بنات الحاره الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم نسرين العقيلي


بنات الحاره الفصل الثاني والخمسون 52
بقلم نسرين العقيلي



مقدمه....

في لحظة معينة، بتكتشف إن الدنيا مش دايمًا بتنتصر للخير، لكنها كمان ما بتنساش الظلم.

كل حاجة بتلف، زي عقارب الساعة. اللي اتظلم النهارده، بكرة هيقف مكان اللي ظلمه، واللي وجّع قلوب الناس، هييجي عليه يوم يحس نفس الوجع مضروب في ألف.

فيه ناس تفتكر إن ربنا نسي، بس الحقيقة إن ربنا يمهل ولا يهمل. وبيسيب الوقت يشتغل، لحد ما العدل ييجي من حيث ما حدش متوقّع. وساعتها السكوت يبقى حكم، والدمعة تبقى شهادة، والقلب اللي اتكسر يبقى هو المنتصر في الآخر. 

كلام نسرين :

كل مرة بنفتكر إن الوجع هيكسرنا، بنكتشف إن ربنا كان بيجهزنا علشان نقوم أقوى. الناس اللي ظلمونا يمكن نسيوا، بس الدعوة اللي خرجت من قلوبنا الموجوعة ما راحتش للسما عبث.
كل دمع نزل من عين مظلومة بيتحسب، وكل كلمة وجع قالتها قلوبنا من غير صوت، ربنا سمعها كويس جدًا.

الفصل ده عن الحساب..
مش حساب بشر، لكن حساب ربنا 
ما بينساش ولا بيتأخر، بس بييجي في وقته الصح. 

نسرين بلعجيلي 
انضموا لي عيليتنا الصغيره 
نبض الحياه للكاتبه نسرين بلعجيلي 

البحر كان هادي، بس قلب ريان كان مليان دوشة. الموج بيخبط في الصخور، وهو سايب دموعه تنزل لأول مرة من سنين. حطّ راسه على الدركسيون وقال بصوت مبحوح :
"أنا تعبت… خلاص، تعبت."
ما حسّش إلا بباب العربية بيتفتح فجأة، وصوت غريب ورا ظهره :
"إنزل يا ريان. ولا رضوان احسن "

رفع راسه بخضة، شاف حسن واقف، ومعاه إثنين رجالة بلطجيه، شكلهم مش من الحارة. قبل ما يلحق يتكلم، واحد منهم مسك إيده بقسوة، والتاني فتّش العربية بسرعة.

حسن قال بصوت ثابت :
"فتش كويس، إحنا بندور على الحقيقة مش على الفلوس."

الراجل طلع شنطة جلد من تحت الكرسي، فتحها، والصمت وقع زي الطوبة : الشنطة مليانة رزم فلوس،
وعليها ورق مطوي.

حسن قال ببرود :
"خدوه."

الجو متوثر جدا، في الجراج القديم على أطراف بعيدة عن الحارة، الظلمة كانت متقطعة بنور لمبة صفرا باهتة. ريان قاعد على كرسي، إيديه مربوطة من ورا، وشه باين عليه تعب السنين والخوف.
جنب الباب، كان فارس، جمال، وياسر واقفين. وشوشهم مش غضب… وجع وفضول.
أما أسامة إتصل بيهم ، فصوته طالع من السماعة على الموبايل :
"سامحوني يا جدعان، مش هقدر آجي، أبو أسماء تعبان وهو عندنا ، وهي مش كويسة."

حسن ردّ عليه :
"ولا يهمك يا أسامة، كل حاجة تحت السيطرة، بس خليك سامع."

قفل الصوت، وبعت رسالة سريعة لـ رحاب :
"اجمعي البنات على السطح وافتحي السبيكر."

في نفس اللحظة، رحاب كانت قاعدة مع البنات فوق، تليفونها في النص، الكل حوالين بعض :
صفاء، زينب، نورهان، وأسماء على السماعة. ومش فاهمين حاجه.  القلب بيخبط، والصوت طالع من الجراج.

ريان : إنتوا مين وعايزين مني إيه ؟؟

جمال : 
إحنا من طرف صفاء البنت الغلبانه اللي ضحكت عليها.

