصادك، صح؟
أومأ سليم مبتسما دون تعليق حتى لا يحرجها، ثم هبطا معا إلى المسبح الداخلي، والماء يتلألأ تحت أشعة الشمس، بدآ يلهوان كالأطفال، ترشه بالماء فيبادلها بحماس، وضحكاتهما تملأ المكان، اقتربت منه، فضمها برفق وقبل خدها بخفة، فابتسمت وأسندت رأسها إلى كتفه في راحة غابت عنها طويلا، وبعد وقت، خرجا يضحكان، وذهب كل منهما ليستحم.
في الغرفه.
وقفت ماسة أمام المرآة بعد أن انتهت من الاستحمام، ترتدي بيجامة ناعمة وتسرح شعرها، دخل سليم فجأة، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وتساءل: خلصتي؟
ألتفتت إليه وهي تبتسم بخجل: آه، خلصت، سرحت شعري بسرعة.
توقف سليم في مكانه يتأملها بصمت، بدا وجهها في المرآة كالقمر، والضوء المنعكس عليها جعلها أكثر جمالا، اقترب بخطوات بطيئة وقال بصوت خافت: تسمحيلي أسرحلك شعرك شوية؟
نظرت له ماسة من خلال المرآة، خجلت للحظة، ثم قالت بهدوء: ماشي.
أقترب منها، وأمسك بالمشط، وبدأ يصفف شعرها برفق كما كان يفعل في الماضي، أصابعه تمر بخفة بين الخصلات، كأنها تلامس ذكرى قديمة، كانت ماسة تنظر في المرآة بخجل وفرح، ووجنتاها تزدادان احمرارا كلما أقترب أكثر.
سألها وهو يبتسم: تحبي أعملك ضفيرة ولا تسيبيه كده؟
رفعت رأسها تفكر للحظة، ثم قالت: لا، خليه كده.
هز رأسه إيجابا، ثم مدا وجهه بخفة نحو رقبتها وكتفها، وأطبع قبلة ناعمة على خدها.
ألتفتت نحوه وابتسمت بخجل وهي تمسك بيديه: أنت طيب أوي يا سليم.
ثم أضافت بنبرة دافئة وهي تركز النظر داخل عينه: أنت حنين خالص، عارف؟ أحن عليا حتى من أمي.
ظلت تحدق في عينيه، حتى امتلأت عيناها بالدموع، وقالت بصوت متهدج: عارف، آني زعلانة إني ناسية، بس زعلانة أكتر علشان نسيتك، نفسي أفتكرك، وافتكر كل الحاجات الحلوة إللي كنت بتعملها عشاني.
مد سليم يده بلطف، ومسح دموعها بإبهامه:هتفتكري كل حاجة إن شاء الله، أنا واثق في ربنا.
رفعت عينيها للسماء وقالت بخفوت صادق: يا رب.
سليم صامتا بعدها، يطيل النظر إليها بنظرة مترددة، كأن داخله ساحة صراع بين الحنين والخوف، أراد أن يخبرها بما قاله الطبيب، لكن الكلمات توقفت عند شفتيه، تأملها في صمت لثواني، وعيناه تتفحصان ملامحها كأنّه يقاوم فكرة تتنازع قلبه، إنه يحبها، ويشتاق إليها كما يشتاق رجل إلى زوجته التي غابت عنه طويلا، غير أنه يخشى أن يتجاوز حدودًا لا ينبغي تجاوزها قبل أن تستعيد ذاكرتها وتعود إليه بإرادتها، ظل مترددا، والأفكار تتناوب عليه كأمواج مضطربة، ذكريات اليوم بينهما، ورضاها أن ينام بجوارها ليلة الأمس بلا حائل، أشعلت في داخله شيئًا من الأمل، وفتحت له نافذة صغيرة نحو الرجاء.
مسح وجهه، وأخذ نفسًا عميقا، كمن يستجمع شجاعته ليخطو خطوة طالما تاق إليها قلبه، وبدا أخيرا وكأنه قد اتخذ قراره، قرارا يختلط فيه الحنين بالخوف، والرغبة بالصبر.
سليم بتردد: كنت عايز أقولك على حاجة.
ماسة ببراءة: قول.
سليم بتردد: لما كنت عند الدكتور إمبارح، وإنتِ خرجتي بره، قالي على حاجة، حاجة ممكن تساعدك تفتكري، بس لازم تكوني موافقة..
أشتعل الحماس في عينيها، أمسكت يده بحماس طفولي: أنا موافقة!
ابتسم سليم بخفة: أستني، تعرفي الأول، بعدين تقولي موافقة ولا لأ.