بنات الحاره الفصل الخمسون 50 بقلم نسرين العقيلي


بنات الحاره الفصل الخمسون 50 بقلم نسرين العقيلي




في لحظات معينة، الحياة بتقرّر تختبرك ثاني، مش علشان توقعك، لكن علشان تشوف هل الوجع علّمك ولا لأ. يمكن تفتكري إنك خلصت من الماضي، بس دايمًا فيه باب بيتفتح من غير ما تخبطي عليه، وبيفكرك إن الشفاء لسه ما اكتملش.

كلام نسرين.....

في الفصل ده، هتشوفوا إن الرجوع مش دايمًا ضعف، مرات الرجوع بيكون وجع محتاج يتقفل على نظرة، على كلمة، على سلام ما حصلش.
أسماء هتواجه ماضيها وشبح الخوف اللي لبس وشّ أبوها، وزينب هتتعلم إن البعد مش نهاية، لكنه بداية قوة جديدة.
وكل بنت هتفهم إن الستر مش بس في لبس أو كلام الناس، الستر الحقيقي إن قلبك يفضل نظيف رغم كل اللي شافه.

نسرين بلعجيلي 

الطريق للفيلا كان طويل، بس أم حنان كانت حاسة إن كل خطوة فيه بتبعدها عن نفسها. إيدها ماسكة طرف الطرحة بشدّة، قلبها بين دقّة خوف ودقّة طمع.

العربية اللي بعثهالها عصام واقفة عند أول البلد، السواق بيفتحلها الباب، بس هي وقفت لحظة، تبصّ وراها على بيتها الطيني، على المصطبة اللي قعدت عليها سنين، على الحيطة اللي كانت تسند راسها فيها كل ما تبكي على بنتها.

همست لنفسها :
"سامحيني يا حنان، يمكن باعمل الغلط، بس والله ما ليا غيرهم."

ركبت العربية، الطريق كله كان ساكت إلا من صوت قلبها. كل ما تقرب من المدينة، كانت بتحس إن الهواء بيثقل، ريحة التراب اتبدلت بريحة الورد الصناعي والبيوت اللي مافيهاش روح.

وصلت الفيلا، بابها العالي زي باب قصر، بس جوّاها كان فيه برودة تخوّف. الحديقة مرتّبة، الشجر متقلم، بس مافيهاش نفس، زي الناس اللي ساكنين فيها.

عصام كان واقف عند الباب، وشه مرهق، وعينيه فيها مزيج بين الندم والارتباك. قال وهو بيحاول يبتسم :
"حماتي.. نورتِ البيت."

هي ما ردّتش، بصّت حواليها بعيون غريبة، عيون واحدة داخلة عالم مش بتاعها.
قالت بصوت متردد وهي بتبصّ على السلم الرخامي الكبير :
"الفيلا دي… هي دي اللي كانت فيها بنتي؟"

عصام سكت، ما عرفش يرد، بس عينيه نزلت تلقائيًا على الأرض.

دموعها نزلت فجأة، مسحتها بطرف طرحتها وقالت بوجع :
"ربنا يرحمها ماتت هنا، وسايبة ليك ولادها أمانة."

قرب منها بهدوء وقال :
"وأمانتهم عندي يا أم حنان. أنا غلطت، بس مش هسيبهم يعيشوا زيّ ما أنا عشت. البيت ده ليهم، ولو تحبي تعيشي معاهم، الفيلا في وشّك."

بصّت له بعين فيها شكّ، وقالت :
"يعني هعيش هنا؟!"

قال :
"أيوه، إنتِ وجدّهم. بس فيه حدود، البيت له نظام."

كلمة نظام دي علقت في ودنها، حسّت إنها مش جاية عشان ترتاح، جاية عشان تمشي على سطر حدّ تاني.

إتنهدت وقالت وهي تبصّ في السما :
"اللهم إجعل الخير قدامي، والشرّ ورا ظهري."

دخلت جوّا، صوت كعبها على الرخام كان بيفكّرها بكل وجع قديم، بس في عينيها لمعة غريبة. لمعة واحدة بتبدأ تحط رجلها في عالم ممكن يا يغيّر مصيرها، يا يضيّعها أكثر.

الفيلا كانت ساكتة كأنها بتتنفّس رياء. الهدوء فيها مش راحة، هدوء بارد زي برد الجدران اللي ما شافتش دفء ناس بسيطة.

أم حنان دخلت الأوضة الكبيرة اللي جهّزها عصام، عيونها بتدوّر في كل ركن، من الكرسي المذهب، للمراية الضخمة، للستارة الثقيلة. كل حاجة فيها غريبة عنها، بس عينيها وقفت على سرير صغير في الركن.

قربت منه بخطوات بطيئة، وشافت التوأم نايمين في اللفة، نَفَسهم الصغير بيطلع وينزل، إيديهم مفتوحة كأنهم بيدعوا ربهم في الحلم.
قلبها اتشدّ، مدّت إيدها بهدوء، لمست خدّ واحد فيهم، حسّت بدفا خفيف على أطراف صوابعها، دموعها نزلت، بس المرة دي دموع حنين.

همست وهي بتبصّ عليهم :
"سبحانك يا رب، نسمة من ريحة حنان، حتى نومهم شبهها، كانت دايمًا تنام بنفس الطيبة."

قعدت على الأرض جنب السرير،
تمدّ إيدها على البيبي التاني، صوته طالع خفيف زي الهمس. قامت شايلاه بحذر، حضنته في صدرها، ريحة اللبن لسه طالعة من جسمه الدافي. وقالت بصوت متكسر، بين الدعاء والوجع :
"اللهم صبّرني على فَقدها، وخلّي أولادها نور في الدنيا، ما يذوقوش الوجع اللي شافته أمّهم."
Nisrine Bellaajili 
دخل عصام بهدوء، وقف عند الباب يتفرّج. المنظر رجّ قلبه :
أم حنان قاعدة على الأرض، وفي حضنها البيبي، بتهمس له وهي بتبكي وتضحك في نفس اللحظة.

قال بصوت واطي جدًا :
"أنا كنت محتاج أشوف المنظر ده، يمكن يهدّي قلبي شويه."

رفعت عينيها له، نظرتها فيها خوف بسيط، وشكّ :
"هم أمانة يا عصام، أمانة عندك وعندي."

قال بهدوء :
"أمانة يا حماتي، والله أمانة."

قامت على مهل، رجّعت الطفل مكانه، غطّتهم كويس بالبطانية الصغيرة، بعدين بصّت له وقالت بصوت واطي :
"البيت ده كبير يا ابني، بس ناقصه البركة."

عصام سكت، ماعرفش يرد، هو كمان حاسس بنفس الشيء. خرج وسابها، وهي قعدت لوحدها، تحكي للتوأم الحكايات اللي ما خلصتش.

همست وهي تبصّ لهم كأنها بتحذر القدر نفسه :
"طول ما أنا هنا، مش هسمح لحد يؤذيكم، ولا الزمن يسرقكم زي ما سرق أمّكم."

وبعدين سكتت، بس في نظرتها كان في خوف خفيف، زي إحساس واحدة دخلت مكان مش بتاعها، بس لازم تفضل فيه.

المساء كان هادي في الحارة، الهوا خفيف، والمطر لسه سايب أثره على الأسفلت. زينب كانت واقفة عند ناصية الشارع، قلبها بيخبط كل ما عربية تعدّي.  كل دقيقة تبص في الموبايل وتشيله تاني، لحد ما وقفت قدامها عربية سوده بسيطة، وهو نزل منها.

فارس.
وشه تعبان، لحيته طالعة شوية، وعينيه فيها شوق وقلق وندم كلهم في وقت واحد.

قال بصوت واطي وهو يقرب منها :
"كنت خايف ما تجيش."

ردت وهي تبصّ في الأرض :
"أنا كمان كنت خايفه آجي."

سكت لحظة، وبعدين قال بسرعة كأنه مش عايز يضيع وقت :
"أنا لازم أقولك كل حاجة يا زينب، أمي رفضت."

سكتت.... الكلمة نزلت على قلبها ثقيلة، بس ملامحها ما اتغيّرتش، كأنها كانت متوقعة دا.

هو كمل، صوته فيه وجع صادق :
"قالتلي إزاي أتجوز بنت من الحارة، بنت غلبانة مش من مستوانا. بس أنا قلتلها لأ، قلتلها دي بنت محترمة وشريفة، وإن الحب مش بيتقاس بالفلوس ولا بالشكل."

عينيه كانت مليانة رجاء وهو يكمل :
"أنا متمسك بيكِ يا زينب،
حتى لو الكل رفض، حتى لو أمي زعلت مني. مش قادر أتخيل حياتي من غيرك."

زينب رفعت راسها وبصّت له، إبتسامتها كانت وجع أكثر منها فرحة. قالت بهدوء :
"فارس، أنا مش عايزاك تخسر نفسك علشاني."

قاطعها بسرعة :
"أنا مش باخسر نفسي، أنا بلقاها فيكِ"

هزّت راسها وقالت بصوت مبحوح:
"لأ يا فارس، اللي يخسر أمه يخسر بركتُه، واللي يتعب علشان حب ممكن يكسِره، ما يعيشوش سوا مرتاحين."

هو قرب منها خطوة وقال بحرقة :
"بس إنتِ ما تعرفيش أنا بحبك قد إيه "

دموعها لمعت، بس فضلت واقفة بثبات :
"عارفة يا فارس، بس الحب مش دايم لما بييجي وجنبه حرب. أنا اتكسرت كفاية، مش عايزه أكسّرك معايا."

سكتوا لحظة، الهوا عدى بينهم كأنه شاهد على وجعهم.

هي كملت بصوت متقطع :
"أنا باحبك يا فارس، بس مش قادرة أعيش تاني في وجع. مش عايزه أبقى سبب خلاف بينك وبين أمك. مش بعد اللي شُفتُه."

قرب منها أكثر، صوته مبحوح :
"طب قوليلي أعمل إيه؟ أستسلم؟ أسيبك كده؟"

قالت وهي بتبصّ له بنظرة فيها ألف حب وألف وجع :
"لأ، ما تسيبنيش، بس سيبني أروح. يمكن لما الدنيا تهدى، ربنا يجمعنا من غير وجع ولا خوف."

الدمعة نزلت من عينها، وهو مدّ إيده يمسحها، بس هي خطت خطوة للورا وقالت بهدوء :
"كفاية يا فارس، خلّي الوجع ده نظيف زَيّ حبنا."

بصّ لها وهو حاسس إنه بيودّع روحه مش مجرد بنت. صوته طلع واهي :
"هستناكِ يا زينب، حتى لو العمر فات."

إبتسمت بحزن وقالت :
"ويمكن لما ترجعلي نكون إحنا الاثنين إتعلمنا ازاي نعيش من غير خوف."

لفّت و مشيت، وصوت خطواتها كان كأنه بيكسر قلبه مع كل نقرة.
فضل واقف في مكانه، يبصّ لظهرها وهي بتبعد في آخر الشارع، الهوا لفّ جاكيتتُه، بس البرودة كانت جاية من جوّه مش من الجو.

همس وهو يبصّ للسماء :
"يا رب إجمع بينّا وقت تكون الدنيا رايقة، مش إحنا الموجوعين فيها."
نسرين بلعجيلي 

الليل كان هادي، والحارة كلها نايمة إلا السطح اللي فوق بيت البنات. الهوا بيعدّي بخفة، والنجوم عاملة زي شموع صغيرة منورة في السما.

زينب كانت قاعدة على الكرسي الخشبي اللي في الركن، لفّت طرحتها على كتفها، والموبايل في حجرها، بتبصّ فيه كل شوية كأنها مستنية حاجة، لكن مافيش. عينها حمرا من كثر البكا، وصدرها بيطلع وينزل بسرعة، كأن كل نفس بيطلع معاه وجع جديد.

همست لنفسها بصوت خافت :
"كنت فاكرة إن الحب ممكن ينتصر، بس الظاهر إن أوجاع الدنيا دايمًا أقوى."

خطوات خفيفة طلعت على السلم، وراحت رحاب أول واحدة تدخل السطح. بصّت على زينب وقالت بهدوء :
"كنت متأكدة إنك هنا."

زينب مسحت دموعها بسرعة وقالت :
"ما قدرتش أنام."

رحاب قعدت جنبها وقالت :
"ولا إحنا قدرنا. من ساعة ما نزلتِ وإحنا قلوبنا مش مرتاحة."

بعدها طلعت نورهان وصفاء شايلين بطاطين خفيفة وكوبايتين شاي. صفاء حاولت تخفف الجو وقالت وهي تحط الكوبايات :
"قلنا نطلعلك بدل ما السطح يفضل وحيد زيك."

زينب ضحكت وسط الدموع وقالت :
"وحيد.. الكلمة دي بقت تلاحقني في كل مكان."

نورهان قعدت قدامها وقالت بهدوء :
"بس إنتِ مش وحيدة، إحنا معاكِ."

رحاب قالت وهي تبصّ في السما :
"الوجع اللي بيخليكِ تسكتي، هو نفسه اللي هيعلّمك بعدين إزاي تقفي تاني."

زينب بصّت في السما وقالت بصوت خافت :
"أنا حسيته بيحارب عشاني، بس ماقدرتش أفرّق بين حبّي ليه وحبي لنفسي. خفت أكون سبب تعب جديد ليه."

صفاء قالت وهي تمسك إيدها :
"يمكن القرار اللي وجّعك، هو نفسه اللي هيحميك بعدين."

نورهان أضافت :
"وأهو فارس، لو فعلاً بيحبك، هيفضل متمسك بيكِ لحد ما الوقت يكون في صفّكم."

زينب اتنهدت وقالت :
"أنا مش عايزة منه وعود، أنا بس كنت محتاجة يحس إني ما استحملتش الوجع ده علشان أسيبه،
لكن علشان أحميه."

رحاب حطت راسها على كتفها وقالت بخفوت :
"اللي بيحب بجد، هيعرف ده لوحده، حتى لو بعد وقت."

الهوا لفّ حواليهم، ريحة النعناع والشاي امتزجت بنسمة الليل، وصوت الحارة من تحت كان بعيد جدًا، كأنهم في عالم تاني.

زينب بصّت على البنات، وابتسمت إبتسامة صغيرة مليانة امتنان :
"من غيركم كنت وقعت."

صفاء قالت وهي تضحك :
"وإحنا اللي هنسيبك تقعِي؟ ده حتى لو الدنيا وقعت، هنفضل على السطح ده سوا."

ضحكوا كلهم، ضحكة صغيرة، بس كانت صادقة، طلعت معاها نقطة نور في قلب زينب، زي شمعة بتقاوم ظلمة طويلة.
بصّت للسما وقالت في سرّها :
"يا رب، لو هو نصيبي، رجّعه لي وقت يكون السلام هو اللي بينا،
مش الوجع."

وسكتت، بس عينيها كانت بتحكي دعاء طويل من غير كلام.

في نفس الوقت في بيت فارس...
كان واقف قدام باب أوضة أمه، بيتنفّس بصعوبة، إيده على المقبض بس قلبه بيخبط جوّا صدره كأنه بيحاربه. فتح الباب ودخل. أمه قاعدة على الكنبة بتشرب الشاي كأنها كانت مستنياه.

قال بهدوء أول ما دخل :
"ممكن نتكلم يا ماما؟"

ما رفعتش عينها من الكوباية :
"ما خلّصنا الكلام يا فارس."

قرب منها وقال بإصرار :
"أنا مش جاي أجادلك، أنا جاي أقولك إني بحب زينب ومش ناوي أتراجع."

رفعت راسها وبصت له بنظرة قاسية :
"تحبها زي ما تحب، بس الجواز منها إنساه."

قال بحزم :
"ليه يا ماما؟ عشان فقيرة؟ ولا عشان من الحارة؟ أنا شفت في عينيها طيبة الدنيا كلها."

ضحكت بسخرية وقالت :
"الطيبة ما بتأكلش عيش يا فارس. إنت مش فاهم، الجواز مش حب وبس، الجواز مسؤولية ومستوى وإسم."

قال بوجع :
"وإنتِ نسيتِ يا ماما إنك كنتِ من نفس الناس دي زمان؟ نسيتِ أبويا اتجوزك رغم اعتراض أهله؟"

وشها اتغيّر، وصوتها علي :
"ما تقارنش نفسك بأبوك، ولا زينب بيا. أنا كنت بنت ناس، مش بنت حارة."

وقف مكانه مصدوم، حاول يهدّي صوته وقال بهدوء :
"يبقى خلاص يا ماما، أنا اخترت.
ولو الجواز ده هيزعلِك، مش هتجوزه دلوقتي، بس قلبي.. قلبي خلاص اختارها."

وقبل ما تطرد منه الكلمة، لف وخرج، سايبها لوحدها في الصالة.

فضلت قاعدة ساكتة تقلّب الكوباية في إيدها، وصوتها الواطي طلع بكلمة واحدة :
"حبّك ليها مش هينفعك يا فارس، بس الأيام كفيلة تكسرك وتفهمك."

بس الحقيقة…
هي اللي كانت مكسورة من جواها،
لأنها أول مرة تحس إن ابنها بيبعد عنها علشان حب.
Nisrine Bellaajili 

عند أسماء...

الصبح كان صافي، الشمس نازلة على الشارع بدفا بسيط، لكن قلب أسماء كان ساقع من جوّه. لبست طرحتها الرمادية، شنطتها على كتفها، وطلعت مع أسامة لحد باب الجامعة.
كان ساكت طول الطريق، كل شوية يبصّ لها من غير ما يقول حاجة، وفي عينه خوف عليها أكثر من أي كلام.
وصلوا البوابة، قال وهو بيحاول يخفف توثرها :
"خليكِ قوية يا أسماء، إنتِ راجعة مكانك، مش غريبة فيه."

إبتسمت وقالت :
"هحاول."

نزلت، والمشي لأول مرة من فترة طويلة كان ثقيل. خطواتها بطيئة كأنها بتواجه الدنيا كلها لوحدها.

دخلت الحوش، كل نظرة حواليها كانت سهم. وشوش بتبصّ، وأصوات بتهمس…
الكلمة اللي كانت بتحاول تهرب منها، رجعت تطاردها :

"هي دي"
"أهي البنت اللي كانت في القضية."
"سمعت إنها اتجوزت المحامي اللي دافع عنها." 
"واحدة تانية : لأ دي أكيد بتدّعي، أصلها كانت عايزة تبقى ترند."
وضِحْك خفيف اتناثر زي سكاكين في الهوا.
قلبها وقع. إيدها مسكت طرف الشنطة بقوة، نفسها اتقطع، بس ما وقفتش. مشيت بخط مستقيم ناحية المدرج، بس كل خطوة كانت وجع جديد.

في طريقها، فيه بنتين قاعدين على السلالم، واحدة همست للثانية بصوت عالي كفاية إنها تسمع :
"لو أنا مكانها أموت ولا أرجع الجامعة دي."
والثانية ضحكت وقالت :
"ما يمكن عايزة الناس تشوفها بطلة."

أسماء وقفت لحظة، حست الأرض بتميل تحتها، الوشوش بتدوّر، الأصوات بتكثر.. كل كلمة كانت بتكسر حتة منها.

صوت شاب من بعيد قال بسخرية :
"هو صحيح المحامي ده إتجوزها؟"

ورد عليه واحد ثاني وهو بيضحك :
"ستر عليها يا عم، هو ده زمان الرجولة الجديدة."

الضحك ارتفع، وهي قلبها بينزف.
نَفَسها ضاق فجأة، الهوى بقي ثقيل،
إيديها بدأت ترتعش، رأسها لفت. كل حاجة حواليها بقت ضباب.

حاولت تمشي أسرع، لكن الأصوات وراها كانت بتلاحقها، زي صدى مرّ بيكسر الأمان اللي كانت بتحاول تبنيه.

قعدت على أقرب دكة، تحاول تسيطر على نفسها، نفسها متقطع، إيديها على صدرها، عيونها بتدور حواليها في رعب. الناس ماشية، محدش مهتم، كأنها ماشيّة وسط غابة مليانة ذئاب بتضحك.

دمعة نزلت غصب عنها، مسحتها بسرعة وقالت في سرّها وهي بتحاول تستجمع نفسها :
"مش هتهزّوني، مش بعد كل اللي عشته."

فتحت شنطتها، طلعت ورقة كانت كاتباها بخطها من كلام أسامة :
"كل مرة تقعي، قومي، حتى لو بتركعي على ركبك. كل مرة يوجعك  كلام الناس، إفتكري إنك لسه هنا، ولسه بتتنفّسي."
قلبت الورقة بين صوابعها، وأخذت نفس عميق......
الدموع كانت بتتحشر في عينها، بس ابتسمت وقالت لنفسها :
– "مش هاهرب. مش هامشي.
أنا هرجع أعيش حتى لو وجعوني."

وقفت.. ورفعت راسها، دخلت المدرج بخطوة ثابتة رغم الرجفة اللي في إيديها. الوشوش لسه بتبص، لكن المرة دي كانت هي اللي بتبص قدّام، مش على الناس.

وبينها وبين نفسها، قالت بصوت خافت بس مليان تحدي :
"إنتو شُفتوا ضعفي، بس لسه ما شفتوش قوّتي."

النهار كان بيغرب، والشمس عاملة لون ذهبي على بوابة الجامعة، الطلبة خارجة بصخب وضحك، بس أسماء كانت ماشية بينهم كأنها في عزلة من نوع تاني.
وشها شاحب،عيونها فيها أثر دموع نشفت قبل شوية، بس ملامحها بتحاول تثبت إنها بخير.

العربية كانت واقفة عند البوابة،
وأسامة جوّاها قاعد مستني، إيده على الدركسيون، عينه على المخرج،
وقلبه بيعدّ الثواني. لما شافها خارجة، إبتسم، بس إبتسامته وقفت أول ما لاحظ وشّها. نزل بسرعة، راح ناحيتها وقال بهدوء قلق :
"أسماء… مالك؟ وشك عامل كده ليه؟"

هزّت راسها وقالت بصوت واطي :
"مافيش تعبت اليوم."

هو ما صدّقش الكلمة، حس إن جواها حاجة مكسورة، بس احترم صمتها. فتح لها باب العربية وقال :
"إتفضلي، نروح."

ركبت، وسكتت طول الطريق. العربية ما فيهاش غير صوت نفسها،
ولا حتى صوت أغنية خفيفة. كانت بتبصّ من الشباك، وعينيها بتلمع كل شوية من وجع بتحاول تخفيه.

أسامة أخيرًا كسر الصمت، صوته واطي وحنون :
"لو فيه حد ضايقك هناك، قوليلي."

ما ردّتش في الأول، بس نفسها ثقل،
وبعدين قالت بخفوت :
"الناس مش بتنسى يا أسامة، الوجع اللي أنا كنت فاكرة خلّص، رجعلي في كلمتين."

بصّ لها، صوته مليان غضب مكبوت :
"مين؟!"

قالت بسرعة :
"ماحدش بعينه، بس الكلام بيقتل من غير سلاح."

سكت لحظة، وبعدين قال وهو بيكتم قهره :
"الناس هتفضل تتكلم لحد ما تزهق،
بس أهم حاجة إنتِ ما تصدقيش اللي بيقولوه."

لفت وشها ليه وقالت بعينين فيها دموع :
"أنا ما بخافش من كلامهم، أنا بخاف إنك إنت تتأذي عشاني."

أسامة وقف العربية على جنب الطريق، بصّ لها بجدية وقال بهدوء قوي :
"أسماء، أنا مش راجل بيتأذي من حبّه، أنا راجل بيتقوّى بيه. إنتِ نسيتي، أنا اخترت الجواز ده بإرادتي؟"

نزلت دمعة من عينها وقالت بصوت مكسور :
"أنا فاكرة، بس كل مرة أفتكر اللي حصل باحس إني ببوّز حياتك."

مدّ إيده، بس ما لمسهاش، إكتفى إنه يقرّب منها، وقال بصوت دافي مليان وجع صادق :
"إنتِ ما بوّزتيش حياتي، إنتِ رجعتيلي معنى أنا كنت فاكره مات من زمان."

نظرت له بارتباك، وهمست :
"معنى إيه؟"

إبتسم  وقال:
"معنى إن فيه ستّ ممكن تكون مجروحة، بس لسه أنظف من ألف واحدة ماشية مرفوعة الرأس."

الدموع غرقت عينيها، ووشّها اتقلب كله إحساس. قالت بصوت مبحوح :
"أنا مش عارفة أقولك إيه."

هو ابتسم وقال ببساطة :
"قولي إنك هتكمّلي، مش علشاني، علشان نفسك."

إتنهدت وقالت :
"هاكمّل، بس لو إنتَ جنبي."

إبتسم، ومدّ إيده بهدوء على المراية يعدّلها، وقال بجديّة رايقة :
"وجنبك هافضل، بس المرة الجاية لما يوجّعك الكلام، ردّي عليه بالفعل، خليهم يشوفوا إن البنت اللي كسروها رجعت أقوى."

سكتوا هما الاثنين. العربية اتحركت،
والنور البرتقالي للشمس نازل على وشوشهم.

هي كانت باصّة قدّام، بس قلبها لأول مرة من شهور، حسّ إنه فيه أمان حقيقي بيتكوّن بهدوء، مش حبّ كلام، حبّ حماية، وسند.

لما وصلوا البيت، أسامة فتح باب العماره  وهو بيقول بهدوء :
"أدخلي يا أسماء، ارتاحي."

خطت خطوة لجوه، لكن فجأة وقفت مكانها، وشّها اتغيّر، وصوتها طلع مبحوح بخوف :
"بابا؟"

أسامة بصّ ناحيتها بسرعة، ولقى راجل قاعد قدام الباب على السلم ، ظهره للحيط ووشّه مائل ناحية الأرض.
الدهشة جمّدت الكل، صوت المفاتيح وقع من إيد أسامة، وأسماء قربت بخطوات مترددة، عينها متسعة والدموع واقفة على حرف رمشها.

همست بصوت مرتعش :
"بابا، إنت بتعمل إيه هنا؟"

رفع راسه ببطء، وشه كان مكسور، تعبان، فيه وجع أبّ شايل على قلبه ألف سؤال.

لكن قبل ما يتكلم، أسماء حطّت إيدها على فمها من الصدمة، وعينيها امتلت دموع، والمشهد وقف عند اللحظة دي، بين خوف… ووجع… ودهشة.

"مش كل اللي راجع من الماضي جاي يؤذيك، أحيانًا راجع علشان يشهد إنك بقيت أقوى.

اللهم اجعلنا من الذين إذا ابتُلوا صبروا.. وإذا أُوذوا غفروا.. وإذا ضاقت عليهم الدنيا، وسِعَتْ قلوبهم بالإيمان..
اللهم إحمِ قلوبنا من الحقد.. ونوايانا من الطمع.. واجعلنا نردّ الشرّ بحكمة، لا بوجع.

ايه رأيكم في كل الاحداث ؟
وايه توقعاتكم ؟؟

ياريت تتفاعلو بلاش قراءه في صمت 

يتبع .... 


تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة