
بنات الحاره الفصل الثالث والخمسون 53
بقلم نسرين العقيلي
المقدمه.....
في الحارة دي كل يوم بيبدأ بحكاية وبيخلص بوجع. ناس بتدافع عن الحق، وناس بتلبس وشّ البراءة وهي بتظلم. بس مهما طال الليل، دايمًا في فجر بيشهد إن العدالة يمكن تتأخر، لكنها عمرها ما بتموت.
كلام نسرين :
في كل حكاية بنكتبها، بيكون فيه روح بتتوجع وصوت بيتكتم. بس "بنات الحارة" مش مجرد رواية، دي صرخة لكل واحدة اتكسرت واتهموها إنها السبب. الصوت اللي أسامة رفعه مش من ورا الكاميرا، ده صوت كل قلب اتظلم وسكت غصب عنه.
والليلة.. كلنا هنسمع صدى الحقيقة وهو بيرجع للحارة من جديد.
نسرين بلعجيلي Nisrine Bellaajili
الأيام بتعدي على كل أبطالنا..
كان صباح رمادي، السما مغيّمة، والشارع قدّام المحكمة زحمة. الناس واقفة بتتابع، الصحافة في كل مكان، والعناوين كلها عن قضية أسماء. لكن اللي محدّش متوقعه، إن فيه خبر تاني قلب الموازين :
"إخلاء سبيل فتنة مؤقتًا تحت ذمّة التحقيق."
الجملة دي نزلت زي النار على قلب البنات، وأول واحدة سمعتها كانت أم حنان، اللي قعدت على الكرسي، وإيديها على قلبها، تقول بصوت مبحوح :
"ربنا يستر يا بنتي، الشرّ رجع يلف حوالينا تاني."
في نفس الوقت، كانت الكاميرات كلها متجهة ناحية أسامة، اللي قرر يكسر الصمت. فتح الموبايل، دخل بث مباشر، وبدأ كلامه قدام آلاف المشاهدين :
"أنا مش طالع أتكلم عن مراتي، أنا طالع أتكلم عن مجتمع بيجلد الضحية وبيسامح المجرم. عن بنت في كلية حقوق بتتعلم القانون، ومع ذلك، كل يوم بتتظلم في الحرم اللي المفروض يحميها."
رفع صوته، عينيه فيها دموع مكبوتة وغضب محترم :
"ليه المجتمع مش قادر يرحم؟ ليه كل بنت تتكسر تبقى هي الغلطانة؟ ليه لما بنت تتعرض لجريمة، بدل ما نحميها، نرجمها بالكلام؟"
قرب الموبايل أكثر، وصوته بقى أقوى :
"مراتي بتتعلم إزاي تدافع عن الناس،
لكن اللي المفروض يكونوا زملائها في الكلية، هما نفسهم اللي بيعملوا الجريمة ضدها. التنمّر، النظرات، الهمس، والضحك، هو ده اللي إسمه تعليم؟"
إتنفّس بعمق وقال :
"أنا مش عايز تعاطف، أنا عايز عدل. وعايز كل اللي شايفني دلوقتي يعرف إن العيب مش في البنت اللي اتأذت، العيب في مجتمع بيخاف من الحقيقة."
البث بدأ ينتشر زي النار في الهشيم.
الناس بدأت تكتب، الصحف نقلت الكلام، والطلاب في الكلية انقسموا نصين : ناس بتدافع عن أسماء، وناس لسه بتجلدها.
لكن لأول مرة، إسمها ما كانش بيتقال بخوف، كان بيتقال بفخر.
اللايف قلب الدنيا. في ساعات قليلة، بقى حديث البلد. الناس اختلفت بين اللي بيشجع واللي بيشتم، بس الأكيد إن صوت أسامة وصل، ووصل بقوة.
في الكلية...
الطلاب متجمعين في الساحة،
الموبايلات في كل إيد، الفيديو بيتعاد، وصوت أسامة مالي المكان :
"مراتي مش ضحية، مراتي إنسانة، والمجتمع هو اللي محتاج علاج."
بنات كثير بصّوا لبعض بعيون فيها دموع، كأنهم لأول مرة يحسّوا إن فيه حد بيتكلم باسمهم، مش عنهم.
في نفس الوقت، كانت أسماء قاعدة في أوضتها، وشها قدام الموبايل، عينيها فيها دهشة وإستغراب. الدموع نازلة، بس المرة دي مش دموع خوف.. دموع إنصاف.
فتحت اللايف، سمعت صوته للآخر، وبعدين حطّت الموبايل على صدرها وقالت بصوت مبحوح :
"ده راجل.. اللي ربنا بعثه يداوي اللي محدش قدر يداويه."
باب السجن الحديدي اتفتح ببطء. الهواء كان بارد، والسماء مغيمة، وفتنة خرجت بخطوات واثقة.
الظابط سلّمها الورق وقال بجمود :
"إخلاء سبيل مؤقت لحد ما القضية تتحسم."
مدت إيدها وخذت الورق، ابتسامة باردة طلعت على وشها، وقالت وهي بتبصّ له بثقة شيطانية :
"القضايا بتتحسم في المحاكم، بس المعارك بتتحسم في الشوارع."
ركبت عربية مستنيّاها برّه، وبصّت من الشباك للسجن وقالت بخفوت وهي تضحك :
"راجعالك يا أسماء.. راجعالك."
المشهد رجع للحارة..
الناس لسه بتتكلم عن البث، وفي نفس الوقت، صورة فتنة خرجت على السوشيال ميديا.
العناوين كلها متناقضة :
"محامية أسماء من الجمعيه تطالب بحمايتها بعد خروج المتهمة."
"النيابة تؤكد : التحقيقات لم تنتهِ بعد."
"الرأي العام بين نارين."
Nisrine Bellaajili
الليل نزل على الحارة، لكن النور في بيت أسامة ما طفاش. كان قاعد مع أسماء، الموبايل بين إيديهم، اللايف شغال بصمت، وهو بيبصّ لها قال بهدوء :
"اللي جاي مش سهل يا أسماء، بس المرة دي، إحنا مش لوحدنا."
هي بصّت له بعينين فيها خوف وحب في نفس الوقت :
"أنا مش بخاف طول ما إنت جنبي."
مسك إيدها وقال بحزم :
"وعد، مش هسيبك تاني تتكسري."
"الحق بيخرج دايمًا متأخر… بس لما بيخرج، بيكوي كل اللي خبّاه."
الليل كان هادي، بس الهوا ثقيل كأنه شايل ريحة شرّ جاي. صوت عربية وقف قدّام الفيلا، والبوّاب جري يفتح وهو مش فاهم مين اللي جاي في الوقت ده.
الباب اتفتح بالعافية، وطلعت فتنة بخطوات واثقة، لابسة عباية سودا فخمة، شعرها طالع من الطرحة، وعينيها برق.
دخلت الصالة من غير ما تستأذن، والرجالة اللي معاها فتحوا الباب على الآخر.
أم حنان كانت قاعدة على الكنبة، في حضنها التوأم نايمين، ولما شافتها قامت واقفة زي اللي شاف شبح :
"إنتِ؟! إزاي خرجتِ من السجن؟!"
فتنة ابتسمت ابتسامة باردة، وقالت وهي بترمي شنطتها على الترابيزة :
"اللي زيّي ما يتسجنش يا حجة، اللي زيّي بيتحبّوا غصب عن الكل."
عصام نزل من فوق، صوته عالي :
"في إيه يا ست فتنة؟ إيه اللي جابك هنا؟!"
لفّت عليه وهي بتولّع سيجارة وقالت :
"جيت أرجّع بيتي يا عصام، رجّعته بعد ما وسّختوه، و متنساش إني أمك والبيت ده ملكي وانت كمان ضيف فيه "
أم حنان قربت منها، صوتها فيه وجع وغضب :
"ده بيت بنتي، وأنا قاعدة هنا مع عيالها، محدش وسّخ حاجة."
فتنة ضحكت، ضحكة سمّها يقتل :
"بنتك؟ بنتك ماتت و التانيه خلّت إسم العيلة في المحاكم. عايزة تتنازل؟ تتجوز عصام، مش عايزة؟ تطلعو من البلد كلها إنتِ وجوزك وعيالك و مالكيش حاجه عندي."
أم حنان اتقدمت بخطوة وقالت بصوت مبحوح :
"إنتِ مريضة، مش كفاية اللي عملتيه في حنان؟ لسه عايزة تنتقمي من الباقيين؟"
فتنة رمقتها من فوق لتحت وقالت بسمّ :
"حنان ماتت، خلاص، اللي عايشين لازم يتربّوا. وأنا هربّيهم بطريقتي، مش بطريقة الست الضعيفة اللي بتقعد تعيّط في وش العيال."
عصام اتدخل وقال بصوت عالي :
"فتنة خلاص، ما تنسيش إنك كنتِ السبب في كل البلاوي دي."
لفّت عليه بعينين بتولّع وقالت :
"أنا السبب؟ ولا إنت اللي جبت ستات مش تمام للفيلا وخليت الكل يضحك عليّا؟ من النهارده الفيلا دي ليا، ومش عايزة أشوف ولا وشّ غريب فيها، و ما تنساش حدودك معايا، أنا أمك."
أم حنان شدّت التوأم في حضنها وقالت بحزم رغم دموعها :
"مش هطلع من هنا، دول عيال بنتي."
فتنة بصّت للرجالة اللي وراها وقالت ببرود قاتل :
"خرّجوها."
الرجالة بصّوا لبعض بتردد، واحد فيهم قال :
"يا ست فتنة دي ست كبيرة."
صرخت بصوت هزّ البيت :
"قلت خرّجوهااااا."
أم حنان صرخت :
"كفاية يا فتنة، كفاية ظلم. حرام اللي عملتيه في حنان، لسه مش شبعانة من دموع الناس؟"
فتنة ردّت بنبرة باردة كأنها بتعلن حكم :
"أنا اللي بقرّر مين يعيش ومين يخرج من هنا. إنتِ تطلعي فورًا، والعيال دول هيعيشوا هنا مع أبوهم. وأسماء بنتك تتنازل عن القضية، ولا والله ما هتشوفي لا العيال ولا بنتك تاني."
أم حنان شهقت وقالت :
"تهدديّني بولادي؟"
فتنة رفعت إيدها وأشارت للرجالة اللي وراها :
"خرّجوها من هنا، دي ما ترجعش تدوس عتبة الفيلا تاني."
الرجالة قربوا منها، أم حنان صرخت وهي ماسكة التوأم :
"ما تلمسونيش، عيب عليكم، أنا أم، أنا اللي ربيتهم. "
فتنه أخذت التوأم من حضنها بمساعده الشغاله ووقفت قدام الكل.
الرجالة مسكوا أم حنان و عيالها، وهي خارجة، دموعها بتغرق وشّها.
التوأم صحوا من صوتها العالي وابتدوا يعيّطوا، وهي بتقول وهي بتترعش :
"يا رب.. يا رب أنصر الحق على الظلم.. يا رب.."
فتنة وقفت على باب الفيلا، بصّت لهم وهما بيخرجوا، وقالت ببرود كأنها بترمي جملة عادية :
"الشارع أوسعلك يا أم حنان، وإنتِ اللي جبتيه لنفسك."
الرجالة خرجوا، والباب اتقفل وراهم بقوة. الشارع كان فاضي، والليل بارد، والهوى بيصفّر.
أم حنان نزلت السلم بتترعش، صوتها مبحوح وهي تبكي :
"ربنا كبير يا فتنة، الظلم عمره ما بيدوم، ويومك هييجي، زي ما جه يوم غيرك."
وأم حنان ماشية حافية، شايلة عيالها في حضنها، والدموع نازلة وهي تهمس :
"يا رب.. إنت الحكم العادل، ما تسيبهاش تفرح."
في نفس اللحظة، من شباك الفيلا فوق، فتنة كانت واقفة، عيونها شايفة كل حاجة، بس قلبها حجر. نظرت للأرض وقالت بهدوء شيطاني :
"إتعلموا تسكتوا لما الكبير يتكلم."
الناس في البلد كانت شايفة المشهد من بعيد، كلهم حاسين بالظلم، لكن محدش نطق. بس في عيونهم نظرة غضب باهتة زي نار تحت الرماد، مستنية اليوم اللي تولّع فيه الدنيا على فتنة.
الليل كان هادي، بس جوّه الشقة فيه عاصفة. أسماء قاعدة على السرير، وشها شاحب، وإيديها بتترعش وهي ماسكة التليفون، لسه سامعة خبر خروج فتنة وكلامها الحقير عن أمها.
أسامة دخل الأوضة بهدوء، قرب منها، قفل التليفون من إيدها، وقال بصوت واطي بس مليان حنان :
"كفاية يا أسماء، ما تعذبيش نفسك أكثر من كده."
رفعت عينيها له، دموعها مغرّقة خدّها وقالت بصوت بيكسر القلب :
"هي اللي عملت فيا كده، هي اللي حرّضت عليّا الناس. والنهارده واقفة بتتشرّط إن أتنازل و اتجوز إبنها وتطرد أمي."
أسامة جلس جنبها، مسك إيديها اللي كانت بتترعش، وقال بهدوء :
"أنا عارف، بس ربنا مش سايبك. وصدقيني يا أسماء، أمك تقدر ترد الضربة قانونًا. هي ممكن ترفع دعوى حضانة للتوأم، طالما حنان اتظلمت و ماتت وحماتها فقدت الأهلية المعنوية بسبب الجرائم اللي عملتها."
أسماء هزّت راسها بيأس، وصوتها مبحوح :
"أمي؟ دي خلاص انكسرت، وأبويا، ولا كأنه موجود. أنا مش عايزة قانون، أنا عايزة عدل."
قرب منها أكثر، إيده لمست خدّها اللي مبلول بالدموع، وقال بصوت هادي جدًا :
"العدل هييجي، بس مش بالنار يا حبيبتي، بالثبات. أنا جنبك، ومش هسيبك لوحدك تاني."
تاهت من الكلمه اللي سمعت، وخاصة حسّتها طالعه صادقه. نزلت راسها على صدره، وصوتها بيتهز بين شهقاتها :
"كل حاجة بترجعلي كوابيس، حتى وأنا بحاول أعيش، عارفه إني بعذبك معايا. كل مرة أقفل الصفحة، ألاقيها بتتفتح من تاني."
أسامة ضمّها أكثر، إيده التانية على شعرها، وصوته ناعم بيحاول يحتويها :
"بصيلي يا أسماء، أنا مش شايف فيكِ ضحية، أنا شايف مقاتلة. اللي مرّيتي بيه كان جحيم، بس اللي بعده هيكون حياة."
أسماء سكتت لحظة، وبصّت له والدموع في عينيها، وقالت بنبرة ضعيفة بس صادقة :
"إنت الوحيد اللي مصدّقني، كل الناس شافوني غلطانة، حتى وأنا المكسورة."
قرب منها أكثر، وشاف في عينيها وجع الدنيا كلها، وقال وهو بيبص جواها :
"أنا مصدّقك، وعارف إنك نقية زي الميّة اللي ما تعرفش الكذب. اللي لمس روحك ظلم، بس اللي معاك دلوقتي هيطهّر الوجع."
مدّ إيده بلُطف على خدّها، قرب منها لحد ما النفسين اختلطوا، بس بدل ما يبوسها، لمس جبينها ببطء وقال بهمس :
"أنا مش عايز ألمسك من ضعف، أنا عايز ألمسك وإنتِ متصالحة مع نفسك."
دموعها نزلت تاني، بس المرة دي كانت دموع راحة. سندت راسها على صدره، وهو حضنها كأنه بيحميها من العالم كله.
قالها بصوت هادي :
"نامي يا أسماء، أنا هافضل صاحي لحد ما قلبك يهدى، ولما تفتحي عينيك الصبح، هتلاقي الدنيا لسه فيها أمل."
همست بخفوت وهي بين أحضانه :
"وجودك بيخليني أصدق إن فيه أمان."
ردّ عليها بابتسامة صغيرة ودمعة في عينه :
"وإنتِ السبب إني عايز أعيش."
الليل سكت، بس في وسط الهدوء، كان فيه دفء غريب مليان حب، زي أول ضوء فجر بيكسر عتمة عمرها الطويل.
النهار كان داخل على المغرب، الجو ساكن، والبيت فاضي على غير العادة.
نورهان قاعدة في الصالة، لابسة تريننج بسيط، شعرها ملموم فوق راسها، وبتلعب في الموبايل كده من غير هدف، الهدوء قاتل بعد ما فايزة راحت تولد عند أمها.
كل شوية تبص على الساعة وتتنهد :
"يا نهار أبيض، حتى التليفزيون زهق."
وفجأة، الموبايل رن و هي خلته يرن كثير بعدها قررت ترد .
الإسم على الشاشة : ياسر.
رفعت حاجبها باستغراب وقالت وهي بتبتسم نص ابتسامة :
"هو في إيه؟ ده عمره ما بيتصل، ماله النهارده؟"
ردت بخفة دمها المعتادة:
"إيه يا أستاذ ياسر؟ الدنيا ولّعت؟"
ضحك وصوته باين عليه متوتر شوية بس دافي :
"ولعت فعلاً… بس جوايا أنا."
اتكركبت ضحكتها وقالت :
– "نار جواك؟ هو إنت كويس؟"
قال بجدية فيها خجل :
"أنا مش هلف ولا أدور، يا نورهان.
أنا معجب بيكِ."
سكتت، زي اللي الزمن وقف عنده، عينها وسعت، وقلبها دق بسرعة.
"هاه؟ إنت بتهزر؟!"
جاوبها : "لأ والله ما بهزر، أنا يمكن عمري ما اتكلمت معاك كثير، بس دايمًا كنت باخذ بالي منك. كنتِ في الحارة زي النسمة، دايمًا بتضحكي وتهدي اللي حواليكِ، وانا بصراحة قلبي ارتاحلك من زمان."
ضحكت بخجل وهي بتحاول تهرب من الموقف :
"طب وإنت كنت مستني إيه كل ده؟"
ياسر :
"كنت مستني أشوفك من غير الناس، وأكلمك وأنا راجل واضح. أنا ناوي أجي البيت وأسأل رسمي، بس قبل أي خطوة، كنت محتاج أعرف منك حاجة."
–نورهان : "إيه؟"
ياسر : "هل فيه حد في حياتك؟"
سكتت، وبصت ناحية الشباك كأنها بتدور على إجابة في الهوا، وبعدين قالت بخفوت :
"أنا؟ لأ… ما فيش."
صمت قصير، بعدها سمعته بيضحك وقال :
"تمام، يبقى المرة الجاية هكون عند بابكم."
نورهان : "إنت مجنون يا ياسر!"
ياسر :
"مجنون بيك، يمكن."
ضحكت غصب عنها، وحطت الموبايل على الكنبة بعد ما المكالمة خلصت. فضلت تبص فيه وهي مش مصدقة.
قالت لنفسها بخجل وهي تلمس خدها اللي سخن :
"هو قالها بجد؟ ده أنا حتى ما كنتش واخدة بالي إنه بيبصّلي كده."
البيت لسه هادي، بس جواها كان في دوشة حلوة، قلبها بيخبط، وابتسامة صغيرة مش راضية تروح من على وشها. كانت أول مرة تحس إن الهدوء له طعم تاني.
عند فارس...
بعد فراقه عن زينب...
البيت كان ساكن، بس سكونه ثقيل، زي الهمّ اللي على قلب فارس. من يوم ما حصل اللي حصل، بطل يضحك، بطل حتى يقعد معاهم على السفرة. الأكل بيتحط قدّامه ما بياكلش.
أمه كانت قاعدة في الصالة، وشها متغيّر، عينها بتدوّر عليه كل شوية.
بصّت لأخته وقالت :
"روحي ناديه يا ماهيتاب ، قلبي مش مطمن."
دخلت ماهيتاب بعد دقايق، وقالت بهدوء :
"قاعد في أوضته، وشه أصفر ومش عايز يتكلم."
الأم قامت بسرعة، دخلت الأوضة من غير استئذان. فارس كان قاعد على طرف السرير، وشه شاحب، الدقن نابتة، والعينين مطفية.
قالت وهي بتحاول تمسك نفسها :
"مالك يا فارس؟ بقالك فتره ما بتاكلش، ولا بتتكلم معانا، هو في إيه؟"
ما ردش، بس صوت نفسه كان ثقيل.
قربت منه أكتر، قالت وهي بتحاول تهدي لهجتها :
"لو زعلت مني في حاجة، قولّي. بس ما تفضلش كده ساكت، أنا أمك."
رفع عينيه ببطء، نظرة كلها وجع، وقال بصوت مبحوح :
"ما زعلتش منك يا أمي، بس اللي وجّعني إنكِ ظلمتِ بنت الناس."
الأم اتلخبطت، قالت بحذر :
"زينب؟!"
هزّ راسه، دمعة نزلت منه غصب عنه :
"أيوه، زينب. بعد ما عرفت إنكم رفضتوها، قالتلي خلاص، مش عايزة تكمل."
ماهيتاب اتنهدت وقالت بخفوت :
"يا ماما، إحنا فعلاً كنا قاسيين عليها شويه. بس برضو عندنا عذرنا. "
الأم سكتت ثواني، وشها اتبدّل، وصوتها بقى واطي ومليان ندم :
"أنا ما كنتش قاصدة أجرحها يا فارس، كنت خايفة عليك. في فرق الطبقات "
رد عليها بسرعة وهو بيكتم غيظه :
"خايفة عليّا من إيه؟ من واحدة يتيمة، غلبانة؟ دي أنظف بنت قابلتها في حياتي. كانت بتخاف عليّ أكثر منك."
الأم دمعت، قعدت جنبه وقالت وهي تمسك إيده :
"يمكن كنت غلطانة يا ابني، بس كل أم بتخاف تشوف إبنها بيتعب، كنت خايفة تتجوزها وتتعبوا سوا، الظروف كانت كلها ضدكم."
فارس شدّ إيده بهدوء وقال :
"مافيش وجع أكثر من اللي أنا فيه دلوقتي. كنت هتحمّل كل حاجة وهي جنبي، بس من غيرها، أنا تايه."
سكت لحظة، بصّ لأمه وقال بصوت مكسور :
"كل مرة أفتكر نظرتها وهي بتقولي (خلاص يا فارس، كفاية وجع)، بحس إن روحي بتتسحب مني."
الأم ما قدرتش تمسك دموعها، قامت بسرعة، حضنته وقالت :
"يا ابني، لو كنت أعرف إنك بتحبها كده، ما كنتش رفضت أبداً."
نسرين بلعجيلي
ماهيتاب وقفت تبصّ لهم، دموعها في عينيها وقالت :
"اللي راح يمكن ما يرجعش، بس يمكن ربنا يحنّن قلبها تاني."
فارس بصّ بعيد، صوته مبحوح وهو يقول :
"زينب ما بترجعش، هي لما بتقرر تمشي، بتمشي للأبد."
الأم مسكت إيده تاني وقالت برجاء :
"طب سيبها عليّا يا فارس، أنا اللي هروح لها."
بصّ لها، ضحكة حزينة كسرت صمته :
"بعد ما كسرتوها؟ هي مش محتاجة زيارة يا أمي، هي محتاجة زمن يرجّع اللي راح."
سكت الكل. الهواء في الأوضة ثقيل،
وأمه بصت له بحب وندم في نفس اللحظة، وهي بتتمتم في سرّها :
"يا رب، رجّعله قلبه قبل ما يضيع."
في مكان بعيد في البلد....
النهار كان مايل على المغرب، والبلد كلها قايمة على صوت دوشة غريبة. ناس بتتكلم بصوت عالي، رجالة بتتجمّع عند البيت ،ستات بتصوت ووشوش الخوف مالية المكان.
بطة كانت نايمة في أوضتها، الباب مقفول، والهوا خانق، صوت الجيران على بعد كأنه بيقرب شوية بشوية.
قامت مفزوعة، قلبها اتقبض فجأة من غير سبب. لبست طرحتها بسرعة وفتحت الباب :
"في إيه؟! مالكم بتزعقوا كده إيه الصويت ده ؟"
طلعت تجري على الشارع، الناس بتبصّ لها بنظرات غريبة، نصهم ساكت، ونصهم بيهمس لبعض.
قربت أكثر، شافت عم أحمد (أخو جوزها) ماسك تليفونه، وشه أبيض زي الورق، والرجالة حواليه بيقولوا :
"أسترها يا رب… لا حول ولا قوة إلا بالله إنا لله وإنا إليه راجعون ."
بصّت له بخوف وقالت :
"مالك؟! في إيه؟! قولّي."
ما نطقش، إيده كانت بترتعش وهو بيوريها الموبايل.
الصورة طلعت… صورة أحمد.
جسمه كله دم، هدومه مقطّعة، ومرمِي جنب الزبالة في شارع غريب.
الدنيا لفّت بيها، رجليها مش شايلينها، وبعدين طلع منها صوت ما طلعش من حنجرة بني آدم، صرخة هزّت الحارة كلها :
"أحــــــمــــد."
الناس اتجمّعت حواليها، واحدة منهم قالت وهي بتحاول تمسكها :
"إهدي يا بطة… إهدي يا بنتي."
بس هي كانت خلاص، وقعِت على الأرض، إيدها ماسكة التليفون، وعينيها متعلقة بالصورة. بتصرخ وتنوّح وتقول بصوت متقطع :
"ده إبني … ده حياتي… ده لحمي."
الرجالة حاولوا يشيلوها، والنسوان بتعيّط، وصوت الحزن مالي البلد كلها. حتى اللي كانوا بيكرهوه وقفوا ساكتين، مش مصدقين إن النهاية كانت كده.
والبلد كلها سمعت صرخة بطة في الليلة دي، صرخة وجع مافيهاش نقطة كذب، كأنها بتودّع عمر كامل من الذلّ والغلّ والخطايا، صرخة… حرّقت السما قبل ما توصل للأرض.
صرخة بتقول : حقك رجع يا نوارة، الروح غالية عند ربها.»
"الظلم ما بيعيش، حتى لو مشي على رجله سنين، بييجي يوم ويتكعبل في عدل ربنا."
اللهم إنك ترى القلوب الموجوعة ولا تغيب عنك الدموع المكبوتة.. فارفع عن كل مظلوم ظلمه، ورُدّ كيد كل فاجر في نحره.. واجعل في كل ليلٍ مظلم، نور عدلك يا رب العالمين.