
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل الثالث عشر 13 بقلم ليله عادل
༺༻❀✧
رواية: ❝الـمــاســة الـمــكـســورة2💎💔
العودة (عناق الدم)❞
بقلمي: لَـيْـلَـةعَـادِلْ
✧❀༺༻❀✧
{ ياترى، أيهما أشد وجعا؟ أن تنسى كل شيء، ذكريات جميلة وأخرى موجعة، وتحيا على ذكرى جديدة ووجه آخرٍ للبدء؟ أم أن تتذكر كل ما كان، فتسكنك التفاصيل حتى الاختناق؟ أَيفضل أن تعيش بعقل خالي، كصفحة بيضاء لا ماضٍ لها، أم بعقل مثقل بكل ماحدث، يحمل ماكنت تتمنى حين امتلكت ذاكرتك، أن تنساه؟ ومهما يكن من أمر، يبقى اليقين واحدا: طول ما بجوراك من يحبك، يهون كل الوجع.}
ليلةعادل✍️
الفصل الثالث عشر❤️🤫
[بعنوان: مابين النسيان ودفء البقاء ]
أمسك عثمان الصورة بين يديه، نظر إلى ملامح من بها بتأمل، عيناه تترقرقان بالدموع، مرر أنامله على وجهها بشوق يخرج من عينيه، كأنه يتحسس الذاكرة ذاتها، ظهرت ملامح الفتاة التي في الصورة؛ شعر أسود طويل، وعينان سوداوان واسعتان، ووجه رقيق تفيض منه البراءة، أغمض عينيه لحظة، وتنفس بعمق، كأن ذكرى قديمة انتزعت قلبه فجأة.
فلاش باك، قبل سنوات كثيرة.
السيارة تشق طريقها بصمت ثقيل، جلس عثمان خلف المقود، وجهه جامد، لكن عيناه تفضحان صدمة حائرة، إلى جواره، الفتاة نفسها، منكفئة على نفسها، تبكي بحرقة مكتومة، جسدها يرتجف، كانت ترتدي قميص نوم خفيفا وتغطي جسدها بجاكيت عثمان، كأنها تحتمي به من العالم..
من حين لآخر، كان يرمقها بطرف عينه، ثم يعيد نظره للطريق، قبض على المقود بقوة، كأنه يخشى أن ينفلت غضبه من بين أصابعه..
ازدادت دموعها غزارة، وفجأة صرخت، وهزت رأسها بعنف وهي تقول: لا مستحيل اعيش ثانيه واحده.
امتدت يدها نحو الباب، فتحته بقوة، وكادت أن تلقي بنفسها نحو الهاوية، فصاح عثمان وهو يمسك بذراعها بقوة: بتعملي إيه يامجنونة؟!
صرخت وهي تحاول الإفلات من بين يديه: سيبني! سيبني أموت وأرتاح!
توقفت السيارة بعنف، وصرير الإطارات دوى في المكان، جذبها عثمان نحوه بقوة، صوته يرتجف بين الغضب والخوف: أنتِ اتجننتي؟! عايزة تموتي كافرة؟!
إنهارت تبكي، وجهها متورم وصوتها يتهدج: أنا خلاص ياعثمان! ضعت!
أمسك وجهها بكلتا يديه، أجبرها تنظر له، عينيه تلمع فيهما دمعة عنيدة: خلاص يا جميلة، كفاية أنتِ دلوقتي معايا، فاهمة؟ والله العظيم ماهسيبهم.
ارتجفت وهي تتشبث بجاكيته، وصوتها خرج متقطعا من بين شهقاتها المتلاحقة: هو ده جزاتي؟ مكفاهمش إللي عمله فيا ابنهم؟ كمان يرموني كده؟ ويهددوني؟!
اقترب منها بحذر، صوته هادي لكن فيه رعشة خوف: أهدي يا جميلة، هنلاقي حل، متقلقيش.
صرخت وهي تلوح بيديها في الهواء بإنهيار: هتتصرف إزاي؟! هتقوله يتجوزني؟ ولا هتقول لأهله يصلحوا الغلط؟ مستحيل يحصل أنا حتت بت خدامه ملهاش تمن عندهم، سبني أموت وارتاح؟!
قبض على ذراعها بقوة، جذبها ناحيته، صوته مبحوح لكنه ثابت: إنك تموتي نفسك دي مش حل، متخافيش أنا مش هتخلي عنك، وهتجوزك يا جميله.
اتسعت عينا بصدمه قالت بنبرة مبحوحه: انت لسه عايز تتجوزني بعد اللي حصلي!؟
اتبسم بحب خافض: وأنتِ ذنبك ايه؟!
اغرورقت عيناها بالدموع، همست بارتباك: وأنت، ذنبك إيه؟
اقترب أكثر، صوته يتهدج بالعاطفة: أنا بحبك يا جميلة.
إنهارت تبكي على صدره، فضمها اليه بيدين مضطربتين: خلاص بقي يا بنت الناس، كفاية عياط، والله لأجيبلك حقك منهم، ثقي فيا متخافيش.
صمتت ودموعها تنساب في صمت متعب، بينما أدار هو وجهه للطريق وشغل السيارة، وانطلق بصمت أوجع من أي كلام.
فلاش باك آخر
في مكان زراعي مهجور، تقف جميلة، تلف عباءة سوداء حول جسدها، وطرحة تغطي نصف شعرها، تبكي بصوت مخنوق، وكتفاها يهتزان.
أقترب منها عثمان بخطوات متوترة، ووجه مضطرب وصوته ملىء بالقلق: في إيه يا جميلة؟ مالك؟ إيه إللي حصل؟
رفعت رأسها والدموع تتلألأ على وجنتيها: بيهددوني يا عثمان، إنهم هيقتلوني! أنا عملت إيه لكل ده؟ هما علشان معاهم فلوس يدوسوا على الشرف عادي كده؟
قال بصوت متعجب: مين إللي هددك؟ أنا مش فاهم حاجة!
ردت وهي تبكي برجفة خوف: فايزة هانم، وعزت باشا، بعتولي شاكر يهددني! حتى سليم، سليم بنفسه هددني إنه هيقتلني لو فتحت بوقي!
تجمد وجه عثمان، وقال ببطء: بس سليم سافر في نفس الليلة يا جميلة!
شهقت وهي تمسح دموعها بأنامل مرتجفة: لأ، بعتلي مع حد، أنا خايفة ياعثمان، خايفة اوي، مش عايزة منهم غير يسيبوني في حالي.
أجابها بحزم: إحنا لازم نعجل بجوازنا، الجمعة الجاية نكتب الكتاب، جوازنا هيسكتهم، زي ما حصل مع صفاء أنا هقولهم إني هتجوزك عشان تسكتي، كده كده محدش يعرف اللي بينا.
مدت يدها المرتجفة تمسك يده بقوة، نظرت في عينيه برجاء يائس: عثمان انا خايفه، لو قتلوني، دمي في رقبة العيلة دي، خدلي حقي منهم
ثم أنهارت في حضنه تبكي بحرقة مكتومة، وهو يحتضنها بعجز مؤلم، لا يعرف من أين يأتيها بالأمان.
فلاش باك آخر، بعد أيام
تتوقف السيارة بعنف.
ترجل منها عثمان، وهو يهرع إلى داخل مخزن معتم تتردد فيه أصوات رجالية خشنة، تجمد حين شاهد جميلة ملقاة على الأرض، غارقة في دمائها.
خرج صوته مخنوقا: إيه إللي بيحصل هنا؟!
شاكر ببرود قاتل، وهو يمسح يديه بالمنديل الملوثه بالدماء: الباشا أمر، علشان لسانها ميطولش.
تصلب وجه عثمان، قبض كفيه حتى بياض المفاصل.
شاكر بنبرة هادئة باردة: يلا، شيلوها.
تمتم عثمان بصوت مبحوح: هتقولوا إيه لأهلها؟
ابتسم شاكر بسخريه قاتله: حادثة عربية، ونخلي لسانا في بوقنا، علشان نعيش وولادنا يعيشوا.
تحرك شاكر للخارج ومعه الحراس يحملون جميلة وهي جثه هامده زراعيها يترنحان في الهواء.
بقي عثمان وحده بعدما رحلوا، سقطت أمامه توكة شعر صغيرة على شكل فراشة، ملوثة بالدماء،إنحنى ببطء، ألتقطها بيد مرتعشة، نظر إليها طويلا، ودمعة ساخنة هبطت من عينه.
همس بصوت مختنق: ليه يا جميله، كان كلها بكره ونتجوز ليه عملتي اللي في دماغك..
اضاف بغل وقسم: بس والله العظيم، لجيبلك حقك ياجميلة، مش من سليم بس، من العيلة كلها.
العودة إلى الحاضر
فتح عينيه من جديد، الصورة وتوكه مازالا بين يديه، شاهدين على وعد لم ينسَ، زفر نفسا عميقا، ثم أعاد كل شيء مكانه، وأغلق الدولاب بإحكام، مرت نظرة حادة في عينيه، نظرة رجل لم ينس، ولن ينسى.
فيلا سليم وماسة الواحدة ظهرا.
المسبح الداخلي
تتسلل الإضاءة الدافئة من السقف الزجاجي إلى سطح الماء، تعكس بريقا ذهبيا يرقص فوق الجدران الرخامية.
في منتصف المسبح، كانت ماسة تعوم على عوامتها البيضاء على شكل وزه كبيرة، جسدها المبلل يلمع كحبة لؤلؤ في ضوء النهار، وثوب السباحة ذو القطعتين يلتصق بجسدها الرشيق برقة، بينما كان سليم يرتدي مايوه بسيطا، وعيناه لا تفارقها.
كانت ماسة تضحك بصفاء وهي تمسك مسدس الماء وتصرخ بحماس طفولي: خد يا سليم!
اندفع الماء كرشقة مفاجئة صوب وجهه، فأغلق عينيه نصف غلقه ضاحكا، رفع ذراعيه يحتمي، ثم رد عليها برشقة أعنف من مسدسة وهو يضحك بصوت خفيض متقطع كأنهما طفلين يلعبان مع بعضهما.
صرخت ماسة وهي تقهقه، والماء يتطاير حولها كحبات زجاج متكسر من الضوء، وفجاه سقطت من على العوامة وهي تضحك بطفولة.
أقترب منها بخطوات هادئة، أمسك خصرها بخفة، ورفعها للحظة قصيرة قبل أن يلقيها في الماء، صرخت بصوت مرتفع وهي تغوص ثم تطفو ضاحكة، وشعرها المبلل يلتصق بوجهها ضحكت وهي تدفعه وتقول من بين أنفاسها المتقطعة من الضحك: أنت بتغرقني يا كراميل! طب أهو
ثم القت عليه الماء، وهي تضحك: لو مبطلتش تغرقني هغرقك
ضحك سليم باستخفاف وثقه: هتعرفي أصلا؟!
ماسة بتحدي: ايوه متستصغرنيشييي.
حاولت أن تغرقه لكنها لم تستطيع، اخذ يتملص منها وهي تصرخ، ويقوم هو بتغريقها بالماء بمزاح، اقتربت منه، وقالت ببراءة: سليم وحياتي غرق نفسك كأني، آني اللي بغرقك.
ضحك بصوت عالي، وترك نفسه لها فاغرقته واخذت تصفق لنفسها: شوفت قولتك متستصغرنيشي.
ضحك سليم بخفه، واقترب منها مجددا وقبلها على خدها في حركة عفوية حنونة: مقدرش استصغرك يا قطعة سكر.
وظلا يلعبان لوقت طويل، حتى بدأ التعب يظهر في بريق عينيه، فأقترب منها وقال بصوت منخفض: عشقي يلا نطلع نستريح شوية وننزل تاني.
نظرت له بعناد طفولي، وهي ترفس الماء بقدميها وتبتسم بخفة: لأ، آني عايزة ألعب شوية كمان.
رفع حاجبيه وضحك بخفوت،قال بصوت أبوي حنون: مش هينفع أسيبك لوحدك.
اقتربت منه بخفة، وقالت بتوسل طفولي: وحياتي يا سليم خليني شوية كمان.
تنهد، ثم أمال رأسه مبتسما برقة: طيب، بس متروحيش الناحية التانية، سمعاني؟
هزت رأسها بسرعة: حاضر!
ابتسم وقبل جبينها قبلة خفيفة دافئة، ثم صعد إلى طرف المسبح وجلس، أشعل سيجارة بين أصابعه وكوب عصير بارد بجانبه، عينيه تتابعان حركتها في الماء، بمزيج من الحنان والسعادة، وكلما اقتربت من الجهة العميقة، كان يلوح لها بيده محذرا، فتضحك وتبتعد مثل طفلة صغيرة تتدلل على والدها.
مر وقت طويل، فناداها بصوت خافت حنون: يلا يا عشقي، أطلعي بقى.
رفعت رأسها من الماء، شعرها يلتصق بعنقها، نظرت له بعيون متسعة بريئة، وقالت بتعجب طفولي: أطلع ليه؟
ابتسم وصوته يحمل نغمة الجد واللطف: كفاية لعب، بقالك أربع ساعات ياشقية، متعبتيش؟
ضحكت، وهي تسبح في دوائر صغيرة وتضرب الماء بيديها كأنها تثيره عمدا: لا متعبتش! وعايزة ألعب.
رد بصوت حنون لكنه حازم: لا يا عشقي، يلا ناكل ونرتاح، البول موجود كل يوم.
نظرت له بإستغراب، وتساءلت بدهشه: إيه البول ده؟
ضحك وهو يومئ بيده بخفة ساخرة: حمام السباحة بالانجليزي.
أطلقت ضحكة قصيرة، واستدارت واعطته ظهرها بعناد دافئ، تلعب بالماء بطرف يدها: يا كراميل، آني عايزة ألعب، اطلع أنت وسبني ألعب.
قال وهو يناديها بنبرة رجولية عميقة هادئة لكنها حاسمة: أنا قولت يلا، بصيلي هنا يا ماسة، ماسة مش بكلمك بصيلي واطلعي يلا.
ألتفتت نحوه وهي تعقد حاجبيها بعند طفولي، وترد بدلال مرح: وآني قولت لأ، عايزة ألعب.
ارتسمت على وجهه ملامح الصبر المرهق، فقال بنبرة أكثر جدية: ماسة، يلا بقى، بلاش عند.
رفعت ذقنها بعناد طفولي: لأ
رفع حاجبه وصوته اكتسب نبرة أمر خفيفة: هو إيه إللي لأ؟ قولت يلا.
ردت وهي تعبس وتضرب الماء بكفيها بعنف طفولي: يا سليم بطل غلاسة بقى! عايزة ألعب شوية، أوووف! مش هطلع!
أطلق ضحكة قصيرة خبيثة وهو يخلع تيشرته في حركة واثقة، ثم نزل إلى الماء بخطوات هادئة، وعيناه مثبتتان عليها
ارتبكت قليلا لكنها ضحكت، وبدأت تسبح مبتعدة وهي تصرخ: لأ، ابعد عني مش عايزه اطلع.
سليم ضاحكا بصوت عالي: يا بنتي بلاش شغل الأطفال ده! بطلي فرهدة!
استدارت نحوه بدلال واضح ومزاح: إيه، بقيت راجل عجوز علشان عندك 35سنة؟ ومش قادر تجري ورايا؟
ضحك وهو يومئ برأسه: اه هتمسكي في الجملة بقي، من وقتها ما قولتها، ما صدقتي أنتِ؟!
ماسة بخفة وهي تخرج لسانها: أنت اللي قولت إنك مش قد فرهدتي.
اقترب منها بخطوات واسعة والماء يتماوج حوله: طب تعالي هنا بقى يا لمضة.
ابتعدت وهي تضحك، ثم رفعت مسدس الماء وصوبته نحوه بخفة ماكرة: قولتلك هلعب شوية، مش هاجي!
رفع يده ليتفادى الماء وقال بنبرة لاهية متظاهرة بالانزعاج: مش هتسمعي الكلام يعني؟
صرخت ضاحكة بعند: لأ، مش هسمع الكلام!
أخرجت لسانها من جديد وهي تقهقه، فاندفع نحوها بسرعة، حاولت الهروب، لكن الماء أعاق حركتها، فأمسكها من خصرها فجأة، فصرخت وهي تضحك: وحياتي يا سليم ما تطلعني، أنت رخم!
رفعها على كتفه وسط ضحكها وصوتها العالي، وهي تضربه بخفة على ظهره، فيضحك وهو يخرج بها من الماء بخطوات ثابتة.
وضعها على الأرض برفق، والماء يتساقط منهما معا، وقال بإبتسامة تجمع الجد والمزاح: يلا، نطي زي الأطفال وعيطي واتمرمغي براحتك.
قالت بضيق طفولي، وهي تزيح شعرها المبلل عن وجهها: آني مش طفلة.
ضحك بهدوء وهو يجفف كتفيها بالمنشفة بلطف: مش طفلة؟!! و إللي كنتي بتعمليه ده اسمه إيه؟
ماسة بصوت مستاء، وهي تعقد ذراعيها: كنت بلعب.
انحنى نحوها قليلا، وقال بصوت دافئ وفيه حنان أبوي: 4ساعات لعب يا ماسة؟ هتبوشي!
ثم تابع وهو يجفف شعرها بخفة: مينفعش أسيبك لوحدك، الجزء الغويط خطر، وأنتِ مبتعرفيش تعومي وبتسرحي والعومه بتاخدك هناك.
ابتعدت عنه خطوة صغيرة، وهي تحاول أن تخفي ابتسامة طفيفة تحارب للظهور على وجهها: قولتلك مش هروح هناك، وهفضل هنا، والله العظيم، سيبني بقى.
سليم بنبرة حازمة، وهو يثبت نظره عليها: قولت لا.
نظرت له بعناد وهي ترفع ذقنها: غلس! وهخاصمك 3 أيام كمان.
ضحك بخفوت، وألبسها فستان البحر، ثم حملها مجددا على كتفه رغم احتجاجها، صعد بها السلم حتى وصلا إلى غرفتهم، فتح باب الحمام ووضعها على الأرض بخفة وهو يقول بلطف ودفء: هطلعلك هدومك لحد ماتخلصي، وأنا هاخد شاور في الحمام التاني.
نظرت له من فوق كتفها، عيونها تضيق في تمثيل الغضب، وقالت وهي تضم ذراعيها: أنا مخاصماك 3 أيام، متكلمنيش.
ابتسم بخفة دون رد، خرج وأغلق الباب وراءه بهدوء،
عاد بعد لحظات يحمل بيجامتها، وضعها على السرير، وألقى نظرة قصيرة نحو الباب قبل أن يرحل، في الداخل، كان الماء ينهمر على جسدها، وصوتها الخافت يتمتم بكلمات اغنية.
وبعد قليل.
جلست على الفراش، بوجه متجهم وعابس، وهي ترتدي البرنص، وشعرها مازال رطبا من الماء.
دخل سليم الغرفه بعد أن أخذ حمامه، وهو يرتدي ملابس منزليه مريحه، جلس بجانبها، ونظر لها وعيناه تلمعان بالمرح: لسة مكشرة؟ ملبستيش ليه لحد دلوقتي؟
اشاحت بوجهها بتذمر طفولي: آني مش مكشرة.
ابتسم سليم وهو يرفع حاجبه: كده مش مكشرة؟!
ثم أضاف بنبرة حانيه، كأنه يحدث طفلة: ماسة أنتِ بقالك أربع ساعات في الميه مطلعتيش؟ أنا خايف عليكي!
قاطعته ماسة، بنبرة طفولية: آني بحب المية أوي، وقولتلك سيبني، بس أنت غلس، ! آني واخده على خاطرى منك، ومخصماك 3 أيام كمان، متتكلمش معايا.
رفع سليم حاجبيه بمكر، واقترب منها قائلا: ما أنتِ لو فضلتي مكشرة كدة وزعلانة مني 3 أيام، أنا هعرف إزاي أفككك؟
رفعت ماسة حاجبها بتحدي صغير: وهتفكني إزاي بقى؟
اقترب سليم أكثر، وعيناه تلمعان بالمرح والمداعبة، وفجأة، مد يديه وبدأ يدغدغها في جنبها.
صرخت ماسة وهي تتراجع: لالا بس هههههه
حاولت التملص بتوسل: لالا خلاص بس، أوعى!
ضحك سليم بصوت خافت، وهو يواصل دغدغتها: مش هسيبك قبل ماتضحكي!
حاولت التملص وهي تضحك بخفة: بس آني زعلانة منك.
استمر بدغدغتها وهو يهمس: لازم أصالحك، ولو مصالحتنيش، هفضل أزغزك كدة علطول!
انفجرت ضاحكة وهي تحاول ايقافه عن دغدغتها: خلاص! صالحتك، خلاص بقي
ابتسم لها بعينين مليئتين بالشقاوة: يعني اتصالحنا؟ ومش هتخاصميني ال 3 أيام؟
ابتسمت، ومدت يديها تبعده بخفة: أيوه خلاص، بس بعد كده، سبني اللعب في المية براحتي.
اقترب منها، ومرر يده على شعرها برقة، بعينين مليئتين بالحنان والخوف: يا عشقي أنا بخاف عليكي.
ضحكت بخجل خفيف: اصل المية حلوة اووي.
ثبت سليم نظره داخل بحور عينيها، بعينين لا ترمش، مليئة بالغزل والشغف: بس، مش أحلى منك، ولا من عيونك، ولا من ابتسامتك إللي بتذوب قلبي.
