
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الثاني عشر 12 ج 2 بقلم ليله عادل
ابتسم سليم بخفة: أستني، تعرفي الأول، بعدين تقولي موافقة ولا لأ.
ماسة بحماس أكبر: مش مهم، أنا موافقة، المهم أفتكر.
سليم وكأنه يتحدث مع طفلته: ماسة، أسمعي الكلام، نعرف الأول، وبعدين نقول حاضر أو نرفض.
هزت رأسها بخضوع: حاضر.
سليم بتردد واضح يحاول أن يفهمها بالطريقة التى تتناسب معاها الآن: الدكتور قال، إن فيه حاجة ممكن تساعد الذكريات ترجع، حاجة بتحصل بين أي اتنين متجوزين.
ماسة ببراءة: مش فاهمة، ما إحنا متجوزين وبيحصل بينا زي أي متجوزين؛ بنخرج ونتكلم، بنام جمبك كمان
زم شفتيه: لأ، فيه حاجة كمان.
ماسة بفضول: إيه هي؟
رفع عينه لأعلى يبحث عن طريقة يوصل بها الأمر، ثم نظر لها وهو يحك في شعره: هو أنتِ عارفة العريس والعروسة لما بيروحوا بيتهم بيعملوا إيه؟
أحمر وجهها، وإنحنت برأسها نحو الأرض بخجل: أيوة، بيحضنها ويبوسها، ويصحوا تاني يوم نايمين جنب بعض.
ضحك سليم وهو ينظر لأعلى: يا ربي نفس الكلام.
ماسة ببراءة: أنا مش فاهماك
سليم موضحا: أصل أول يوم لينا قولتي نفس الكلام.
ثم تنحنح وهو يضيف: المهم بقى يا ستي في حتة غايبة عنك، بعد مابياخدها في حضنه ويبوسها فيه حاجة بتحصل قبل مابيصحوا نايمين جنب بعض، الدكتور يعني طلب مني يحصل ده إيه رأيك؟!
تصلبت ماسة في مكانها، توترت، وبدأت تعبث بأصابعها: مش عارفة، خليني أفكر شوية.
ابتسم سليم بتفهم: خدي راحتك.
تساءلت ماسة بصوت خافت بخجل: هو إحنا عملنا كده قبل كده؟
هز سليم رأسه بإيجاب: آه، طبعا كتير.
صمتت للحظة وهي تشعر بتوتر: طب ممكن نستنى شوية؟ لو مفتكرتش، ساعتها نشوف.
أومأ سليم بلطف: زي ماتحبي.
صمتت ماسة لحظة، نظرتها معلقة بعينيه، صوتها خرج هامسا: طب أستنى، ممكن أجرب أحضنك.
اقتربت منه بخجل ممزوج بتوتر، مالت بجسدها ببطء وارتباك حتى وصلت إلى حضنه، لكنها سرعان ما ابتعدت مرتبكة.
تنهد سليم وقال بهدوء: خلاص يا ماسة، مش مهم بلاش تعملي حاجة غصب عنك.
خيم الصمت على الغرفه، حتى خيل له أنه يسمع أنفاسها وهي تتسارع، فنهض وخطا خطوتين نحو الباب، لكنه لم يبتعد كثيرا حتى سمعها تقول بصوت مبحوح، وضعيف لكنه صادق: خلاص يا سليم، أنا موافقة.
وقف سليم ألتفت إليها ببطء، ملامحه مشدودة وصوته فيه نبرة تحذير مكتومة: ماسة، ده مش لعبة، أنتِ مش واخدة بالك إن إللي عندك ده تذبذب علشان عايزة تفتكري.
نظرت إليه بتوتر لحظه، ثم اندفعت نحوه فجأة، وضمته لأول مرة بتلك الطريقه، كان عناقها مزيجا من الارتباك والشوق المكبوت، فارتجف جسدها خجلا قبل أن تستسلم لدفء أحضانه، فيما رفع سليم يده برفق يضمها كمن يخشى أن يبدد اللحظة، أما هي فاغمضت عينيها تتنفس بهدوء، كأن العالم انكمش في حضنه وحده.
سليم بصوت خافت، يحمل رجفة خفيفة: ماسة، بلاش تعملي حاجة غصب عنك.
همست وهي مازالت بين ذراعيه: آني موافقة بجد خلاص.
وكأنه استسلم أخيرا لرغبته بها المعلقة منذ زمن، هز سليم رأسه بخفة، وصمت لحظة كأنه يحاول استيعاب ماجرى، ثم حملها برفق، وضعها على الفراش برفق لا يتناسب إلا بأميرته.
لكن شيئا داخله لم يكن كما كان، إحساس غريب يتسلل إليه، مختلف عن كل مرة، يدرك أن مابينهما الآن لا يشبه الحب، بل يشبه الامتحان، اختبارا عليه أن يجتازه ليطمئن، لاعلاقة يملؤها القلب برغم كرهه لتلك الطريقة لكنه يبدو أنه مضطر.
جلست ماسة إلى جواره، نظراتها خجولة ووجهها محمر ابتسم لها بخفة، مد يده أمسك بيديها، وقبل باطن كفها وهو يركز النظر داخل عينيها الزرقاء التي يعشقها.
ارتجفت لحظة، وحاولت أن تبدو متماسكة، بينما هو همس ساخرا:أنا مش فاهم أنا ليه بتصرف كده
انتبهت ماسة لهمسه، فابتسمت وتساءلت: هو أنت مكسوف؟
أجابها ضاحكا: أكيد لأ، بس الموقف نفسه غريب عليا.
ثم أخذ نفسا عميقا، كأنه يستجمع ثباته، ثم اقترب ببطء، ومال برأسه عليها ووضعه قبلة حالمة على خدها، وعندما لامست شفاهه خدها، انكمشت للحظة خجلا، وأغمضت عينينا وابتلعت ريقها.
لاحظ سليم ذلك، لكنه لم يبتعد، بل مد يده وسحبها برفق إلى أحضانه، يضمها بحنان، ويربت على ظهرها وشعرها ببطء، ليمنحها شعورًا بالأمان ويهدئ من روعها.
شيئا فشيئا بدأت تستسلم للسكينة بين ذراعيه، وعيناها المغمضتان تقولان كل ما عجزت عنه الكلمات، ففي لمسته دفء وحنان يجعلانها تذوب بين ذراعيه، فتركت نفسها لجمال اللحظة، وارتخى جسدها بهدوء.
شعر سليم أن المسافة بينهما بدأت تتلاشى، وأنها لم تعد تمانع قربه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة، كأن قلبه وجد ملاذه أخيرا، فاقترب أكثر، وبدأ يطبع قبلات حنونة متقطعة على خدها، ثم على عنقها المرمري، كأن الشوق يقوده أكثر من العقل، ومع كل لحظة اقتراب، كان دفء جسدها يذيب مقاومته، وكأنها تدعوه ليغرق في قربها، لم يعد قادرا على كبح الحنين؛ قلبه يلهث، وجسده يشتاق، وكل إحساس فيه متيم بدفء اللحظة وسحرها، مستسلما لموسيقى القرب التي يعزفها قلبه وجسده معا.
بدأت قبلاته تكتسب طابعا أكثر شوقا وعمقا، اقترب حتى وضع شفتيه على شفتيها، يقبلها قبلة مشحونة بالدفء والاشتياق، لم تبادله الإحساس ذاته، لكنها لم تبتعد، بل تركت نفسها للحظة، وقلبها يخفق بشدة ويرق تحت وطأة شعوره، غير أن خجلها ظل يسيطر عليها، ويمنعها من الانصهار الكامل.
شعر سليم فجأة باندفاع شعور داخلي لا يمكن تجاهله، حرارة متصاعدة تتسلل إلى أعماقه، كأن نارا قديمة اشتعلت من جديد؛ نار الرغبة والشوق، سنتان كاملتان لم يلمسها فيهما، وها هي الآن أمامه، اختارته بإرادتها، حتى وإن كان ذلك بدافع استعادة مافقدته من ذكريات، وكأن جسده يستعيد دفء الأيام الماضية، مستسلما لسحر اللحظة، لكنه حاول ضبط نفسه بين اشتياق جارف واندفاع متصاعد، فهو في النهاية رجل عاشق ومشتاق بجنون لزوجته التي يعشقها، يتأرجح بين شوقه العاطفي وحاجته الجسدية، ساعيا إلى الموازنة بينهما، لكي يحمي اللحظه من أن تتجاوز حد السيطرة، فما يحركه الآن ليس رغبة الجسد وحدها، بل ذلك الشوق الذي أنهكه.
كانت ماسة ساكنة مترددة، تشعر بمزيج من الخوف والخجل، بين ماتحاول تذكره وماتشعر به الآن، ومع كل اقتراب منه، كان قلبها يخفق بسرعة، وعيناها تراقبان اللحظة بحذر، تحاول الموازنة بين خجلها ودفء قربه، وتسمح لنفسها بأن تشعر بالحب دون أن تفقد سيطرتها على ذاتها.
مازال سليم ينهال عليها بقبلات حارة مشتاقة، وما إن وضع شفتيه على شفتيها حتى ارتعش جسدها وانكمشت قليلا، وأغمضت عينيها بشدة، بينما واصل هو تقبيلها برقة وحنان، كأن كل لمسة منه تحاول إذابة خجلها تدريجيا، وكل لحظة قرب تزيده شغفا وشوقا إليها أكثر.
عاد بها برفق نحو الفراش، وهمس بنبرة منخفضة يملؤها الحنين: وحشتيني أوي يا ماسة، بحبك.
ازدادت حرارة قبلاته ولمساته المفعمة بالشوق والحنين، وكل لمسة كانت تشعل إحساسه، بينما هي ما زالت متحفظة، ومتمسكه بجدار خجلها رغم ارتعاش جسدها والقشعريرة التي تسري في عروقها ولا تدرك لها معناها، تمنع نفسها من الانغماس الكامل، وكأن قلبها يلين بينما عقلها يأبى الاستسلام للحظة، متأرجحة بين الرغبة والخوف، بين الاشتياق والرهبة من فقدان السيطرة على ذاتها.
لكن حين اشتد قربه وازدادت اللحظة حرارة، ارتجف جسدها فجأة، وأطبقت عينيها بشدة، وتشابكت أصابعها بالملاية كأنها تبحث عن ثبات، فتجمد جسدها تماما، وكأن الخوف تسلل من أعماقها ليمنعها من الاستسلام لتلك اللحظة.
