
رواية الماسة المكسورة 2 الفصل السابع عشر 17 ج 2 بقلم ليله عادل
قصر الراوي4:00 فجرا
عاد رشدي إلى القصر أخيرا بعد ساعات طويلة من اللف بالسيارة بلا وجهه محدده، وبمجرد أن دخل غرفته، أغلق الباب خلفه بقوة، بدأ يتجول فيها بلا وعي، كان يتحرك بعصبية، وكأنه محبوس داخل جسد يصرخ من الداخل.
أنفاسه متقطعه، وظهره يؤلمه بشدة، ويشعر بوخز في أطرافه، والصداع يضرب رأسه بقسوة حتى صار يجز على أسنانه من الألم، اقترب من الحائط، وأسند جبهته عليه، بدأ يخبط رأسه بخفة أولا، ثم بقوة أكبر، كأنه يريد أن يخرس ذلك الصوت الذي يصرخ داخله: خد جرعة، فقط جرعة صغيره وسترتاح.
ابتعد عن الحائط، جلس على طرف السرير، فتح علبة السجائر بعصبية، أشعل واحدة ثم أخرى، الدخان يملأ الغرفة، لكنه لم يهدأ.
مد يده نحو الدرج، تردد ثم فتحه بعنف كان هناك الكيس الصغير ظل يحدق فيها للحظات بتردد، وصوت لمياء صديقه مي يضرب رأسه بلا هوادة " البنت دى حاربت الدنيا كلها علشانك، ارجوك متخذلش ثقتها فيك ولا توجعها" ثم همس بصوت مبحوح: لأ مش هعمل كده.
لكن جسده لم يطاوعه، والالم أكثر من احتماله، تحركت أصابعه بلا وعي نحو الكيس، دقات قلبه ارتفعت بسرعة كأنها ستحطم صدره، هو لا يريد أن يفعلها يريد أن يقاوم من أجلها، يريد أن يتعافى، لكن الألم في جسده ورأسه كان أكبر من أن قدرته على الاحتمال، والصوت في رأسه يصرخ "شمة واحدة فقط قد تقلل كل هذا الوجع"
أمسك الكيس بثقل وكأنه يزن أكثر من وزنه، وضع منه على الطبق، وقسمه لخطين، التردد يسيطر على كل حركة، شفتيه تهتز بلا وعي، كأنهما تقولان له شيئا لم يستطع التعبير عنه.
امسك الطبق بيدين مرتجفتين، وكاد أن يستنشق، لكن فجأة اقتحمت صور مي عقله؛ بابتسامتها الرقيقة، كلماتها المليئة بالثقة "أنا بثق فيك يا رشدي، أنت قوي"
اهتز الطبق بين يديه فوضعه على الكومودينو، وأخذ يتحرك داخل الغرفة ذهابا وإيابا بسرعة وتوتر، وكأن كل خطوة كانها صراع بين الرغبة والرفض.
اشتد به الألم أكثر، فأخذ ينظر لطبق المخدر بتوتر وعينان تلمع بدموع العجز، وسرعان ما أنهار تماسكه وهرول بضعف نحو الطبق واخذ يستنشق ربما يضع حدا لذلك الالم الذي يفتك به
وما هي إلا ثواني، حتي شعر بجسده يرتخي، الصداع يتراجع، والتنميل اختفى تدريجيا.
جلس للحظة ساكنا، كأن السكون عاد إليه أخيرا بعد غياب طويل، وما هي إلا ثواني حتي توقف ونظر لنفسه في المرآه بغل بكره، فمد يده إلى الطفايا الزجاجية على الطاولة أمامه، وألقاها على الأرض بكل ما فيه من غضب، تحطمت الطفايا، وتناثرت شظاياها حول قدميه، تماما كما تناثرت بقايا عزيمته.
جلس على الأرض يدفن وجهه في كفيه، يهمس بصوت مكسور: أنا فاشل... فاشل.
قبض كفه وضرب الأرض بعزمته وأخذ يبكى بضعف شديد
💞______________بقلمي_ليلةعادل
فيلا سليم وماسة،12:00ظهرا
غرفة ماسة
كانت ماسة نائمة على الفراش، يبدو عليها الإرهاق، وبعد قليل دخل سليم، وعلى وجهه ابتسامة مشرقة كان يحمل ملفا بيده، تحرك نحوها وجلس على طرف الفراش، وضع ملف على الكومود، ومد يده برفق ليوقظها بإبتسامة لطيفة: ماستي الحلوة، أصحي يا كسولة كل دى نوم؟
فتحت عينيها ببطء: أنا صاحية.
مسح على وجهها بحنان قائلا بمزاح: اللمسة دي مسموحة؟
رفعت حاجبها بنبرة متعبه: بطل بواخة يا سليم.
ضحك بخفة: مالك طيب؟
ماسة بألم ودلال طفولي: عندي تعب بنات.
ضحك بخفة، وقال ممازحا: بس كده؟ حالا نعمل العلاج اللازم.
نهض من مكانه، وتحرك نحو الخارج، عاد بعد قليل، وهو يحمل كوبا من النعناع وقربه ساخنه، أقترب منها قائلا بنغمة دافئة: ماسوو..
رفعت عينيها نحوه: نعم؟
وضع الكوب على الكومودينو، ثم خلع جاكيت بدلته وألقاه على الفوتيه، وتمدد بجوارها وهو يمد يده بالقربة: ممكن تحطيها على بطنك شوية؟
مدت يدها وأخذتها منه: حاضر.
سليم بإهتمام: عملتلك نعناع تشربيه لما يدفا.
هزت رأسها موافقة بإبتسامة صغيرة، وبعد لحظة من الصمت استدارت بجسدها، وقربت ظهرها منه حتى التصقت بصدرة، واخذت يده ووضعتها برفق على بطنها، فإبتسم وضمها إليه أكثر، حتى سكنت أنفاسهما معا.
مسح على بطنها، وهمس بإبتسامة هادئة وحنان: علشان كده كنتي تعبانة إمبارح، وماصدقتي ماما قالت خدي مسكن!؟
رفعت رأسها قليلا، وأجابت بتوضيح ودلال طفولي: أنا تعبانة بقالى كام يوم أصلا، وأنت كنت مقموص مني، وسايبنى تعبانه لوحدى.
رفع حاجبه: مقموص!
هزت رأسها بدلال: أمم، وكل ما أكلمك مش بترد عليا، كنت رخم أوى يا سليم.
ابتسم يمازحها: ولما أنا رخم كنتي راحه جايه ورايا، وبتتمنى بس أرد عليكي ليه؟! اعترفي إنك مكنتيش قادرة على بعدى.
نظرت إليه من طرف عينها بغيظ، ثم أمسكت كفه وعضته فجأة، فصاح متألما وهو يسحب يده من بين أسنانها: إيه يا ماسة دى أنت أتصرعتي؟! هو أنتِ بطلتي عناد وهتكمليها عض.
نظرت إليه بغضب طفولى: اه إن كان عاجبك، علشان تبطل تستفزني.
أجابها بمكر وهو ينظر داخل عينها: ولو مبطلتش؟!
لمحت المكر في عينيه وفهمت ما ينوي فعله، فتراجعت قائله بدلال وتعب: بس بقي يا سليم أنا تعبانه، ومش قادرة.
ضحك وهز رأسه بغلب: ولما أنتِ تعبانه بتنكشيني ليه.
نظرت إليه بعيون بريئة وتعب، فتنهد قائلا بحنان: طب خلاص معلش، شويه وهتكوني كويسه قومي اقعد اشربي النعناع.
جلست وهي تضم القربه لبطنها، ناولها كوب فأخذت تتناوله بهدوء حتى انتهت فأخذه منها ووضعه على الكومود، عادت وتمدت، تمدد خلفها وضمها مره آخره، وظل محتضنا إيها بحنان وهو يمسح على بطنها وكأنه يمحو الألم بلمساته الدافئة.
قطعت الصمت وهو ترفع رأسها اليه وتتساءل بفضول: كنت في الشغل؟
هز رأسه بابتسامة: لا، كنت في حتة تانية مهمه، وهتفرحك خالص.
تساءلت بفضول ودهشة: إيه هي؟
سليم بلطف: لما تبقي كويسة هقولك.
أصرت بفضول أكبر وهي تلفتت نحو: لا والله، قولي دلوقتي.
ابتسم لها وهو يقرصها من انفها: ماشي يا فضوليه.
نهض وجلس وأخذ الأوراق من على طرف السرير، وقدمها لها: كنت بخلصلك الورق ده.
جلست وضيقت حاجبيها باستغراب: ورق إيه ده؟
أخذته من بين يديه تقرأ ما به، وسرعان ما اتسعت عيناها ورفعت رأسها تتساءل بصدمه: هو إللي انا قرأته ده صح؟
هز رأسه بابتسامة موضحاً: آه، قدمتلك في الجامعة علشان تكملي دراستك، أنا دخلتك من سنة تانية علطول، بس لو أنتِ بقي الاجتهاد واخد حده معاكي وعايزة تعيدي سنة أولى تاني، مفيش مشكلة.
اتملئت عيناها بالدموع، وهي تهمس بدهشة وسعادة: بجد يا سليم؟ هتسيبني أكمل الجامعة؟
هز رأسه بابتسامه تأكيد: أيوه طبعا.
شعرت بسعادة كبيرة، فمدت يدها فجأة ولفتها حول رقبته، وضمته إليها بتلقائية وهي تقول: شكرا يا سليم.
رفع يده يبادلها العناق وهو يمسح على شعرها بحنان وارتياح لرؤيتها سعيدة، ابتعدت عنه وامسكت يده بحماس: بجد دى أحلى خبر.
ابتسم معلقا بمزاح: إيه التعب راح دلوقتي.
هزت رأسها تضحك بحماس: لازم يروح.
صمتت لحظه، ثم تساءلت وهي تضيق عينيها بشك: بس ثانية، هتسيبني أروح أحضر المحاضرات ولا الامتحانات بس؟
ابتسم بلطف مفسرا: لا، هتروحي تحضري محاضراتك عادي، ومن بكرة كمان لو تحبي، أنا جبتلك الجدول.
قالت بنبرة لازعة بيها شك وهي تقعد حاجبها: وطبعا مكي هيحضر معايا؟ وراوية تقعد جنبي، ولو حبيت أروح أشرب حاجة مع أصحابي ترفض ومكي يتحايل عليك، وتعمل طبعا تحرياتك على أي حد أعرفه، علشان تحددلي أكلم مين ومكلمش مين، وكل حاجة بمحايلة ده غير طبعا تجيبني وتوديني كأني طفلة.