صمتا، وتبادلا النظرات بعشق صامت، كأن كل لحظة تمر تثقل قلبيهما بالشوق، كانت رغبة خافتة تتسلل إلى قلب ماسة، تحرك إحساسا لم تعرفه منذ زمن، لم تستطع تحديد شعورها، فلأول مرة منذ فقدانها للذاكرة، تشعر بانجذاب غير مفهوم، وشغف خفي يذوب مع كل لحظة قرب.
ركزت عين سليم على شفتيها برغبة جامحة وبعد ثواني اقترب ببطء، وقلبه يخفق بسرعة، جسده يئن من الشوق، لم يستطع كبح نفسه أكثر، فهو يريد أن يتذوق تلك الكرازتين فالشوق ذبح قلبه، وضع شفتيه على شفتيها، وقبلها قبلة عميقة، عاشقة، مشحونة بالحنان والشوق.
هذه المرة، لم تبادله ماسة القبلة، لكنها لم تتجمد أو تبتعد، بل سمحت لنفسها أن تشعر بدفء تلك اللحظة، مستسلمة لشغفه برقة وحنان.
امتدت القبلة بينهما بهدوء مبهم لا يعرف أهو شوق أم ذوبان، وكأن الهواء من حولهما صار أدفأ من أنفاسهما، انحنى سليم قليلا، يتتبع بأنامله ملامح وجهها، ثم أغرقها بقبلات رقيقة ساخنة متقطعة كأنها تنهيدة حب طويلة، لامست شفتيه خدها، ثم مرت على عنقها برفق يشبه الرجفة الأولى للدفء بعد برد طويل.
كانت ماسة ما تزال ممسكة بطرف الغطاء، ارتجاف خجلها ظاهر، ثم شيئا فشيئا تحركت يداها من تلقاء نفسها نحو ظهره، كأنها تبحث عن طمأنينة لم تفهمها بعد، ضمته بتأثر واستثارة متأثرة بتلك القشعريرة التي لم تفهم معناها بعد.
زدات حرارة الشوق والاستثارة بينهما، وبصوت خافت يشبه الرجاء همس سليم قرب أذنها: بحبك، وحشتيني أوي يا ماسة، وحشتيني.
فتلامست أنفاسه الساخنة ببشرتها وأشعلت دفئا خفيفا في عروقها، رفع وجهه نحوها، كفه يلامس خدها برقة، وعيناه لا تبرحان عينيها المغمضتين: أفتحي عينيك، بصيلي يا ماسة.
فتحتها ببطء، كأنها تخشى أن تهرب اللحظة، كانت نظرتها مليئه بالحياء والارتباك ووميض حب جديد.
ابتسم سليم، وهمس: وحشتني عيونك، وحشتني.
نظرت له بابتسامة خجولة، فوضع سليم قبلة على خدها، ثم على شفتيها، يقبلها برقة كأنه يتذوق اللحظة بعطش قديم، قبل أن تتحول قبلاته شيئا فشيئا إلى دفء عميق، وجنون الاشتياق، يمس قلبها قبل أن يلامس شفتيها.
كانت أنفاسها تتلاحق، تختلط بين الخجل والرغبة، بين ارتباكها ودهشتها من تلك النبضات والاستثاره التي تشتعل بداخلها دون أن تفهمها.
اقترب أكثر وأكثر، وأصبح لا يستطيع المقاومة، لم يعد يرى في العالم سوى ملامحها القريبة، وشعرها المبتل الذي يلتصق برقبتها فيثير بداخله كل ما حاول السيطرة عليه.
صار يريد أن يذوب فيها، أن يحتضنها حتى تصبح نبضه ونفسه، وكلما سمع منها تلك الأهات الخافتة التي خرجت رغما عنها، ازداد يقينا أنه لم يعد هناك مايفصله عنها سوى الهواء الذي بين شفتيهما.
شعر داخليا أن الوقت قد حان ليخطو خطوة أعمق، فرفع عينيه نحوها وهمس، وأنفاسه الدافئة تلامس رقبتها، فتشعل في داخلها حرارة غريبة تداهم معدتها، رغبة لا تفهم معناها.
قال بنغمة خافتة مازحة: قوليلي بقى، تحبي أبدأ معاكي من ليفل واحد ولا من آخر حاجة وصلنا لها؟
نظرت له ببراءة، وابتسامة خجولة ترتسم على وجهها، وهي تتساءل: يعني إيه؟
ضحك بصوت منخفض، ونظر في عينيها نظرة طويلة تذيبها: لا مادام قولتي "يعني إيه"، يبقى نبدأ من أول ليفل، وأمري لله.
أقترب منها أكثر، نظر في عينيها نظرة طويلة، وبدأ يوزع قبلاته بنعومة عاشقة؛ قبلة على عينيها، ثم أخرى على خدها، وأخرى أطول على شفتيها، قبل أن تنزلق شفتاه برقة نحو عنقها، يترك عليها أثرا من الدفء والحنين، ثم أمسك يدها وقبلها برقة، وظل يركز نظره في عينيها؛ بعينان لا ترمشان، مليئتان بالعشق والوله.
شعرت ماسة بتنفسه يتسارع حول عنقها، وارتعاش دافئ يملأ جسدها، حرارة لم تفهمها بالكامل، لكنها تخفق قلبها بعنف.
همس سليم بصوت منخفض: أنا بحبك أوي، أنتِ بتحبيني؟
ابتسمت بخجل، وعيناها تلمعان: أيوة بحبك، وبموت فيك كمان.
ارتسمت على شفتي سليم إبتسامة شغوفة، مد ذراعيه خلف ظهرها، وضمها بقوة، يحاول أن يطمئنها بأمانه وحنانه، بدأ يوزع قبلاته على رقبتها مرة أخرى، تنفسه الساخن على جلدها جعلها تذوب بين يديه، كقطعة ثلج على الجمر، وكل لحظة كانت تزيدها انجذابا وشوقا إليه، بدأت قبلاته تصبح أكثر حرارة وقوة، ثم منحها قبلة عميقة على شفتيها، جعلتها تذوب وتنسى العالم من حولها.
تبادلا القبلات والهمسات، تداخلت أنفاسهما في نغمة واحدة، وكأن العالم من حولهما أختفى، كانت أنفاسها تتسارع، وآهاتها الخفيفة تتسلل من بين شفتيها، تزيده جنونا بكل لمسة.
شعر سليم أن الوقت توقف عندها، وكل شوق خبأه لعامين أنفجر دفعة واحدة، وكأن كل لحظة تؤكد له أن الوقت قد حان للاقتراب أكثر وأكثر، شوقه إليها كان لا يحتمل، عامان كاملان لم يلمسها فيهما، لم يشارك هذا الحنين مع أي امرأة غيرها، هي وحدها كانت دواؤه وعلته، دفؤها هو الوطن الذي ظل يبحث عنه طيلة غيابه.
بدأ سليم بنزع ملابسهما بهدوء، بينما كانت ماسة ساكنة بين يديه كصلصال، تستسلم له وتستمتع باللحظة، كان يهمس لها بكلمات رقيقة، كما اعتاد، كل همسة تحمل حبا وحنانا، وكل لمسة تحمل شوقه الكبير.
كان حريصا في التعامل معها كما لو كانت ليلة زفافهما، برغم أن جسدها قد كبر ويستطيع أن يتحمل لهيب عشقه، إلا أن قلبها من الداخل ظل عاد كما كان الفتاة الصغيرة التي أحبها منذ البداية.
ورغم أنه أحيانا كان يفقد السيطرة أمام شدة شوقه، إلا إنه سرعان مايراجع نفسه، يحميها ويؤكد لها الأمان، فهي حبيبته القديمة، ويجب أن يبدأ معها كما بدأ مع مرور الأيام الأولى، بحذر وحنان، كما لو لم يمر الوقت بينهما.
بعد فترة من الانغماس في دفء اللحظة، ابتعد سليم قليلا عنها، وجهه محمر، وعروقه مازالت تنبض بإيقاع سريع لم يهدأ بعد، أما ماسة، فكانت تستعيد أنفاسها بصعوبة، وجنتاها تشتعلان، وشفتيها متورمتان قليلا من شدة القبل.
نظر إليها بابتسامة يغمرها الحنان والاهتمام والحب: حبيبتي، أنتِ كويسة؟
هزت رأسها بخجل، شفتيها ترسم ابتسامة صغيرة وهي تهمس: آه.
ابتسم بخفة، ومد يده وأمسك بكفها، وضع قبلة طويلة عميقة على باطن يدها، كأنه يشكرها بصمت، ظل ينظر إلى وجهها بعينين لا تفارقانها، ثم مال إليها وقبل شفتيها مرة أخرى، قبلة مختلفة، أهدأ، مليئة بالعشق والامتنان.
أبتعد قليلا، ثم جذبها إليه برفق، حتى استقرت بين ذراعيه، أسندت رأسها على صدره، نصف جسدها مغطى بالبطانية، بينما كان يضمها بحنان، كمن يخشى أن تفلت منه ثانية.
همس بالقرب من أذنها، بصوت خرج متهدجا، كأن الكلمات تخرج من أعماقه: أنا مش قادر أقولك، كنتي وحشاني قد إيه، ولسة وحشاني، حاسس إني مهما ضميتك، مش هشبع منك، مشتاقلك أوى يا ماسة، بس أكتر حاجة وجعاني إنك هنا، بس ذاكرتك مش معايا، كان نفسي تبقي فاكراني، علشان نحسها مع بعض بنفس القلب، بنفس الذكرى، بس المهم، كنتي مبسوطة؟
نظرت له بخجل، وابتسامة هادئة: أيوة كنت مبسوطة.
ثم قلبت وجهها بحزن: بس مفتكرتش حاجة.
هز رأسه بخفة، وابتسم ابتسامة صغيرة يغلفها الحزن، ثم وضع قبلة دافئة على جبينها: إن شاء الله، هنفتكر كل حاجة، سوا.
ظلا هكذا لدقائق، والسكون يملأ الغرفة إلا من أنفاسهما المتداخلة، كانت ماسة تشعر بدفء حضنه، وصدره الذي يرتفع وينخفض بهدوء تحت رأسها.
رفعت وجهها بخجل، تتساءل ببراءة: سليم هو إحنا عملنا كده قبل كده؟
ابتسم ابتسامة صغيرة، وأجاب بعين يملؤها الحنين: أكيد يا عشقي، عملنا كده كتير، بس المرة دي كانت مختلفة، كأنها أول ليلة بينا، سعيد بجد إنك خليتيني أعيش اللحظة دي من تاني.
نظرت له ببراءة، وهي تتساءل بخجل: يعني أنت مبسوط؟
اقترب منها، وقبل خدها برقة، وقال وهو ينظر داخل عينيها: أكيد مبسوط، يمكن أكتر من أي مرة قبل كده.
اخفضت عينيها وهي تهمس بتعب: آني حاسة جسمي مكسر، وعايزة أنام.
ضحك بخفة، ومد يده يمسح على شعرها بنعومة وحنان: طبيعي يا عشقي، متقلقيش.
قربها منه أكتر، وسحب البطانية يغطيها بيها، وقال بصوت دافئ وهو يضمها: تعالي نامي هنا، في حضني.
أسندت رأسها على صدره، وابتسمت بخفوت قبل ما تغمض عينيها، وصوته آخر ماسمعته قبل أنا تنام: نامي يا عشقي، في مكانك هنا، جمب قلبي.
قصر الراوي
غرفة رشدي، الخامسة مساء
جلس على الأريكة الهاتف بين يديه، وعيناه نصف مغمضتين، يحدق في الشاشة بتركيز يشبه من يخوض معركة مصيرية ضد الفتيات.
أخذ نفسا طويلا من السيجارة، وزفره ببطء وهو يتمتم بصوت خافت غاضب: يلا بقى نمسح البطات اللي عندي..
تحركت أصابعه بسرعة متوترة فوق الشاشة، ظهر أول اسم، فقلب وجهه بملل وقال وهو يمط شفتيه: أنتِ مينفعش أشوفك تاني أصلا.
أزاح الاسم التالي، فرفع حاجبه باستنكار ساخر: أما أنتِ، يلا أنتِ وشلتك، دليت.
ضحك ضحكة قصيرة ساخرة، كمن يعاقب نفسه أكثر مما يعاقبهن، ثم توقف عند اسم جعله يتردد، وهو يقرأ بصوت خافت فيه حنين متردد: تمارا، لا تمارا حلوة، أسيبها !؟
ثم عقد حاجبيه فجأة، كمن يحاول إقناع نفسه: لا خلاص، همسحك يا تمارا.
اقترب بإبهامه من زر الحذف، ثم تراجع بسرعة وهو يقطب جبينه، ويقول بنبرة مترددة شبه ضاحكة: لا لا، نخليها، بلاش تسرع، تمارا مزة الصراحة.
مسح جبينه بكفه، وكأن الامتحان لا ينتهي، ثم واصل وهو يمرر الأسماء بعصبية خفيفة: آيات، لا رخمة، باي باي يا آيات.
ضغط المسح بلا تردد، ثم انتقل للتي تليها: نسمة وشلتها يلا، مسح شلة شمال اصلا.
ضحك بخفوت وهو يرى القائمة تقصر، كأن روحه تفرغ من ثقل قديم، لكنه توقف فجأة عند اسم، حدق مطولا في الشاشة، وصوته خرج مبحوحا بخليط من الشوق والتعب: ماريتا آه لا، مقدرش، بس لازم أمسحك.
ظل صامتا لحظة، ثم رفع حاجبه بتردد وهمس لنفسه: بس لا، أنتِ الانتيم، للعيلة هسيبك.
عاد ليقرأ الاسم التالي بصوت أقرب للهمس: نورهان، آه يا نورهان، الواحد موصلكيش بالساهل، بس لازم أمسحك، كل مابشوفك بضعف وأنا وعدت مي اني هبقى محترم.
أغمض عينيه بقوة وضغط زر الحذف، كأنه ينتزع من قلبه خيطا قديما، ظل بعدها يمر بالأسماء بسرعة عجيبة، أصابعه تتحرك بعصبية، كأنه يريد الانتهاء من عملية جراحية في ذاكرته، وبعد دقيقة كاملة من الحذف، ألقى الهاتف فوق الطاولة، مال برأسه للخلف وزفر بعمق، ثم نظر إلى الشاشة بابتسامة نصفها نصر ونصفها ضياع، وتمتم وهو يضحك لنفسه بخفوت: تلاتة أسماء بس بقوا ماريتا، تمارا، زيزي، حلوين كفاية.
رفع السيجارة إلى فمه، أخذ منها نفسا طويلا ثم قال بصوت ساخر متعب: كده توبنا إلى الله.
فيلا سليم وماسة، الخامسه مساء
غرفة النوم
كان الهدوء يعم أرجاء المكان، لا يقطعه سوى أنفاس دافئة تعبق بالسكينة، وعلى الطاولة الصغيرة وضع الطعام الذي طلبه سليم قبل قليل، فيما جلس هو على المقعد المقابل للسرير، يراقبها بصمت هادئ، كأنه يخشى أن يوقظ حلما ناعما.
وبعد قليل، بدأت ماسة تتحرك ببطء، تفتح عينيها بتعب خفيف، وتمد يدها على الوسادة بجوارها، فابتسم سليم، واقترب منها، وما إن ألتقت نظراتها بعينيه، نظرت إليه بخجل، وارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهها، فاقترب منها بخفة، وطبع قبلة رقيقة على خدها، وقال بابتسامه: كل دى نوم!؟ قومي يلا علشان ناكل، أنا طلبتلك الأكل إللي بتحبيه.
غطت نفسها بالغطاء بسرعة وهي تقول بخجل مرتبك: طب أبعد بقى شوية عشان ألبس.
ابتسم وقال مازحا وهو مازال واقفا قريبا منها: أنتِ مكسوفة مني؟
خفضت رأسها بخجل، وقالت بخفوت: أيوة.
ضحك بخفة، وقال بنبرة مازحة فيها دفء: بعد كل ده ولسة مكسوفة؟
ازدادت احمرارا، وخفضت وجهها أكثر، وقالت بخجل متلعثم: بطل بقى، متكسفنيش.
ابتسم وهو يمد ذراعيه نحوها برفق، ثم أحاطها بكلا ذراعيه من الجانبين، وأعتلها دون ملامسه كأنه يغلق عليها العالم، كانت رأسها تميل للأسفل، فرفعت عينيها نحوه بخجل مرتجف وهمست: هتعمل إيه؟
ابتسم بنعومة وهو يهمس: هدوب الكراميل في السكر، عشان تبطلي كسوف
اقترب منها أكثر وووووو
بعد وقت.
نرى سليم يحمل ماسة بين ذراعيه وهما يخرجان من الحمام، يرتديان برانص بيضاء، وضحكتها الخجولة تملأ الغرفة، وضعها برفق على الأريكة، وظل يتأمل وجهها المضيء بإبتسامة رقيقة لا تخلو من الدفء.
قال وهو يشير للطاولة: يلا بقى ناكل، أنا جعان أوي، بدل ما أكلك أنتِ تاني، وأنا بصراحه بتلكك.
ضحكت بخجل وهي تحاول إخفاء وجهها، بينما كان هو مازال ينظر إليها بنفس النظرة، نظرة رجل وجد أخيرا سكينته.
ظل يطعمها بيده، يبادلها نظرات تفيض حبا، ويدللها كأنه يخشى أن تفلت منه من جديد، وبعد انتهاء الطعام، اقترب منها أكثر، بينهما دفء لم يعرفاه من قبل، وحنين يشتعل كلما ألتقت نظراتهما أو تلامست أيديهما صدفة، فهو لم يعد قادرا على الابتعاد عنها، وهي لم تجد في قلبها رغبة في الهرب بعد الآن، فصار الصمت لغتهما، والمكان ممتلئا بأنفاس تختلط دون كلمة.
لم يشعر بنفسه إلا وهو يطبع قبلة دافئة على شفتيها، كأنه يذوب فيها بعد غياب طويل، ثم انجرفا معا في عالم من العشق والحنين، لا يسمعان فيه سوى أنفاسهما المتلاحقة، وصوت قلبيهما المتشابك، فهو مشتاقا لها بجنون، وهي لم تمانع، بل غاصت في سعادتها كأنهما يعوضان معا سنوات ضاعت منهما، ويحاولان استرجاع ماسرقته منهما الأيام الماضية.
لم يخرجا من الغرفة تلك الليلة، ولم يعرفا كم مرة ألتقيا، ولا كم مرة تعانقت أنفاسهما قبل أن يهدأ كل شيء.
وحين تسلل ضوء الصباح من خلف الستائر، كانت ماسة ماتزال بين ذراعيه، تغفو بسلام غريب، كأنها أخيرا وجدت مأواها، لكن رغم كل الدفء الذي غمرها بيه، بقي شيء واحد لم يعد بعد، ذاكرتها...! فما زالت ماسة لا تتذكر.
مجموعة الراوى، العاشرة صباحا
مكتب طه
طه جالسا خلف مكتبه، يتحدث مع ابنه مراد بهدوء وهو يشرح له بعض التفاصيل عن العمل، كان مراد يصغي باهتمام، يحاول أن يظهر جدية الرجل الكبير، بينما يدون ملاحظات صغيرة في دفتره، وبعد دقائق، فتح الباب ودخلت منى بخطوات واثقة وابتسامة راضية: أيوة كده، منظركم يسعد القلب.
جلست على المقعد المقابل لمراد، وقالت وهي تنظر له: ها يا مراد، عامل إيه في الشغل؟
مراد بإبتسامة بسيطة: الحمد لله، النهاردة لفيت على الورش كلها.
مالت منى للأمام قالت بنبرة حازمة: بقولك إيه، أنا مش عايزاك تسيب ياسين لحظة واحدة، ياسين شاطر، ومادام سليم سايبله الجمل كده، يبقى فاهم كويس إن ياسين ينفع يبقى ولي العهد الجديد، حتى رشدي، أفهم منه إزاي هياخد المناقصة، رشدي ذكي، وهيعرف ياخدله مكان عند العيلة.
طه بنبرة هادئة:منى، سيبي مراد، هو بيتعلم، بالراحة عليه.
قالت وهي ترفع حاجبها: هو أنا قولت حاجة؟ أنا بقول يتعلم من عمامه، فين المشكلة في كده؟ وسليم لما يرجع، أوعى تسيبه في أي اجتماع أو شغل، مشوفكش بتقوم من مكتبه، فاهم؟
هز مراد رأسه بإيجاب: حاضر، هعمل كده.
تابعت وهي تميل على الكرسي بثقة: دي فرصتك، وسليم مش موجود، ظبطله شوية حاجات سايبها، وأرجعلي أنا وبابا لو فيه حاجه وقفت قدامك، ولازم تقرب كمان من الباشا الكبير، والهانم.
طه وهو ينظر إليها بنظرة نصف ساخرة: يعني أنتِ مش سايبة له حد مقعدش معاه غير عماته؟
منى بإبتسامة خفيفة وفيها لمحة خبث: تقصد فريدة؟ هيتعلم منها ايه؟! وصافيناز خلاص، خدت الكارت الأحمر.
التفت طه إلى مراد وقال بجدية أبوية: سيبك من أمك، وركز في شغلك، مش عيب تتعلم من عمامك أنا بقولك ياسين فعلا شاطر، وسليم مفيش جدال طبعا، وأنا أعتقد علاقتك كويسة بيهم، وهكون مبسوط لو فضلت قريب من جدك، بس أوعى، أوعى تدخل في الصراعات على الكرسي.
ثم وقف وألتقط بعض الأوراق من المكتب، وقال بضيق وهو يوجه حديثه لمني: عندي اجتماع، هروح أحضره، وخفي شوية علي الولد.
تركهم وغادر المكتب بهدوء، تابعت منى تحركاته بعينيها حتى أغلق الباب خلفه، ثم تمتمت لنفسها بخفوت فيه نبرة سخرية "سلبي"
ألتفتت إلى ابنها، ونظرتها صارت أكثر حدة، وصوتها منخفض لكن ثابت: بقولك إيه يا مراد، سيبك من باباك، هو عنده حق، الكرسي بعيد عنك فعلا، محدش هيقعد عليه غير سليم الموضوع محسوم من بدري..
ثم أضافت بمكر وخبث وطمع: بس إيه المشكلة لما تبقى ذراعه اليمين؟ تفهم منه، وتقربله، خصوصا إن سليم معندوش ولاد، ومبيخلفش.
اقتربت منه وقالت بنبرة أعمق، كأنها تروي سرا بشيطانية: وحتى لو خلف بعد كام سنة، ابنه هيبقى صغير، وأنت هتكون خلاص خدت مكانك أوعى تفضل تابع وترضى بلقمة في الرغيف زي طه، أديك شايفه، زيه زي أي موظف هنا، الكلمة الأولى والأخيرة لسليم، وبعده ياسين، تحب تفضل تقول "حاضر ونعم"، وتعيش على الفتات؟ ولا تاخد الرغيف كله؟
مراد بصوت هادئ لكنه متردد: أكيد أرضى بالرغيف، بس أنا فعلا مش عايز أخش في مشاكل.
ابتسمت بخبث وهي تهز رأسها: ما أنا بقولك، إحنا مش هنخش في مشاكل أنت هتقرب من سليم، تبقى دراعه اليمين، وتخليه هو بنفسه يقولك: "إنت ولي العهد بتاعي، أنت ابني إللي مخلفتوش.
ضحك مراد بخفة، لكن منى قطعت ضحكته بعينين لامعتين: متضحكش كده، سليم لو كان جاب ابن من أول ما أتجوز ماسة، كان زمان ابنه دلوقتي عنده تسع سنين، ولو كانت بنته عايشة، كانت زمانها عندها خمس سنين ونص والسنين بتعدي، بس هو دلوقتي مفيش حد جنبه أنا عايزاك تقرب منه لحد ما هو بنفسه يقولك " أنت ابني إللي ربنا مكرمنيش بيه" فاهم يا مراد؟
هز مراد رأسه بالإيجاب، صامتا، بينما عينيه تلمعان بخليط من الطموح والارتباك.
مكتب رشدي
كان يجلس خلف مكتبه، يراجع بعض الأوراق بعناية شديدة، قلمه يتحرك فوق السطور بإمضاء سريع، ثم يعود لينتقل إلى ورقة أخرى، كانت عيناه الثابتتين وملامحه المشدودة تنطق بتركيز عميق، جلس إلى جواره أحد المديرين يتحدث معه، بدا النقاش حادا ومتوترا يبدو أن هناك معضله ولا يستطيعون التوصل فيها لحل وسط، فزفر رشدى بتعب: طب لم الأوراق وروح دلوقتي، وفكر تاني في حل، لحد ما اعمل اجتماع مع باقي المهندسين ونشوف أفكارهم.
جمع الرجل أوراقه وغادر المكتب بخطوات سريعة، وما إن فتح الباب حتى وجد سليم أمامه يدخل بخطوات واثقة، وعلى وجهه ابتسامة جانبية خفيفة توحي بالثقة والهدوء.
فقال وهو يمر بجانبه: أهلا يا سليم بيه.
أومأ سليم برأسه بتهذب، واكمل خطواته للداخل وهو يقول بنبرة ودودة: صباح الخير يا رشدي، عامل إيه؟
رفع رشدي نظره عن الأوراق لحظه، ثم خفضها ثانيا وهو يقول بفتور ونبرة ساخره، وعيناه لا تفارقان الأوراق أمامه: الأمير الصغير جاي مكتبي بنفسه، عاش من شافك، أخيرا ظهرت.
اقترب سليم وجلس أمام المكتب، وهو يقول بابتسامة خفيفة: أهو يا سيدي، كنت بمضي شوية أوراق مهمة، قولت أعدي عليك قبل ما أمشي، واشوفك وصلت لإيه؟
اتكأ رشدي إلى الخلف في مقعده، شبك أصابعه فوق المكتب، ونظر له بنظرة متفحصة فيها قدر من التحدي: وأنت عايز تعرف ليه؟
مال سليم برأسه بخفة، نبرته فيها مزيج من الصبر والود: يعني عشان لو محتاج حاجة أساعدك.
نظر له رشدي من أعلى لاسفل، وقال بنبرة لازعه: وتساعدني ليه؟! حد قالك عليا نوغه؟! ولا علشان سليم باشا الملك المنتظر لازم يحط بصماته في كل مشروع، مهو أنت بس اللى بتفهم واحنا اغبيا مبنفهمش، وعلى العموم متشكرين لخدماتك، مش محتاج رأيك في حاجه، أنا هشتغل لوحدي وهكسبها لوحدي، وهثبتلك أنت والباشا إن رشدي يقدر ياخد مشاريع كبيره ويخلصها.
ضحك سليم وضرب كفا على كف، وهو يهز رأسه بيأس: لا لا، أنت حالتك بقت صعبة يا رشدي، أنا بس كان نيتي اساعدك لو حاجه واقفه قدامك؛ لاني عندي خبرة عملية أكتر منك.
ضحك رشدي ضحكة قصيرة جافة، رفع قلمه وهو يشير نحوه: أنا لو محتاج مساعدة، أنت هتبقى آخر واحد ممكن ألجأله، وأنت عارف كده كويس، أنت بس عايز تعرف عشان لما أخلص وأكسب تقول إنك السبب اني افوز بالمناقصة، وتثبت للباشا إن من غيرك مكانش المشروع تم، بس أنا مش هديك الفرصة.
نهض سليم من مكانه ونظر إليه بنظرة فيها مزيج من الأسف والياس: اعمل اللي يريحك، اتمني لك التوفيق يا رشدي.
ثم استدار متجها نحو الباب، تابعه رشدي بعينيه، وهو يقبض على قلمه بعصبية، عض على شفته السفلى بتفكير، كان في داخله صراع عنيف بين غروره ورغبته في النجاح، فسليم محق هو لديه خبره كبيره في هذا المجال.
تردد لحظه، ثم رفع صوته بنبرة حادة يخالطها التردد: طب استنى؟ أنت ما بتصدق.
توقف سليم في منتصف الطريق، وابتسمت على شفتيه نصف ابتسامه جانبيه، التفت نحوه ببطء، على وجهه ابتسامة هادئة، وفي عينيه لمعة ممتزجة بالتعب من جنون رشدي، زفر زفرة طويلة: خير؟
أشار له رشدي بيده وهو ينهض من خلف المكتب: تعالى بس، نقعد ونتكلم بلاش قفش.
عاد سليم بخطوات هادئة، جلس من جديد وأسند ذراعه على طرف المكتب: سامعك، قول.
حرك رشدي رأسه بتردد، ثم بدأ ينقر بأصابعه على سطح المكتب: بص، أنا مش هحكيلك كل التفاصيل، بس عايزك تجاوبني على حاجة، هي المناقصة دي عشان نكسبها، الطبيعي أي عرض إحنا هنقدمه، غيرنا هيقدمه؟ فلازم يبقى عندنا حاجة مميزة!
أومأ سليم برأسه، وعيناه تتابعان كل حركة لرشدي: مظبوط.
اشار رشدي بيده بعصبية خفيفة: طيب، التكلفة وشكل المباني والسرعة في التنفيذ، دي كلها أساسيات، أكيد الكل هيعملها، صح؟
انحنى سليم قليلا للأمام، نبرته هادئة لكنها حازمة: أكيد، الدولة هتختار أقل سعر مع أفضل تصميم هندسي وأسرع تسليم.
ضحك رشدي ضحكة قصيرة وهو يميل برأسه ناحية سليم: والموضوع ده ميمشيش بالشاي بالياسمين عشان اخدها؟ بص أنا قعدت مع المهندسين واتناقشنا، وخلصنا جزء كبير من التصاميم واتفقنا على تسليم 50% منها بعد سنه من البدء، وممكن أخلص في وقت أقل بس أنا قولت أدي لنفسي سنه مساحه...
هز سليم رأسه بايجاب، وانبهار من طريقه رشدي، ثم تابع رشدي بشيء من التوتر: بس أنا خايف شركه تانيه تقدم عرض احسن مننا فنخسرها، فقولت يعني الموضوع ده ممكن نعديه بالرشوه، أنت ايه رأيك؟!
ابتسم سليم بخفة، رفع حاجبه وهو يرد بعملية وعقلانية: الموضوع ده حتى لو قدمت أسوأ تصميم هتعدي، اسمك لوحده يكفي، بس يا رشدي أنت عايز تمشيها كده؟ ولا عايز تبقى ناجح بجد؟
اقترب بجسده للأمام، وصوته أصبح أعمق: صدقني، إنك تكسب المناقصة دي أسهل حاجة اسم "رشدي الراوي" يخليك تكسب أي حاجة، وفلوسك هتفتحلك كل الأبواب المغلفة، بس النجاح الحقيقي في اللي بتقدمه بإيدك، أنت عايز إيه؟ عايز تكسب الصفقة وبس؟ ولا عايز يبقى ليك اسم في السوق الناس تخاف منه من غير "الـ راوي" اللي بيسهلك الطريق؟
ظل رشدي صامتا لثواني، نظراته تتنقل بين وجه سليم والأوراق أمامه، ثم قال بصوت منخفض متردد: عايز أكسبها، ويكون ليا اسم.
ابتسم سليم بخفة، وأمال رأسه للأمام، صوته فيه دفء وتشجيع: يبقى حاول تقدم أحسن حاجة عندك، وممكن كمان تزود عليها حاجة تبهرهم، خليك مبتكر.
صمت لحظة، أطرق بنظره كأنه بيجمع أفكاره، ثم رفع يده لذقنه، حركها ببطء بحركة فيها دهاء وتأمل: يعني مثلا، شوف الأماكن اللي محدش بيبصلها، زى العالمين وسيوة وغيرهم، الأماكن دى ممكن تتحول لأماكن جذب استثماري وسياحي، لو بس اتوفر لها بنيه تحتيه مناسبه، وشبكة طرق تسهل الوصول ليها، ابهرهم بفكره برا الصندوق بعيدا عن حل أزمة المرور وحول التراب لدهب يا رشدي.
رفع نظره نحوه بعينين فيها لمعة حماس: الدولة عايز تزود الجذب الاستثماري والسياحي في البلد الفترة الجايه علشان تحل مشكلة الدولار، فأنا كمستثمر إيه اللى يخليني ادفع فلوس في مشروع ضخم في منطقه الناس مش هتعرف توصلي فيها أصلا؟!
مد سليم يده للأمام وهو يشرح بحماس هادئ، صوته بقى أكثر تركيزا: انت بقى لو قدرت ترمي بذرة وعملت شبكه طرق تربط الأماكن دى بالقاهره، هتخلي عيون المستثمرين تلمع وهيبقوا بيتصارعوا علشان يعملوا شراكه مع الدوله لاستثمار في الأراضي دى، ودى بالتبعيه كمان هيساعد الدوله تقلل نسبة البطالة اللى زادت، وتضمن مليارات تدخلها من أراضي كانت عبارة عن شويه رمله ملهمش لازمه، تفتكر أنت لو قدمتلهم رؤيه بالشكل دى هيبقي فيه نسبة ولو ضئيلة إنك تترفض أو تخسر؟!
أومأ رشدي ببطء، وجهه بدأ يكتسب ملامح اهتمام حقيقي، صوته خرج متفكرا: يبقى أنا لازم أوفر وسيلة تخلي الناس توصل أسرع لأماكن دى.
أشار سليم بيديه بتأكيد، وهو يميل للأمام بخفة: بالظبط، خطة الدولة أصلا هي تطوير الطرق والكباري لحل أزمة الزحمة والمرور، فأنت لو ضفت بند في العرض بتاعك إنك هتربط القاهرة بالأماكن اللى محدش حاطط عينه عليها، يبقي أنت كده بتلعب صح.
ثم مال على الكرسي، رفع حاجبه وهو يكمل: ويا سلام بقى لو دخلت كمستثمر عقاري في أرض من الأراضي دى بالشراكة مع الدولة وتبني عليها مدينة سياحية، هتاخد الأرض بأقل سعر بس هتطلعلك بعد كده مليارات، أراضي الساحل لسه فيها مساحات فاضية كتير، خصوصا ناحية العالمين.
ثم انحنى للأمام، نظره أصبح أكثر جدية وخبث رجل اعمال داهيه مخضرم: يعني أنت مش بس هتخلي البلد تستفيد، لا احنا كمان هنستفيد، وساعتها، هتقدر تقول للباشا بثقة: أنا كسبت المناقصة، ومعاها كمان اتعاقدت علي شويه مشاريع استثمارية هتكسبنا مليارات من مفيش.
رفع رشدي نظره نحوه، وملامحه بدأت تلمع بالإعجاب، صوته خرج أقرب للهمس: يخربيت دماغك دي فكرة عبقرية
صمت لحظه، ثم قال وهو يرفع نظره نحو سليم: طب بقولك إيه، لو أنا عرفت الشركات اللي داخلة المناقصة، واشتريت معلومات عن العطا بتاعهم دي تبقى حركة ذكية؟ يعني أعرف على الأقل بيفكروا في ايه.
هز سليم رأسه بهدوء، وهو يضحك بخفة: هما كمان هيحاولوا يشتروا ناس من عندك علشان يعرفوا معلومات عن العطا بتاعك، أنت ممكن تعمل زيهم، بس لو تسمع رأي؟ بلاش، ركز في ورقك، وخلي بالك من الناس اللى شغالة معاك، وحافظ على سرية أفكارك، وأنا متأكد إنك هتاخدها.
صمت رشدي لحظة، ونظر له نظرة ممتنة لكنها متحفظة: ماشي هعمل كده فعلا، وحالا هجتمع مع المهندسين علشان نتناقش في الفكرة الجديدة، واللى فيهم هينجز في التصاميم هصرف له مكافأة كبيرة، وكل ما يزيد ابتكار التصاميم تزيد المكافأت.
أومأ سليم برأسه، ثم نهض، وهو يعدل جاكيت بدلته: تمام، ولو احتاجت حاجة تاني ابقي كلمني.
اومأ رشدى برأسة، ثم تساءل: هتيجي الخطوبه؟!
نظر له سليم بابتسامة: اكيد هاجي وهجيب ماسة معايا كمان، سلام.
هز رشدي رأسه بإيجاب واستخفاف من ذكر مجيء ماسة،
غادر سليم بخطوات ثابتة، بينما ظل رشدي جالسا في مكانه، ينظر خلفه بتفكير عميق، يعبث بقلمه في يده، وصوت سليم مازال يتردد في ذهنه "عايز تكسب وخلاص، ولا تبقى ناجح بجد؟
فيلا سليم ماسة، الثانية ظهرا
نرى ماسة تجلس على الأرجوحة، وتبدو متذمرة بعض الشيء، وبعد قليل دخل سليم، اقترب منها، وانحنى ليضع قبلة على خدها، وهو يردد بابتسامه: وحشتيني
عقدت حاجبيها، وابتعدت قليلا، وهي تتمتم بغضب: لا، آنى زعلانة منك.
اتسعت عينيه، وهو يتساءل بدهشه، ويجلس الكرفصاء أمامها: ينهار أبيض، ليه كده؟
ماسة بتزمر: عشان قولتلى هتروح الشغل شويه ومش هتتاخر، وبعدين قعدت كتير في الشغل وسايبنى قاعدة لوحدى.
قبل كفها بلطف: حقك عليا، بس كان عندى شغل مهم لازم أخلصه.
تساءلت بتذمر طفولي: وأنت كل يوم هتتأخر كده؟
أجابها بابتسامه: لا، مش هتاخر عليكي تاني.
ربعت يديها بغضب طفولي: برضه زعلانه منك وهخاصمك 3أيام
ابتسم وأدخل يديه في جيبه، واخرج قالب شوكولاتة كبير، وهو يردد بخبث وأسف مصطنع: لا طالما مخصماني 3أيام يبقي كده هضطر أكل الشيكولاته لوحدى، مع إني كنت جايبهالك بس خلاص بقي أنتِ زعلانه.
أخذتها منه بفرحة طفولية: لا خلاص مش زعلانة، صالحتك.
ثم طبعت قبلة على خده، وهي تنهض: هقوم أسخنلك الغدا، عقبال ما تاخد حمام.
كادت أن تغادر، لكن فجأة حملها بين ذراعيه، فصرخت بدلال: بتعمل ايه؟!
ضحك وهو يتحرك نحو الفيلا: حاسس إنك لسه زعلانة، فمحتاج أصالحك بطريقتي.
لوحت بيدها، وهى تضحك وتحاول الافلات منه: لا اتصالحت، نزلني.
اجابها ضاحكا، وهو يحكم ذراعيه حولها: لا لسة زعلانه، أنا عارف.
دخل الفيلا، وصعد الدرج حتى وصل إلى الغرفة، ليتنفس عطر عشقها، فتسكن الأصوات، ويصمت الكون، كأن اللحظة تقدس بعشقهما.
وبعد وقت.
جلس سليم على طرف الفراش، ممسكا بمجفف الشعر، بينما كانت ماسة تجلس على الأرض أمامه بين قدميه، ترتدي قميص نوم باللون الابيض، وعيناها نصف مغمضتين، والدفء المتصاعد من المجفف يحرك خصلات شعرها في انسياب هادئ.
بعد دقائق أغلق المجفف، ومرر أصابعه بخفة بين خصلاتها، فألتفتت له تمسك بيده وتقول بإبتسامة صغيرة: شكلك بتستمتع أكتر مني.
ضحك سليم بخفوت، ونظر داخل عينيها، وهو يمرر أنامله على وجنتيها: طبيعي، أميرة قلبي وروحي قدامي.
ضحكت بخجل، ثم جلست بجانبه على السرير، فاقترب منها وقال بصوت هادئ: على فكرة بكرة خطوبة رشدي.
رفعت ماسة حاجبها بدهشة: بجد؟! آنى مش عارفة أخوك ده إزاي هيخطب أصلا!
هز سليم كتفيه مبتسما: يا ستي ربنا هداه، المهم هتيجي معايا؟
اخفضت عينيها بتوتر: نفسي أجي، بس خايفة.
مال نحوها متعجبا بحنان: خايفة من إيه يا روحي؟
ماسة بصوت خافت بتوتر: خايفة أشوفهم، آني متعودة لما بشوفهم كنت بنخدمهم، دلوقتي أنت فهمتني إني مراتك، فخايفة معرفش أتعامل معاهم، وأكيد هيتنقورا عليا علشان طريقتي في الكلام، فروح أنت وانبسط، وأبقى تعال أحكيلي.
أمسك بيديها وضغط عليهما بحنان: أنا حابب إنك تبقي معايا، وإذا كان على طريقة الكلام، بسيطة، هنتدرب على شوية كلمات ومتقوليش غيرهم.
تساءلت وهي تبتسم بخفة: هنتدرب على كلمات أزاى يعني؟
ضحك وهو يرفع سبابته كأنه يشرح درس: منقولش غير خمس كلمات: "الحمد لله، شكرا، حاضر، تمام، إزيك" وأي حاجة تانية؟ نسكت.
ضحكت بخفة: أزاى يا سليم مينفعش، أفرض حد سألني سؤال فيه كلام وحكاوى ياما، مردش عليه أزاى، عيب.
ضحك بخفه، وقال محاولا اقناعها: ياستي اعتبرى نفسك صايمه عن الكلام، مش أنت بتصومي في رمضان عن الأكل والشرب، أهو أنا عايزاك بكره تصومي عن كل الكلام الا ال 5 كلمات اللى اتفقنا عليهم، وتقفي جنبي، متتحركيش، والأهم من كل ده..
أقترب منها أكثر، وقال بجدية: أي حاجة نفسك فيها، حتى لو كوباية ميه، تطلبيها مني أنا، متشربيش حاجه هناك.
تساءلت، وهي تنظرت له بإستغراب: وده ليه إن شاء الله؟
مال عليها بخبث محبب: قولي حاضر.
قلبت ماسة شفتيها: طب ما آني عايزة أفهم، هو آني حمارة؟
ضحك ومرر أصابعه على شعرها، وهو يقول بمهاوده: لا يا عشقي، أنتِ مش حمارة، بس نسمع الكلام ونقول حاضر.
نظرت له بفضول طفولي:حاضر، بس فهمني.
ضحك وأمسك ذقنها بمداعبة: ماسة، إحنا بنسمع الكلام ونقول إيه؟
قلبت وجهها وهي وترد بخضوع طفولي: حاضر.
ضحك وقرصها من خدها بمداعبة: متقلبيش وشك كده، وأضحكي يلا.
ضحكت بخجل، ثم قالت بصوت مبحوح: آني بحبك أوي يا سليم.
نظر إليها بعينين تمتلئان بالعشق، وضمها إليه بقوة، وهو يهمس قرب أذنيها: وأنا بموت فيكي.
رفع رأسه قليلا، وعيناه تتشبثان بعينيها اللتين طالما سكنهما عشقه، وبينما كانت تغرق في نظرته بذلك الشغف الخجول، اقترب أكثر، وطبع على شفتيها قبلة امتزج فيها الحنين بالسكينة، ثم تحولت شيئا فشيئا إلى قبلة عاشقة دافئة، وانغمسا معا في بحر من العشق، كأن الزمن توقف عند أنفاسهما، وتلاشى العالم من حولهما، فلم يبقَ فيه سواهما؛قلبين يكتشفان بعضهما من جديد.
اليخت المملوك لعائلات الراوي_العاشرة مساء
تعالت الموسيقى، وتراقصت الأضواء الملونة على صفحة النيل، فيما كانت الضحكات الصاخبة تملأ المكان، فتيات وشباب يرقصون بجنون، والكؤوس ترفع، والنبيذ يتطاير في الهواء كأنها لحظة بلا وعي.
كان رشدي في المنتصف، جسده يتمايل مع الإيقاع، يضحك ويصفق، وعيناه تتجولان بين الوجوه؛ نصفهم لا يعرفهم، لكن لا يهم، فهذه الليلة للاحتفال، وتوديع العزوبية.
أقترب منه سامح، وهو يمسك بكأسه ويقول بإبتسامة ساخرة: إيه يا رشدي، مش كنت رافع شعار "لا للسهر" وبتقول خلاص بطلت، وداخل على حياة جديدة ومشروع والكلام ده؟
ضحك رشدي وهو يهز رأسه، ويرد بطريقته المعهوده: دي حاجة ودي حاجة، وبعدين بلاش فصلان متخلينيش أرميك في النيل! ده أنا معزمتش زيزي مخصوص علشان مسمعش الكلمتين دول..
وأضاف بتبربر لنفسه قبل سامح: وبعدين أنا بحتفل بآخر ليلة في السنجله، ومشربتش غير كاس واحد بس، ولسة في الوعي أهو!
ارتفعت الضحكات واشتد صخب الموسيقى، وتراقصت الأضواء الملونة على وجه رشدي، فاقتربت منه فتاة ترقص بخفة، وضحكتها العالية اخترقت أذنه، فبادلها رقصة قصيرة، ثم انسحب مبتسما، وقد بدأ يشعر بالألم يتسلل إلى رأسه، والخدر يسري في جسده.
دخل غرفته في آخر اليخت، أغلق الباب، ووقف أمام المرآة، يمرر يده في شعره، أخذ نفسا عميقا، وقال كأنه يبرر لنفسه بصوت مبحوح: هو نفس واحد صغير علشان مش طالبه صداع وتعب النهارده.
أخرج الطبق الزجاجي من الدرج، وضع عليه البودرة بعناية، ثم إنحنى وأخذ أنفاسا بطيئة متتابعة، ثم أغمض عينيه، وشعر بالحرارة تسري في جسده، ضحكة صغيرة خرجت منه دون وعي، كأنها ارتياح بعد عذاب طويل.
وبينما هو غارق في نشوته، سمع أكرة الباب تغلق من الداخل، ففتح عينيه ببطء، وإذا بنورهان تقف عند الباب، ترتدي فستانا ضيقا باللون الأحمر، ونظرتها تحمل من الجرأة ما يكفي ليوقظ كل ما حاول كبحه في الشهور الماضيه.
اقتربت منه بخطوات بطيئة، ونظراتها تلتهم رجولته ألتهاما، خرج صوتها ناعما كخيط دخان: إيه يا رشروش، بقالك كتير أوي بعيد، إيه موحشتكش؟!
بلع ريقه، وحرك عينيه بعيدا عنها، كأنه يبحث عن مهرب: أنا خلاص هخطب وهتجوز.
ضحكت بخفة، وعيناها تلمعان بمكر أنثوي: طب بما إنك هتتجوز، نعتبر النهارده آخر ليلة في كل إللي فات، مش كده يا رشروش؟
تنهد وصوته بدأ يرتجف رغم محاولته للتماسك: عارفة يا نورهان، أنا مسحت رقمك علشان كده! وسامح ده حيوان علشان جابك أصلا.
ضحكت ضحكة جعلته يذوب كثلج وهي تتقدم خطوة نحوه ببطء، تحاول ان تذبب رجولته قالت بدلال يثيره: أخص عليك يا رشوش، يعني نونه موحشتكش؟
أرتبك وتراجع خطوة للوراء، وصدره يرتفع بإنفعال: يا بنتي أبعدي عني، أنا خلاص مش عايز أرجع تاني!
اقتربت أكثر، حتي أصبحت المسافة بينهما لم تعد تقاس بخطوات، وضحكت ضحكه عالية اخترقت أذنه كطعنة ناعمة، وعيناه لم تعودا قادرتين على مقاومة نظراتها المغرية، اقتربت أكثر بنظرات أكثر حرارة وهي تلمس بأظافرها على صدره بإستثارة تحاول تذبب رجولته: وحشتني يا رشروش
في تلك اللحظة، شعر أنه غير قادر على الصمود أكثر من ذلك، كأن كل وعوده تبخرت أمام عينيها، فضمها بخشونة وقبلها قبلة عميقه حاره ووووو
وأثناء ذلك، قام أحد الحراس بأخذ بعض الصور خلسة لرشدي وهو يرقص مترنحا تحت تأثير السكر، وعندما رأى نورهان تدخل الغرفة تسلل نحو النافذة الصغيرة وواصل التصوير دون أن يشعر به أحد، وأرسل المقطع سرا إلى شخص ما.
اليوم التالي
على الفراش، كان رشدي مستيقظا، يحدق بصمت في الفراغ، وجسده نصف مغطى بالملاءة البيضاء، إلى جواره كانت نورهان نائمة، شعرها منسدل على الوسادة، وظهرها عاري، في مشهد يبرز بوضوح ما حدث بينهم الليله الماضيه.
أغمض عينيه لثانية، ثم فتحهما وهو يزفر ببطء، صوته الداخلي يهمس له باللوم، وكل نبضة في صدره تذكره بخيانته لمي، وبأن ما فعله لا يمكن تبريره.
رن الهاتف فجأة، كأنه صفعة، مد يده ببطء، رأى الاسم على الشاشة "مشمش" ارتبك، وألتفت ناحية نورهان النائمة، ثم نهض بتوتر، ألتقط بنطاله من الأرض وارتداه على عجل، وأتجه إلى الحمام بخطوات حذرة.
أغلق الباب خلفه، وقف أمام المرآة للحظة، ثم ضغط زر الإجابة، وهو يقول بهدوء مصطنع: أيوه يا حبيبتي.
جاء صوتها من الطرف التاني مليء بالقلق والحنان: أنت فين يا رشدي؟ بكلمك من امبارح مش بترد، قلقتني عليك.
ابتلع ريقه، وزاد شعوره بالذنب، فأجاب بصوت منخفض: كنت سهران مع الشباب، ونمت في اليخت.
صمت قصير، بعده جاء صوتها بنبرة فيها خيبة خفيفة: وطبعا شربت!؟
ضحك بخفة، وهو يحاول التبرير لنفسه قبلها: هما كاسين يا مي، ده أنا بقالي أسبوعين مشربتش ولا كاس.
مي بهدوء حزين: طب أنكد عليك دلوقتي وأقولك مفيش خطوبة؟
رشدي بنبرة مبحوحة، وهو يمسح وجهه بإيده: أحترمي صراحتي معاكي يا مي، أنا قولتلك إني هتغير، بس التغيير بياخد وقت.
ردت وهي تتنفس ببطء: بس أنت ضايقتني، عموما أنا شوية وهاجي القصر، الميك أب آرتيست اتصلت بيا وقالت إنهم جايين القصر.
تنهد بتعب: ماشي ياحبيبتي، أعدي عليكى أخدك وأنا مروح؟
تنهدت بثقل: لأ، هاجي مع صحابي ومرات أخويا.
رد بسرعة، كأنه يحاول الهروب: طب ماشي، باي باي ياعروستي.
أنهى المكالمة وهو مطأطئ الرأس، وقف أمام المرآة، نظر إلى وجهه المرهق، حدق في ملامحه كأنه يواجه شخصا غريبا، ثم تنفس بعمق وقال لنفسه بصوت منخفض خافت: هي جت كده بقى، ومش هكررها تاني.
ثم عاد إلى الغرفة، أرتدى قميصه، وألقى نظرة سريعة على نورهان النائمة، فاتجه نحوها وايقظها بضيق، غادرا المكان معا في صمت ثقيل، والنيل في الخلفية يعكس وجوههما المتعبه، كأنه يسخر من وعود لم تحفظ.
في الجهة الأخرى.
كانت مي تقف في شرفة غرفتها، تنظر إلى الشارع بعينين شاردتين، هاتفها مازال في يدها، وصوت رشدي يرن في رأسها رغم انتهاء المكالمة.
دخلت تقى -زوجة أخاها- وهي تقول بمزاح: مسهمه ليه؟ بالذمة دى منظر واحده خطوبتها النهارده؟!
ألتفتت لها بإبتسامة باهتة: متضايقة شوية يا تقى، رشدي قالي إنه شرب إمبارح في السهرة.
رفعت حاجبها، وقالت بنبرة واقعية: ده شيء متوقع يا مي، هو قالك حقيقته من الأول، وأنتِ اختارتي، زعلانة ليه دلوقتي؟
نظرت لها مي بحزن وصمت، فاقتربت تقي وربتت على كتفها بلطف، وتساءلت: هو إللي قالك ولا أنتِ عرفتي لوحدك؟
هزت رأسها موضحة بحزن: لا، هو إللي قالي.
ابتسمت تقى وهي تقول بعقلانية: طب كويس إنه صريح معاكي، متزعليش منه كان ممكن يكذب أو يخبي وميقولش، فكون إن هو صريح معاكي دى حاجه كويسه، خليه على راحته، وإن شاء الله واحده واحده هيبطل خالص.
ابتسمت مي ابتسامة صغيرة، وقالت وهي تلتقط نفسا طويلا: ماشي يا تقى، يلا نجهز بقى، عشان الميك أب آرتيست قربت تيجي.
ضحكت تقى وقالت وهي تسحبها من يدها: تعالي يا عروسة، أفطري الأول علشان اليوم طويل، وبعدها نلبس ونروح القصر.
خرجتا معا من الغرفة، والهواء في الشرفة ظل ساكنا، كأنه يحتفظ بأثر تلك الهمسة الحزينة التي لم تقال.
........
فيلا ماسة وسليم، السادسة مساء
في الغرفة.
كان صوت الماء المنهمر من خلف باب الحمام يملأ الغرفة، بينما جلست ماسة على طرف الفراش، ترتدي برنص أبيض، حولها تناثرت عشرات الفساتين، ألوانها تتداخل كألوان الورد، لكنها ظلت عاجزة عن اختيار واحد منها، وعينيها تلمعان بدموع صغيرة كأنها طفلة تائهة لا تعرف ماذا ترتدي.
وبعد قليل، خرج سليم من الحمام وهو يلف منشفة حول خصره، ويجفف شعره بمنشفه أخرى، وقعت عينه عليها، فنظر لها بإستغراب، وتساءل بدهشة: أنتِ بتهزري يا ماسة؟ كل دى ملبستيش؟
رفعت رأسها إليه، وخرج صوتها بخفوت فيه دلع وارتباك: مش عارفة ألبس إيه كلهم حلوين!
نظر إلى الفساتين بتمعن كأنه يختار جوهرة، وقال وهو يمد يده نحو واحد منهم بالون الأسود: ده حلو.
هزت رأسها بسرعة: لأ مش حلو.
ابتسم بإصرار: جميل يا ماسة والله، حلو ده.
نظرت له بعينين مترددتين: يعني بجد ألبسه؟
ضحك بخفة وهو يقرصها من أنفها بدلع: اه ألبسيه، يلا خلصي.
تنهدت بابتسامة مشرقة، ثم نهضت تتحرك ببطء نحو غرفة الملابس، وبعد لحظات، جلست أمام المرآة، وتركت شعرها ينسدل على ظهرها، ثم جمعته في شكل تاج بسيط، وضعت قليلا من أحمر الشفاه، وزينت خديها بلون وردي خفيف، ورسمت عينيها بخط أسود رفيع، فبدت جميلة بطريقتها الهادئة، جمال لا صخب فيه، بل سحر ناعم.
فتحت درج العطور، وأخذت تشم زجاجة تلو أخرى، وتضحك بخفوت كأنها طفلة تلعب، ثم بدأت ترش من كل العطور.
خرج سليم من غرفة الملابس مرتديا بدلته الأنيقة، بدا كالقمر في ليلة مكتملة، وقف خلفها يتأملها عبر المرآة، وقال بصوت خافت يحمل غزلا ناعما: إيه الجمال ده؟
ألتفتت إليه بخجل، ووقفت تتساءل بابتسامة خجولة: بجد شكلي حلو؟
أقترب أكثر حتى توقف أمامها مباشرة وهو ينظر داخل عينيها بعشق لا يوصف ممزوج بغزل: قمر...
مسح بأنامله على شعرها هو يمرر عينه عليها، وقال بإستغراب: رجعتي تعملي التسريحة دي تاني؟ والميك أب ده؟! كنتي بطلتي تعمليه من زمان، من بعد الحادثة تقريبا.
نظرت له بتعجب: غريبة مع إني بحبها !
هز رأسه بإبتسامة حالمه: وأنا كمان بحبها، بس ممكن نغير حاجات بسيطة.
أقترب منها، أمسك منديل ومسح برفق أحمر الخدود، فأعترضت بسرعة وهي تزيح يده بخفة: متعملش كده! أنا حاطة حبة صغيرين.
ابتسم بخبث لطيف: أنا أصلا مبحبكيش تحطي ميك أب، وبعدين مطلعة كل البرفانات دي ليه؟
ضحكت وقالت ببراءة: كنت محتارة، ريحتهم كلهم حلوة، فحطيت منهم كلهم.
رفع حاجبه مصدوما وهو يشم الهواء: كلهم!!! طب أقولك غيري الفستان دلوقتي ولا اعمل فيكي ايه!؟ بس حتى لو غيرتيه الريحة خلاص ثبتت على جلدك!
قلبت وجهها بضجر طفولي: بطل رخامة يا سليم.
رفع حاجبه مرددا: رخامة؟
هزت راسها بإيجاب، وتساءلت بطفولة: اه، هو أنت كنت بتقولي كده زمان، وآنى بسكتلك؟
ضحك بخفة، وقال وهو يقرصها من خدها: لا، كنتي بتعترضي وبطولي لسانك كمان، بس بعدين اتعودتي.
ألتفتت ماسة إلى المرآة لكي تتأكد من ملامحها، وتساءلت: بس بجد شكلي حلو؟
ابتسم سليم واقترب منها بخطوات هادئة، ثم ضمها من الخلف، لتستقر بين ذراعيه كأنها خلقت لذلك المكان تحديدا، أسند رأسه بين حنايا كتفيها، وهمس بصوت دافئ عند أذنها: قولتلك زي القمر
ثم تابع بغيره وخبث خادع، لكي تزيل الروج بلا جدال: بس يا ماسة الروج كتير أوى، ومخلي شكلك مش حلو، وأنا خايف يتريقوا عليكى هناك.
نظرت له ببراءه، وهى تمسك المنديل: بجد! طب استنى هخففه شويه.
أمسك يدها باعتراض، وهو يهمس أمام شفتيها: لا مش بيتشال كده.
وقبل أن تتساءل كيف يزال، جائتها الإجابه حين وضع شفتيه على شفتيها، وأخذها معه في قبله عاشقه طويلة، تبادلا القبلة بشغف لبعض الوقت، حتى تأكد من زوال أحمر الشفاه تماما.
ابتعد أمسك بيدها وقادها إلى خزنة الألماس والذهب الخاصة بها، فتحها وهو يقول:اختاري أي حاجة من دول.
ثم أمسك أحدهم: بيتهيألي الطقم ده حلو، إيه رأيك؟
نظرت بانبهار، وعيناها تتلألآن كأنهما تعكسان بريق العقد نفسه، وتساءلت بإعجاب: تحفة، ايه ده؟!
ابتسم وهو يقلب القطعة بين أصابعه، ورد بهدوء: ده ألماظ بفصوص من الزمرد.
رفعت حاجبيها بدهشة، ولمست العقد بأطراف أصابعها، وقالت بصوت خافت: شكله غالي أوي.
ألتف، ليقف خلفها، ويضع العقد عند رقبتها، وهو ينظر لها في المرآه: مفيش حاجه تغلي عليكى ياقطعة السكر.
ساعدها في غلق القلادة خلف عنقها، كان وجهه قريبا من عنقها لدرجة أن أنفاسه لامست بشرتها، فشعرت بقشعريرة دافئة سرت في جسدها أغلقت عينيها للحظة تتنفس إحساسا دافئا.
وحينما انتهي، ابتسم هامسا بجانب أذنها: كده بقى شكلك زي الأميرات بالضبط.
فتحت عينيها وابتسمت بخجل ممزوج بالامتنان، وكأنها وجدت نفسها من جديد في عينيه.
ألتفت وهو يقول بإبتسامة: ممكن بقي يا قطعة السكر، أكمل لبسي.
ابتسمت بدلال: ممكن أساعدك.
هز رأسه بإيجاب، وتحركا نحو التسريحة جلس على المقعد، أمسكت ماسة الاستشوار، وبدأت تُصفف شعره، وهي تضحك بخفوت، ثم ألبسته الساعة وربطت له الكرافتة بحركة أنيقة فيها أنوثة دافئة، وأحضرت حذاءه ووضعته أمامه، فقام بارتدائه، ثم رفع رأسه اليها، ووضع قبلة على جبينها: ربنا ما يحرمني منك يا ماستي الغالية.
ماسة بحب: ولا منك يا كراميل.
نهض ببطء، وقف أمامها يواجهها بعينين تلمعان بالأمل والحنين، مد يده نحوها، فوضعت كفها في كفه، فتشابكت أصابعهما بخفة، كأنها وعد جديد بينهما، وعد بالبقاء.
خرج سويا من الغرفة، كما كانا قديما، بخطوات واحدة، وقلب واحد، وابتسامة لم يعرفا منذ زمن كم اشتاقا إليها.
.......
قصر الراوي، السادسة مساء
كان القصر يعج بالحركة والضجيج، والعمال منشغلون بوضع اللمسات الأخيره علي الحديقة العلوية استعدادا للحفلة.
في إحدى الغرف، جلست مي أمام المرآة، بينما كانت خبيرة التجميل تضع لها اللمسات الأخيرة.
وفجأة، سمع طرق خفيف على الباب، فنهضت تقى لتفتح، فإذا برشدي يقف أمامها مترددا، يرتدي قميص أبيض نصف مفتوح.
قال بصوت منخفض: ممكن أدخل؟
تقى بسرعة: لا طبعا، مي لسة بتجهز.
ابتسم بخفة: طب ناديلي عليها.
عادت تقى للداخل تنادي: مي، رشدي عايزك.
تنهدت مي بهدوء، نهضت من أمام المرآة، وضبطت طرحتها، قبل أن تتجه نحو الباب.
وقف ينظر إليها للحظة، ثم قال بصوت خافت أقرب للندم: أنتِ لسة زعلانة مني؟
تنهدت، وهى تهرب بعينيها بعيدا عنه: زعلت شويه الصبح، بس دلوقتي خلاص.
أقترب خطوة، عيناه تبحثان عن عفوها: بس أوعديني متزعليش مني تاني.
نظرت له بلوم: أوعدني أنت الأول متعملش كده تاني يارشدي.
أخفض رأسه، وصوته خرج مترددا صادقا: هحاول.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، كأنها تصالح صامت، ثم أشارت نحوه بخفة: روح يلا، ألبس عشان نتصور.
أومأ برأسه، وابتسم ابتسامة باهتة: ماشي.
ثم غادر الغرفة، وبقيت تحدق في أثره بإبتسامة حيرت قلبها، لا تدري كيف استطاعت أن تغفر له بتلك السرعة.
سيارة سليم السابعة ونصف مساء
كانت السيارة تتجه نحو القصر، وضوء الغروب يتسلل عبر النوافذ، يلقي خيوطه الدافئة على وجهيهما، أمسكت ماسة بيد سليم، وعيناها تمتلئان بمزيج من الحماس والارتباك.
ألتفت إليها بإبتسامة مطمئنة، وضغط على يدها بلطف: قلقانة يا قطعة السكر؟
هزت رأسها بخفة، بنبرة أقرب للهمس: أيوة شوية.
ضم كفها بين كفيه كأنه يحادث طفلته: لا متقلقيش، إحنا اتدربنا إمبارح، وأنتِ شاطرة، وعارفه هتعملي إيه هناك، صح؟
ردت بجدية طفولية، كأنها تراجع درسا أمامه: هسمع كلامك في كل حاجة، وأقولك حاضر من غير ما أجادلك، وممشيش من جنبك، ومكلش ولا أشرب غير ما أقولك، وأنت إللي تجيبلي.
ضحك بخفة: برافو يا ماسة! وإيه كمان؟
رفعت إصبعها بفخر ظريف، وعينيها تتلألآن: وقولنا كمان هنقول خمس كلمات بس؛ الحمد لله، إزيك، تمام، شكرا...
ثم توقفت لحظة تفكر: إستنى، وكمان إن شاء الله!
ضحك وهو يومئ بإعجاب صادق: شطورة يا قطعة السكر، ولو سمعتي الكلام، هجيبلك كرتونة لاين بالكاتشب.
قالت بلهجة طفولية وهي تمط شفتيها: وهمبرجر كمان! وتسيبني ألعب في حمام السباحة براحتي، متفضلش تظرظر عليا.
ابتسم على براءتها التي تذيب قلبه: مش هتظرظر، حاضر.
رفع يدها إلى شفتيه يقبلها بخفة، وعينيه لا تفارق ملامحها التي يغمرها الحياء.