انتبه سليم فتراجع على الفور، بأنفاس متلاحقة وعينين يغمرهما القلق، وقلبه يخفق كمن نجا من سقوط وشيك، أدرك خجلها، فحاول البقاء قريبا دون أن يتجاوز، رغم شوقه العارم إليها، منتظرا اللحظة التي تمنحه فيها ثقتها، وتسمح لنفسها بالانصياع لذلك الحنان المكبوت بينهما، كل ذلك حدث في دقائق بسيطه فقط
فتحت ماسة عينيها ببطء، تتنفس بهدوء وشيء من الاستغراب، وتساءلت وهي تجلس وجسدها مازال مشدودا قليلا: هو أنت بعدت ليه؟
هز سليم راسه برفض: لا مستحيل أكمل وأنتِ كده، أنتِ خايفة يا ماسة، أنتِ بتعملي كده علشان تفتكري وبس.
ارتعشت شفتاها بخجل: أيوه آني نفسي أفتكر.
تنهد سليم، صوته صار أهدأ، ركز النظر داخل عينيها، امسك يدها برقة: وأنا نفسي لما ده يحصل حتى لو مش فاكراني بس تكوني متقبلة، متكونيش خايفة كده وجسمك مشدود، خليها بعدين لما تاخدي عليا أكثر.
ابتسمت بخجل، وقالت ببراءة: عادي يا سليم أكيد أنا عملت معاك كده أول يوم لينا، ولما خدت عليك خلاص.
هز رأسه بإبتسامة فيها مزيج من الحب والحنان، وهو يقترب أكثر موضحا: لا أول ليلة لينا كنتي مكسوفة، بس مكنتيش كده، كنتي سايبة نفسك ومتقبلة، مكنتيش مكسوفة للدرجة دي، يمكن لإنك كنتي عارفاني قبلها بشهر، لكن دلوقتي لسة عرفاني من كام يوم.
اقتربت منه، وهمست ببطء ونبرة حزينة: طب يا سليم، حاول تاني وأنا هحاول متكسفش و..
قاطعها برفق، وهو يضع كفه على خدها بحنان: مش دلوقتي، بعدين نبقي نجرب تاني.
انزلقت دمعة واحدة من عينها، فانتبه سليم لها، ومسحها بحب وحنان وهو يتساءل: ليه الدموع دي؟!
ارتجف جسدها قليلا، وهي تقول بنبرة مهتزة: آني حاسة إنك بتعمل حاجات كتير علشاني، وآني مش مساعداك خالص.
تبسم بهدوء نظر في عينيها بعمق: لا أبدا بالعكس إحنا اتخطينا حاجات كتير سوا بسرعة، أول يوم كنتي مش قادرة تمسكي إيدي، دلوقتي بمسك إيدك وحضنتيني وخرجنا سوا، وبقينا ننام جنب بعض من غير مخدة، أنا متأكد الموضوع ممكن على آخر الأسبوع يحصل، حتى لو مش فاهمة أوي، بس هتكوني على الأقل شغوفة بالإحساس ده ومش مكسوفة.
ابتسمت ماسة بسعادة، وعيناها تلمعان بالدموع: أنت طيب وحنين أوي يا سليم، آني بحبك أوي بجد.
انفجرت داخل سليم فرحه لم يعرفه منذ زمن طويل، فبعد كل ما مرا به، وبعد فقدانها للذاكرة، ها هي تقول له "أحبك" من جديد، ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه، وامتلأت عيناه بفرحة غامرة.
اقتربت منه فجأة وضمته، وأسندت رأسها بين حنايا عنقه، تحتضنه بكل ما في جسدها وقلبها من عاطفة ومشاعر، كأنها تهمس له بصمت: "أنا أحبك بجنون"، فهي بالفعل أحبته من جديد، رغم كل مافقدته.
شعر سليم بدفء حضنها، فضمها هو الآخر بقوة، وتداخل ارتعاش جسدها وخجلها مع فرح قلبه وحنانه، لتغدو تلك اللحظة من أجمل ما عاشاه معا، لحظة مشبعة بالحب الصادق، والشغف المكبوت، والحنان الذى أنفجر بينهما.
مرت دقائق طويلة، وكل منها يضم الآخر بقوة وشوق، وكل خفقة قلب وكل نفس مشترك كان يقرب بينهما أكثر، هذه المرة لم تكن ماسة خجولة، بل وهبت حضنها وروحها له بصدق، أما سليم فلم يخفف من قوة عناقه، غامرا في سعادته وطمأنينته لأنها أحبته من جديد.
وبعد قليل أبتعد سليم قليلا، ووتساءل بخفه، هو يضم كتفيها برفق: تيجي نكمل فيلم الكرتون؟
ضحكت وسط دموعها، وقالت بحماس: ماشي، وآني هعملك كيك بالشوكولاته.
هز رأسه بإيجاب وتحركا معا للخارج
قصر الراوي، العاشرة مساءا
غرفة صافيناز وعماد
كانت صافيناز جالسة على الأريكة، سيجار بين أصابعها، أمالت رأسها للخلف وأغمضت عينيها قليلا، تحاول أن تسكت وجعا يرفض المغادرة.
جلس عماد أمام اللابتوب، أصابعه تتحرك بخفة على المفاتيح، لكن عينيه بين حين وآخر ترتفعان نحوها، يرمقها بابتسامة خبيثة، ثم قال بحنان مصطنع: مالك يا صافي؟
زفرت دخانها ببطء، وصوتها خرج مبحوحا متعبا: عندي صداع شديد أوى.
عماد بأسف مصطنع: سلامتك يا صافي ألف سلامه.
صمت للحظه، ثم أغلق اللابتوب نصف غلقة، وتساءل باهتمام: بقولك يا صافي، هو عثمان بقاله كتير معاكم؟
أجابته وهى تضغط على جبينها في محاولة لتهدأة الألم: من زمان، كان حارس في القصر، وفي مرة حد حاول يقتل سليم، وهو إللي خد الرصاصة مكانه، ومن ساعتها بقى من رجالته القريبين.
تساءل عماد بنبرة متعجبة: طب وليه بيخونه دلوقتي؟ ولاؤه ليا غريب! خلاني اشك علشان كده قولت أسألك.
ابتسمت صافيناز بسخريه: مفيش خاين عنده ولاء، النهارده معاك، بكرة ضدك، علشان كده بعد مانخلص شغلنا، لازم نخلص عليه.
هز رأسه ببطء، وهو يتساءل بحيرة: أكيد خيانته لسليم وراها سبب.
ردت بلا مبالاة وهي تطفئ سيجارها: مش لازم يكون فيه سبب، يمكن محتاج فلوس وخلاص.
ضحك عماد بخفوت: سليم مروق على رجالته على الآخر، فاكرة صفقة رشدي؟ إداهم عربيتين سلاح بملايين، ومع كده، عثمان عمره ماطلب كتير، كأنه بيطلب بس علشان ما يخلينيش اشك!
صافيناز ببرود: المهم، نخلص شغلنا الأول، فكرت في موضوع ماسة، قولتلك هاتها ونساوم سليم عليها.
اقترب منها عماد بخطوات بطيئة، وقال بإبتسامة غامضة: شكلك الصداع لسه مأثر عليكي، استني أجيبلك مسكن.
فتح الدرج بهدوء، أخذ حبة دواء، وناولها اياها، بنظرة مريبة لم تلحظها، مدت يدها بتعب وأخذتها دون تردد، وابلعتها مع القليل من الماء.
فلاش باك قصير:
كان عماد يقف أمام الدرج، يبدل الحبوب بأخرى، وعيناه جامدتان، وجهه خالي من أي تعبير.
عودة إلى الحاضر:
راقبها وهي ترتشف الماء ببطء، بعينان تلمعان بالخبث، ثم قال بنبرة واثقة: سيبي بقي موضوع ماسة دى عليا..
رفعت رأسها نحوه، بنظرة متسائله، فاقترب خطوة وقال بصوت شبه هامس: أصله موضوع لازم له تخطيط كويس، أوعي تنسي الوصية.
في اليوم التالي
فيلا سليم وماسه العاشره صباحا
كانت ماسة غارقة في نوم هادئ، ملامحها الوادعة تشي براحةٍ طال انتظارها. جلس سليم بجوارها، يتأمل وجهها المتورد تحت ضوء الصباح المتسلل، وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه. تذكّر حديث الطبيب واللحظة التي لم تكتمل، فشعر بضجر، لكن الفرحة غلبته؛ لأنها لم ترفضه، بل خجلت فقط.
أخرج نفس عميق، أقترب منها ببطء، وصوته خرج دافئا وهو يهمس: ماستي الحلوة، يا وردتي الحلوة.
تحركت جفونها بخفة، فتحت عينيها بإبتسامة خجولة وقالت بصوت ناعس: صباح الخير...
رد وهو يمرر أصابعه على شعرها برقة: صباح النور، يلا يا بقي قومي.
أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، تغمرها موجة خجل رقيق، فما زالت تفاصيل الأمس تطرق ذاكرتها بخجل، أما سليم، فكان يعرفها جيدا، ويعرف كيف تخفي خجلها بالصمت، وكيف تتورد وجنتاها حين تهرب من الكلام.
فقال وهو ينهض من جوارها: يلا، هتفضلي نايمة وكسلانة كده؟ هنتأخر على الملاهي!
رفعت رأسها بسرعة، وهى تتساءل بدهشة طفولية: هتوديني الملاهي بجد؟
أجابها ضاحكا، وهو يردد بخبث: أيوه، كلمت الدكتور وقال ينفع تروحي، بس شكلي هلغيها بقي علشان أنتِ عايزه تنامي.
قفزت من الفراش بحماس، وصارت تصفق كطفلة صغيرة: الله! تلغي ايه آني صاحيه اهو.
ضحك: بس مش هينفع نلعب ألعاب قوية، ماشي؟
ماسة بحماس: حاضر.
اقترب منها بإبتسامة هادئة: بس أستني، أنا إللي هختارلك اللبس النهاردة.
هزت رأسها بالموافقة، فقادها نحو غرفة الملابس،وفتح أحد الأدراج، وأخرج بنطالا جينز وتيشيرت بألوان مبهجة، وقدمه لها قائلا بإبتسامة خفيفة: خدي البسي دول.
نظرت إليهم بإعجاب صادق: شكلهم حلو أوي يا سليم.
راقبها بعينين فيها لمحة أمل: مش حاسة إنك شوفتيهم قبل كده؟
هزت رأسها نفيا وهي تتفحص القطعة بين يديها،
فأخرج هاتفه، قلب فيه قليلا ثم قال وهو يمد يده بالهاتف ليريها الصورة: شايفة دي؟
تناولت الهاتف، ثم اتسعت عيناها بالدهشه، وهي تردد: دي آني وأنت! يا سليم، وإحنا صغيرين، كنا في الملاهي!
مال برأسه ناحيتها وقال بصوت مائل للعاطفة: برافو، ركزي كده في اللبس إللي كنتي لابساه.
ركزت النظر ثم قالت: ده شبه الطقم بالظبط.
أقترب منها أكثر، وصوته صار أكثر هدوءا ودفئا: كان يوم جميل، وعايز النهاردة يكون زيه بالظبط، يمكن تفتكري.
ضحكت بخفة: آني اتحمست!
أجابها ضاحكا:وأنا كمان هروح ألبس في أوضتي، وأنتِ خدي راحتك.
ثم أنحنى، ووضع قبلة رقيقة على جفنها قبل أن يغادر الغرفة.
بدأ كل منهما يستعد، وبعد دقائق التقيا في منتصف الغرفة، فتبادلا نظرة مفعمة بالحماس؛ إذ ارتديا نفس الطقم الذي لبساه في أول نزهة لهما إلى الملاهي بعد الزواج. تناولا إفطارا بسيطا في الحديقة، ثم انطلقا سويا. كانت ماسة تضحك طوال الطريق، وسليم يرمقها بين الحين والآخر بعينين تلمعان امتنانا، كأنه يشكر القدر على هذه اللحظة.
وما إن وصلا، حتي استدار نحوها، يتساءل بابتسامه: ها، تحبي تلعبي إيه؟
تجولت بنظراتها بين الألعاب حتى استقرت على الساقية العالية، فرفعت يدها بحماس: عايزة أركب دي!
ضحك سليم وهز رأسه: أمرك يا ستي، تعالي نركب دى.
صعدا اللعبة، فملأت ضحكاتها المكان، وشعرها يتطاير مع الهواء، وصوتها يمتزج بصرخات الفرح، وحين نزلت، كانت ما تزال تضحك وتلهث، وتنظر إليه بعينين لامعتين كأنها عادت طفلة من جديد.
تنقلا بين الألعاب واحدة تلو الأخرى، حتى وصلا إلى لعبة النيشان، فضحك سليم وهو يشير إلى الدمى المعلقة: تحبي أجيبلك إيه من دول؟
نظرت بتركيز ثم أشارت إلى عروسه كبير: دي! العروسة الحلوة دي.
رد بثقة وهو يمسك البندقية: ماشي أحلي عروسة لأحلى قطعه سكر.
وفعلا صوب، وأصاب الهدف من أول مرة، وسط تصفيقها وضحكها العالي: شاطر يا كراميل.
أثناء ما كانت تمسك العروسة وتضمها لصدرها، لاحت عيناها نحو لعبة أخرى.
ماسة بحماس مفاجئ، وعيونها تلمع كأنها طفلة أكتشفت لعبة جديدة: آني عايزة أركب اللعبة دي! يا سليم!
ابتسم سليم وهو ينظر إلى اللعبة المعلقة التي يحلق فيها أشخاص بالحبال: الزبلين؟ ما بتختاريش انت غير العاب الصعبه، يلا بينا، نجرب.
تقدما نحو المنصة العالية، أعطاهما العامل خوذتين، وأشار لهما أن يقفا جنبا إلى جنب عند الحافة، وربط الحزام حول خصر ماسة بإحكام، ثم ثبت سليم بالحبل ذاته، حتى صارا واقفين فوق الفراغ، والامتداد الأخضر أسفلهم بلا نهاية.
نظرت له ماسة بخوف، وقالت بصوت مرتجف: سليم، هو هيحدفنا جامد؟
ضحك، وهو يمد يده يمسك يدها المرتجفة: متقلقيش، مرات سليم الراوي مينفعش تخاف.
ضحكت بخجل وقالت وهي تغمز له: أيوة، آني قويه متستصغرنيشييي!
ضحك سليم بصوت عالي: بظبط.
أشار العامل بيده أن يستعدا، ثم عد بصوت عالي: واحد... اتنين... تلاتة!
وفي لحظة، انفلت الحبل من المنصة، واندفع جسداهما معا في الهواء، صرخت ماسة، صرخة ممزوجة بالخوف والحماس، والهواء يصفع وجهها وهي تنزلق بسرعة خاطفة، ضحك سليم بأعلى صوته، وهو يقول: أفتحي عينيكي يا ماسة! شوفي المنظر!
فتحت عينيها أخيرا، ورأت نفسها تحلق فوق الأشجار، الأرض بعيدة، والمدينة تبدو لعبة صغيرة من بعيد، ضحكت وصرخت بطفولة نقية، وعند الهبوط، وصل سليم أولا، ثم أسرع نحوها يفك عنها الحزام، فقالت وهي تمسك بذراعه، بأنفاس متقطعة: تجنن يا سليم! تعال نركبها تاني، وحياتي!
ضحك وقال وهو يلمس خدها برفق: نكمل بقية الألعاب وبعدين نرجع نركبها.
وبالفعل قضيا اليوم معا بين الألعاب والضحك والطعام، ومع غروب الشمس كانت ماسة منهكة، فغفت في السيارة ورأسها على صدره، وحين وصلا، حملها سليم برفق إلى الغرفة، وضعها على السرير، وغطاها بلطف، ثم تنهد مبتسما وهو يهمس: "يوم واحد، لكنه كان يشبه عمرا بأكمله."
منزل مي، الحادية عشرة مساء
في غرفة مي
تجلس مي على طرف الفراش، رأسها منخفض، ودموعها تترقرق في عينيها، والهاتف بين يديها يضيء برقم رشدى بإصرار والحاح.
تنهدت ثم أجابت بصوت باكي: أيوه يارشدي.
جاء صوته من الطرف الآخر، يتساءل بنبرة متعجبة: أيوه يا رشدي؟! مال صوتك؟ أنتِ معيطه؟
ردت بصوت مكسور: مفيش، أنت عامل إيه؟
رشدى باهتمام: لا بجد في ايه، مالك؟
تنهدت ببطء: زعلانه شويه.
ضحك بخفة قائلا باهتمام: يا نهار أبيض، مين مزعلك يا ست البنات؟
حاولت تمالك شهقة بكاء كادت أن تنفلت منها: متشغلش بالك، بعدين نبقي نتكلم.
رشدى بسرعه وحسم: بعدين إيه وأنتِ صوتك عامل كده، اقفلي دلوقتي، أنا جايلك.
أنهى المكالمة قبل أن ترد، فوضعت الهاتف على الفراش بعدم اكتراث، وواصلت بكائها.
بعد دقائق، رن الهاتف مرة تانية، وحينما اجابت اتاها صوته الهادئ وهو يقول بحزم: انزلي، أنا تحت البيت.
ردت بدهشة: انزل فين يا مجنون؟ الساعة11؟
ضحك بخفة: انزلي بدل ما أطلعلك بنفسي، أنا مش ماشي الا اما اعرف مالك.
مي بحزم واضح: رشدي بلاش جنان، أنا مش فايقه لجنانك.
جاء صوته الحاسم: براحتك، لو منزلتيش بعد دقيقتين هكون عندك فوق.
أنهى المكالمة قبل أن يسمع ردها، فزفرت بغضب، ووقعت عيناها على إسدال الصلاة، فارتدته بسرعة وهي تتمتم: مجنون بجد
نزلت الدرج بخطوات سريعه، وعندما خرجت من العمارة وجدته مستندا إلى سيارته، في انتظارها
قال بابتسامة جانبية وهو يتأملها: إيه اللي أنتِ لابساه ده يامشمش؟ عاملة زي تيتة الحاجة.
نظرت له بحدة، وهى تتجاهل مزاحه: عايزه أعرف أيه الجنان بتاعك ده؟
اقترب منها خطوة، وقال بصوت دافئ: عايزاني اسمعك معيطه ومضايقه واسكت!؟
قالت وهي تتجنب النظر له: الساعة11 يا رشدي!
رد بابتسامة خفيفة: إن شالله تكون 3الفجر، المهم اطمن إنك بخير، ومتناميش زعلانه، قولي بقى مالك؟
خفضت عينيها وقالت بنبرة متوجعة: اتضايقت من صحابي، كنا متفقين نجيب فستاني مع بعض، وفجأة كل واحدة اعتذرت بحجة، حسيت إني لوحدي.
هز رأسه وقال بنبرة دافئة وحنو: ماعاش اللى يضايقك يا ست البنات، ميستاهلوش زعلك، وبعدين ماتقوليلي وأنا أجي معاكي.
ابتسمت، ورفعت رأسها بخجل: مش هينفع طبعا، دى حاجات بنات.
ضحك بخفة وهو يميل للأمام: مينفعش ليه؟ ده أنا حتي ذوقي جامد في الحاجات دى، وبعدين اعتبريني في اليوم دى رشيدة يا ستي.
ضحكت بخفوت، وهي تهز رأسها بيأس: أنت مجنون بجد.
رد بابتسامة عريضة وصوت دافي: مجنون عشان عايز أكون جنب حبيبتي!؟ يلا روقي بقي وقوليلي أجيلك الساعة كام؟
ابتسمت برقة وقالت باعتراض: بس مش هينفع تشوف الفستان، لازم تتفاجئ.
قال بثقة ومزاح لطيف: وإيه المشكلة؟ بسيطه، أوعدك أول ما أشوفك يوم الخطوبة بالفستان، هيغمي عليا من الإنبهار والصدمه.
فضحكت من قلبها: أنت مشكله.
ثم نظرت إليه بامتنان: شكرا يا رشدي، إنك اهتميت وجيت أول ماسمعت صوتي زعلان.
رفع نظره إليها، وقال بنبرة حانيه غريبه عليه: طبعا كان لازم أجي، علشان مشمشتي مينفعش تنام معيطه ابدا.
احمر وجهها بخجل، وردت بخفوت: طب أنا هطلع بقي قبل ماحد يصحي ويقلقوا عليا.
ضحك بخفه، وهو يلوح بيده: ماشي، وبصيلي من البلكونة لما تطلعي يلا.
أومأت بخجل وصعدت إلى شقتها، دخلت غرفتها وفتحت الشرفة، ولوحت له بابتسامة واسعة، فبادلها التحية قبل أن يستدير ويغادر، فتابعته بعينيها حتى تلاشى ضوء سيارته، ثم أغلقت الشرفة ببطء وابتسمت، فلأول مرة منذ زمن طويل تشعر بأن هناك من يهتم بها حقا، ويأتي مسرعا بمجرد أن يشعر بحزنها.
مجموعة الراوي، الثانيه عشر ظهرا
الكافيتريا
كانت لوجين تقف عند الكاونتر تضحك بخفة وهي تتحدث مع أحد زملائها، بعينين لامعتين وابتسامة جميلة تزين وجهها، وفي تلك اللحظة دخل ياسين، فوقعت عيناه عليها فتوقف في مكانه، كأن الزمن تجمد من حوله، وتحولت نظرته إلى غضب مكتوم، وشعر بحرارة غريبة تشتعل في صدره فجأة.
اقترب منهم، وقال بصوت جامد ونظرة حاد: أنتم واقفين كده وسايبين شغلكم ليه؟
ارتبك الموظف، بينما رفعت لوجين عينيها، وقالت بهدوء: أحنا دلوقتي في البريك.
اقترب منها خطوتين، وانخفض صوته يحمل نغمة غضب تمتزج بغيرة مكتومة: ما أنا مش شايف بريك ولا راحة ولا أكل، أنا شايف هزار.
ثم استقام في وقفته، قائلا بجمودة: خلصي وتعالي على المكتب.
ثم غادر نحو مكتبه بخطوات غاضبة، وجلس بضجر محاولا التركيز في الأوراق أمامه، لكن عجز عن ذلك، فألقى القلم بانفعال وزفر بحدة، وظل يحدق في الباب بشرود وغضب.
وبعد دقائق، طرقت لوجين الباب بخفة، ودخلت وهي تقول بنبرة رسمية هادئة: مستر ياسين، عندك اجتماع كمان ربع ساعة، حضرتك عارف إن مستر سليم الأسبوع ده كله أوف، فاجتماعاته اتوزعت على حضرتك ومستر رشدي وميس فريدة.
تجاهل حديثها، وتساءل بصوت حاد: مين إللي كنتي واقفة بتهزري معاه ده؟
لوجين ببساطة: دى ثروت.
قطب حاجبيه وقال بنفاد صبر: وأنتِ تعرفيه منين أصلا علشان تقفي تهزرى معاه بالشكل دى؟
لوجين بلامبالاة وبرود: عادي، زميلي في الشغل.
إنحنى قليلا للأمام، وقال بضيق: وده ينفع؟ من إمتى وإنتِ بتهزري كده مع الموظفين يامدموزيل لوجين؟
لوجين ببساطه:أنا بهزر مع كل أصحابي عادي.
رفع حاجبه، وقال بنبرة ضيق واضحة: والهزار الزيادة، والضحكة إللي كانت بترن، ده عادي برضه؟!
لوجين بنبرة غاضبه: ياسين، أنت بتكلمني كده ليه؟!
زفر،وقال بغضب مكبوت: لأن أسلوبكم مكانش حلو خالص، وإللي يشوفك كده ممكن يقول كلام مش كويس على سمعتك.
أجابت بسرعه وضجر: محدش يقدر يقول عليا حاجة مش كويسة، وأنا عارفه حدودي كويس، وبعرف أوقف كل واحد عند حده.
نظر لها بثبات، وقال بهدوء مصطنع: مش هيقولها قدامك، هيقولها من وراكي.
لوجين بصوت حاسم: مادام من ورايا يبقى جبان.
وقف من مكانه، واقترب منها وهو يقول بحنو ممزوج بالضيق: وأنتِ ليه أصلا تسيبي فرصة لحد يتكلم؟إحنا المفروض نحافظ على نفسنا، احنا في شغل مش في النادى.
ردت عليه باستنكار غاضب: تقصد إيه؟ تقصد إني بنت مش كويسة؟
اقترب منها خطوة صغيرة، والمسافة بين أنفاسهم ضاقت، وقال بصوت خافت فيه دفء متردد: أنا مقدرش أقول كده عنك، بس بخاف عليكي، محبش حد يبصلك أو يتكلم عنك وحش، يمكن أنتِ بتضحكي بعفوية، بس إللي حواليكي بيشوفوها غير كده، إحنا مش عايشين لوحدنا يا لوجين، لازم نحترم نفسنا، ونحترم نظرة الناس لينا.
هبطت عينيها، وارتخي كتفيها، وقالت بصوت خافت، والدموع تلتمع في عينيها: أنا مكنتش واخدة بالي، ومكنتش أقصد كده خالص، بس برضه مينفعش تتكلم معايا بالأسلوب ده يا ياسين.
صمت لحظة، وثبتت عيناه على دمعة انحدرت برفق على خدها، فمد يده بحذر ومسحها بإبهامه، وقال بابتسامة خفيفة يشوبها التوتر: متعيطيش خلاص أنا آسف، أنا اتضايقت لما شوفت المنظر، مش كل الناس هتفهمك صح يا لوجين
ثم أضاف بمرح: وبعدين ما أنا أهو، تعالي وأضحكي معايا زى ما أنتِ عايزه، ولا قالولك عني وشي بيكرمش لما بضحك؟
ابتسمت برقة، وساد صمت طويل، وهو يحاول إبعاد نظراته عنها بصعوبة، الهواء بينهما كان ساكنا، لكنه مشبع بإحساس لا يقال.
رفع عينه إليها من جديد، وقال بصوت ناعم فيه محاولة لتلطيف الأجواء: يلا بقى، فين الضحكة الحلوة؟
رفعت رأسها بخجل خفيف، وابتسمت بخفة، فعادت الضحكة إلى المكان كأنها اعتذار عما كان.
ابتسم هو ويقول بهدوء: أيوة كده، دي لوجين إللي أنا أعرفها.
ضحكت بخفة وقالت: طب يلا نكمل شغلنا.
أومأ برأسه بابتسامة دافئة: يلا بينا.
تحركت نحو الطاولة، وسار إلى جوارها بخطوات هادئة، كان الصمت بينهما رقيقا، غير إنه كان ممتلئا بكلام لم يقال بعد، وترك كل منهما قلبه معلقا بما لم ينطق، فقد غار ياسين، دون أن يدرك أن الغيرة كانت اعترافا خفيا بما لم يجرؤ على قوله بعد.
فيلا سليم وماسة، الثانية عشرة ظهرا
الهول
فتحت ماسة الباب بنفسها، وما إن رأت عائلتها حتى اندفعت نحوهم بخطوات سريعة، وذراعيها يمتدان بشوق طفولي، ضمتهم واحدا تلو الآخر بشوق كبير، ثم قالت بعتاب: كل ده متسألوش عني؟ آني واخده على خاطرى منكم.
مجاهد بإبتسامة هادئة: يا حبيبتي إحنا كنا بنسمع كلام الدكتور.
ماسة وهي تمسك بيد والدتها: بس أنتم وحشتوني أوى.
وقف سليم عند الباب يراقبهم بصمت، في عينيه دفء وقلق مكتوم، فتقدم نحوهم مرحبا بهدوء: إزيكم؟ عاملين إيه؟
اقترب منه يوسف وصافحه بخفة، بينما أكتفت سلوى بابتسامة صغيرة: الحمد لله.
أما عمار فاشاح بوجهه دون رد، ثم قال موجها حديثه لماسة: بس كويس، الجرح خف؟
ماسة وهي تلمس رأسها: آه الحمد لله.
ثم قالت بحماس طفولي: تعالوا نقعد في الجنينة.
قادهم سليم إلى الحديقة، حيث المقاعد محاطة بالزهور، جلسوا جميعا في أجواء عائلية يغمرها الدفء والسكينة.
تساءلت سلوى بنبرة فضول وقلق: مفتكرتيش أي حاجة يا ماسة؟
ماسة بحزن: لا خالص مش عارفة ليه! مع إن سليم وراني صور وفيديوهات ياما، بس حسيت كأني أول مرة أشوفهم.
مجاهد وهو يربت على يدها: معلش يا حبيبتي، إن شاء الله بكرة تفتكري وتبقي كويسة.
ماسة بخفوت: يارب.
بعد لحظات، شعر سليم بتوتر الأجواء في حضرته، فوقف وقال بود: طب أنا هسيبكوا بقى تقعدوا براحتكوا.
لكنها امسكت يده بسرعة وهي تقول برجاء: لا، خليك قاعد معانا يا سليم، هتمشي ليه؟
سليم بإبتسامة خفيفة: علشان تبقوا على راحتكم.
تشبثت بيده برقة: لا، وحياتي أقعد.
تردد لحظة ثم جلس بجوارها، وابتسمت هي براحة واضحة، بينما نظرات العائلة تتبادل الصمت والاطمئنان.
تبادلوا الأحاديث في جو هادئ ومريح، مجاهد وسعدية كانوا طبيعيين جدا مع سليم، بينما سلوى ويوسف وعمار تجنبوا الحديث معه قدر الإمكان، خاصة عمار، حتى لا تلاحظ ماسة أي توتر، كان سليم متزنا، صوته ثابت، ونظراته دافئة كما كانت قديما،
وبعد الغداء، جاءت ماسة بإبتسامة مرحة وهي تحمل أوراق الكوتشينة، وتقول بحماس طفولي: يلا نلعب الشايب!
ضحكوا وجلسوا في دائرة صغيرة، حاول سليم المغادرة منعا لاى اصطدام مع أشقائها، لكنها تشبثت بيده مرة أخرى وهي تقول برجاء: أقعد العب معانا يا كراميل.
اضطر للرضوخ، وجلس وهو ينظر لها بإبتسامة دافئه، لعبوا لعبه (الشايب )وسط ضحكات متواصلة، أنهى يوسف أوراقه أولا، ثم عمار، تلتهما سلوى، وبقي سليم وماسة.
جلست ماسة أمامه وقالت بطفولة وهي تكاد تبكي: سليم، أنت معاك الشايب، قولى أنهي فيهم وحياتي
رفع سليم حاجبه بمرح: نعم؟!
حاولت استعطافه وهى تقول: هعملك بسبوسة ورز بلبن وكيك برتقال.
سليم ضاحكا: على أساس كده بتغريني يعنى!؟
نظرت له بوداعة وقالت بتوسل: علشان خاطرى يا سليم.
هز رأسه ضاحكا: لا أعتمدى علي نفسك، واسحبي ورقة يلا.
وبطريقه خادعة ركز نظره على ورقة معينة فاعتقدت إنه الشايب فحسمت قرارها فورا بأختيار الورقة الآخري فصدمت إنها اختارت الشايب، فقد خدعها سليم وخسرت !
ماسه بغضب طفولي وهى ترمى الأوراق بعصبية وتكتف يديها بغضب طفولي: مش لاعبة، أنتم بتخموا
سلوى بضحك: إنت إللى عبيطة وبيضحك عليكى دايما وكل مرة تاخديه وتخسرى، ومش بتحرمي وتقعدي تزني علشان نلعب تانى وبردوا تخسرى
ماسة بغضب طفولي وهى لا تزال تكتف ذراعيها، وزادت تقطيبه حاجبيها وهى تقول: مش لاعبة يعنى مش لاعبة، مش هتحكموا عليا.
يوسف بمرح: مش قد اللعب متلعبيش مش كل مرة نفس القمص علشان متتحاكميش.
ماسة بغضب طفولى: مليش دعوة مش هتحكموا عليا، أحكموا على سليم.
رفع سليم حاجبه بدهشة: وأنا مالى أنا كسبت !
ماسة بغضب طفولي: تستاهل علشان غدرت بيا وضحكت عليا، المفروض أنا مراتك نبقي فرقة ونتفق ضدهم.
ثم تحولت نظراتها فجأة ونظرت إليه نظرة وديعة وهى تحاول إقناعه بأن ينفذ الأحكام بدلا عنها: وبعدين يعنى يا سليم هتسيبهم يحكموا عليا؟ يرضيك يتحكم عليا !
ضحك سليم أمام أفعالها الطفولية التي تذيب قلبه: أمرى لله، هتحاكم مكانك
صفقت بحماس طفولى، وقامت بإحتضانه، ووضعت قبلة على خده، وهى تردد بفرحة طفولية: أحلى كراميل في الدنيا.
تجمّد لحظةً بعد القبلة، كأن الزمن توقف عندها. دفء أنفاسها لامس خده فأربكه، وكأن العالم اختزل في تلك القبلة العفوية التي طبعتها على وجنته.
أمسكت ماسه الأوراق بحماس وقامت بفردها، لكى يسحبوا أوراق الأحكام، فسحب عمار أولا، ثم يوسف، تلتهما سلوى، وحينما مدت ماسة يدها لتسحب هى الأخرى
رفع سليم حاجبه: وده اسمه إيه بقي يعنى هتحاكم مكانك، وكمان عايزة تحكمى عليا!!
نظرت ماسة له بنفس النظرة الوديعة: وحياتى يا سليم عمرى ماكسبت ولا حكمت على حد خالص، علشان خاطرى وحياتي.
ضحك بخفة: أقعدى بصيلي زي القطط كده، طب يا ستى أحكمي.
رفعت ماسة رأسها تفكر لحظة ثم قالت بحماس: تعمل بيا التمارين إللى شوفتك بتعملها الصبح على بطنك، بس وآني قاعدة على ظهرك زي الفيلم.
ضحك سليم وهو يهز رأسه بيأس: قصدك تمارين الضغط، آه عارف أنا الحكم ده مجربه معاكي كتير، يعنى حتى وأنتِ فاقدة الذاكرة يا مفترية.
ثم بدأ سليم في عمل تمارين الضغط، وهي تجلس على ظهره مربعة وهو يصعد ويهبط بيها وهي تضحك بمرح طفولي: شطور يا كراميل فاضل 4.
سليم بغلب وهو مستمر بعمل التمارين وهى فوق ظهره: ربنا على المفترى.
وبعد انتهاء حكم ماسة أعتذر عمار وسلوى ويوسف عن الحكم في محاولة لتجنب الاحتكاك مع سليم، فقالت ماسة بحماس طفولى: سلفوني أحكامكم، وأحكم عليه أنا.
أمسكها سليم من ياقه قميصها بمرح: أنتِ إيه حكايتك معايا النهاردة، بتطلعي كبت السنين عليا ليه عايز أفهم، بطلي افترى.
نظرت له براءة: خلاص هسامحك علشان قلبي كبير وبيحبك.
سليم ضاحكا: طب والله شكرا لكرم أخلاقك، تعالو نكمل لعب بكوتشينة عاديه.
أكملوا اللعب في أجواء سعيدة، حاول فيها أشقاؤها التصرف مع سليم بطريقة لا تثير شك ماسة، وحين مالت الشمس نحو الغروب وحان وقت الوداع، وقفت عند الباب تعانقهم وهي تقول بابتسامة: هتوحشوني، متتأخروش عليا المرة الجاية.
فربتت سعدية على شعرها قائلة: إن شاء الله يا حبيبتي، قريب نجيلك تاني.
صافح سليم مجاهد بابتسامة خفيفة، وتبادلا نظرات قصيرة مليئة بالتقدير، ثم ودعهم حتى غادروا، وظل يراقب السيارة حتى توارت عن الأنظار، أما ماسة، فعادت إلى الداخل بخطوات بطيئة وابتسامة دافئة على وجهها، كأن شيئًا صغيرًا بدأ يتحرك في داخلها دون أن تفهمه بعد.
نظرت ماسة لسليم بابتسامه: آني انبسطت أوي النهارده.
سليم بهدوء: يا رب دايما تكوني مبسوطة.
ثم فاجأها وهو يحملها بين ذراعيه، فشهقت متسائله: بتعمل إيه؟
سليم بإبتسامة عاشقه: هطلع الملكة بتاعتي أوضتها.
ضحكت وهي تنظر له ببراءة وحب، ثم طبعت قبلة خفيفة على خده
أمام عمارة مي، الخامسة مساء
كان رشدي واقفا أمام سيارته، يسند ظهره إليها، ويداه في جيبه، ينظر بين الحين والآخر إلى باب العمارة، بعد دقائق، ظهرت مي بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة.
مي برقة: مساء الخير.
أجابها بغزل لطيف: مساء الورد يا أحلى وردة.
ضحكت بخجل، وقالت وهي تقترب منه وتنظر له بامتنان: شكرا إنك جيت.
ضحك بخفة، وقال بصدق: شكرا على إيه؟! أنتِ تأمري يا مشمش.
ثم أقترب خطوة، ونظر في عينيها بنظرة فيها لمعة مختلفة، وقال بإرتباك صادق: تعرفي، أنا كمان معنديش أصحاب قريبين غير زيزي، وبعد ما اتجوزت، بعدت ومبقاش عندى أصحاب، أيه رأيك نبقى أصحاب؟ بعيد عن أي حاجة تانية، يعني لو يوم حبيتي تخرجي، أو تتكلمي، أو تعملي حاجة، كلميني، ووعد هتعامل كصديق.
ضحكت بخفة وهي تميل برأسها: صديق!! طب ودي تيجي إزاي يا رشدى؟
رشدي بمزاح: بسيطة، لو عايزاني كصاحب، قولي لي "يا رشروش"، عايزاك في مصلحة، فأفهم إنك عايزاني كصديق، لكن لو قولتيلي "يا رشروشي"، ساعتها أفهم إنك عايزاني كحبيب.
أنفجرت بالضحك: ماشي اتفقنا.
ساد بينهما صمت قصير، تبادلوا خلاله نظرات خجولة كأنها أول أعتراف خفي بينهما، رشدي بمزاح، وهو يفتح باب السيارة: يلا بينا يا محمود.
ردت ضاحكا، وهي تدخل السيارة: يلا، يا رشروشي.
في الإتيليه
دخلوا المحل بإبتسامة ترتسم على وجههم، وبدأوا في البحث بين الموديلات المختلفه، وبعد قليل أقترب رشدي، يحمل فستان أحمر ناري، ويقول بابنهار وحماس: بصي! ده تحفة، أنا بعشق اللون الأحمر.
نظرت مي بدهشة لعري الفستان الذى يحمله، ورفعت حاجبها متسائلة باستنكار: إيه ده يا رشدي؟ أنت اتجننت!!
عقد بين حاحبيه بتعجب، ولم يفهم مقصدها: اتجننت ليه؟ مش عاجبك الأحمر!! خلاص مش مهم نشوف غيره.
ثم أقترب من فستان أوف وايت ناعم كقطعة حرير، يظهر أكثر مما يخفي، وقال بإعجاب: شوفي ده بقى! البنات كلها بتحب اللون ده
وضعت يدها على وجهها في يأس واضح: هو أنت مجنون ولا عبيط فهمني؟
رفع حاجبه بإعتراض: ولازمتها ايه قلة الادب يا محمود؟ مسمحلكيش تقللي من ذوقي كده.
ضحكت: ذوق إيه بس؟ أنا محجبة، هلبس ده إزاي قولي؟
ضحك، ومرر يده على عنقه بحرج: آه صح، لامؤاخذة يا مشمش، دي أول مرة أختار فساتين لواحدة محجبة، بس برضه الغلطة غلطتك، ليه جايباني هنا؟ كلهم نفس النظام.
أخذت تقلب في الفساتين وهي تقول بهدوء: فيه حاجات بكم، وممكن تتبطن، بس إللي أنت بتختارهم دول مش ليا خالص.
ثم صمتت لحظة قبل أن تقول بنغمة تأملية: وبعدين أفرض أنا مش محجبة، أزاى توافق إني البس فساتين زى دى، فين الغيرة؟ مش المفروض تقولي: لا ده عريان واستحالة تلبسيه قدام حد، وتتخن في صوتك وتبرق في عينك كده؟
ابتسم رشدي وقال بهدوء: وإيه علاقة اللبس بالغيرة، دي حرية شخصيه، ما أمي وأخواتي بيلبسوا كده،
أنا مش معقد زي سليم إللي مانع ماسة تلبس كده حتي في القصر.
مي بإبتسامة خفيفة: بس دي مش تعقيد دى حب وغيرة، أفرض عندها حاجة مميزة في جسمها، ليه غيره يعرفها؟ أنا كمان نفسي أحس إن أنت بتغير عليا كده، وتقولي: لا، ده ضيق، وده عريان، لإن الفستانين إللي اخترتهم شبه اللانجري، أنا معرفش بيلبسوه قدام الناس إزاي.
ظل ينظر لها صامتا، مبهورا بطريقتها وهي تتكلم عن الغيرة وكأنها تدافع عن شعور لم تعرفه بعد.
أقترب خطوة، ورفع حاجبه وقال ببحة رجولية: تصدقي عنك حق، ومن النهاردة، لو لبستي فستان ضيق أو مبين حته ولو قد كده من جسمك مش هيحصلك طيب، ولفي يلا وريني الفستان إللي إنتي لابساه ده عامل إزاي؟!
ضحكت بخفه: أنت يا كده يا كده مفيش وسط.
قلب وجهه بتزمر، وهو ينظر لفستانها بنظرة تقيميه: أنا قولت كلمه واحده، الفستان دى ضيق وهجيبلك واحد تانى أوسع تروحي بيه.
فصاحت بضيق، ونفاذ صبر: رشدي، خلينا نخلص.
فابتسم وهو يقلب في الفساتين: طب متشخطش كده يا محمود، مش حلو على جوزك المستقبلي.
ثم أقترب منها بخفة وقال وهو يبتسم بمكر خفيف: بس الفساتين دى عاجبني أوى، هاخدهم والبسيهم لما نتجوز.
نظرت له بخجل، وقالت بغضب مصطنع وهي تحاول مدارة خجلها: أنت عايز تتضرب، بطل قلة أدب.
ضحك بخفة: في أيه يا محمود بالراحة، بقولك لما نتجوز.
ابتسمت مي بصمت وهي تهز رأسها بيأس منه، ثم بدأت تتفقد الموديلات حتى اختارت فستانا ودخلت غرفة القياس لتقيسه، بينما ظل رشدي واقفا ينتظرها.
وبعد دقائق خرجت مي، والفستان ينساب عليها برقة كأنه خلق لها خصيصا، كانت تبتسم بخجل وتنظر إلى الأرض كأنها تخشى مواجهة نظراته، أما رشدي فظل يحدق فيها بانبهار، وعيناه لا تفارقان أي تفصيلة فيها، من ابتسامة شفتيها الرقيقة إلى حركة أصابعها المترددة على الثوب، فابتسم بخفة وهو يقول بصوت مبحوح من شدة اعجابه بها: زي القمر، كأنك أميرة من الأميرات بجد.
ابتسمت بخجل، قبل أن تهمس بخفوت: خلاص، هاخده.
دخلت لغرفة القياس مرة لتبدل ملابسها، ثم خرجت، وتقدم رشدي نحو الكاشير ليدفع الحساب، فقال بثقة: هناخد الفستان ده، والفساتين دى كمان هناخدها.
نظرت له مي بسرعة وهجل: لا، مش هينفع يا رشدي، أنا هاخد ده بس.
رد بحزم لطيف: مش عايز اعتراض، أنا قولت هناخدهم.
وبعد أن دفع الحساب وحمل الحقائب، قالت وهي تنظر إليه بارتباك وخجل: على فكرة، مكانش لهم لزوم.
رفع رشدي حاجبه بتعحب، وقال بخفة: أنا جايبهم هديه لمراتي المستقبليه علشان لما نتجوز تلبسيهملي، أنت مالك بقي حاشر نفسك بينا ليه محمود.
ضحكت بخفوت: بس دول غاليين.
ابتسم بخفة وهو يقول بغزل: مفيش حاجة تغلى عليكي يا ست البنات، تعالي بقى نروح ناكل، وكمان بالمرة عايزه احكيلك وصلت لايه في المناقصه وآخد رأيك في شويه حاجات.
أومأت له بحماس، وسارا معا نحو أحد المطاعم لتناول الغداء الحديث بينهما خفيفا دافئا، تزداد معه المودة قربا والحب عمقا، كزهرة تنمو بهدوء نحو الشمس.
فيلا سليم، الخامسة مساء
المكتب.
كان سليم يجلس خلف مكتبه الكبير، يقرأ بعض الأوراق بعينين مرهقتين، يوقع هنا وهناك، ويرد على مكالمة وأخرى، مر وقت قصير قبل أن يفتح الباب برفق، ودخلت ماسة وهي تحمل صينية صغيرة عليها كوب ليمون بارد.
اقتربت بخطوات مترددة، وابتسامة هادئة تزين وجهها، وقفت أمامه وقالت بنبرة حانية: آني عملتلك لمون، علشان ترتاح شوية.
رفع سليم عينيه نحوها بإبتسامة خفيفة: تسلم إيدك يا عشقي.
وضعت الصينية على المكتب ونظرت له بإهتمام تساءلت ببراءة: هو إنت بتعمل إيه؟ بقالك كتير قاعد هنا.
أجابها سليم وهو يشرب القليل من ليمون: مفيش، بخلص شوية شغل مهم، وبعدها هاجي أقعد معاكي.
ابتسمت بخفة وهي ترفع حاجبها: طب آني هروح أعمل فشار وكيك علشان معطلكش، ولما تخلص تعالى نتفرج على فيلم.
مد سليم يده وأمسك بيدها، وهو يقول بصوت هادئ: لا، خليكي قاعدة معايا شويه، ولا الفيلم أهم مني؟
ابتسمت بخجل، وجلست على المقعد المقابل له: مفيش أهم منك يا كراميل.
ضحك بخفة، وتبادلا نظرة قصيرة دافئة قبل أن يعود لعمله، كانت تراقبه بين الحين والآخر، وكلما ألتفت إليها، ابتسم، فترد بإبتسامة صغيرة خجولة.
وبعد أن انتهى من عمله، خرجت ماسة نحو المطبخ،
أعدت الفشار والكيك والعصير بنفسها، ثم عادت وهي تحمل الصينية، كان سليم ينتظرها في غرفة المعيشة، وضعت الصينية على الطاولة الصغيرة وجلست بجانبه، بينما هو مد ذراعه على ظهر الأريكة خلفها في راحة.
ماسة وهي تاخذ طبق الفشار: الفيلم شغال بقاله كتير؟
هز سليم رأسه: لا، لسة بادئ من شوية.
بدءا يتناولان الفشار ويتابعان الفيلم بصمت، وكانت ماسة بنظرات قصيرة مترددة بين الحين والآخر، كأن في داخلها سؤال لا يقال، لاحظ سليم الأمر، فألتفت إليها وتساءل بهدوء: بتبصيلي كده ليه؟ عايزة تقولي حاجة؟
عبثت بخصلات شعرها بخجل وهي تهمس: بصراحة، عايزاك تحكيلي باقي الحكاية.
تنهد سليم وعدل جلسته وهو يواجهها بإبتسامة: آحنا وصلنا لحد فين؟
ماسة بحماس: إنك روحت لداكتور مروان، واتعالجت وحياتنا مشيت حلوة.
أومأ برأسه: بعدها كملتي 18سنة واتجوزتك تاني، بس المرة دي قانوني، وعملتك حفلة صغيرة.
ضحكت بخفة: بجد؟
ايتسم وهو يقرصها من أنفها: أيوه بجد، أستني أوريكي الصور.
أخرج هاتفه، وبدأ يعرض لها صور زفافهما الثاني، كانت تنظر للشاشة بتركيز، وكل صورة كانت تحاول أن توقظ ذكرى داخلها، لكنها لم تستطع، كان سليم يروي لها تفاصيل ذلك اليوم هو يضع يديه على ظهرها ويريها الصور وكأنه يشرح لها الصورة وتفاصيلها لكن يبدو أنها لم تستطيع أن تتذكر شيء.
همست ماسة بعينين امتلأتا بالدموع: مش قادرة أفتكر حاجة خالص.
ربت سليم على ظهرها برفق: مترهقيش نفسك ياحبيبتي، إن شاء الله هتفتكرى.
تنهد وأكمل لها القصة، ثم قال بصوت خافت: بعد كدة، حملتي في حور.
اتسعت عيناها بذهول: يعني آني حملت تاني في بنت؟ وسميناها حور؟ طب هي فين؟
صمت سليم لحظه، ومسح وجهه بكفه، وصوته خرج مهزوزا: هقولك، هو إللي جاي صعب يا ماسة، بس لازم تعرفي.
بدأ يروي لها ماحدث بعد حملها، في البداية، كانت تبتسم بفرح وهي تتخيل شكل ابنتها، لكن ملامحها تجمدت حين وصلت إلى الحادثة، اتسعت عيناها، وأنهمرت دموعها دون صوت، وصدرها يرتفع ويهبط بسرعة، كأنها تحاول الهروب من الصور التي يرسمها حديثه.
كان سليم صوته يتكسر بين كل جملة وأخرى، يحاول أن يبدو قويا لأجلها، رغم الألم الذي يعتصره، وعندما أكمل حديثه عن الغيبوبة، كانت ماسة قد وضعت يديها على قلبها، تتنفس بصعوبة.
سليم بنبرة مثقلة: وبعدها فوقت من الغيبوبة، كنت تعبان، وأنتِ فضلتي واقفة جنبي لحد ما رجعت أمشي على رجلي، ورجعت المجموعة وأنا على العكاز.
همست بذهول ودموع تهبط: يعني آني كان هيبقى عندي بنت اسمها حور؟ واتقتلت؟ مين الشراني إللي عمل فينا العملة الوحشه دى؟
سليم بثبات رغم الألم: معرفناش، موصلناش ليهم.
اقتربت منه، أمسكت يده بضعف، بدموع لا تتوقف: طب هي كانت عاملة إزاي؟ كانت شبهي ولا شبهك؟ كانت ريحتها إيه؟!
أغمض عينيه بألم: محدش شافها يا ماسة، اتولدت ميتة، بسبب الطعنة إللي خدتيها، وهما دفنوها.
بنبرة مخنوق: يعني حتى ملحقتش أشم ريحتها؟ ولا أشوف ملامحها؟ ولا حتى أخد صورة صغيرة ليها تبقى ذكرى؟ ليه كده؟ ليه؟ يعني إيه أعيش كل ده وفي الآخر ياخدوها مننا؟ وأنت كمان نمت شهور في غيبوبة، ورصاص ف جسمك، وممكن تموت في أي وقت.
أقترب منها سليم وضم كتفيها برفق، نظر في وجهها المرتجف محاولا تهدئتها: أهدي يا ماسة، أنا دلوقتي كويس، وخلاص عملت العملية ونجحت، ما هي دي يا حبيبتي العملية إللي أنا عملتها وأنتِ زعلتي إني عملتها من غيرك.
فاندفعت تبكي على صدره، فضمها إليه بقوة، يحتضنها وهو يربت على شعرها بحنان وصوته يهمس قرب أذنها: أهدي يا حببتى، بس خلاص أهدي.
أرتجف صوتها وهي تهمس بصوت مبحوح بين أحضانه، ودموعها تهبط على رقبته: ياريت ما كنت حكيتلي يا سليم، آني مش عايزة أسمع حاجة تاني خلاص.
أخذ سليم يربت على ظهرها برفق، كأنه يحاول أن يسكن وجعها، بينما هي تهمس بصوت مبحوح: إللي حصل لنا وحش أوي يا سليم، وحش أوي.
ضم وجهها بين كفيه ومسح دموعها بإبهامه، عينيه تمتلئان حنانا وقلقا: يحببتي إحنا بقينا كويسين، ومع بعض، وده أهم حاجة.
أجابت بصوت منخفض لكنه مشبع بالوجع: بس إحنا اتوجعنا كتير.
وضعت يدها على قلبها فجأة، كأن الألم اخترقها من الداخل، وأغمضت عينيها بقوة وهي تهمس: هنا وجعني أوي، قلبي واجعني يا سليم .
أخذت نفسيا عميقا حاولت أن تهدأ تساءلت: هو لسة فيه حاجة تاني توجع؟
صمت لحظة، ثم تمتم بخفوت: أممم بس مش زي دي.
رفعت نظرها إليه بسرعة، بنبرة رافضة: لا خلاص، آني مش عايزة أسمع حاجة دلوقتي، آني صدعت جدا.
أقترب منها سليم بخطوات مترددة، يمد يده ليمسك كتفيها برفق: خلاص، كفاية كدة النهاردة.
وقفت، وضغطت على صدغها بأصابعها، وهي تهمس بصوت خافت: آني عايزة أشوف حور.
تجمد سليم في مكانه، نظر إليها بدهشة وقلق: تشوفي حور فين يا ماسة؟
رفعت عينها نحوه وقالت بنبرة مهتزة: عايزه أزور القبر بتاعها.
توقف سليم أمامها حاول أن يهدئها: طب يا عشقي، خلينا بكرة و…
هزت رأسها بحدة، عيناها تلمعان بعناد مكسور: لأ، النهاردة، أرجوك يا سليم.
أطلق تنهيدة قصيرة، ثم قال بإستسلام حنون: حاضر يا ماسة.
استدارت، تتجه نحو باب الغرفة، خطواتها غير متزنة، وفجأة، توقفت مكانها، ووضعت يديها على رأسها، وإنحنت قليلا وهي تجز على أسنانها بألم مكتوم، وصوت أنفاسها صار متسارعا كأنها تختنق.
هرع سليم نحوها بفزع: ماسة! مالك؟!
صرخت بخفوت، وهي تمسك رأسها بقوة: مش عارفة، الصور، شفت صور تاني، عربية، دم، حد مطعون.!
حاول أن يسندها بذراعيه: أهدي، استني، خدي نفس، خدي نفس يا ماسة أسمعي كلامي وأرتاحي النهاردة.
فتحت عينيها بصعوبة، الدموع تغمرها، وهمست:
لا لا، خلاص، يمكن عشان لسه حكيلي الكلام إللي قولته، أنا هطلع ألبس.
حاول سليم أن يمنعها، لكنه رأى الإصرار الحزين في عينيها، فأكتفى بأن يتراجع بقلق وهو يراقبها تصعد الدرج بخطوات متوترة، بقي واقفا مكانه، يمرر أصابعه في شعره بتوتر شديد، ثم أخرج هاتفه وأتصل بالطبيب بصوت واهن: يا دكتور أنا حكيت لماسة الحادثة، وعايزة تشوف قبر حور دلوقتي، وبعدين جالها صداع، والمره دي حاسس إن فيه ألم بس هي بتحاول ما تبينش، قعدت تعيط كتير لدرجة إن هي قالتلي يا ريتك ما حكيتلي، أعمل ايه؟
أجابه الطبيب بنبرة عمليه: تمام يبقى كدة نوقف الحكايات خالص، يومين تلاتة كده نضحكها، نخرجها، نعملها حاجات بسيطة.
سليم: ماشي، تمام يا دكتور.
أنهى المكالمة، وأسند ظهره إلى الحائط، يغلق عينيه للحظة، قبل أن يتمتم لنفسه بصوت خافت مشوب بالحزن: كفاية عليها وجع لحد هنا.
رفع عينيه للسلم الفارغ، كأن صوته يصلها رغم البعد:أنا أسف يا ماسة لإني السبب في كل دى
توجهت ماسة لغرفتها كانت خطواتها بطيئة لكنها حازمة، فتحت الدولاب، واختارت ملابس سوداء، ووضعت طرحة بلون الحداد، نظرت في المرآة لثواني، كأنها تحاول أن تتعرف على وجهها.
في الأسفل، كان سليم يجلس على الأريكة واضعا رأسه بين كفيه، يفكر في حالها، ثم صعد إلى الطابق العلوي، ليجدها تقف مستعدة بثوبها الأسود، ووجهها الشاحب، فتنهد وقال بهدوء: يلا بينا.
المقبرة السادسة مساء
توقفت ماسة أمام المدفن الشرعي، وعيناها تلمعان بخليط من الخوف والاشتياق هناك مشاعر مختلط لديها غريبة هي بالتأكيد ناسية حور لا توجد تلك المشاعر التي نعرفها لكن يبدو أن هناك شيء استيقظ بداخلها عندما روى لها سليم القصة ليست مشاعر أمومة أو حتى مشاعر إنسانية لكن مشاعر كل منا لا يعرفها سوى هما لكنها بالتأكيد تكسر القلب والفؤاد
اقتربت ببطء، نظرت للأسم المنقوش على الرخام: حور سليم الراوي.
شهقت بخفة، ومدّت يدها المرتعشة تلمس الحروف بأطراف أصابعها، كأنها تتحسس وجنتي طفلتهاوهو هنا مكتوب أسمها صح؟
أومأ برأسه بصمت، وعيناه لا تفارق ملامحها المنكسرة.
تقدّمت أكثر، وضعت كفها على الرخام البارد، وبدأت تهمس بصوتٍ متهدج:حور... آنى مش فاكراكي يا بنتي، حتى بعد ما بابا سليم حكالي... مش قادره أفتكرك، بس عارفة إيه إللي وجعني؟ إني مش فاكراكي. وجعني إني نسيتك،بس خلاص،دلوقتي عرفت إنك كنتي هنا،يمكن مش حاسة بنفس الإحساس إللي كنت حساها ساعتها،بس والله يا بنتي آنى زعلانة عليكي من قلبي،كان نفسي تكوني معايا، أكيد كنت ها أحبك أوي… وإنت كمان كنتي هتحبيني.
ابتسمت ابتسامة كسيرة، ومسحت دمعة سالت على خدها بإصبع مرتعش: آنى طيبة خالص والله، كنت ها أجيبلك لعب كتير وحاجات حلوة… وبابا كمان طيب أوي، وحنين أووي آني مش عارفة؟! هو دلوقتي المفروض وآني بصلي أدعي أفتكرك وإني بدعي إني أفتكر كل حاجة؟!ولا أدعي إني ما افتكركيش ثاني، أكيد يعني لما أفتكر الذكريات ترجع في دماغي، ها أتوجع كتير أكتر من دلوقتي علشان ساعتها ها أكون فهمت وعرفت، أمي كانت دايما تقول كل أما النونو يعطي بطن الست أكتر كل ما كانوا بيحبوا ويرتبطوا ببعض أكتر، فآني متأكدة إني كنت ها أزعل وها أتوجع عليكي خالص، زعلانة أوي إنتي أكيد في مكان حلو، بس لا يا حور لا يا حبيبتي أنا ها أدعي أفتكرك أفتكر كل حاجة حلوة حكايات بينا في يوم
ثم أغلقت عينيها، وانحنت على الرخام، وضمت ذراعيها حول نفسها كأنها تحاول احتضان قبر ابنتها،وهي تبكي بحرقة.
بينما سليم وقف خلفها في صمت، يراقب انكسارها ودموعه تحرق وجنتيه دون أن يقترب، فقد كان يعلم أن هذا العناق بينها وبين الغياب لا يجب أن يُعكَّر.
في سيارة سليم طريق العودة إلى الفيلا
كانت ماسة جالسة بجواره، رأسها مستندة إلى صدره، تتنفس ببطء، كأنها تبحث عن الأمان في صوته،يده اليمنى كانت تمسّد شعرها برفق، بينما الأخرى تمسك بيدها الصغيرة، يربت عليها بحنان متكرر، كأنه يطبطب على قلبها بنفسه.
همس بصوت هادئ: أهدي يا حبيبتي ماتبكيش.
لم تجب، لكنها ضمّت أصابعه أكثر، وغفت على صدره في صمتٍ مثقلٍ بالدموع والراحة معًا.
حين وصلا الفيلا،حملها سليم بهدوء، دخل بها غرفة المعيشة، جلس على الأريكة وهي ما زالت نصف نائمة ربت على كتفها بخفة وقال مبتسما:يلا فوقي بقى يا ماستي يا حلوه إحنا رجعنا.
فتحت عينيها بصعوبة، نظرت له بتعبٍ خفيف:مش عايزة أتكلم يا سليم قلبي وجعني..
ابتسم، ومرر أنامله على خدها:ماشي بس على فكرة، أنا مش هسيبك بالمود ده.
ألتفت نحو النافذة، وكأنه قرر شيئا فجأة: تعالي معايا.
ماسة بتردد: رايحين فين؟
ابتسم وهو يمسك يدها: هاتعرفي دلوقتي.
خرج بها إلى الحديقة الخلفية، حيث كانت المرجيحة تتمايل برفق بفعل الهواء.
أجلسها عليها، وتوقف خلفها يدفعها بخفة، والهواء يلامس وجهها.
وهي تقلب وجهها بضجر تحاول أن تتوقف لكنه جعلها تجلس أقعدي مافيش أوامان هاتضحكي يعني هاتضحكي غصب عنك
نظرت له من فوق كتفها، بإبتسامة باهتة: بجد مش قادرة أضحك ولا عايزة أتمرجح أصلا.
أقترب منها، خفف الدفع، ثم همس بخبث:طب ماشي… بس أنا عندي حل تاني.
قبل أن تفهم ما يقصده، حملها فجأة بين ذراعيه، وسط صرختها الصغيرة: سليييم! إنت بتعمل إيه؟!
ضحك وهو يسير بها نحو حمام السباحة: بقولك هتضحكي يعني هاتضحكي!
صرخت وهي تلوّح بيديها: لااااااا! سليم بلاش!
لكنه كان قد قفز معها في الماء في لحظة واحدة، فتطايرت الرذاذات حولهما، وملأت الضحكة أخيرا وجهها.
كانت تضحك بقلبها، ترفس الماء بقدمها وتقول وسط ضحكها: إنت رخم!
ضحك هو أيضًا، وصوته يغرق في الدفء: رخم جدا،ومبسوط إنك ضحكتي.
ظلت تنظر له للحظة، والماء يتلألأ على وجنتيها، ثم همست بخفوتٍ مليء بالعاطفة: بس قلبي وجعني أوي.
أقترب منها أكثر، رفع خصلات شعرها المبللة عن وجهها، وقال بصوت وديع: وأنا مستحيل أسمح إن القلب بتاع السكر ده يفضل موجوع كده.
وضع قبلة طويله على عينيها ثم ضمها بين أحضانه وأخذ يدغدغها وهي تصرخ ثم يرش الماء عليها يحاول أن يخرجها من المود يعرفها جيدا عندما كانت في هذا السن كانت من السهل أن تنسى بسرعة احزانها بتلك الطرق ما مضت إلا دقائق وبدأت ماسة أن تدخل معه في المود وتغرقه وتلعب معه بسعادة،بعد وقت خرج سليم وماسة من المسبح
حملها سليم إلى غرفتهما بخطواتٍ هادئة، والماء يقطر من أطراف شعرها المبلل كانت ترتجف قليلا من البرد، وملامحها مازالت تحتفظ بآثار الضحك الذي غمرها قبل دقائق.
فتح باب الغرفة، أهبطها برفق في المنتصف توقف أمامها وألتقط منشفة صغيرة من فوق الكومود.
مرر المنشفة على شعرها بحنانٍ بالغ، يتحرك ببطء كأنه يخشى أن يوقظ ألما نائما في قلبها، كانت عيناها تتبعه في صمت، تنظر إليه بنظرة فيها امتنان وشيء من الخجل.
قالت بصوت خافت وهي تلمس أطراف المنشفة:سليم سيبني أنا أعمل كدة.
ابتسم، ولم يتوقف: لا، خليكي قاعدة كدة خليني أعمله أنا.
خفضت رأسها أكثر، ويديها متشابكتان في حجرها، همست بخجلٍ طفولي: حاسة منظري يضحّك.
ضحك بخفوت، صوته دافئ كنسمةٍ ليلية:منظرك؟ ده أحلى منظر شُفته في حياتي.
تنهدت وهي تحاول تخفي ارتباكها، شعرها يلتصق بوجنتيها، فمد يده بلطف وأبعد خصلة عن وجهها، ثم نظر إليها طويلا دون أن يقول شيئًا.
رفع عينيه أخيرا وقال بنبرةٍ وديعةكأنها وعد:أنا مش عايز أشوف الحزن ده تاني في عينيك، فاهمة؟
أومأت برأسها بصمت، ولم تجبه كان كل ماتقدر عليه في تلك اللحظة هو أن تترك نفسها في هذا الدفء الذي اشتاقت له طويلا ظل يجفف شعرها حتى جفّ تقريبا، ثم قال سليم بحنان: يلا يا عشقي، أدخلي غيري هدومك قبل ماتتعبي.
وتعالي نكمل الفيلم إللي أتعطل بسببك.
ضحكت بخفوت، وقالت وهي تنظر له من طرف عينها: هو أني السبب في كل حاجة؟
رد مبتسمًا: في الحلو… وفي إللي بعده كمان.
دخلت المرحاض لتبدّل ملابسها، بينما خرج سليم ودخل غرفة أخرى وأخذ حماما دافئا وبدل ملابسه، وعاد تلى غرفتها تمدد في انتظارها بالفراش وبعد دقائق، خرجت بثياب نظيفة، شعرها ما زال رطبًا قليلًا، تفوح منه رائحة الشامبو والهواء.
نظر إليها سليم نظرة طويلة دافئة، ثم مدّ يده بهدوء وقال: تعالي.
اقتربت منه بخطى مترددة، تمددت بجانبه حيث وضعت راسها على صدره أحاطها بذراعيه بحنان كأنها كل ما يملك، وكانت أصوات الطيور في الخارج تملأ المكان بسكونٍ حنون.
ماسة بصوتٍ واهن: آني تعبت أوي النهاردة يا سليم.
وضع سليم قبلة طويلة على راسها وهو يمرر أصابعه في شعرها: ما تِفكّريش في حاجة دلوقتي… إنتي بس ريّحي دماغك.
أغمضت عينيها وهي تتمسّك بيده: قلبي وجعني أوي.
بس عايزة أعرف الباقي عشان يبقى وجع مرة واحدة أمي كانت تقول لي كدة أعرفي المصيبة كلها مرة واحدة لو عرفتيها متقطعة قلبك يوجعك أكثر.
سليم بهدوء:سلامة قلبك يا كل قلبي، بس خلاص كفاية عليكي النهاردة الدكتور إللى قال كدة
همست وهي نصف نائمة: هاتفضل جنبي؟
ابتسم ومسح على رأسها: طول ما أنا عايش، عمري ما ها أسيبك.
سكنت تماما بعد كلماته، وراح صوت أنفاسها يختلط بأنفاسه، حتى نامت بين ذراعيه، بينما ظلّ هو ينظر إلى وجهها في صمتٍ طويل، كأنه يحرسها من أي ألمٍ ممكن يقرّب منها مرة تانية.
فيلا عائلة هبة
الصالون
جلس ياسين على الأريكة، ذراعه يحتضن الصغيرة نالا وهي تضحك بصوتٍ رقيق، قبلها على وجنتها ضاحكًا وقال بحنان:
يلا يا نالا، روحي مع دادا شوية.
ناولها للـ«دادا»، وخرجت الأخيرة، أُغلق الباب خلفها.
سكن الصالون فجأة، وبقي ياسين وهبة وحدهما، وبينهما صمت أثقل من الجدران.
أطرق ياسين رأسه للحظة، يحرك خاتم زواجه بين أصابعه، ثم قال بنبرةٍ هادئة تخفي توتره: إيه... فكرتي؟
رفعت هبة نظرها إليه ببطء، عينيها متعبة، وصوتها منخفض لكنه ثابت:فكرت... بس محتاجة أسمع قرارك الأول.
تنفس ياسين بعمق، مسح كفه على وجهه كمن يستعد لقولٍ صعب: بصي يا هبة...أنا حسّيت إننا مش هاينفع نكمّل.
نظر إليها مطولًا، ثم حرّك رأسه بأسى:أنا مش مبسوط... ومش قادر أبقى سعيد، إنتِ اتغيرتي كتير عن أول جوازنا، بقيتي عقلانية أكتر من اللزوم، وأنا... أنا مش عايز أعيش حياة كلها حسابات ورتابة،من وقت ما خلفنا نالا وأنا بحاول أصلح، أقرب،بس بعد موضوع سليم ورشدي، بقيتي بتعامليني كأني متهم، وأنا ماليش ذنب.
هبة شبكت أصابعها ببعضها فوق ركبتها، تحاول تسيطر على ارتجاف يديها، بينما عيناها تلمعان بخفوت.
تابع ياسين وهو ينظر للأرض: كمان، إنتِ عقدة حياتك بقت أهلي.
نبرته أرتفعت قليلاً، فيها وجع مكبوت. أسلوبك وطريقتك في الكلام عنهم مش كويسة، حتى لو ليكي حق في حاجات، دول أهلي،وسمعتك وأنا با اتهان قدامهم مش سهلة عليا بقيتي بتعامليني كأني واحد منهم، ونسيتي أنا مين.
سكت لحظة، رفع نظره إليها، صوته أنخفض: يمكن اللحظة إللي رفعتِ فيها إيدي عليكي كانت النهاية بالنسبالي..
غمض عينيه ثواني، كأنه بيحاول يطرد الصورة،حاولت أكمل، بالعشرة، بالرومانسية، بالعلاقة... بس حتى دي مابقتش فيها روح بقيت مجرد واجب.
هبة عضت شفتها، تنفست ببطء، رفعت حاجبها وكأنها بتحاول تخبي كسرتها: ياسين... من غير كلام كتير، أنا كمان كنت ناوية أقولك نفس الكلام.
نظرت له بثبات متصنع:أنا قررت الطلاق.
تجمّد وجه ياسين لحظة، ثم حرك رأسه بهدوء، صوته خرج مبحوحا: يبقى متفقين،بس مش دلوقتي... بعد خطوبة رشدي الخميس الجاي نبدأ الإجراءات، ونبلغ العيلة
نظر لها بخفوت:وياريت تيجي ومعاكي نالا، ولو مش هاتيجي، أبعتيها مع حد.
قالت هبة وهي تبص في إتجاه النافذة، تحاول ما تبينش وجعها: ماشي... طب والبنت؟
ردّ بهدوءٍ ثابت وهو ينهض: نالا هاتعيش معاكي طبعًا، أنا ما أقدرش أحرِمها من أمها...بس هاتيجي عندي في الويك إند والإجازات.
هبة رفعت كتفيها بلامبالاة مصطنعة: نشوف الكلام ده بعدين يا ياسين.
أومأ برأسه، ألتقط مفاتيحه من الطاولة، وقال وهو يشيح بنظره عنها: تمام... بعد إذنك.
خرج بهدوء، والباب أغلق كأنما أغلق فصلا من حياتهما.
ظلت هبة في مكانها، تحدّق في الفراغ أمامها، ثم نظرت نحو الكوب الفارغ على الطاولة،مدت يدها تلتقطه، لكنه أنزلق من بين أصابعها وسقط على الأرض،ارتجفت، شهقت، ثم غطّت وجهها بكفيها عيناها امتلأتا دموعا، تنهمر واحدة تلو الأخرى، حتى أنهارت بصمت مكتوم.
قامت بخطوات متعثرة نحو غرفتها، جلست على طرف الفراش، ظهرها منحنٍ، وكتفاها يهتزان من البكاء.
بعد لحظات، فتح الباب بهدوء، وظهرت أمها، وجهها فيه قلق اقتربت وجلست بجانبها، وضعت يدها على كتفها وقالت بنبرة فيها عتاب أكثر من حنان: مش ده إللي كنتِ عايزاه يا هبة؟ بتعيّطي ليه؟ولا علشان هو إللي قالها الأول؟ جاي واخد قراره؟
هبة رفعت وجهها، دموعها غرقانة على خدودها، وصوتها مبحوح: لا بس كنت فاكرة لما أقول له عايزة أطلق، هيحاول يتمسك بيا يقولي نصلح، نحاول ماكنتش متوقعة إنه هو كمان قرر يسيبني.
الأم تنهدت، هزت رأسها ببطء: بس أنا سألتك يا هبة، لو قالك “أنا عايزك” وطلب فرصة، قولتيلي لا كنتي مصممة على الطلاق مالك دلوقتي؟ زعلانة علشان هو وافق؟ ولا كنتِ عايزة تشبعي غرورك، يسمعك بتطلبي وهو يقول لا؟
هزت هبة رأسها، تحاول تكتم شهقتها: مش كده بس أنا ما طغلطتش في حاجة علشان هو يبقى إللي مش عايزني.
مدت أمها يدها تمسك بإيدها بحنان: بدل ماهو مضايقك من زمان، ماخلصتيش ليه من بدري؟
هبة نظرت للفراغ، صوتها خرج متكسر: ماكنتش عايزة أبقى مطلقة،وكنت فاكرة إن حياتنا مش مستحيلة، مافيش حياة من غير مشاكل وكمان علشان نالا، لأن خناقاتنا تافهة، مش كانت تستاهل النهاية دي.
مسحت سامية على شعرها: راجل محترم، وعمره ما أذاكي فكري تاني يا هبة.
هبة تنهدت بتعب: لو فكرت،خلاص، هو قال مش عايزني.
الأم تمسكت بأملٍ أخير: عادي، لو قولتيله عايزة فرصة تانية، هيوافق، ياسين عشرة سنين يا بنتي، ومشاكلكم تتحل.
نظرت لها هبة بصمت طويل، ثم حركت رأسها بخفوت، عيناها مبلولة، وصوتها مبحوح: يمكن خلاص مافيش حاجة تتحل يا ماما.
منزل عثمان السابعة مساء
دخل عثمان بخطواتٍ هادئة، كأنّ التعب يسحب قدميه استقبلته زوجته ببسمةٍ دافئة وهمسٍ خفيف:إنت جيت؟
هز راسه بإيجاب:آه، جيت… أعملي لنا بقى لقمة حلوة ناكلها.
طب روح غيّر هدومك عقبال ما أغرف. جبت الفلوس عشان مدارس العيال؟
أومأ برأسه: آه، جبتهم.
توجه إلى غرفته جلس على طرف الفراش، خلع ساعته ببطء ووضعها على الكومودينو،أخرج مسدسه ووضعه بجوارها زفر تنهيدة طويلة، كأنه يفرغ ما بقي من روحه، وتمدد على الفراش أغمض عينيه ثوان، فتحهما على الدولاب المقابل له بقي يحدق فيه بصمت ثقيل، كأن شيئا بداخله يناديه، نهض بخطوات مترددة، اقترب من الدولاب وفتحه امتدت يده إلى خزنة صغيرة في الداخل، أدار مفتاحها، ثم أخرج منها علبةخشبية صغيرة،فتحها ببطء، فظهرت أمامه توكة شعر عليها أثر دم قديم، بدا أنها تلطخت فعلا بالدم، أمسكها بين يديه، وارتجف صدره مع دقات قلبه المتسارعة رفعها إلى أنفه وشمّها، كأنها تحمل رائحة ماضي لم يمت بعد أعادها مكانها بحذر، ثم سحب صورة من تحتها،حدق فيها طويلاً، وعيناه
تمتلئان ببحرٍ من الذكريات. مد أصابعه يتحسس ملامح الوجه في الصورة، بعاطفةٍ متوترة، لكنّنا لا نعرف من يوجد بها.