ضحك يهز رأسه: لا لا لا، مش هعمل أي حاجة من دي، هتروحي مع السواق عادي والحراس هيبقوا معاكي من بعيد لبعيد زي زمان، مش هتحسي بوجودهم أصلا ووقت ما تحبي تخرجي مع أصحابك مدام قريب من الجامعة عادي لكن لو هتبعدي أتصلي عرفيني بس.
ضيقت عينيها بشك: مش مصدقاك.
مد وجهه: إحنا فيها، ممكن تخرجي مع سلوي النهارده وتشوفي بنفسك؟
ضيقت عينيها: تست؟!
سليم بتأكيد: بالظبط.
ضيقت عينيها وهي تتساءل بعدم فهم: أنا عايزة أفهم أسبوع الفرصة بتاعك ده، حاسه إنك هتخلصه وأنا مش معاك، مش فاهماك! ناوي على إيه؟
ركز النظر في ملامحها بحب: ناوي أصلح كل حاجة انكسرت، وأوريكي إنها بتتصلح.
ابتسمت وقالت مازحة: هنشوف.
نظر لها نظرة ذات معنى: أفتحي أخر ورقتين في الملف.
فتحتهم ولم تفهم شيئا، فرفعت عينيها اليه بإستغراب.
رد على نظرتها بتوضيح: ده مشروع صغير، حاولي تفكري فيه وتشوفيلنا حل، علشان قررت كمان إنك تروحي معايا المجموعة تساعديني وتديري ممتلكاتك.
ثم أضاف بمزاح: أنا مش هفضل أديرهالك كدة علطول، انزلي وشوفي شغلك.
نظرت له بدهشه غير مصدقة، ولم تستطع الرد.
تفهم نظراتها، فابتسم برقة وأعادها بين أحضانه مجددا، وهمس: ارتاحي بس دلوقتي، وبعدين هتفهمي كل حاجة.
هزت رأسها موافقة بصمت، واستسلمت للهدوء والدفء الذي أحاطها به، لكن عينيها ظلت تعكس مدى استغرابها وارتباكها
في إحدى ورش الخشب الكبيرة، 1:00 ظهرا.
وقف محمود أمام المكتب، وأمامه كان يجلس الحاج شاهين (رجل في منتصف الخمسينات، بهيئه متصابيه يظهر عليه أثر صبغ الشعر واهتمام ملحوظ بالمظهر والملابس).
محمود: صباح العسل ياحاج
أجابه شاهين بجدية: صباح النور يا محمود، خد الفلوس وسلمها للحاج متولي، وقوله يهم شويه.
أومأ بابتسامه واسعه: عنيا الاتنين يا حج، اشرب بس كوبايه شاي عند الولا شيكو واصطبح واروح.
أخذ الفلوس ووضعها في كيس اسود، ثم ادخله الجاكيت، وصعد على الموتوسيكل الخاص به وتوجه إلى القهوة حيث كان توتو.
فيلا عائلة هبة، 1:00 ظهرا.
كانت الفيلا غارقة في صمت أنيق يليق بأصحابها، هبطت هبة الدرج بخطوات واثقة، كملكة تجيد فرض حضورها، وعيناها مثبتتان على لوجين الجالسة في منتصف الصالون.
وحين سمعت لوجين صوت كعب هبة يطرق الأرض، رفعت رأسها بابتسامة خفيفة تحمل اعتذارا، فردت عليها هبة بابتسامة باردة تماما.
بدأت لوجين الحديث بصوت هادئ متوتر: أنا آسفة يا مدام هبة إني جيتلك من غير معاد، بس المقابلة دي كان لازم تحصل.
عقدت هبة ذراعيها بتحفز: بس مش شايفة إن فيه أي كلام ممكن يدور بينا يا أستاذة لوجين.
عضت لوجين شفتيها بإرتباك: أنا مش جاية أتكلم عن نفسي، أنا جاية أتكلم عنك أنتِ وياسين.
اشاحت هبة بوجهها، وقالت بنبرة جامدة: لو سمحتي، مش عايزه اتكلم في الموضوع ده.
تقدمت لوجين خطوة حتى وقفت أمامها بإصرار: لأ، لو سمحتي أسمعيني، ياسين إنسان طيب جدا، وحاول كتير علشانك، يمكن أنتم محاولتوش كفاية، بس لازم تدوا لبعض فرصة علشان بنتكم على الأقل، متضيعيش كل إللي بينكم كدة بسهولة.
نظرت لها من أعلى لأسفل، ثم قالت بسخرية لاذعة: هو أنتِ فاكرة إني مش واخدة بالي؟ أنا ست مش غبية يا لوجين، أنا عارفة إن فيه مشاعر بينك وبين ياسين، صح؟
عقدت حاجبيها وتساءلت باستغراب: ومادام عارفه، ليه متحاربيش علشان تسترجعي جوزك؟ ولو على موضوع الإجهاض أنا ممكن اساعدك وتشرحيله أسبابك، وهو أكيد بعد ما يهدي هيتفهم أسبابك.
ضحكت هبة بسخرية أوسع: غريبة إنك ملهوفة أوي ترجعيني لياسين برغم إنك بتحبيه؟! إيه عايزة تحسي إنك بريئة يعني؟
هزت لوجين رأسها، بعينين تترقرق بدموع، وقالت بصوت مبحوح: أنا بس مش عايزة أبقى سبب خراب بيتكم.
أجابتها هبة بنبرة جامدة مغطرسة: متقلقيش، أنتِ عمرك ما هتكوني السبب، لإن أنا أصلا مش شايفاكي في الصورة، وأوعي تفتكري إن ياسين هو إللي سابني، لأ، أنا إللي سبته من زمان.
لوجين باستغراب: هو حضرتك بتتكلمي كدة ليه؟ أنا جاية بحاول أرجعك لجوزك!!
ابتسمت هبة ببرود أكثر: لأ يا لوجين، أنتِ جاية علشان متحسيش بالذنب، بس خليني أقولك نصيحة صغيرة كده، لو منك؟ أخلع، ومتجوزش واحد زي ياسين، علشان بعدين هتندمي العمر كله، متنخدعيش بالمظاهر.
اتسعت عينا لوجين بإستغراب شديد، بينما واصلت هبة حديثها بثقة جارحة: تفتكري واحد زي ده ينفع ست تتجوزه؟ واحد حب مراته وبعدين راح فكر في غيرها أول ما اتخنق؟ ده إنسان أناني، مبيفكرش غير في نفسه وبس، علشان بس اهتميت بشغلي شوية، راح عرفك وأكيد ده هيكون مصيرك بعدين، ده غير إن عيلته مجرمين ومنحطين، هيخلوكي تكرهي نفسك، وتبقي عايزة تخلعي جلدك عشان ميكونش ليكي صلة بيهم عيلة قذرة، وهو ميقلش قذارة عنهم.
تقدمت منها خطوة، وقالت ببرود قاتل: فمتقلقيش عليا، أقلقي على نفسك، أصل أنا شايفة مصيرك قصادي، بس على الأقل هو كان بيحبني ..
نظرت لها من أعلي لأسفل بتقليل واستحقار: إنما أنتِ مجرد كوبري، هيستمتع معاكي شوية وبعدين هيرميكي، وأنا مستنية أشوف دموعك لما تعاشريه وتعرفي حقيقته القذرة، ياسين ده عامل زي الكلب المسعور وأول ما بيعض مش بيعض الا أيد صاحبه.
كانت لوجين تصغي إليها بصدمة، وحاجباها معقودان؛ فكيف لها أن تقول ذلك عن زوجها ووالد ابنتها؟!
تغيرت ملامح لوجين فجأة، اقتربت منها خطوة وقالت بابتسامة قوية متحدية وكأن ما قالته هبة أطلق فيها روحا جديدة: تصدقي عندك حق، هو فعلا ميستاهلش واحدة زيك تبقى في حياته، هو محتاج واحدة أحسن منك تعرف قيمته وتحبه وتقدره بجد.
مالت برأسها وهي تمرر عينيها عليها بنوع من الاستحقار وتابعت بنبرة لازعة: وأنا كنت غبية لما كنت بزن عليه علشان يصالحك ويديكي فرصة، وهو غلبان كان فاكر إن فيه أمل! وحاول بكل الطرق، مع واحدة متستاهلش!
وقفت أمامها بثبات، عيناها تلمعان بالدموع والكرامة:
أنتِ متستاهليش حتى نص فرصة زيه، وأنا؟ أنا هتجوزه وهسعده، وهخليه يعرف يعني إيه يكون في حضن واحدة بتحبه بجد.
اقتربت أكثر، وهمست بحدة جارحة وثقه وبقين:
ومتقلقيش عليا يا هبة، أنا غيرك، أنا مش هضيع من أيدي الراجل إللي بحبه، ولا هفضل كل شوية اتهمه بحاجات ملوش علاقة بيها، ولا هسيبه يروح لوحده تانية، وهعرف أخليه يحبني، ويعيش علشاني، ويموت في التراب إللي بمشي عليه، وميستغناش عني ولا يشوف ست في الدنيا غيري
أرتجف صوتها غضبا: أنتِ إللي معرفتيش تحافظي عليه علشان غبية، وأنانية، وبشعة! وبعدين إزاي تتكلمي عن جوزك أبو بنتك كده؟ بس ما هو طبيعي، إللي تقتل ولادها الأتنين، وتهون عليها تموتهم بدم بارد، تعمل أكتر من كده!
وتابعت بصوت ثابت وحاد وكأنها اتخذت قرار: أنا كنت غبية لما قولتله أرجع لمراتك، بس أنا دلوقتي هروحله وهقوله إني موافقه اتجوزه، وهعوضه عن التعاسة والقرف إللي عاشهم في حضن واحده زيك.
نظرت لها هبة بدهشة ممزوجة بالحنق، بينما رفعت لوجين رأسها بكبرياء قبل أن تستدير وتغادر بخطوات سريعة، والعاصفة تتقد في عينيها.
صعدت إلى سيارتها وأغلقت الباب بعنف، ثم وضعت يديها على المقود لحظة قصيرة، قبل أن ترفع رأسها ونظرتها الحادة توحي بقرار لا رجعة فيه، ثم ضغطت على دواسة البنزين وانطلقت.
القهوة، 1:30 ظهرا.
أوقف محمود الموتوسيكل على جانب الطريق، ودخل القهوة، فوجد توتو جالسا مع شاب آخر يلعبان دومنة.
نادى بصوت عالي: شيكو، اعملي شاي وحجر معسل.
جلس محمود بجانب توتو وأخفض صوته قائلا في أذنه: أنا جبتلك ال 30 باكو.
أخذ توتو الكيس منه وقال: خلاص، النهارده هبعتهم لطه ونقب بقي.
محمود بتوتر وتحذير: توتو، أوعى نلبس، أنا كده هلبس مع شاهين ومع الزعيم، وأنا مش ناقص.
طمأنه توتو: يا عم، متقلقش.
مال محمود بجسده ناحية توتو: طب ما تتصل بالولا كيميا وخليه يجي، ونشوف الدنيا فيها إيه.
القي توتو حجر الدمنه: معيش رصيد، هبعت شيكو يناديله.
ضحك محمود بخفوت، وقال مازحا: طول عمرك معفن يلا، هكلمه أنا.
جهز له شيكو حجر المعسل، فسحب نفسا عميقا، ثم أخرج هاتفه وأجرى المكالمة: يا كيميا أنا مستنيك على قهوة شيكو أنا والولا توتو، تعالي.
مر وقت قصير، ثم ظهر طه (شاب رفيع بنظارة، يمشي بثقة زائدة) جلس معهم، فأعطاه توتو الكيس.
طه: خلاص بعد بكره ال30 تاخدهم مني 120.
محمود بقلق واضح: يا ريت، لحسن تبقى مصيبة وتتحط فوق دماغي، وأتعلق لو حصل غير كده.
طه بثقه زائده: متقلقش، المصلحه دى مضمونه.
منطقة سقارة، تحديدا في توابيت السرابيوم، 3:00 عصرا.
نري السائحين يتحركون بين الظلال القديمة، يتأملون هذا الإبداع الفريد، ويقف البعض منهم مبهورين أمام حجم التوابيت ودقتها، بينما يتساءل آخرون عن الغموض الذي يكتنف هذه التحف التاريخية.
فجأة، يظهر عزت الراوي، وهو يتقدم ببطء بين الممرات بخطوات محسوبه، ثم توقف فجأة أمام إحدى التوابيت، مركزا نظره عليها بدقة لم يسبق لها مثيل، ولم تمضِ سوى دقائق، حتى ظهر بجانبه رجل قوي البنية، تبدو ملامحه أوروبية.
تحدث الرجل بلكنة روسية: عزت باشا، كيف حالك؟
أجابه وعينيه لا تزال ثابتتان على التابوت: بخير، هل عرفت كل المعلومات التي تريد؟
هز الرجل رأسه بتأكيد: نعم، ومن اليوم سوف الحق بها كظلها، وقريبا سوف تسمع خبر موتها.
نظر إليه وخلع نظارته بهيبة: استمع لي جيدا ميخائيل، إذا كان سليم معها في أي لحظة، أوقف المهمة مهما كان الأمر.
ابتسم ميخائيل بثقة: لا تقلق رصاصتي لم تخونني أبدا
أعاد حديثه بحسم: قولت لك إذا كان سليم معها في أي وقت، أوقف المهمة.
ثم أدخل يده في جيب الجاكيت، وأخرج شيك ومد يده للرجل: هذا نصف المبلغ الآن، والنصف الثاني عند إتمام المهمه.
ثم تابع بحزم: أخرج بعد عشر دقائق.
غادر بخطوات ثابتة، بينما كانت الظلال الطويلة للتوابيت تلتف حوله، وكأنها تراقب كل تحركاته.
مجموعة الراوي، 3:00 عصرا.
مكتب ياسين.
كان جالسا خلف مكتبه، والأوراق مبعثرة أمامه كأنها فوضى تشبه ما بداخله، وفجأة، انفتح الباب بعنف كصفعة أيقظت المكان.
رفع رأسه بسرعة، واتسعت عيناه بدهشة حين رأى لوجين تقف عند المدخل، أنفاسها متلاحقة، وعينيها تتقدان بقرار حاسم.
نهض ببطء، كأنه يخشى أن يتحرك فتختفي: لوجين؟
تقدمت خطوة، وصوتها خرج ثابتا قويا: أنا موافقة يا ياسين إننا نتجوز.
تجمد في مكانه، يحدق فيها كمن يحاول استيعاب زلزال وقع فجأة، وصوته خرج مبحوحا، كأنه يخاف ينطق فتتبدد الحقيقة: بتتكلمي جد؟
ابتسمت ابتسامة مرتعشة، ورفعت يدها تمسح دمعة سقطت دون إرادتها: أيوه بتكلم جد.
تحرك ناحيتها بخطوات متسارعة، حتى وقف أمامها مباشرة، مد يده وأمسك يديها كأنهما آخر حبل يربطه بالحقيقة، نظر في عينيها بلهفة رجل غرق طويلا ثم وجد الهواء من جديد: قولي إنك بتتكلمي بجد، قولي إن ده مش حلم.
ابتسمت له ابتسامة فيها وجع وصدق واستسلام وعيناها تلمعان بدموع لا تخفي شيئا: بتكلم بجد يا ياسين، أنا آسفة، آسفة على كل حاجة، أنا كمان بحبك والله العظيم بحبك، بس كنت خايفة أضيع آخر فرصة بينك وبين مراتك، بس طلع عندك حق، فيه ناس فعلا متستحقش الفرص.
ابتسم ابتسامة مرتبكة، كأنه لا يجد الكلمات المناسبة لكل هذا الفيض من المشاعر فقال: طب تعالي أقعدي وبعدين نتكلم، شكل فيه حاجة حصلت.
هزت رأسها بخجل، ابتسامتها تهتز قليلا، لكن قبل أن تنطق، أمسك ياسين يديها بكل حماس وكأنه يخشى أن تتراجع: ولا أقولك؟ مش عايز أسمع ولا أعرف حاجة، مش مهم، المهم إنك موافقه، خلينا نكتب الكتاب بكرة والفرح يبقي آخر الأسبوع.
حدقت فيه بدهشة ممزوجة بضحكة خرجت رغم التوتر: ايه الجنان دى يا ياسين؟! مش بالسرعه دى.
ضحك والفرح يتدفق في صوته لأول مرة منذ زمن وهو ما زال ممسكا بيديها: وإيه اللى يخلينا نستنى، كفاية بعد ووجع، أنا خلاص مش عايز أضيع لحظة تاني من غيرك.
صمتت للحظه تفكر في كلامه، حتى قطع سيل أفكارها تساؤله بتوجس: بس مامتك ..!؟
هزت رأسها بثقة: لأ سيب ماما عليا، أنا هعرف أتصرف معاها.
لم يحتمل وفي لحظة بلا تفكير، اقترب منها بعنف دافئ، سحبها بين ذراعيه بقوة تحكي كل ما كتمه،
احتواها كمن وجد ضالته، ودار بها في الهواء وهو يضحك، ضحكة طفل، وحرمان رجل، وفرحة نجاة.
بين ضحكتها المختلطة بدموعها، ومع رأسها المستند إلى كتفه، همس قرب أذنها بصوت منكسر بالعاطفة: كنت عارف إنك هاترجعيلي، وإن حكايتنا مخلصتش لحد كده، كنت عارف، بحبك يا لوجين.
في أحد المقاهي، 4:00 عصرا.
جلست ماسة تحتسي قهوتها بهدوء وارتياح، وبعد دقائق، دخلت سلوى بخطوات متأنية، فلوحت لها بخفة، فاقتربت منها وجلست أمامها وهي تقول بإبتسامة ساخرة: مصدقتش وأنتِ بتقولي مستنياني في كافية؟!
ضحكت بخفة: إشمعنا يعني؟
سلوى بسخرية: اتصدمت إن سليم سابك تخرجي كده؟؟! ده أنا حتى مشوفتش الحراس برة! مفيش غير العربية، حتى السواق مش موجود!
ثم مالت للأمام هامسة: ايه مش خايف تهربي منه تاني؟ ولا مساومك المرة دي على حاجة؟
ارتشفت ماسة من قهوتها، قبل أن تجيبها بابتسامة: الحراس موجودين بس هو قالي مش هتحسي بيهم، وجيت لوحدي عشان أنا إللي طلبت كده؛ كنت عايزة أتعلم أتحرك لوحدي وأتعرف على الأماكن، وهو وافق وفضل معايا على التليفون لحد ما وصلت علشان متوهش، وكمان قدملي في الجامعه وهيسبنى أروح لوحدى عادي، ولما أخرج معاكي أو مع أصحابي هيسيبني براحتي زى دلوقتي كده، هنرجع زي زمان.
نظرت لها سلوي بترقب: وأنتِ مطمنه لكل دى مش خايفه يرجع يهددك تانى؟!
هزت رأسها بإبتسامة دافئة: لا مش خايفه، المرة دي هو فعلا مختلف.
ضيقت سلوي حاجبيها بإستغراب: مختلف إزاي يعني؟
أجابتها بنبرة حالمة، ولمعة خفيفة في عينيها: يعني رجع سليم إللي حبيته واتجوزته.
امعنت النظر فيها للحظة ثم قالت بدهشة واستنكار: هو أنتِ بجد ناوية تسامحيه بعد كل اللى عمله؟
ابتسمت وسرحت بنظراتها بعيدا: أيوه.
مالت بجسدها للأمام، وعيناها تلمعان بدموع ممزوجة بالحب والعجز، وصوتها خرج مرتجفا: أنا بحبه يا سلوي، بحبه رغم كل إللي حصل، وبعد كل إللي عرفته، وكل إللي عمله فيا وفيكم، بحبه ومعرفتش أكرهه، حاولت أكرهه وأقنع قلبي بس معرفتش، معرفتش غير إني أحبه...
أخذت نفس، ثم تابعت بارتجاف: وبعدين يا سلوى، هو ميعرفش أنا مشيت بالطريقة دي ليه، واتصرف كراجل طبيعي حر، مراته فجأة اتغيرت معاه وبعدها هربت كذا مره من غير سبب، عارفة إنه تجاوز في حقكم، بس هو عمل كده من جرحه وخذلانه مني..
أشارت بأصابعها بحركة حادة تؤكد المعنى: وأوعي تنكري إن لو كنت عملت كده مع راجل تاني غيره كان زمانه قتلني..
تبدلت ملامح سلوى، وشفتاها انعوجتا بسخرية ظاهرة دون تعليق.
تابعت ماسه برجاء صادق وعقلانيه: وأنتِ كمان يا سلوى، أدي فرصه لمكي، مكي بيحبك وحرام تضيعي الحب دى من أيدك، يمكن دى مكانش كلامي في الأول، بس وقتها أنا كنت مضطربه وخايفه، ومش عارفه افكر كويس، وصدقيني هما تابوا والله..
ردت عليها باستهزاء لازع: والنبي بلاش كلام أمك ده، هو أنت فكراني معدومة الكرامة زيكم.
اتسعت عيناها في صدمة، وقالت بصوت مرتعش: ايه اللى أنتِ بتقوليه دي؟! أنا معنديش كرامة؟! وبعدين متتكلميش على أمك كده عيب.
نظرت لها بثبات، وملامحها قاسية: أيوة معندكيش كرامه، إللي تقبل على نفسها تترمي تاني في حضن واحد عمل فيها إللي سليم عمله فيكي وفي أهلك تبقى معندهاش ريحه الكرامة.
مررت عيناها عليها من الأعلي إلي الأسفل باستهزاء: وبعدين أنتِ ايش ضمنك إنه ميرجعش يعمل معاكي اللى عمله تانى؟!
اطرقت ماسة قليلا، ثم قالت وهي ترفع رأسها بنظرة حائرة: ما الأسبوع ده في حاجات كتير هنقيمها سوا في علاقتنا كأنها اختبار، والدكتور كمان هيعلمني إزاي اقدر أتجاوز إللي حصل آخر ليلة.
قاطعتها بحدة وغضب: هي دي مشكلتك بس، ضربه ليكي بالحزام؟ وإنه حاول يغتصبك؟! هي دي بس إللي أنتِ مش عارفة تعديها نفسيا؟! لكن مجرد ما الدكتور يعالجك منها يبقي خلاص كده؟!
ضحكت باستهزاء وتهكم: وطبعا لأن ده أسلوبه، هيبدأ يبهرك بكلمتين وهتسامحيه، وبمجرد ماتستسلميله خلاص كده!
ماسة بعصبية مكتومة: على فكرة، أنتِ ظالمة سليم خالص، ولو أنتم متهمونيش زي ما بتقولي مكنتش هربت منه كذا مره من خوفي عليكم، ومكنتش فضلت زعلانة منه سنة! بعد اللى عمله مع عمار.
رفعت سلوى حاجبيها، ونبرتها امتلأت اشمئزازا: دي اللى بتحاولى تقنعي نفسك بيه علشان متقرفيش من نفسك وأنت نايمه في حضنه، أنا أصلا مش عارفه إزاى هتقبلي على نفسك تعيشي مع واحد قواد.
شهقت ماسة، واتسعت عيناها، وصوتها خرج خافتا لكنه غاضبا: وطي صوتك، وبعدين سليم مش قواد! قولتلك أنا مش مصدقة الموضوع ده، الحاجة الوحيدة إللي ممكن تكون صح حوار السلاح والآثار والماس، وبعدين قولتلك إنه تاب خلاص.
مالت سلوى بجسدها للأمام، وتساءلت بتهكم واستهزاء: وأنتِ إيه إللي مخليكي متأكدة أوي كدة إنه تاب؟
ارتبكت للحظة، زفرت ببطء، ووضعت يدها على صدرها، وقالت بصوت هادئ: لإني بثق فيه، وسمعته وهو بيتكلم مع مكي وقال إنه تاب، ما أنا حكيتلك وقتها.
أمالت سلوى رأسها بسخرية خفيفة: وأنتِ صدقتيه؟
هزت رأسها بابتسامتها مرتعشة: آه صدقته، يمكن في البداية كنت لسة تحت تأثير صدمة الصور والفيديوهات إللي شوفتها، بس أنا دلوقتي متأكدة إن سليم خلاص تاب زى ما أنا شايفاكي قدامي دلوقتي..
رفعت يدها تلقائيا، تشير لسلوى كأنها تثبت الواقع أمامها: سليم مش قواد ولا تاجر أعضاء يا سلوي، وتاب وبعد عن كل حاجة حرام كان بيعملها، وأنا مصدقاه.
قهقهت سلوى بضحكة تهكميه ساخرة: مش بقولك بتحاولى تجمليه، علشان لما تسامحيه متبقيش قرافانة من نفسك، صدق اللى قال مرايه الحب عاميه.
تجمدت ماسة، واتسعت عيناها بصدمة حزينة كمن تلقى طعنة غير متوقعة، فصاحت بنبرة ترتجف بين الغضب والجرح: خدي بالك من كلامك يا سلوى، واعرفي بتقولي ايه كويس..
التمعت نظرات سلوي بقسوة لا تخطئها العين، كأنها تقذف الحقيقة في وجهها عمدا لتجرحها، وقالت بسخرية مرة: أللي أعرفه حاجة واحدة بس، إنك بعتي نفسك وخنتينا.
سقطت الكلمات على ماسة كالصفعة، انعقد فكها فجأة، وجزت على أسنانها بحدة، ويدها ارتجفت قليلا وهي تحاول تهدئة نفسها.
خفضت عينيها للحظة، ثم رفعت نظرها بثبات موجوع، وملامحها تصلبت كصخرة تحاول ألا تنكسر، وقالت بصوت منخفض يخنقه غصة واضحة: الظاهر إنك لسة أعصابك تعبانة، خلينا نتكلم وقت تاني، أنا ماشيه.
وقفت ببطء، ووجهها ممتلئ بالوجع والغضب، كأن ملامحها تخفي صرخة كانت على وشك الانفجار، أمسكت حقيبتها بقوة، واستدارت بخطوة حادة نحو الباب، كأنها تهرب من سكين لا تقدر على تحمله
لكن سلوى لم تتركها، واتجهت خلفها بخطوتين سريعتين، وصوتها أنطلق كأنه ضربة مفاجئة شقت الجو، وعيناها تلمعان باستفزاز جارح وهي تقول: هو للدرجة دي حضن سليم خلاكي تنسي أهلك؟ هو إللي حصل بينكم عجبك أوي لدرجة إنك كنتي مستنياه يعملها، علشان تلاقي سبب يخليكي تترمي في حضنه تاني من غير ماتقرفي من نفسك؟
اتسعت عينا ماسة بصدمة فالكلام كان أصعب من استيعابها، رفعت رأسها ببطء، وصوتها خرج متقطّع بين الذهول والغضب: أيه إللي أنتِ بتقوليه ده؟ أنتِ اتجننتي؟!
أشارت بيدها في وجهه سلوى بنبرة لازعة: مش هقولك تانى حاسبي على كلامك معايا يا سلوى!
لم تتراجع سلوى، بل وقفت في مواجهتها، ورفعت ذقنها بثقة وقالت ببرود: أنا بقول الحقيقة، إنك واحدة رضيتي بالمهانة ورضيتي تعيشي مع واحد مجرم زي سليم.
ثم نظرت اليها بنظرة مليئة بالاستحقار، وقالت بنبرة لاذعه حادة كالسكين: قولي لي، محسيتيش بأي ندم أو خيانة وأنتِ في حضنه بعد إللي عمله في أهلك؟ احترمتِ نفسك؟ ولا حضن سليم للدرجة دي نساكي كل إللي عمله؟ طب مخوفتيش القواد اللى راميه نفسك في حضنه يبيعك بعد ما يزهق منك زى ما بيبع ويتاجر في غيرك...
اتسعت عين ماسة بصدمة، شهقت وهي تحاول أن تستوعب كلماتها، ولم تشعر بنفسها إلا ويدها ترتفع وتصفع سلوى على وجهها بقوة وهي تصرخ: بس كفاية!
تراجعت سلوى خطوة للخلف، وضعت يدها على خدها، وعيناها متسعتان من المفاجأة.
رفعت ماسة يدها وهي تشير بإصبعها بتحذير حاد مرتجف، وعيناها تلتمع بالدموع: أوعي تقلي أدبك معايا كده تاني! دي أول وآخر مرة تقولي لي كلام زي ده، أنتِ متعرفيش أنا عملت إيه واستحملت ايه علشانكم! ومسمحلكيش تتكلمي عن سليم كده تاني، دى وأول وآخر مرة تتكلمي عن جوزي بالطريقة دي! فاااهمةة.
نظرت إليها بخذلان: خسارة يا سلوى مكنتش متوقعة أبدا إن الكلام ده يطلع منك أنتِ.
قالت كلماتها وتحركت بخطوات سريعة نحو الخارج، كان قلبها ينبض بعنف، ودموعها محبوسة في عينيها، فتحت باب السيارة بعنف، جلست على المقعد، أغلقت الباب بقوة، وانطلقت دون أن تلتفت خلفها.
أما سلوى، فظلت واقفة مكانها، لا تشعر بالندم، بل بالغضب، وعيناها تراقبان ماسة وهي تختفي في الطريق.
ظلت ماسة تقود السيارة وهي تبكي بحرقة وهي تري الطريق أمامها مشوش من كثرة دموعها.
منزل لوجين، 5:00مساء.
توقفا لوجين وياسين عند الباب، متلاصقين كأن المسافة بينهما لم يخلق لها وجود، أصابعهما متشابكة بقوة، ويد ياسين تمسك يدها كمن يخشى أن يفلت منه الفرح فجأة، ضغط ياسين الجرس، ثم مال ينظر إليها بحماس طفل على وشك اكتشاف هدية العيد.
انفتح الباب بعد لحظات، وظهرت الخادمة تنظر إليهما بإستغراب خفيف.
لوجين بإبتسامة رقيقة، وعينيها تتحركان بخجل: مساء الخير.
دخل الأثنان معا، كتفهما يلمس الآخر دون أن ينتبها، ودفء خفيف ارتفع في الهواء من شدة قربهما.
داخل الريسبشن
كانت نغم ووالدتها تجلسان أمام التلفاز، وهدوء المساء يملأ الغرفة، حتى انفتح الباب فجأة.
رفعت الأم رأسها بحدة، حاجباها ارتفعا بدهشة، وعيناها تتساءلان عن المشهد أمامها: يدين متشابكتين، وقرب لم تعتد رؤيته من قبل!!
لكن نغم بخلاف أمها، ابتسمت ابتسامة واسعة ونظرت اليهما بفرح صادق، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ زمن، ثم قالت بلهجة مليئة بالحماس والسعادة: إيه ده، إيه إللي أنا شايفه ده؟!
خفضت لوجين عينيها بخجل لطيف، بينما شد ياسين قبضته على يدها بخفة، كما لو يطمئن نفسه قبلها.
رفعت لوجين وجهها وقالت بإبتسامة خجولة: ماما أنا وياسين قررنا نتجوز آخر الأسبوع.
قفزت نغم من الفرح، ركضت نحوها وضمتها بحرارة: ألف مبروك يا لوجين! إيه الأخبار الحلوة دى!
أما نهى فظلت صامتة، وجهها متجمد يحاول فهم ما يحدث.
لاحظ ياسين جمودها، فإبتسم بخفة وقال: مساء الخير يا هانم، مسمعناش رأيك يعني!
لم ترد، فاقتربت منها لوجين خطوة، وعينها تبحث عن الموافقة: ماما أنا هفهمك كل حاجة.
جلست نهى على الكرسي وقالت بتهكم: ياريت تفهموني.
نظرت اليها لوجين موضحه بحركة يد مطمئنة: أنا بحب ياسين ووافقت أتجوزه.
نهى بحدة: بس ده مكانش قرارك!
ابتسمت بإبتسامة صادقة: صح بس اكتشفت إني كنت غلطانه.
أخذ ياسين نفسا عميقا، وحرك يديه في محاولة لتوضيح كل شيء بعقلانية: نهى هانم، أنا ولوجين حبينا بعض من غير قصد ولا ترتيب، حاولنا نبعد ونسيطر على مشاعرنا، بس مقدرناش، ليه نحرم نفسنا من السعاده، ونحرم حاجة حلال؟ أنا بحب لوجين وعايز أتجوزها وهي كمان.
نهى بحذر: ده بس عشان السكينة سرقاك، وهي كمان..
قاطعها بإبتسامة مطمئنة: لا طبعا، أنا لما طلبت من لوجين نبقى سوا وأنا بطلق، هي رفضت وقالت إني موهوم وحبي ليها مجرد احتياج علشان لقيت معاها المشاعر اللى نقصاني مع هبة.
صمت لحظة، وزم شفتيه بإرتباك وهو يومأ برأسه: أخويا كمان كان عنده نفس الرأي وقتها، قولت يمكن عندهم حق، سافرت علشان أعرف أفكر بهدوء وأخد قرار صح مظلمش بيه هبة ولا لوجين، ولما سافرت مكنتش بفكر غير في لوجين، حاولت أجبر نفسي وقتها في التفكير في هبة وفي الذكريات الحلوة اللى بينا، بس لوجين مكانتش بتفارق خيالي لحظه، وقتها فهمت إن المشاعر إللي جوايا مشاعر حب حقيقية.
رفع نظره لها بيقين وحب: رجعت وطلبت من لوجين نبقى سوا بس رفضت لنفس السبب، وقتها حاولت أبطل أفكر فيها، بس مقدرتش، لحد ما هبة طلبت فرصة، وافقت علشان بنتي، بس للأسف طول الكام يوم إللي أنا كنت فيهم معاها، مكنتش مبسوط وحاسس إني بضحك علي نفسي، لحد ما عرفت موضوع إنها أجهضت نفسها تاني، ساعتها كل حاجة انتهت، بس صدقي عاجلا أم آجلا كان هيحصل، كانت مسألة وقت لأني مكنتش مبسوط وهبة مكانتش مساعداني ولا بتحاول تصلح من نفسها، أنا وهبة العلاقة بينا انتهت من فترة كبيرة بالرغم من كم المحاولات بس خلاص انتهت، ومش هترجع تانى بأي شكل من الأشكال، ودلوقتي أنا بحب لوجين بجد وعايز اتجوزها وأكمل حياتي معاها.
نهى بقلق: بس الناس مش هتقول كدة...
قاطعها بحزم: الناس كده كده بتتكلم، واحنا مش هنعمل حاجة حرام علشان نخاف، أنا مخنتش مراتي، أنا مراتي بنفسها هي إللي نهت كل حاجة بينا، وميهمنيش الناس تقول إيه المهم أنا عارف لوجين على إيه، وإننا فاهمين إن إللي حصل ده مش بإيدينا، وإن طلاقي من هبة ملوش أي علاقة بيها ولا بحبي ليها.
نغم بتأكيد: بالظبط هو ده إللي أنا بقوله يا ماما.
عدلت لوجين جلستها وهي تمسك يد والدتها، بثقة ورجاء: ماما أنا بحب ياسين وعايزة أتجوزه، من فضلك وافقي.
نهى بخوف وحذر: أنا خايفة عليكي يا لوجين، مش عايزاكي في يوم تسمعي كلمة تجرحك، أنتِ دلوقتي السكينه سرقاكي وأنا واجب عليا اوعيكي.
لوجين بابتسامه: أنا عارفه والله يا ماما بس أنا واثقه من قراري المرة دى، مش أنت أهم حاجه عندك إني أكون مبسوطه وسعيده!؟ وأنا بحب ياسين وعايزه ابقي معاه، وافقي بقي.
نهى بتردد وقلق: بس يا لوجين آخر الأسبوع ده بسرعة أوى ليه الاستعجال؟! علي الأقل اعملوا فترة خطوبه.
ياسين بلهفه: وهنستني ليه، لازمتها ايه الخطوبه أصلا، أنا وهي بنحب بعض وكل حاجه سهل تجهز في أقل من أسبوع كمان.
نغم بحماس: أيوه يا ماما إيه المشكلة؟ ما هما عارفين بعض كويس، خلينا نفرح.
ياسين بإبتسامة مطمئنة: بالضبط، أنا عارف لوجين كويس ومحتاجها في حياتي، وهي كمان محتاجاني، ونفسي يكون القرب ده رسمي.
لوجين بحزم وابتسامة: ماما أنا موافقة، ولو سمحتي علشان خاطري وافقي، وسيبينا نعمل إللي إحنا عايزينه، أنا مبعملش حاجة حرام ولا عيب، أنا هتجوز الراجل إللي حبيته، وأنا مسئولة عن قراراتي.
رمشت نهى بعينيها لثواني، ثم هزت رأسها بابتسامة خفيفة على وجهها تدل على رضاها الداخلي: خلاص، أنا موافقة طالما دى هيسعدك..
صمتت لوهلة قالت بتعجب: بس أسبوع مش قليل !؟ النهارده الأربعاء هتلحقوا تجهزوا كل حاجه في أسبوع!؟
ياسين بحماس: إن شاء الله من بكره تيجوا مع لوجين القصر علشان تشوفوا الأوضة، وتتختاروا الديكورات وكده، ولو الأوضة مش عاجباكي لأنها بتاعة جوازي الاول؟! وحابة تختاري أوضه تانية أنا معنديش مشكلة، وبالنسبة للفستان برضو أمره سهل أي حاجة لوجين عايزاها هتبقى عندها، وكل حاجه هتكون جاهزه على الخميس الجاي نتجوز.
نغم بإبتسامة واسعة: أنا متحمسة للموضوع بجد مامي قولي موافقة بقى، خلينا نفرح؟!
صمتت للحظة وهي تنظر في أعينهم التي تترجاها أن توافق، تنهدت وابتسمت بإستسلام: أقول إيه طيب، مبروك يا ولاد.
اتسعت عينا ياسين بسعادة، ونهضت لوجين تعانق والدتها بفرح غامر ودموع تترقرق في عينيها، ثم التفتت لتعانق نغم بالسعادة ذاتها.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل
فيلا عائلة ماسة، 5:30 مساء.
توقف التاكسي أمام البوابة، فتحت سلوى الباب بعجلة، وترجلت منه ووجهها مبلل بالدموع، دفعت الأجرة سريعا، كأنها تهرب من كل ما حدث قبل دقائق، تحركت للداخل بخطوات مرتجفة، لكنها حاولت أن تبدو ثابتة وهي تعبر باب الفيلا الذي فتحته لها الخادمة.
وما إن دخلت حتى قالت سعدية متسائلة: بت يا سلوى، شوفتي أختك؟
مسحت دموعها بظهر يدها بسرعة قبل أن تقترب، تحاول جاهدة أن تخفي انهيارها: أه، شوفتها.
تأملت سعدية ملامح ابنتها باستغراب: مالك يا بت؟ أنتِ معيطه؟!
خفضت رأسها، وصوتها خرج متكسرا رغم محاولتها للتشبث بقوتها: مفيش يا ماما، أنا كويسه، هطلع أوضتي علشان عندي شغل.
سعدية بقلق صادق وهي تتابعها بعينيها: طب أختك كويسة؟
توقفت لحظة عند أول الدرج، دون أن تلتفت، ومرة نبرة غيظ خافت في صوتها: أه كويسة، كويسة أووى، متقلقيش عليها خالص.
تمتمت سعدية بدعاء وهي تضع يدها على صدرها: يارب دايما تبقوا بخير، ويهديها هي وجوزها.
صعدت إلى غرفتها، وما إن أغلقت الباب حتى انهار كل ما حاولت التماسك به، جلست على الفراش، والدموع تنهمر من عينيها بلا مقاومة. كلما عادت إليها صورة ماسة – كلماتها القاسية، صراخها، يدها التي ارتفعت عليها – انكمش قلبها كأنها تتلقى الضربة من جديد.
كانت مؤمنة بأنها لم تخطئ، وأن ماسة هي من خانتهم لأجل سليم، وفضلته عليهم بعد كل ما فعله بها وبهم، فكل ما أرادته فقط أن تنصحها، وتجعلها تفتح عينيها لترى الحقيقة، بعد أن أعماها الحب.
دفنت وجهها بين كفيها، وتحدرت كلماتها كأنها نزيف:
ليه يا ماسة؟ ليه تعملي فيا كده؟أنا خايفة عليكي! تمدي أيدك عليا علشان سليم؟ سليم اللي بيهينك ويوجعك وعمل فيكي اللي عمله؟ اخص عليكي يا ماسة، أنا بجد زعلانة منك وعمري ما هسامحك على القلم دي.
ومع كل كلمة كانت تشعر أن قلبها ينكمش أكثر، ليس من الضربة، بل من الخسارة التي بدأت تتسلل بينهما بصمت موجع.
فيلا سليم وماسة،5:30مساء.
دخلت الفيلا، ووجهها لا يزال مبلل بالدموع، أخذت تبحث بعينيها عن سليم، حتي تذكرت حديثه عن إنهاء بعض الأمور الخاصه بعمله حتى تعود، فتوجهت إلي مكتبه.
في المكتب.
كان جالسا منهمكا في إنهاء بعض الأعمال، وفجأة فتح الباب ودخلت ماسة، فرفع رأسه مبتسما، وبمجرد أن لمح ملامحها المتحطمة الباكية، تجمد في مكانه للحظة، ثم وقف ببطء متقدما نحوها، وهو يتساءل بقلق: في إيه مالك؟ بتعيطي ليه؟!
لم تستطع الرد، فركضت نحوه وألقت بنفسها في حضنه، وانفجرت باكية بحرقة أشد.
ضمها بين ذراعيه، وربت على ظهرها بحنان واحتواء، محاولا تهدئتها،قال بصوت هادئ: طيب، أهدي يا عشقي، فهميني ايه اللى حصل طيب، سلوي زعلتك؟!
لم تستطع الكلام، واستمرت بالبكاء في حضنه بصمت، وقلبها مثقل بكل ما حدث.
ابعدها قليلا، وضم وجهها بين كفيه، ومسح دموعها برفق، ثم قال مطمئنا إياها: ماشي، مش عايزة تتكلمي؟ مفيش مشكلة، أنا معاكي.
جلس بها على الأريكة، وظل محتفظا بها بين ذراعيه، يربت على شعرها بحنان، وكأن العالم كله اختفى من حولهما، تاركا فقط دفء حضنه وطمأنينة قلبه.
وظلا هكذا لبعض الوقت، ربما لساعات، وسليم يحتضنها في صمت دافئ، يداعب شعرها برفق، ويضغط على كتفها بحنان، محاولا تهدئتها.
بعد قليل، نظر لها قائلا: تيجي نطلع فوق؟
هزت رأسها بالموافقة، ووقفت وكادت أن تتحرك، ولكن فجأة حملها بين ذراعيه، وتحرك بها إلى الأعلى دون أي تعليق منها فقط لفت يدها حول رقبته والقت رأسها على صدره بهدوء وسكينه.
في الغرفه.
ووضعها على الفراش برفق، بطريقة لا تناسب إلا أميرة قلبه، وساعدها في خلع حذائها والجاكيت الذي ترتديه، ثم قال بإبتسامة حنونة: هجيبلك حاجة تلبسيها.
احضر لها بيجاما قطنية مريحه ووضعها على الفراش أمامها، ثم نظر اليها متسائلا بإهتمام: تحبي أساعدك تغيري هدومك؟!
هزت راسها بإيجاب، وبالفعل بدأ يساعدها في تبديل ملابسها، وبعد الانتهاء، نظرت له نظرة تحمل في طياتها الأمان والراحة.
مال عليها وهو يمسح على خدها بحنان: نامي يا حبيبتي وارتاحي، تصبحي على خير.
كاد يلتفت ويغادر، ولكن أمسكت بكفه فجأة، وقالت بصوت منخفض: خليك معايا، متمشيش، عايزة أنام في حضنك النهاردة.
نظر لها بإستغراب للحظه، فتابعت هي بنبرة مترددة باكيه: ولا هتقولي مش عايز بقايا مشاعر؟!
ابتسم لها بحنان ولم يعلق، ثم تمدد بجانبها وأخذها في أحضانه، وتساءل بهدوء: طب، مش هتقولي لي مالك؟ أحيانا بالفضفضة الواحد، بيرتاح قلبه، سلوي ضايقتك؟
رمشت بعينيها وهي تبتلع غصتها، فهي تعرفه جيدا، وتعلم أنه إن علم أن سلوي سبب حزنها، فبالتأكيد سيذهب ويفتعل شجارا معاها، وهي في غني عن كل هذا، فهزت رأسها نافيه وهمست: لا، بس أنا بطني بتوجعني لسه ومش راضيه تبطل وجع.
نظر لها بعدم اقتناع، قال باهتمام: طب تحبي اعملك نعناع؟!
هزت رأسها نافيه: لا مش عايزه، أنت بس خليك جمبي وأنا هبقي كويسه.
صمتت لحظة ثم رفعت عينيها متسائلة وكأنها تريد أن تنسى: هو أنا بكرة ممكن أروح الجامعة؟!
هز رأسه مبتسما: أيوة طبعا ممكن تروحي.
هزت راسها وقالت بصوت دافئ: خلاص، ماشي، أنا هنام، تصبح على خير.
وضعت رأسها على صدره، فأحاطها بين ذراعيه برفق، ظل هكذا لدقائق، أحس بنبضها يهدأ تدريجيا، ودفء جسدها يملأ حضنه بالسكينة، مع مرور الوقت، بدأت تغفو ببطء، فوضع رأسها على الوسادة برفق، وأحكم الغطاء عليها، ثم تمدد بجانبها، وأخذها بين ذراعيه بحنان، حتى نامت وهي مطمئنة، تشعر بالأمان الكامل، وهو أيضا أغلق عينيه بسلام، عالمهما أصبح صغيرا، هادئا، وآمنا، بعيدا عن كل ما سبق، يملؤه فقط دفء هذه اللحظة والطمأنينة المتبادلة.
على جانب آخر في الحديقة
جمع عشري الحراس في الساحة الخلفية، ووقف بينهم بثبات يحمل سلطة واضحة، تحدث بصوت خشن: طبعا كلكم عارفين الأوامر الجديدة اللي قالها سليم باشا، وبما إن مكي واخد إجازة كام يوم، فأنا اللي هتولى حراسة الباشا، وصبحي ورفعت معايا، والباقي زي ما هما.
حرك رأسه للجهه الأخري وتابع: وبالنسبة لماسة هانم هنبقي معاها من بعيد من غير ماتحس بينا، هتبقي معاها يا راوية زي ما أنتِ
هزت راوية رأسها تأكيدا، فتابع: ومعاكي صابر ومحسن وعبدالسلام.
رفع عثمان يده بتذمر خفيف، وتقدم خطوة: طب وأنا بقى أعمل إيه؟ هقعد أشوي درة هنا ولا إيه؟ ما تخليني مع الهانم بما إنك موجود مع الباشا أنا برضه من الحراس القدام هنا وفاهم النظام كويس.
توقف عشري لحظة يفكر، ثم هز رأسه بإقرار: ماشي خليك مع الهانم يا عثمان مفيش مشكلة، أنا كنت بس بظبط توزيع الحراسة حوالين الفيلا.
عثمان بخفوت ورضا: حراسة الهانم أهم، لحد ما مكي يرجع.
هز عشري رأسه إيجابا: تمام أنت هتبقي مع حراس الهانم، لحد ما مكي يرجع.
صفق بيديه بقوة، معلنا انتهاء التعليمات: طب يلا يا رجالة، كل واحد على شغله.
أومأ الحراس وتفرقوا في أماكنهم.
قصر الراوي، 6:00 مساء.
امتد الصمت في الهول الكبير، حيث اجتمع جميع أفراد العائلة، كانت الأعين متجهة نحو ياسين، الذي جلس في صدر المجلس، يربت بإصبعه على ذراع المقعد بتوتر خفيف، كانوا قي انتظار رشدي، وبالطبع غاب سليم عن المجلس.
انحني طه للأمام وقال بجدية: يا ريت يا ياسين، تقولنا بقي أنت مجمعنا كده ليه؟
رفع نظره، وصوته خرج ثابتا: استنوا لما رشدي ييجي.
وما هي إلا ثواني حتى دخل رشدي مسرعا وهو يلهث قائلا بمزاح: معلش يا جماعة، إيه بقى خير؟ إحنا مبنتجمعش كده غير لا في جواز لا في مصيبة!
ابتسم ياسين بخفة: فعلا هو خبر جوازي من لوجين.
ساد صمت قصير، قبل أن تقطعه فريدة بضيق: يعني لسه مصر على قرارك؟
أجابها بثقة: أيوة واتفقت مع لوجين، وفرحنا الخميس الجاي.
تهامست العيون بدهشة، قبل أن يقطعها رشدي وهو يضحك بمرح طبيعي: إيه السرعة دي ؟ يا بختك! وهي وافقت كده؟
هز ياسين رأسه: آه، أيه المشكلة!؟
عقدت فريدة حاجبيها وقالت باعتراض: هو في إيه يا ياسين مالك؟
التفت لها بحدة خفيفة، وارتفع حاجباه بدهشة متحفظة:مالي؟!
تنهدت، وقالت وهي تشير بيديها: مش شايف إنك الفترة دي بتاخد قرارات سريعة ومتهورة اوي؟
ضيق ياسين عينيه، واعتدل في جلسته وهو يقول بنبرة متحفزة: هو جوازي من الإنسانه إللي بحبها، قرار سريع ومش صحيح؟
كادت فريدة أن ترد، ولكن تدخل طه وهو يميل بجسدة للأمام: فريدة مقالتش كده يا ياسين، بس إنك تطلق وتعلن الخبر بالسرعة دى، وبعدها بساعات تعلن خبر إرتباطك وجوازك في نفس الأسبوع؟! الناس هتقول ايه؟!
رمقهم بنظرة حادة، وزفر قائلا بضيق: وإحنا من إمتى بيهمنا كلام الناس؟
رفع صوته وصاح بغضب: لو سمحتم مش عايزه مناقشات كتير ولا اعتراض، احترموا قراري.
ساد صمت قصير، قبل أن تتدخل فايزة وتتساءل بحذر: طب هي وأهلها وافقوا؟
أخذ ياسين نفسا عميقا، هز رأسه بإيجاب، صوته صار أهدى لكن ثابت: أيوه كلمت مامتها ووافقت، وفرحنا هيكون في فندق الهرم الخميس الجاي.
مالت صافيناز برأسها، وهي تتساءل بفضول: مش ده اللي عمل فيه السليم الفرح بتاعه زمان؟
هز ياسين رأسه إيجابا بصمت، فتساءلت فايزة: طب والأوضة؟ هتعملوا إيه في ديكوراتها؟ هتلحقوا أصلا تخلصوا كل حاجه في أسبوع؟!
ياسين موضحا: لوجين هتيجي مع مامتها وأختها، يشوفوا الأوضة وتشوف عايزه تعمل إيه فيها وكل حاجه هتخلص قبل الأسبوع كمان متقلقيش يا هانم، كلها حاجات أمرها سهل.
رشدي بحماس طفولي: اعمل حسابك، أنا هبقى معاك يا ياسين!
ألتفت له عزت بحدة: إزاي يعني؟
رفع حاجبيه بثقة مشاكسة، واتكأ على ظهر الكرسي قائلا: هقول لمي نتجوز معاهم! يعني إيه يبقى إللي لسه مطلق ومرتبط يتجوز قبلي؟ أقسم بالله ما تحصل، انا لفيها لاخفيها!
نظرت له فريدة بصجر: ما تبطل جنان يا رشدي، وخليك عاقل شوية.
أشار لها بيده كأنه يدافع عن حق مسلوب: يا سلام؟ هو حلو لياسين، ووحش لرشروش؟ والله أبدا!
حاولت صافيناز إخفاء ضحكتها وهي تضع يدها على فهما، بينما رد عزت وهو يهز رأسه: سيبيهم يا فريدة يعملوا إللي هم عايزينه، هو من إمتى حد فيهم سمع الكلام؟
تنحنحت فريدة، ثم قالت بنبرة جادة غير معتادة منها: طيب بما إننا قاعدين كلنا، أنا عندي قرار مهم أنا كمان عايزه أبلغكم بيه، أنا هسيب القصر قريب، وهروح أعيش في أي فيلا من الفيلات بتاعتنا، عايزة أبقى مستقرة شوية أنا وجوزي وأولادي، بعيد عن القصر.
ألتفتت لها فايزة بسرعة، مستنكرة: ومن امتي القرارات دى يا فريدة؟!
زفرت بهدوء: من فترة يا مامي وكذا مرة أقولك عايزة أتكلم معاكي في موضوع مهم، وكل مرة تقوليلي مشغولة، بس بما إننا كلنا حاضرين وكله بياخد قرارت وبتوافقوا عليها وتحترموها، يبقي توافقوا على قراري كمان وتحترموه.
ارتفعت نبرة عزت فورا، كعادته حين يشعر بتهديد لسلطته: إنسي الموضوع ده! مفيش حد هيمشي من هنا.
رفعت فريدة حاجبا بدهشة: اشمعني أنا اللى بيتقالي لا! وبعدين ما سليم مش عايش معانا ومحدش قاله حاجه!؟
قهقه طه بخفوت وهو يهز كتفيه: هو من إمتى سليم بنحطه في جملة مفيدة في أي حاجة تخص العيلة أصلا؟ ما طول عمره بييجي ويمشي براحته، والوحيد إللي محدش يقدر يقوله كلمة.
قاطعه عزت بإشارة من يده: مين قالك إن سليم هيفضل بعيد؟ إن شاء الله قريب، هيرجع.
ثم اتك على الكلمه بيقين: وقريب أوي.
حاولت فريدة الاعتراض والتمسك بقرارها: بس...
قاطعها عزت بضربة على الطاولة، وعلى صوته بحدة: مفيش بس، قولت مفيش مشي من هنا يا فريدة، كلامي انتهي.
ساد المكان صمت ثقيل، زمت فريدة شفتيها بضجر ولفت وجهها نحو إبراهيم زوجها، ونظرت له نظرة طويلة كأنها تستنجد به.
لكنه ظل متجمدا، لا يعلم ماذا عليه أن يفعل: هل يقف معها ويدافع عن القرار الذي اتخذاه سويا؟ أم يظل صامتا كعادته داخل هذا القصر!؟
عيناه تهربان منها، ثم تعودان إليها، وخطوط وجهه تتقلب بحثا عن كلمة يقولها، لكن الكلمة لم تخرج!؟
وبعد تناول العشاء، صعد كل منهم إلي غرفته.
في غرفة رشدي.
وقف في الشرفة متكئا على السور الحجري، وعيناه معلقتان في الفراغ البعيد، وسيجارته تتوهج بين أصابعه قبل أن يرفعها إلى شفتيه ببطء، وهاتفه ملتصق بأذنه ينتظر أن يسمع الرد.
جاء صوت مي أخيرا وهي كانت جالسة في غرفتها، تستند بظهرها إلى الفراش براحه وهي تقرأ أحدى الروايات: الو يا حبيبي.
اتسعت ابتسامتة، وانفرج صدره كأن صوتها بعث في صدره الراحة: حبيبة قلب حبيبك، وحشتيني يا مشمش.
مي برقة: وانت كمان، بتعمل إيه؟ وفين؟
هز رأسه، وضحك وهو يزفر دخانا: هكون فين يعني؟ في الحرملك! في قصر عزت آغا.
ضحكت بخفة وهي تقلب صفحة الرواية بلا اهتمام: يابني بطل، بتعمل إيه يعني؟
اعتدل ومد وجهه قليلا كأنه يقترب من صوتها: ولا حاجة قعدنا نتكلم شويه واتعشينا وكل واحد طلع أوضته، أصل ياسين كان عاملنا اجتماع النهارده علشان يقولنا خبر مجنون.
وقفت عند النافذة، والستارة تتحرك من خلفها، وأصابعها تلهو بخصلات شعرها: خير؟ إيه الخبر؟
القي عقب سيجارته بعيدا، قال بنبرة أقرب للمفاجأة: ياسو هيتجوز آخر الأسبوع.
ثم تابع بلهجة مازحة ممتزجة بالمعارضة: شوفتي؟ أخويا الصغير هيتجوز بعد أسبوع، وأخويا اللي أكبر اتجوز مراته بعد شهر واحد من معرفته بيها، وأنا اللي بقالي أكتر من ست شهور عارفك مباخدش خطوة! هم بيعلوا على بعض وأنا واقف أتفرج؟
وتابع بصرامه مازحه: ياسين علي علي سليم وقال يتجوز في أسبوع، يبقى خلاص، أنا كمان لازم أعلي على ياسين، ونتجوز بعد بكرة اعملي حسابك علي كده.
ضحكت ضحكة مكتومة، وغطت فمها بكفها: يخرب عقلك، أنت بتقول إيه؟
رد بنبرة حازمة لا تخلو من الدلال: بقول اللي هيحصل، اعملي حسابك، إحنا هنتجوز مليش دعوة، بقولك ياسين عرف لوجين من كام شهر وفركشو، ورجعوا، وهيتجوزوا في عشرين يوم! عشرين يوم يا مي!
ضحكت وقالت مازحه: أخوك مجنون ووهي أجن منه، احنا ملناش دعوة بالناس المجانين دي، احنا ناس عاقلة، صح؟
رفع حاجبه بسخرية محببة: مين دي اللي عاقل؟ متقوليش الكلام ده عيب
ثم أضاف ضاحكا: لأ معلش الجنان ده معروف باسمي أنا أصلا، المهم بكرة لازم نتقابل ونتكلم في الموضوع دى، وكمان نعوض الفترة اللي مكناش بنخرج فيها يا مشمشة، قشطة؟
انخفض صوتها وتورد خدها: قشطة، طب إيه رأيك تيجي بدري؟ نقضي اليوم مع بعض.
ساد صمت قصير، رفع خلاله رشدي عينيه نحو السماء كأنه يحسب موعدا في رأسه، ثم قال: لأ مش هينفع، عندي مشوار مهم الصبح، خليها علي سبعة.
مي: تمام يلا باي.
انتهت المكالمة، وبقي الليل يحوم حول رشدي، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة لم يستطع إخفائها مهما حاول.
فيلا سليم وماسة،7:00صباحا
غرفة النوم
بدأ سليم يتململ في نومه كمن يحاول الإفاقة من حلم دافئ، فتح عينيه ببطء ليجد ماسة مستقرة بين ذراعيه، رأسها على صدره، وإحدى يديها ملتفة حول خصره كطفلة تبحث عن الأمان.
ارتسمت إبتسامة حب على شفتيه وهو يتأمل ملامحها بعين لا ترمش ونظرات تذوب عشقا، وظل يحدق فيها طويل كأن الزمن كله توقف عند هذه اللحظة.
وبعد قليل أراد إيقاظها، فهمس بصوت دافئ ونبرة عاشقة: ماستي، يا عشقي، يلا يا قطعة السكر أصحي.
تحركت جفونها قليلا، ثم فتحت عينيها ببطء، لتجده يبتسم لها وهو يمسح خدها، فقالت بنبرة ناعسة: صباح الخير
أعاد خصلات شعرها للخلف وهو يقول: صباح النور، يلا قومي يا كسلانه نفطر علشان تلحقي تروحي الجامعه، وأنا أروح المجموعة.
هزت رأسها وهي تدعك عينيها بكسل، وما إن لاحظت المسافة بينهما حتى قطبت حاجبيها بغضب متدلل، وتساءلت وهو تبتعد عنه قليلا: سليم أنت نمت جنبي ليه؟ مش اتفقنا مفيش تلامس؟! طلعت مش قد وعدك.
ضحك، وأجابها مازحا: ودى أسميه انفصام في الشخصيه ولا إيه دى بقي!؟
قلبت وجهها بضجر: إحنا اتفقنا على حاجة، ولازم تبقى قد الاتفاق.
اجابها بمزاح ساخر: والله أنا فيه واحده بالليل قعدت تتحايل عليا وتقولى خدنى في حضنك يا سليم عايزه انام في حضنك، ولا هتقولي بقايا مشاعر!؟ فصعبت عليا وقولت اكسب فيها ثواب وانيمها في حضني اللى شبطانه فيه أوي كده.
ماسه بارتباك وتوتر: أنا؟! لا ده أنا كنت باختبرك، وأنت سقطت في الاختبار.
ضحك بقوة ممزوجه بالخبث: لو هي دي الاختبارات إللي لازم أسقط فيها، فبالله عليكي أعمليها علطول، وأنا أوعدك هتلاقيني دايما بجيبلك صفر.
لم تستطع منع ابتسامتها، وضحكت ضحكة قصيرة ناعمة هزت قلبه، فاقترب منها، يحدق في عينيها بنظرة حارة ترتعش لها الأبدان، وقال بصوت منخفض: أنا قولتلك قبل كده، لو أنتِ إللي بادرتي بأي حاجة، أنا عن نفسي وعد مش هخذلك. ثم غمز لها بخفة
تبادلا النظرات للحظات طويلة، وأنفاسهما تتسارع في صمت دافئ، اهتز داخلها من وهج عينيه، ذلك اللمعان الذي يشعل النار في صدرها كلما اقترب، ارتجفت قليلا، قبل أن تتملك نفسها، وابتلعت ريقها محاولة السيطرة على اضطرابها.
مالت برأسها بخفة، وقالت بدلال مازح: آه جاي على هواك الموضوع، ماشي يا كراميل.
ثم ضيقت عينيها، أشارت له بخبث: ما تقرب شوية كده.
رفع حاجبه بمشاكسة: وأقرب ليه؟ عايزة تتحضني تاني؟
هزت رأسها بتأكيد طفولي: أيوة عايزة آخد حضنك.
ابتسم بعبث واقترب منها وقبل أن يلمسها أمسكت رأسه فجأة و عضته من خده بقوة!
سليم بألم: آآاه !!! ياعضاضه؟! ليه كدة؟!
ابتعدت وهي تقول بتحدي: كل ما تتخطى الاتفاق، هعضك أنا بقولك أهو.
ابعدها عنه ووقف يدلك خده، قائلا بضيق: هروح أشتغل إزاي دلوقتي باسنانك المعلمه في وشي دي؟!
ماسة بوعيد: مش باينة من دقنك ومتطولش علشان مقومش اديك واحدة كمان.
رفع حاجبيه مرددا بصدمه: مطوله!!! طب تعالي هنا...
سحبها من كاحلها بخفة، وألقاها على السرير، وجلس فوقها وهو يضع أسنانه على خدها خدها بخفة تهديدية، فصاحت ماسة بدلال: أقسم بالله يا سليم لو عضيت، هزعل منك وهخاصمك 3 أيام!
ابتعد عنها قليلا: أيوة! أنتِ تعضي عادي، وأنا تقوليلي هخاصمك 3 أيام!
ابتعدت عنه لتقف: إذا كان عاجبك، ويلا بقى نلبس قبل ما نتأخر أنا متحمسة خالص إني هروح الجامعة.
هز رأسه موافقا ونهض، وبدءآ في تجهيز أنفسهما، ثم نزلا للإفطار.
على السفر
جلسوا يتناولون الإفطار في جو دافئ مليء بالحب
تساءل وهو يمضع الطعام: هتعملي إيه النهاردة؟
قالت وهي تحتسي الشاي: ولا حاجة محاضرات.
سليم وهو يحتسي الشاي: أنا أقصد بعد كده.
قالت وهي تتناول ما في الشوكة: مفيش حاجة.
ترددت قليلا، ثم قالت برجاء ممزوج بدلال: بقولك إيه؟! أنا عايزة أروح لوحدي، أجرب أسوق العربية وأتعود.
رفع حاجبه باعتراض خفيف: بس أنتِ متعرفيش الطريق !!
حاولت إقناعه: ما هو النهاردة هتقعد جنبي وأنا بسوق توريني الطريق، وبعدين أنا إمبارح روحت الكافيه لوحدي وأنت معايا على التليفون، هروح وأجي زي إمبارح.
سليم بهدوء: الكافيه كان قريب ياعشقي في اخر الشارع.
عدلت جلستها في زاويته بإصرار: ما أنت النهاردة هتبفي جنبي، وحياتي وافق.
تنهد متسائلا بقلق خفيف: يعني أفهم من كده إنك بعد كده لما تتعلمي الطريق، هتروحي الجامعة وترجعي لوحدك؟
هزت رأسها بثقة وهي تقطع قطعة صغيرة من الطعام، ثم مدت يدها لتطعمه إياها في فمه، بدلال ممزوجة بعتاب خفيف: أيوه مش أنت قولتلي الحراس هيبقوا معايا؟ من غير ما أحس بيهم زي زمان؟ خلاص هم بقى ياخدوا بالهم مني لو حصل حاجة؟! وبعدين يا سيدي متخافش، أنا فضلت ست شهور بروح وباجي لوحدي من غير حراس ومن غيرك أنت شخصيا.
اومأ باستسلام: ماشي، بس أنا خايف تتوهي.
أجابته مطمئة: متخافش، لو توهت هكلمك مش هغلب.
ثم رفعت كوب الشاي ورشفت منه بهدوء وتساءلت باهتمام: وأنت بقي هتعمل إيه النهاردة؟
أجابها بهدوء: ولا حاجة هروح المجموعة وأخلص الشغل اللى ورايا.
هزت رأسها وأكملت طعامها، لكنه لم يستطع كبح فضوله، فقال وهو يراقب ملامحها: مش هتقولي برضو إمبارح كنتي زعلانة ليه؟ حصل حاجة بينك وبين سلوى؟
تجنبت النظر إليه، وأدارت الشوكة بين أصابعها وقالت بتوتر خفيف: ما قولتلك مكنتش زعلانه بطني كانت وجعاني بس.
هز رأسه بعدم اقتناع، فرفعت نظرها أليه وقالت بدلع: طب بقولك إيه يا كرملتي.
رفع حاجبه وعلق مازحا: كرملتي! أنا عارف أنا الداخله دى عايزه ايه !؟
ابتسمت وقالت بارتباك خفيف: يعنى بما إننا أحنا الاتنين فاضين إيه رأيك نروح لدكتور ياسر النهارده، هو قالي لو اتصالحتوا تعالوا مع بعض.
اشاح بوجهه بعيدا بصمت وعدم رضا، فتابعت برجاء والحاح: علشان خاطري يا سليم خلينا نروحله، متغلطش نفس غلطة مروان، أنا معرفش أنت قلبت عليه فجأه كده ليه، والله دى دكتور شاطر جدا وهيساعدنا نبقي أحسن، ها قولت إيه.
نظر إليها طويلا بصمت دون رضا، لكنها ظلت تنظر إليه برجاء يفيض من عينها ببراءة طفولية، كأنها طفلة صغيرة تتوسل والدها بالموافقة.
لم يستطع مقاومة تلك النظرات، فتنهد وقال بهدوء بابتسامة: حاضر يا ستي، هعملك اللي أنتِ عايزة.
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وهي تقول: أنت أحلى كراميل في الدنيا.
وتابعت بدلال: هعمللك بسبوسة ورز باللبن لما نرجع.
ثم مدت يدها واعطته هاتفه بحماس: يلا، خدلنا معاد.
ابتسم وهو يهز رأسه، مستمتعا ببراءتها ورقتها التي تذيب قلبه، ثم رفع هاتفه ليأخذ موعدا مع الطبيب، محتفظا بدفء اللحظة في قلبه.
وأكملا الفطور بصمت لطيف، وبعد دقائق نهضا وتوجها للخارج، كانت السيارات مصطفة أمام الفيلا، والسائقون واقفون بانتظارهم.
لوح بيده وهو يصدر تعليماته: حسن روح أنت محدش يركب معانا خليكم في العربية ورا، وأنت يا عشري اركب في العربيه بتاعتي وتعالي ورايا، أنا هركب مع ماسة.
صعدت ماسه السيارة وجلست خلف المقود بحماس طفولي واضح، بينما جلس سليم بجانبها، وصعد باقي الرجال في السيارة الخلفية وتحركت ماسة بالسيارة.
على إتجاه آخر خارج الفيلا.
توقفت سيارة سوداء معتمة النوافذ على بعد في الجهة المقابلة، جلس داخلها رجل ببدلة سوداء، عيناه تتحركان بدقة، ويده تسجل ملاحظات على ورقة صغيرة بخط مرتب
نقترب من ملامحه...فنرى ذلك القناص الذي اتفق معه عزت علي قتل ماسة، رفع نظارته قليلا حين رأى سيارة ماسة تغادر البوابة، ثم ابتسم بسخرية باردة، وحرك المفتاح وأدار المحرك ببطء، متتبعا سيارتها وسيارة الحراس من بعيد، بحرفية رجل يعرف كيف يختفي رغم حضوره!!
كانت ماسة تقود السيارة بتركيز بينما سليم يوجهها طوال الطريق بهدوء: يمين، شمال، أطلعي الكوبري أرفعي رجلك شوية براحة، حتى وصلت أخيرا لباب الجامعة.
ابتسمت بفخر طفل صغير: قولي شطورة؟
ضحك وقرص خدها بمداعبع: شطورة يا ماستى الحلوة.
تنهدت بسعاده وقالت مودعه: طب نتقابل بعد المحاضرات بقي، أنا بصيت في الجدول بتاعي، لقيت عندي محاضرات لحد الساعة تلاته.
هز رأسه بإيجاب: ماشي، أنا مش عارف هخلص شغل الساعة كام، بس هحاول أخلص بدري علشان متأخرش عليكي.
نظرت له بفضول أنثوي وهي تضيق عينيها: هموت وأفهم أنت ناوي تعمل إيه؟ مش معقول، توصلني الجامعة وتضيع كام ساعة بعيد عني، لا وكمان هروح لماما وأخرج مع أصحابي براحتي؟! امال هتخليني أغير رأيي إزاي؟!
انحنى نحوها قليلا، وقال بجدية فيها دفء: بالعكس، هو ده إللي عايز أوريهولك، إني فعلا اتغيرت، وإننا هنرجع زى زمان، وإنه مش تغيير لحظي، قبل ما تتكلمي.
نظرت له، وقالت بخجل نصف مازح: ماشي، بس أنا مكنتش هقول كده والله.
ثم ضحكت ومدت كفها تصافحه مودعه، فنظر لها لوهلة، ثم مد كفه وصافحها، فقالت بدلال محبب: خد بقى يا سلوملوم، أركنهالي هناك.
ابتسم وهز رأسه موافقا، ونزلت من السيارة بخفة، حقيبتها على كتفها، واتجهت نحو باب الجامعة.
راقبها حتى اختفت وسط الزحام، وهبط من السيارة بعد ركنها، وصعدت سيارته متجها إلى المجموعة
بينما توقف القناص المأجور في الجهة المقابلة خارج الحرم الجامعي، بمسافة لا تثير الشك ولا تسمح بالسهو.
رفع هاتفه، وقال بصوت منخفض وحازم: هي الآن في الجامعه ومعها سليم، لا لم استطيع فعل ذلك، سانتظرها حتى تخرج، لا تقلق أنا أتذكر التعليمات جيدا ولن أفعل شيء وسليم معاها.
ثم أغلق الهاتف، وعيناه لا تترك بوابة الجامعه.
منزل القلج: 10:00صباحا.
دخلت سيارة إلى الشارع الضيق بصوت محرك خافت، توقفت على الجانب بالكاد، ثم هبط منها رشدي، وهو يسحب أنفاسا عميقة، ينظر حوله وكأنه يتأكد من أن لا أحد خلفه، فتح صندوق السيارة، أخرج شنط الهدايا واحدة تلو الأخرى، يرفع كل حقيبة بيدين ممتلئتين بالحماس والسعادة، كأنه يحاول تعويض غياب طويل، أغلق الصندوق بقوة خفيفة، ألقى نظرة سريعة حول المكان، ثم توجه نحو باب البيت.
طرق... وانتظر…
ثم فتح الباب، وظهرت السيدة العجوز بملامح شاحبة يكسوها الحنان.
رشدي بابتسامه: مساء الخير، إزيك يا حاجة إسعاد؟ ولا تحبي أقولك يا أم خالد؟
رفعت إسعاد يدها لتلمس كتفه بحنانأم: قولي اللي انت عايزه يا ابني اتفضل تعالى وحشتني والله.
دخل ووضع الحقائب بجانب الأريكة الاسطنبولي القديمة، ثم جلس وهو يمسح يده على قدمه بخفة، وعيناه تتأملان المكان بحب: عاملة إيه؟ وأخبارك إيه؟ عملتي العملية؟
هزت إسعاد رأسها ببطء وتبتسم ابتسامة متعبة: لسه، روحت حجزت معاد وادوني قطرة أمشي عليها، وشوية أدوية للضغط وإن شاء الله هعملها أول الشهر الجاي.
تساءل بقلق: طب وجنة؟ هتعملي فيها إيه وقت العملية؟
تنهدت إسعاد ونظرت نحو الغرفة الداخلية: الدكتورة قالت لي هخرج في نفس اليوم، وهي هتبقى مع رحمة يومين لحد ما اتحسن.
تجول بعينه في المكان، وكأنه يبحث عن شيء مفقود: طب وهي فين؟ عند رحمة؟
ضحكا إسعاد ضحكة قصيرة متعبة: لأ دي قاعدة جوه على الكمبيوتر، من ساعة ماجبتهولها وهي عليه صبح وليل، مبتقومش من عليه خالص وتعبتني معاها، استنى أخش أناديهالك، دي هتفرح أوي، أصلك وحشاها خالص، وكل يوم تسأل عليك ونفسها تشوفك متغبش عليها كده تاني يا ابني.
رفع كفه بسرعة كأنه يعتذر: غصب عني والله العظيم، بس استنى أنا هروح وأعملها مفاجأة.
أشارت إسعاد بيدها وهي تبتسم: اتفضل يا ابني، البيت بيتك.
تحرك بخطوات هادئة، ويده تلمس الحائط بخفوت وكأنه يتحسس ذكريات المكان، مد رأسه من الباب نصف المفتوح، كانت جنة جالسة أمام الكمبيوتر، ظهرها منحني قليلا، وأصابعها تنقر على الأزرار بإيقاع مرح، وضحكتها تملأ الغرفة وتطغى على ضجيج اللعبة.
رشدي، بصوت خافت ودافئ: جننننننننة.
استووووب