ريان : 
والله ماضحكت عليها هي مراتي.

ياسر : 
عرفي؟؟!؟!

ريان : 
إنتوا  عايزين إيه؟
ياسر: رد على سؤالي 
ريان: اه بس حلال المهم ٢ شهود  انتو عايزين ايه؟؟

جمال : 
من الآخر إحنا عارفين إنت عملت إيه ؟ وإحنا ولاد حارتها.

حسن :
"اتكلم يا ريان، قول الحقيقة أحسن لك وإلا هنا تموت و ماحدش يعرف عنك حاجه.

فارس : 
خلصنا وبلاش لف ودوران. تليفونك مراقب و احنا جمعنا معلومات عنك، لو ماقُلتش الحقيقه هنبلغ عنك أو نسلمك للناس اللي بدور عليك. ليه نصبت على صفاء ؟

ريان رفع راسه، صوته مبحوح :
"أنا غلطت، بس ماكنتش نصاب، كنت غرقان."

فارس :
"غرقان في إيه؟ في الكذب؟ ولا في الطمع؟"

ريان :
"في الشيكات، في الهمّ. كنت مديون، واللي أنقذني بنت عمي،
إتجوزتها غصب عني، مضيت على شيكات بإسمها، وقالتلي لما تولد وتورث هتفكني. و كمان عمي يسلمني ورثي "

جمال إتقدم خطوة :
"وصفاء؟ كانت إيه؟"

ريان نزل دمعة، وصوته اتكسر :
"صفاء كانت النور اللي دخل حياتي. هي أنظف بنت  قابلتها. أنا أول مرة أحس إني بني آدم كان معاها."

رحاب بصّت لصفاء اللي كانت ماسكة إيدها، جسمها بيرتعش.

ريان كمل :
"أنا فعلاً حبتها، وجبت مأذون صاحبي وكتبنا ورقة جواز عرفي، كنت ناوي أصلح وضعي وأعلن كل حاجة. بس بنت عمي هددتني بالشيكات، قالتلي لو قربت من صفاء تاني، هتسجنني. ماعرفش مين بلغها انا والله ما كان في نيتي انصب عليها بس اخد المبلغ  و اسددو بس الدنيا ادربكت عليا مالحقتش "

فارس :
"يعني كنت بتضحك عليها؟"

ريان صرخ بوجع :
"كنت بضحك على نفسي، كنت فاكر إني أقدر أوازن بين نارين، بس النار حرقتني أنا."

جمال فتح الشنطة، الفلوس متكومة، وورق كثير متني بعناية.
فتح أول ظرف، طلع عقد جواز عرفي عليه توقيع ريان وصفاء. ورقة تانية مكتوب فيها توكيل، وثالثة عليها توقيع صفاء بخط مرتب، بس الورقة فاضية.

جمال بصله بذهول وقال :
"دي ورقة فاضية مضتها صفاء، كنت ناوي تعمل بيها إيه؟"

ريان خفض راسه وقال بهمس :
"ما عملتش بيها حاجة، كنت هسلم الفلوس والورق لناس ماسكين عليّا الشيكات. كنت عايز أخلّص وأرجع لصفاء نظيف."

حسن قفل الخط و البلطجيه عملوا الواجب مع ريان.

على السطح، صوت البنات اتكتم، الكل ساكت، بس صفاء دموعها كانت نازلة. قالت بخفوت :
"كنت عايزة كلمة واحدة، إنه بيحبني بجد."

زينب بصوت مبحوح :
"هو حبك، بس متأخر بس ضحك عليكي ماتنسيش ده ."

رحاب مسحت دموعها وقالت :
"المتأخر دا مش بيرجع، بس بيخلّي اللي بعده أنضج. شوفتي طلع نصاب. إوعي تحني ليه أو يصعب عليكِ.ياما قولتلك بس انت كنتي مش بتسمعي كلامي  "

نورهان : 
ممكن كلامه صح بس إنت ضحيه نصب. الحمد لله ربنا كشفه على حقيقته وإلا كنتِ متورطه معاه. الله أعلم إيه اللي عنده. 

زينب : 
غمضي عينيك، هي تجربه و عديتِ منها، إحمدي ربنا ليل نهار. 
Nisrine Bellaajili 

في الجراج، حسن قال ببرود وهو بيبص لريان :
"الحقيقة اتقالت، بس ربنا هو اللي هيحكم. إنت أخذت اللي فيه النصيب بس إوعى تنسا ربنا."

فارس : 
إنت ضحكت على بنت غلبانه كل ذنبها إنها حبتك. 

ياسر : 
إوعى تقرب منها ولا تتواصل معاها، إنسى إنك عرفت وحده إسمها صفاء.

خرج وسابهم، والنور الصفراوي فضل يغطي وشّ ريان، اللي بكى بصمت، كأنه أخيرًا انهزم قدام نفسه، مش قدام الناس.
ريان حس نفسه إنه ولا حاجه وإنه دخل دائره مش هيعرف يطلع منها وإن ربنا إنتقامه شديد. 

وفي السطح....
البنات سكتوا، الهواء عدّى بينهم زي همس طويل. كل واحدة فيهم حست إنها سمعت مش بس حكاية صفاء، لكن كأنهم كلهم اتعرّوا قدام الحقيقة.

صفاء كانت قاعدة في نص السطح، الموبايل وقع من إيدها، وهي بتشهق بالعياط كأنها بتطلّع وجع عمر كله مرة واحدة. دموعها نازلة من غير توقف، وصوتها متقطع :
"ليه؟ ليه عمل فيا كده؟ أنا ما كنتش عايزة منه غير الأمان، كلمة حقيقية."

زينب جريت عليها، حضنتها بقوة وقالت :
"كفاية يا صفاء، خلاص، الوجع ده مش ليكِ لوحدك."

نورهان كانت واقفة بتبكي معاهم، والدموع مغرّقة وشها وهي تقول :
"هو اللي خسر، مش إنتِ، والله هو اللي خسر."

رحاب مسحت دموعها، قعدت قدامهم على الأرض وقالت بهدوء بس بقوة :
"إسمعوني يا بنات، اللي حصل النهارده كان خطة."

صفاء رفعت راسها بصعوبة :
"خطة؟!"

رحاب :
"آه… الشباب كانوا متابعينه من أول ما ريان بعثلك الرسالة. حسن كان  وراه من بعيد، وكانوا مراقبين مكالماته.
لما تأكدوا إنه شايل ورق وفلوس،
قرروا يجيبوه من غير ما البوليس يعرف. علشان يسمعوا إعترافه،  
ويعرفوا كل حاجة، مرة واحدة. وكمان هو متورط ونصب على شركات و مديون كثير"

زينب قالت بدهشة :
"يعني كل ده كان متظبط؟"

رحاب :
"أيوه. وفارس سجّل كل الكلام في الموبايل، علشان لو حاول ينكر بعد كده، يكون الدليل معانا."

صفاء سكتت لحظة، وبعدين بصت لهم وقالت بصوت مبحوح :
"أنا مش عايزة الدليل، ولا عايزة فضيحة. اللي بيني وبينه خلاص إنتهى."

رحاب قربت منها، مسكت إيدها وقالت :
"علشان كده لازم نوعد بعض، اللي حصل النهارده ما يطلعش برّه السطح. ده سرّ صفاء، وسرّنا كلنا.
مهما حصل بعد كده، حتى لو كل واحدة فينا اتجوزت واتغيّرت حياتها، السر ده يفضل هنا.. بينّا."

نورهان مسحت دموعها وقالت :
"أقسم بالله، مش هقول لحد."

زينب :
"ولا أنا. اللي طالع من هنا ما يرجعش، ده وعد."

أسماء اللي كانت ساكتة طول الوقت، قالت بصوت هادي لكنه قوي :
"وأنا كمان، ده عهد بينّا."

رحاب مدت إيدها في النص وقالت :
"إيدينا كلنا سوا."

الكل حطّ إيده فوق التانية، الهواء لفّ حواليهم كأنه بيسمع قسمهم : "ده سرّنا، وسرّ صفاء، وهيفضل مدفون في قلب الحارة."

صفاء فضلت تبكي في حضنهم، بس الدموع دي ما كانتش وجع وبس، كانت راحة، كأنها أخيرًا طلّعت كل اللي وجعها.
نسرين بلعجيلي

السماء فوقهم كانت سودة، بس نجمة صغيرة ظهرت فجأة، ولمعت في اللحظة دي بالذات  كإنها بتقول :
الليل ممكن يكون طويل.. بس الفجر جاي. 

الليل كان ساكن، والشقة غرقانة في هدوء غريب. أسماء نزلت من فوق السطح عينها لسه فيها بقايا دموع، ووشها شاحب من التفكير والتعب.
دخلت الشقة بهدوء، الضوء الخافت طالع من أوضتها، فتحت الباب
ولقت أسامة قاعد على السرير،
وشه هادي، لكن باين عليه الإرهاق.

بصّ ليها وقال بصوت واطي :
"أبوك في أوضتي، كان تعبان ومش قادر يطلع. فقلت أنام هنا الليلة، ماينفعش انام جنبه ولا بره، فاهماني."

إتجمدت مكانها لحظة، اتوثرت، وحطت إيدها على مقبض الباب بتردد، صوتها طلع متقطع شوية :
"طب... وأنا؟!"

أسامة إبتسم ابتسامة خفيفة فيها طيبة وقال :
"إطمني، مش هقرب منك. نامي وإنتِ متأمنة، الكلمة اللي بينّا لسه ليها حرمة."

إتنفست بصعوبة، دخلت الأوضة بخطوات صغيرة، قعدت على طرف السرير وهي بتحاول تمسك أعصابها. هو مد بطانية خفيفة وقال بهدوء :
"نامي يا أسماء، خلاص اللي عدّى عدّى."

إتمدّدت على جنبها، بس النوم ما جاش. الكوابيس كانت أسرع. كل لحظة كانت تشوف صور من الماضي، تصرخ، وتبكي، وتشد الغطا على وشّها.

أسامة فتح عينيه، قرب منها بهدوء، ولما شافها بتنتفض من الخوف،
مدّ إيده بحذر، قربها منه وقال بصوت واطي جدًا :
"إهدي، خلاص يا أسماء، أنا هنا."

حطّ إيده على راسها، وقرأ بصوت هادي من قلبه : 
"اللهم اجعل في قلبها سكينة، وبدّل خوفها أمانًا، واشفِ جرحها اللي محدش شايفه غيرك."

صوته كان ناعم زي النسمة، كلمات القرآن خرجت من قلبه قبل لسانه، وهي بدأت تهدى شوية شوية،
دموعها نشفت، وراسها استقرّت على صدره.
فضّل يكمّل القراءة، عينه على السقف، ونفسه يهدى معاها. وفي لحظة بسيطة، الاثنين ناموا... مش في حضن بعض كحُب، لكن كأمان من بعد خوف، كأن ربنا جمعهم في الليلة دي بس علشان يخلّيها تحس لأول مرة إنها مش لوحدها. 
روايات نسرين بلعجيلي Nisrine Bellaajili

الشمس كانت داخلة من شباك الأوضة، الضوء ناعم، دافئ، لكن قلب أسماء برد فجأة أول ما فتحت عينيها. حسّت بنفس قريب منها،
اتنفضت بخضة، ولما لمحت أسامة نايم جنبها، دمها كله اتجمّد.

قامت بسرعة، بعدت عنه وهي بتحاول تلمّ نفسها، صوتها متقطع بين الخوف والدهشة :
"أنا... أنا كنت نايمة هنا؟!"

أسامة فتح عينه بهدوء، بصّ لها وهو لسه صوته ناعم من النوم :
"إهدي يا أسماء، ما حصلش حاجة."

هي رجعت خطوة لورا، إيديها بتترعش وهي بتقول بصوت عالي شوية :
"إزاي كنت نايمة هنا؟! أنا فاكرة كنت على الطرف."

إبتسم ابتسامة فيها طيبة وتعب في نفس الوقت، وقال بهدوء وهو بيقوم يقعد على السرير :
"إنتِ كنتِ بتعيّطي طول الليل، كنتِ مرعوبة. فضلتِ ترجفي وتقولّي حاجات وأنا مش فاهمها. قريت قرآن لحد ما هديتِ ونمتي."

فضلت تبصّ له وهي مش مصدّقة، دموعها طلعت غصب عنها، وقالت بصوت واهي :
"أنا آسفة، أنا بس خفت."

مدّ إيده بلُطف، مش علشان يلمسها،
لكن كأنه بيطمنها من بعيد، وقال :
"ما تخافيش مني يا أسماء، أنا مش زيهم، ولا عمري هكون."

سكت لحظة، وصوته نزل واطي جدًا كأنه بيكلمها من قلبه :
"أنا يمكن مش جوزك بمعنى الكلمة، بس والله عمري ما هسمح لحد يؤذيك، ولا حتى يخوفك منه."

السكوت ساد بينهم لحظة، ما بين ارتباكها ونظرته الهادية. مسحت دموعها بسرعة وقالت بخفوت :
"شكرًا يا أسامة..."

وقف، بصّ لها نظرة طويلة وقال وهو رايح ناحية الباب :
"يلا، غيّري هدومك وتعالي نفطر سوا. يوم جديد يا أسماء.. وابتسمي."

ولأول مرة من شهور، إبتسمت فعلًا، بس بخجل. إبتسامة صغيرة فيها امتنان وخيط أمل. 

بعد أسبوع،
قررت بطة تروح السجن تزور فتنة. كانت ماشية بخطوات ثقيلة، وفي قلبها نار من اللي حصل بعد طردها من الفيلا.

دخلت قاعة الزيارة، الحيطان باهتة، والرطوبة خانقة، وورى الإزاز كانت فتنة قاعدة، وشّها شاحب لكن عينيها فيها نفس الشرّ القديم.
إبتسمت بخبث أول ما شافتها وقالت :
"إيه يا بطة؟ الدنيا ضاقت بيكِ؟"

بطة ردّت وهي بتحاول تسيطر على عصبيتها :
"جيتلك بخبر مهم، يمكن يزعلك."

فتنة مالت لقدّام، إيديها متشابكة على الطاولة، وقالت بهدوء خطير :
"قولي، أنا كلّي ودان."

بطة :
"عصام طردني من الفيلا، قالّي ما أدخلش تاني. وأم حنان قاعدة هناك زي الست الهانم، لابسة عباية فيها ذهب وبتحضن التوأم كأنهم عيالها."

نظرة فتنة اتغيّرت، عينيها ضاقت، وقالت بصوت واطي :
"والحاج اليزيدي؟"

بطة :
"إتقبض عليه."

ضحكت فتنة وهي تهزّ راسها :
"كنت متوقعة النهاية دي، اللي يبيعني، يتباع. "

سكتت لحظة، وبعدين قالت وهي تفكر ببطء :
"إسمعي يا بطة، هتوصّلي كلمة لعصام، بس من غير ما تفهمي ليه."

بطة :
"كلمة إيه؟"

فتنة :
"تقولي له يروح لأسماء يخليها تتنازل عن القضية وتسيب جوزها أسامة. يقولها إنه عايز يتجوزها رسمي، هي أولى تربي عيال أختها من أي حدّ ثاني."

بطة اتفاجئت :
"هو هيوافق على كده؟"

فتنة هزّت راسها بثقة :
"هيوافق لما يعرف إن دي الطريقة الوحيدة اللي تخلي أم حنان تشوف التوأم تاني. هو يقولها بالحرف :
(يا تتنازلي، يا أمك ما تشوفش عيال بنتها)."

بطة بصّت لها بخوف :
"بس الكلام ده ممكن يولّع الدنيا."

ضحكت فتنة بخفوت، وقالت وهي تبص للإزاز كأنها شايفة بعيد :
"الدنيا مولّعة أصلًا يا بطة، إحنا بس بندّي النار بنزين."

قامت الحارسة وقالت :
"خلاص، الوقت خلص."

بطة قامت وهي متوترة، بصّت لفتنة وقالت بخوف :
"أنا هبلّغه."

فتنة ردّت وهي بتضحك بهدوء :
"بلّغيه. وقولي له إن اللعبة ما خلصتش، لسه في فصل ناقص، وأنا اللي هكتبه."

خرجت بطة من باب السجن، والكلمة الأخيرة كانت لسه عالقة في ودنها :
"لسه في فصل ناقص..."
وكأن فتنة، حتى ورا القضبان، لسه بتحرّك الخيوط كلها من بعيد. 

خرجت بطة من السجن وهي شايلة في قلبها كلام فتنة زي نار ما بتنطفيش. عينها بتلفّ في الشارع وهي بتحاول تهدى، بس كل خطوة كانت تقرّبها من الفيلا أكثر.
لما وصلت، وقفت قدّام البوابة الحديد، خبطت خبطتين، الخدامة فتحت الباب بتردد، وبصوت عالي قالت :
"عايزة أقابل عصام."

الخدامة اتلخبطت، لكن قبل ما ترد،
صوت عصام طلع من جوّه :
"مين؟"

بطة رفعت راسها وقالت بصوت واثق وهي داخلة من غير إذن :
"أنا يا عصام.. بطة."

وشّه اتبدّل أول ما شافها، الضيق واضح في عينيه، قال بحزم وهو بيقرب منها :
"جايه تاني ليه؟ ما قلتلك المرة اللي فاتت ما ترجعيش هنا؟"

بطة حاولت تثبت نفسها، بس صوتها خرج مهزوز وهي تقرب منه :
"جيت أبلغك رسالة من فتنة."

عصام اتجمد مكانه، إسم فتنة لوحده كفاية يعصر قلبه، قال بنبرة عصبية :
"فتنة؟ هي لسه ما بطّلتش سمومها؟"

بطة :
"قالتلي أقولك تروح لأسماء تخليها تتنازل عن القضية وتسيب جوزها.
وقالت إنك لو عملت كده، تتجوزها رسمي، علشان تربي عيال أختها، ويبقوا في حضن أمهم التانية."

عصام رفع صوته فجأة، نبرته مليانة غضب :
"إنتِ مجنونة؟! هو فيه عقل يسمع كلام واحدة زيها؟"

بطة حاولت تبرر وهي بترجع خطوة لورا :
"هي قالت لو ما عملتش كده، أم حنان مش هتشوف التوأم تاني."

الكلمة دي كانت كفيلة تفجّر الغضب اللي جواه، إتقدّم ناحيتها بخطوات سريعة وقال بحزم :
"إطلعي برا يا بطة. أنا زهقت من وشّك ومن سمّك ومنكم كلكم. قوليلها منّي، عصام خلاص اتغيّر، مش هيبقى لعبة في إيد حدّ تاني."

بطة كانت هترد، بس صوت أم حنان جه من آخر الصالة وهي واقفة متجمدة، كانت سامعة كل حاجة. وشّها شاحب، وصوتها واطي وهي بتسأله :
"يعني إيه يا عصام؟ هي فتنة لسه بتحاول توصل لبنتي؟"

إلتفت عصام ناحيتها بسرعة وقال يحاول يطمنها :
"ما تخافيش يا حماتي، الكلام ده خلاص إنتهى. هي بتحاول تلعب في دماغ الناس بس."

أم حنان قربت منه، إيديها بتترعش وهي بتمسك طرف العباية :
"بس أنا خايفة يا ابني، دي ما بتهداش. لو فكرت تلمّح لحد عن أسماء، مش هتسيبها في حالها."

عصام قال بحزم وهو يحاول يهدّيها :
"ولا كلمة عنها هتطلع، أنا هأمن الفيلا كويس، ومش هخلي بطة تدخل هنا تاني."

بصة أم حنان كانت مزيج من خوف وأمومة، وقالت بصوت مبحوح :
"أنا حاسة يا عصام إن الشرّ لسه ما خلصش."

بطة طلعت تجري من الفيلا، البوابة اتقفلت وراها، وصوتها العالي وهي بتلعن اليوم اللي سمعت فيه فتنة
اتردّد في الحوش الفاضي.

لكن أم حنان كانت لسه واقفة مكانها، عينها على التوأم، وقلبها بيهمس في سرّها :
"يا رب، استر على بنتي، استر على أسماء."

وسكتت، بس في وشّها كان فيه خوف بيكبر زي ظلّ بيتمدد قبل العاصفة. 

في زاوية بعيدة من مدينة إيطالية صغيرة، كان الليل برد جدًا، والمطر بينزل نقط صغيرة تقطع في صمت الشارع. أحمد ماشي لوحده، جاكيته مبلول، وجزمته مشققة، إيده في جيبه يحاول يدفّي نفسه والبرد بيقرصه في العظم.
من يوم ما طرده كريم ، وهو بيتنقّل بين الخرابات، يوم ينام في مخزن مهجور، ويوم في محطة مترو فاضية، وكل ما يسمع صفارة بوليس، يتجمد مكانه زي الطفل اللي خايف من العقاب.
وشّه شاحب، ودقنه طالعة، العينين اللي كانت فيها غدر زمان، بقت فيها ذلّ غريب، زي واحد بيجري من نفسه ومش عارف يستخبى منها.
وقف قدام خرابة كبيرة في أطراف المدينة، الحيطة متآكلة، وريحتها عفن ومية راكدة. دخل جوّاها، فرش كرتونة على الأرض، قعد يتنهد بصوت مبحوح:
"يا رب… يا رب رجّعني أي بلد فيها ناس تعرفني."

رفع راسه للسقف، وكان المطر بينقط من فتحة صغيرة فوقه، الجو كله ساكت إلا من صدى تنفسه المتقطع.

وفجأة، سمع دوشة برّه. صوت شباب بيزعقوا، كلام متكسر بين العربي والفرنساوي و ايطالي ، وضحك سكران. اتوتر، حاول يستخبى ورا حيطة مهدودة، بس رجله خبّطت في علبة صفيح.
الصوت شدّ انتباههم. دخل عليه ثلاثة، إثنين أفارقة وواحد عربي، شكلهم من اللي ما بيخافوش حاجة.
واحد منهم قال بضحك خبيث :
"إيه ده؟ ده نايم هنا؟ يمكن معاه فلوس."

أحمد وقف بسرعة، رفع إيده وقال بخوف :
"ما معايش غير الأكل، والله ما معايا حاجة!"

بس هم ما سمعوش، قربوا منه، واحد شدّه من الجاكيت، والتاني فتّش جيبه، طلع ورقة فيها شوية يورو قديمة.
الضحكة اتقلبت لعراك، أحمد حاول يفلت منهم، دفع واحد، لكن التاني طلع سكينة صغيرة وقال بصوت غليظ :
"خلاص، سيبك منه، ده ميت أصلاً."

السكينة دخلت في بطنه بسرعة، صرخة مكتومة طلعت من قلب الخرابة. وقع على الأرض، والمطر بدأ يزيد، الدم اختلط بالطين والمية، ووشّه اتغسّل بنقطة مطر كانت شبه الرحمة.. بس جات متأخرة.

الشباب جريوا، سابوه مرمي، صوته اتقطع، وعينه فتحت على السقف اللي منه المطر بينزل نفس النقط اللي نزلت من شوية، بس المرة دي، كانت بتنزل عليه كأنها بتختم حكاية.

همس آخر كلمة قبل ما نفسه يخلص :
"سامحيني يا نوارة"

وبكده، خلصت رحلة الهروب. أحمد اللي هرب من العدالة مات وحيد، من غير جنازة، في بلد ما يعرفش فيها حد، زي ما عاش دايمًا، من غير ضمير، ولا أمان.

المطر فضل ينزل، يغسل الطين والدم، كأن الأرض نفسها رفضت تشيل جثته، وقالت للسماء:

"خدوه هو مش منّي." 

"في الدنيا، ممكن الكذاب يعيش شوية، بس الحقّ عمره ما يموت، هو بس بيستنى اللحظة اللي يطلع فيها للنور." 

اللهم أرنا في من ظلمنا عجائب قدرتك.. وردّ لنا حقنا من حيث لا نحتسب.. اللهم اشفِ صدورنا من وجع الخذلان.. وبدّل خوفنا طمأنينة.. وضعفنا قوة.. اللهم اجعلنا ممن يبتسمون بعد البكاء.. لأنهم صدّقوا إنك لا تُضيع دمعة عبدٍ لجأ إليك..
اللهم أعد لكل مظلوم حقه.. واصرف عنا من أراد بنا شرًا.. وامنحنا سكينة تُنسي القلب كل ما أوجعه..
يتبع .....


تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة