بنات الحاره الفصل التاسع والأربعون 49 بقلم نسرين العقيلي


بنات الحاره الفصل التاسع والأربعون 49
بقلم نسرين العقيلي




🩶 مقدّمة الفصل :
في كل حارة، في قلبين ما بيتغيروش : قلب طيب بيتوجّع من كثر الخير اللي جواه، وقلب أسود شايل حقد الدنيا كلها وبيستنى الفرصة يردّ الضربة.
الحياة دايمًا بين الاثنين، بين اللي بيغفر، واللي بيفكر في الإنتقام.
بس الأيام مهما لفّت، بتعلّمنا إن اللي بيفكر بشرّ، بيتسمم من جوّه قبل ما يؤذي حد.

كلام نسرين :
أنا مؤمنة إن الشرّ ما بيموتش، بس بيتعفن جوا أصحابه. الوجع الحقيقي مش في الخيانة، الوجع لما تكتشف إن اللي كنت بتحنّ عليه، هو اللي بيجهّزلك الطعنة. بس لسه عندي يقين إن ربنا ما بيسيبش الطيبين، حتى لو اتكسروا بيقوموا ثاني، أقوى، وأنضج، وأنظف.
نسرين بلعجيلي 

الفجر كان ساكت، بس جوّا بيت أم حنان كانت الدنيا عاصفة. قعدت على السرير، عينيها مفتوحة ومش قادرة تنام، صوت أبو حنان وهو بيقول : "نسيتي إن بنتك اتدفنت عشان الناس دي؟"
لسه بيرنّ في ودانها زي سكين.

بصّت على التوأم اللي نايمين جنبها، وجواها ألف فكرة بتتخانق، تعيش وتربّيهم في الفقر، ولا تروح الفيلا وتنسى الوجع؟ كانت حاسة إنها واقفة على مفترق الطرق، كله ظلمة، ومافيش غير الطمع منوّر في آخره.

مدّت إيدها ولمست خدّ واحد من التوأم، وقالت بصوت واهي :
"أمّك كانت طيبة يا حبيبي، بس الطيبة لوحدها ما بتحميش في الزمن ده."

نزلت دمعة على خدّها، بس مسحتها بسرعة كأنها مش عايزة تعترف إنها ضعفت. خرجت من الأوضة، وراحت للصالة،  لقِت جوزها قاعد على المصطبة، بيسبّح في صمت.

قالت وهي تحاول تسيطر على نبرتها :
"أنا فكّرت يا حاج."

رفع عينيه ليها، وقال بهدوء من غير ما يلتفت :
"والنتيجة؟"
تنفّست وقالت بسرعة :
"هاروح الفيلا، مش علشاني، علشان العيال."

لفّ وواجهها، صوته اتبدّل فجأة، فيه غضب مكتوم ووجع راجل اتحرقت بنته بسبب نفس القرار :
"الفيلا دي نحس علينا يا ولية، نسيتي بنتك ماتت هناك؟"

دموعها غرقت وشّها، لكنها صممت :
"ما نسيتش يا راجل، بس دول ولادها، دمّها، وأنا مش هسيبهم يعيشوا محرومين زَيّ أمهم."

وقف، صوته بقى مبحوح من القهر :
"يعني ناوية ترجعي نفس الطريق؟ الطمع عمره ما بنا بيت يا أم حنان، الطمع بيهدّه."

ما ردّتش.. لفّت جسمها ناحية الأوضة، والدموع بتغلبها، وفي عينيها نفس اللمعة اللي كانت في عين بنتها زمان قبل ما تمشي.

Nisrine Bellaajili

في نفس الوقت، في الحارة، كانت البنات متجمعين على السطح تاني مرة بعد فترة هدوء طويلة.
نورهان جايبة أوراق المشروع، وصفاء بتقلب في الحسابات، ورحاب قاعدة بتكتب وصفات جديدة.

قالت زينب وهي بتوزّع الشاي :
"بصّوا بقى، إحنا هنبدأ من الأول، بس المرة دي مش هنخاف من الناس."

صفاء رفعت عينيها وقالت بابتسامة باهتة :
"ولا من الرجالة."

رحاب ضحكت وقالت :
"ولا من نفسنا."

ضحكوا كلهم، ضحكة فيها شوية أمل بعد تعب طويل. الهوى كان دافي، والنجوم طالعة، كأن السما بتبارك الرجوع ده.

لكن زينب كانت ساكتة شوية، فارس بيدور في دماغها زي همس.
اللي حصل بينه وبين أمه ما عرفتوش، بس قلبها حاسس إن فيه حاجة هتتغيّر قريب.

في المدينة..
كان فارس راجع من شغله، وشكله مش مرتاح. كل شوية يفتكر كلام أمه، وصورتها وهي بتقوله : "لو عملت كده، إنساني يا فارس." بس قلبه مش قادر ينسى زينب.

وقف عند المراية، بصّ في نفسه وقال :
"يا ابن الهنا، اتولدت في بيت راقي وكل حاجة فيه متوفّرة، بس ولا يوم حسّيت إنك عايش، غير لما شوفتها."

قعد، شال الموبايل من على الترابيزة، وبإيد مرتعشة كتب رسالة قصيرة :
"زينب، محتاج أشوفك، ضروري."

الليل نزل على الحارة، والسطح منوّر بفوانيس صغيرة، ريحة الشاي بالنعناع ماليه الجو، وضحك البنات راجع بعد فترة وجع طويلة.

زينب كانت قاعدة ساكتة، الموبايل في إيدها، عينها على الشاشة، وقلبها بيخبط في صدرها بخوف غريب. رسالة قصيرة وصلت من فارس :
"زينب، محتاج أشوفك، ضروري."

إتسمرت مكانها، الكلمات الصغيرة دي خبطت في قلبها كأنها جملة مليانة ألف احتمال.
رحاب لمحت وشّها وقالت وهي تضحك :
"ها يا زينب؟ مين اللي مطيّرك كده في عالم تاني؟"

زينب اتلخبطت وقالت بسرعة وهي تخبي الموبايل :
"مافيش.. بس رسالة شغل."

صفاء ضحكت وقالت :
"شغل؟ في نص الليل؟ هو إحنا بنشتغل في البورصة ولا إيه؟"

نورهان قعدت جنبها وقالت وهي ترفع حاجبها بمزاح :
"ده أكيد فارس."

زينب عضّت شفايفها بخجل، بس ملامحها فضحتها.

رحاب قالت وهي تمسك كوبايتها :
"طب وهو عايز إيه؟"

زينب بصّت للموبايل وقالت بهدوء :
"كاتب إنه محتاج يشوفني."

صفاء قالت بسرعة :
"هتشوفيه؟"

زينب سكتت، صوتها خرج متردد :
"مش عارفة، خايفة."

نورهان قالت بحزم :
"خايفة من إيه؟ من الناس؟ الناس هتتكلم سواء عملتِ الصح أو الغلط.
بس المرة دي لازم تبقي قويه، لو ناوي يشوفك، يشوفك في النور."

رحاب قالت وهي تبصّ لها بثقة :
"بُصي يا زينب، الحب من غير خطوة حقيقية مالوش معنى. لو فعلاً بيحبك، لازم ييجي البيت، يقابل أبوكِ، مش يقابلك في الشارع ولا ورا الناس."

زينب بصّت لهم، صوتها واطي ومليان تردد :
"يمكن هو مش جاهز لخطوة كبيرة دلوقتي."

صفاء قاطعتها وقالت :
"اللي بيحب بجد بيبقى جاهز، حتى لو الدنيا كلها ضده. خليه ييجي رسمي، ياخذ خطوة راجل. احنا تعبنا كفاية من الحكايات اللي نصها وجع ونصها وعود. اتعلمي من اللي حصلي "

زينب بصّت في الموبايل، كأنها بتقرأ الرسالة للمرة الألف، وبعدين قالت بهدوء كأنها بتحاول تصدق نفسها :
"أنا مش هقابله، لو فعلاً ناوي، ييجي البيت ويتكلم مع أبويا."

رحاب ابتسمت وقالت :
"أهو كده الصح. سيبيه هو ياخذ الخطوة، واللي ليكي هيجيلِك."

صفاء ضحكت وقالت :
"بس لما ييجي، إعملي فينا معروف وقولي بدري علشان نجهز الشاي بالنعناع."

ضحكوا كلهم، وزينب ضحكت معاهم بخجل خفيف، بس قلبها كان بيرقص بين خوف وأمل، زي بنت أول مرة تصدق إن نصيبها ممكن فعلاً يطرق الباب.

رفعت عينيها للسماء، وقالت في سرّها :
"يارب يكون صادق، المرة دي يكون صادق."

في بيت صغير في عمارة  نص الحارة، كانت حياة هاجر ماشية بهدوء على قدّها. جوزها محمد شغال فاتح  محل موبيلات على قده
وهي بتحاول تكون ست بيت مظبوطة. البيت نظيف، الغدا جاهز، والدنيا شكلها مستقرة. لكن دايمًا فيه حاجة ناقصة.. راحة البال.

الساعة كانت قربت المغرب، هاجر قاعدة في الصالة تطوي الغسيل، ولما سمعت جرس الباب، قامت تفتح :
"أه يا ماما، تعالي."

صفية دخلت وهي ماسكة كيس صغير، شكلها تعبان بس لسانها جاهز :
"هو أنا لاقية غيرك يا بنتي؟ كل الناس اتخلّت عني، حتى أختك زينب ما بتسألش."

هاجر خذت منها الكيس وقالت بهدوء :
"ماعلش يا ماما، زينب مشغولة بشغلها، ربنا يعينها."

صفية قعدت على الكرسي وتنهدت :
"شغل إيه يا أختي؟هي فاكرة نفسها مين؟ كل يوم طالعة نازلة مع البنات، ما تعرفش إن امها بتموت لوحدها وهي السبب ؟"

هاجر عارفه إن امها مش بتحب زينب، هاجر ردّت وهي تحاول تغيّر الموضوع :
"تحبي أعملك شاي بالنعناع؟"

صفية قالت بسرعة وهي تبصّ حواليها :
"لا، مش عايزة شاي. إنتِ معاكِ كام يا هاجر؟ إيديا لسه بتوجعني ومحتاجة أجيب دوا."

هاجر فتحت شنطتها وسكتت لحظة، طلعت ورقة بي متين جنيه وقالت بهدوء:
– "خذي دول يا ماما، بس المرة الجاية قوليلي بدري."

صفية خذت الفلوس بسرعة، وحطّتها في جيبها وقالت :
"ربنا يخليكِ ليا يا بنتي، الوحيدة اللي بتقف جنبي."

ما عدّاش ربع ساعة، وكان صوت باب الشقة الثاني بيخبط. حماتها طلعت من تحت، ست كبيرة بس عينها صاحية. دخلت من غير ما تستأذن وقالت بنبرة فيها فضول :
"مين كان هنا يا هاجر؟"

هاجر قالت بخجل :
"ماما كانت بتسلّم عليّا شوية."

الست رفعت حاجبها وقالت :
"بتسلّم؟ ولا جاية تاخذ فلوس تاني؟ يا بنتي أنا عارفة أمك من زمان، الست دي ممكن تخرب بيتك وإنتِ مش واخذة بالك."

هاجر اتضايقت وقالت بنبرة دفاع :
"ماما مش كده، يا حاجة. هي تعبانة ومحتاجة دوا، ومافيش حد يساعدها غيري."

الست قالت وهي تحط إيدها على وسطها :
"يا بنتي أنا ما بقولش كلام وخلاص، أنا شايفة محمد كل يوم بيرجع مضايق، بيقولك مش كل يوم والتاني تروحي عندها. ده بيتك أولى بيكِ."

هاجر بصت للأرض وقالت بهدوء :
"بس أنا بروحلها أطبخ لها وأساعدها، هي فعلاً ما بقتش قادرة تعمل حاجة لوحدها."

في اللحظة دي دخل محمد، وشه عليه تعب اليوم كله. بصّ لمراته وقال وهو يحاول يهدّي صوته :
"هاجر، إحنا اتكلمنا في الموضوع ده. مش كل يوم تسيبي البيت وتروحي لأمك."

هاجر قالت بسرعة وهي متوثرة :
"دي أمي يا محمد، هسيبها ازاي؟"

محمد قال بهدوء لكن فيه نبرة حزم :
"ما قولناش ما تروحيش، بس مش بالشكل ده. كل شوية تطلبي فلوس،
وأنا عارف الفلوس دي بتروح فين."

هاجر رفعت عينيها بدهشة :
"يعني إيه؟"

محمد قال بوضوح :
"أبوكِ لسه شغال، ومع ذلك أمك بتاخذ الفلوس علشان تديها لأخوكِ المدمن. مش هتضحكي عليا بالكلام عن الدوا."

هاجر اتصدمت وقالت بعصبية :
"محمد، إزاي تقول كده؟ ده أخويا، وماما أكيد ما تعملش كده."

حماتها قالت وهي تهمس وهي خارجة من الأوضة :
"أنا قلتلك، أمك دي مش هتسيبك تعيشي مرتاحة."

هاجر قعدت على الكرسي، دموعها بدأت تلمع في عينيها. محمد بصّ لها وقال بهدوء :
"أنا مش قصدي أزعلك، بس خذي بالك يا هاجر، اللي بيستغل الطيبة، عمره ما يشبع."

هاجر ما ردّتش، صوت قلبها كان أعلى من أي كلمة.
بين حبها لأمها، وحق جوزها، كانت حاسة إنها واقفة في النص، كل خطوة ناحية واحدة بتكسر الثانية.

صفية رجعت بيتها بعد ما خذت الفلوس من هاجر. الليل كان هادي، بس جواها في دوشة، وشها باين عليه التعب، لكن عينيها فيها لمعة خبث متخبي.

دخلت الأوضة وهي تنادي بصوت واطي :
"يا ولا! تعالى يا واد، الخير جيه."

خرج من جوّا، شعره منكوش، عيونه حمرا، لسه آثار السهر باينة عليه. قال وهو يفرك عنيه :
"خير يا أمي، إيه الصوت ده؟"

مدّت له الفلوس وقالت :
"خذ دول يا حبيبي، من هاجر أختك، ربنا يخليها ستّ جدعة."

وليد بصّ للفلوس وقال وهو بيضحك بسخرية :
"هاجر؟! هي اللي بتصرف عليّا دلوقتي؟!"

صفية قالت وهي ترفع حاجبها :
"وليه لأ؟ دي عايشة مستورة، وجوزها بيشتغل، مش زي أختها الثانية اللي فاكرة نفسها بنت الباشا."

وليد ضحك وقال :
"زينب؟ ما أبويا بيقول إنها دايمًا    مظلومة."

وش صفية اتغيّر، لمعة عينيها بقت شر:
– "مظلومة؟! دي اللي خربت بيتي بإيديها. هي السبب في اللي حصلي، واللي فيا. فاكرة نفسها انتصرت عليا ؟ أنا بس باستنى الفرصة اللي أردّلها الضربة."

قعد وقال بنبرة مترددة :
"بس يا أمي خلاص، الناس نسيت."

صفية بصت له بخبث وقالت :
"الناس تنسى.. بس أنا ما نسيتش. اللي في القلب في القلب يا بني . أنا بضحك في وشهم، وبقول الحمد لله،
لكن النار اللي جوايا لسه مولّعة. اللي وجّعني مش إيدي، الوجع الحقيقي إن زينب رفعت راسها فوقي."

قال بخوف :
"وانتِ ناوية تعملي إيه؟"

صفية عدّلت الطرحة وقالت وهي تضحك بخفوت :
"ولا حاجة دلوقتي، كل حاجة بتيجي في وقتها. بس إنت خليك فاكر يا ابني، اللي دايمًا يديهم بيتعب، واللي ياخذ هو اللي يعيش."

هزّ راسه وسكت، لكن في عينيه نظرة خوف حقيقي من الغلط اللي شايفه بيتكوّن قدامه.

أما صفية، طلعت على البلكونة، تبصّ للحارة اللي لسه فيها النور،
وشها هادي، بس عقلها شغال. كل الناس فاكرة إنها اتعدلت بعد اللي حصل، بس الحقيقة إنها ما اتعدلتش، هي بس لبست وشّ جديد، وفي قلبها خطة قديمة،
مستنيّة بس اللحظة المناسبة علشان تردّ الضربة لزينب.

الليل كان ثقيل في بيت زينب، هدوء غريب، حتى عقارب الساعة كأنها بتمشي ببطء. صفية قاعدة على طرف السرير، في إيدها ظرف قديم مقطوع الحروف، وعينها ماشية على السقف كأنها بتفتّش في الماضي.

همست لنفسها بصوت مبحوح :
"سنتين يا حوالة، سنتين وأنا مستنياكِ كل شهر وما جيتيش"

نزلت دمعة من عينها، بس ما كانتش دمعة وجع، كانت دمعة غِلّ، دمعة قهر.
"كنتِ بتيجي على الدايم، نفس الميعاد، نفس المبلغ، كنتِ بتخليني أحس إن في حد شايفني، إن ربنا افتكرني بعد سنين الذل. بس شكلك نسيتي، زي كل الناس."

قامت، فتحت الدرج اللي في الدولاب، طلعت منه الأظرف القديمة، مربوطين بخيط أحمر باهت. قعدت تقلبهم واحد واحد،
كل ظرف عليه ختم : "القاهرة". كل حوالة نفس الرقم، نفس الخط.

تمتمت وهي تشد الخيط بقهر :
"كنتِ بتجيني في عز ظروفي،
وقت ما حامد ما كانش بيصرف،
وهاجر لسه ما اتجوّزتش، وزينب عاملة فيها مظلومة. كنتِ إنتِ عزوتي."

قلبها اتقلب وهي تبصّ في الظرف الفاضي، وصوتها بقى فيه حقد واضح :
"بس أكيد حد كان ورا الحكاية دي. حد من ناحيتها هي، أكيد زينب كانت تعرف، بس سايبة الفلوس توصل لي عشان تريح ضميرها. ولما الحوالة وقفت، عرفت قد إيه كانت بتضحك عليّا."

وقفت قدام المراية، تبصّ لنفسها بعيون سودا فيها نار، وقالت بنبرة شريرة هادية :
"ماشي يا زينب، إنتِ فاكرة إن الدنيا سايبة؟ فاكرة إنك خلاص طلعتِ فوق؟ اللي بعثلك زمان، هيرجع، بس المرة دي، هيرجع لي أنا."

ابتسمت ابتسامة صغيرة وهي تمسح دموعها، بس الابتسامة فيها سُمّ خالص :
"اللي كان بيرزقك، رزقني أنا.
واللي وقف، هاعرف أرجّعه بطريقتي."

وراحت نامت على السرير، لكن عينيها ما تقفلتش، النوم نسي طريقه عندها، لأن الشر القديم صحي جواها تاني.

الليل كان ساكن والهدوء مالي الشقة، صوت الساعة الحيطي بيعدّ الثواني، وريحة النعناع طالعة من الكوبايتين اللي على الترابيزة الصغيرة قدام الكنبة.

الحاج عثمان قاعد على الكرسي الهزاز، النور الضعيف من الأباجورة عامل ظلّ على وشه مبين تجاعيد السنين وتعبها. قدّامه إحسان، قاعدة تلف طرف شالها على إيديها وتبصّ له بين الحين والثاني.

قال وهو بيتنهّد بعمق :
"البنت دي يا إحسان أسماء، صعبت عليّا. وشفت فيها وجع البنات كلها."

إحسان رفعت عينيها وقالت بهدوء :
"مين؟ مرات أسامة؟"

هزّ راسه وقال :
"أيوه، اللي شاف اللي شافته دي، صعب يرجع يعيش طبيعي. بس الولد دا وقف جنبها زي الراجل، إبن الأصول ما سابهاش تضيع، ولا خاف من كلام الناس."

إحسان سكتت شوية، بصّت ناحية الشباك اللي مفتوح على نصه، والهوا داخل كأنه سامعهم.
قالت بنغمة فيها حذر وتساؤل :
"بس قل لي يا حاج، هو جوازهم دا بجد؟ يعني ممكن يكمل؟"

الحاج عثمان شرب رشفة شاي صغيرة، وعينيه راحت بعيد كأنه بيشوف أيام زمان، وقال بهدوء العارفين :
"الجواز مش ورقة يا إحسان، ولا كلمة في الجامع، الجواز ستر ونية. ولو النية صافية، ربنا بيبارك حتى لو البداية كانت غصب. الولد دا قلبه نظيف، وأسماء محتاجة قلب زيه."

إحسان ابتسمت وقالت :
"يمكن ربنا جمعهم علشان يداووا بعض."

هزّ راسه موافق، بس عينيه فيها وجع قديم، وسكت شوية قبل ما تقول هي بصوت واطي :
"طب وانت يا حاج، بعد ما اتقبض على الحاج اليزيدي، ارتحت؟ ولا لسه ضميرك بيوجعك؟"

صمَت للحظة طويلة، نزل بعينيه على الفنجان اللي في إيده، وصوته لما خرج كان ثقيل كأنه شايل حمل سنين :
"الراحة؟ الراحة مش بالحبس ولا بالانتقام. أنا ارتحت لما الحق ظهر، بس وجع الضمير ما بيروحش. السكوت عن الظلم سنين بيكسر الواحد من جوّه."

مدّ إيده على فنجان الشاي، قلبه بلطف بس ما شربش. عينيه بقت بعيدة، كأنه شايف الحارة في خياله، وسكت لحظة قبل ما يكمل :
"عارفة يا إحسان؟ كنت بشوف حاجات وباسكت، أقول دول ناس كبار، وأنا مالي. بس دلوقتي كل صرخة بنت اتظلمت، بقت بتزورني وأنا نايم. الحق مهما اتأخر، صوته ما بيموتش."

إحسان قالت بحنية صافية :
– "بس ربنا كتبلك تكون سبب في كشف الحق،
وفي النهاية كنت شاهد خير."

ابتسم ابتسامة حزينة، فيها شكر ووجع:
– "يمكن دا اللي مخليني لسه واقف.
ربنا سترها، وما خلانيش أموت وأنا ساكت."

الهوا لفّ جوه الشقة،
حرّك الستارة بخفة،
والصمت نزل بينهم،
بس المرة دي كان صمت راحة،
صمت ناس بدأت تسامح نفسها…
حتى لو الوجع لسه ساكن في القلب.

“النية الخبيثة عمرها ما تثمر خير،
ومهما طال الليل، ضمير الظالم لازم يصحى.”

اللهم اكفِنا شرّ الحاسدين والمنافقين،
واصرف عنّا نوايا من يُظهرون الودّ ويخفون الغدر،
واجعل كل من أراد بنا سوءًا… يُردّ كيده في نحره،
واكتب لنا يا رب سترًا لا يُكشف، وراحة لا تزول. 🤍

يتبع ..... 

                 الفصل الخمسون من هنا 

تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة